رواية علاقات سامة الفصل الرابع والعشرون
قابلته حلا بثت إليه خوفها على والدتها، قصت عليه ما حدث كما رأته عين طفلة، فترجمه بعقل مَرِيض مُخْتَـل، ربت على كتفها، اتجه إلى التلفاز رفع صوته، ثم خطا لغرفته بوَعِيد، وجد طيف متكومة بإعياء على الفراش ولم تنتبه لدلوفه، تأكد من غلق الباب خلفه وضيَّق عينه بوَعِيد جمع خصلاتها بقبضته والقاها بقلب الغرفة، ثُمَّ انقَضَّ عليها كوَحْش ثَائِر دون رحمة، ركز بفعله على موضع جنينها، يقْذِفُها بسُمُومِ كلماته:
- شكيت فيكِ، لكن قولت اللي زيك يخاف يغلط، أدام يتحاسب أول بأول، وأثبتِ لي إني غلطان، شالك يا طيف وطلعك البيت؟! وبعدها عملتم أيه؟ نمتم على سريري؟! جسمك اللي لمسه هولع فيه، أنتِ توسخي اسمي وتخليه في التراب، والله لتشوفي مني اللي عمرك ما شوفتيه!
ما تمر به يفوق طاقتها، حاولت الدِّفَاع عن نفسها مرارًا ولم يطاوعها صوتها، تصدر عنها فقط همهمات متألمة وأنين، لم يرحمها أو يرؤف بها استمر حتى تأكد من بدء نزيفها، تركها مغلقًا الباب خلفه، جاور ابنته بذهن شارد ووجه أسْوَد، انتبه مع سؤالها عن والدتها، نظرة واحدة منه جعلتها تصمت برهبة.
متكومة محلها سابحة في دِمَـائِها، روحها هائمة لا تغادر ولا تسكنها، وعقلها يعيد ما عاشته منذ أن علم بحملها وما عانته لتحافظ عليه، شهران تحميه بكل جوارحها، تناجيه للبقاء، أمل ضعيف جعلها تقاوم إغمائها وتطلب النجدة، سيفعل من أجل حلا تعلم، لكنه سيفعل وإن كان مضطرًا، دقائق مرَّت ولا زالت تحاول، فاضت دموع العجز من عينها، زحفت حتى وصلت للجدار استندت عليه بوَهَن، تحركت تجر قدميها حتى وصلت قربهما، التقطتها عين ابنتها التي تبحث عنها، صرخت باسمها بفزع، بثبات شديد وهدوء يشاهد ما يحدث منتظر سقوطها، حينها فقط تحرك حملها وذهب بها للمشفى، وباستلامهم لها وتسجيل بياناتها اختفى شهاب، بعد أن تأكد مِن وفَــاة الجنين.
غابت عن الدنيا ليومين، وحين انتبهت علمت بفقدان جنينها فانهارت باكية، تركها الطبيب فترة ثم دلف إليها الطبيب طالعها بشفقة، فلازالت مقلتيها تفيض رثَاءً وحَسْرَة، جلس على المقعد الجانبي يقابلها، ثُمَّ تحدث بهدوء:
- بقيتِ أحسن!
أومأت صامتة، وحالها لا يعبر عمَّا تدَّعي، يمر عليه حالات كيرة مشابهة، لكنها مِن أكثر الحالات التي أثَـارت شفقته:
- البقاء لله.. لما زوجك جابك بلغ انك تعرضتِ لحادث بسيط الصبح، وبالليل تعبتِ ونزفتِ، لكن بالكشف وضح انك تعرضتِ لضَرب مبرح وهو السبب الرئيسي لفقدان الطفل.. لو عايزة تثبتي الواقعة أنا ممكن اساعدك، هكتب تقرير طبي مفصل بحالتك وسبب الإجهاض، وهبلغ القسم، ده مش هيتم بدون موافقتك.
حل صمت طويل، حتى أجابته بصوت متقطع:
- مـ .. مش عايزة.
- متأكدة.
أومأت في صمت وزاد بكاؤها، لم يتعجب الطبيب، فالقليل منهن فقط من تتجرأ لاتخاذ هذه الخطوة، وذلك لاعتبارات عدة نظرة المجتمع، الأطفال الفقر أو عدم وجود مأوى، تركها وخرج من الغرفة.
يجوب رواق المشفى ذهابًا وإيابًا، لم تغمض عينيه منذ رآها محمولة بين يدي جلَادِها وملابسها متلونة بدِمَـائِـها، تبعها بملابسه البيتية، مكث بالمشفى حتى اجبره العاملين على المغادرة، وباليوم التالي وحتى اللحظة ينهي عمله ثم يأتي يتابع حالتها، حين علم بإفاقتها تمنى لو له الحق بالدلوف إليها واحتواء ألمها، حين أخبره الطبيب بحالتها فارت الدِّمَاء بعروقه، شعوره بالعجز يقتله، لن يستطيع الدفاع عنها، ستسوء سمعتها، يكفي أنه السبب فيما آلت إليه، حين خرج الطبيب أسرع إليه يسأله باهتمام:
- هي عاملة أيه؟ انهارت؟ هتتهمه صح!!!
- منهارة، لكن رفضت تبلغ، أكدت لها أني هساعدها وأوضح كل حاجة في التقرير، لكنها مستسلمة للواقع، ياما ورد علينا حالات زي دي.
حزن مؤنس على حالها، مَنّى نفسه ألَّا تتخاذل عن حقها وحق جنينها، نوى دعمها والأخذ بيدها، سيكشف لها عن نفسه إن اقتضت الحاجة، لا يعلم أيلومها أم يشفق عليها!
بالمساء أتى شهاب دلف غرفتها بهالته المخيفة، طالعها بازدراء كمَن ينظر لحُثَالَةِ، تحدث بتهديد يعرض عليها الصور التي أرسلت إليه:
- الهانم صحيت مِن الغيبوبة، لو فاكرة إننا خالصين تبقي غلطانة، ولو متوقعة دراعي اتلوى بتقرير المستشفى بردو غلطانة، اتفرجي على الصور دي، هاه، أيه رأيك؟!
دنا إليها تلف أنفسه وجهها الشَّاحب، يحدجها بنظراتٍ كجَمْرِ النَّارِ المُـوقَـدة
- كلمة ضدي والصور تبقى على المشاع وارميكِ في الشارع، كمان أحرمك مِن حلا، أو ممكن بدل الشارع أسلِّمك لأبوكِ، ولو اتخرستي هترجعي لي تاني عشان تتحاسبي صح، مش أنتِ اللي تلوثي سمعتي، عشان تقدري اللي ممكن يحصل محضر لك عينة، أبوكِ بره يا دوب قولت إني شاكك في سلوكك وما شافش الصور.
رمقها بنظرة مستهْزِئة ساخرة قبل أن يغادر، اندفع والدها للغرفة كإعصار غاضب، يأكل كل ما يقابله، استقبلها بقبح أفعاله وكلماته كما اعتاد، لم يرؤف بحالتها أو مرضها، حدثها كما لو كانت منحلَّة أو منحرفة، رماها بأفظع الاتهامات وأكثر السُباب بذاءة، لم يعِ عقلها كل كلماته من شدة صدمتها، حذرها مِن مخالفة شهاب أو العودة إليه مطلَّقة، توعدها بالجحيم إن اشتكى زوجها منها أو من سلوكها، ثم غادر كما أتى.
لم تسعفها كلماتها للدفاع عن نفسها، ودفع تهمه عنها، يعلم الله أنها بريئة منها، ازداد انكسارها، تتساءل: متي تعفو عنها الحياة؟ متي ستنتهي معاناتها، أو حياتها؟؟ سقطت دموعها فهي رفيقتها الوفية، التي لم تتخلَ أو تبعد، تيقنت من كلمات شهاب، ليس لها سواه، هي وحيدة بالدنيا ليس لها حبيب سوى ابنتها، فان بعدت عنها فقدت روحها، إذن فلتتحمل إي شيء وكل شيء من أجلها.
لا يجيب على اتصالات المشفى قاصدًا، مر أكثر من أسبوع وبالطبع تحسنت حالة طيف ووجب خروجها، وعليه دفع الفاتورة أولًا، درس آخر يلقنه لها، أصبحت حديث العاملين، قررت إدارة المشفى تحرير محضر ضدها. ينتظر مؤنس يتحين وقت تدخله كي لا يضعها بأزمة جديدة، فكل محاولاته تضرها ولا تنفعها. قَدَمت مرارًا على مهاتفة شهاب، لكنها تتراجع تخشى المواجهه، لم تقترف وزرًا، لم تسمح لجارهم بمساعدتها حملها غائبة الوعي، شهاب هو مَن تخلى عنها بالمرة الوحيدة التي استنجدت به.
باللحظة الحاسمة عاد شهاب للواجهة، دفع تكاليف علاجها ثُمَّ دلف إليها بهالته المخيفة يرشقها بنظرات قَـاتِـلة، تبعته بصمت شاحب مُترقِّب.
خلا البيت مِن سواهما، دلف غرفتهما بهدوءٍ أرجف كيانها، عصف برأسها سؤال زلزلها: هل سيحرمها من ابنتها؟! رغم رهْبَتِها من المواجَـهة لحقته للغرفة، وليتها لم تفعل! انْتَفَــضَـت وارْتَجَـفَت أوصالها، رأته يعتلى كرسيه المقابل للباب ووجهه عابِسٍ قاتم، لم يكن هذا سبب حالتها وإنما هذا الشيء القابع على الفراش، ثوان صامتة مُرعِـبة مرت ثم سقطت كلماته على أذنيها تخبرها بما ينتظرها:
- عارفة أيه جزاء الزَّانِيَّة في الإسلام؟ أكيد جَـاهـلة، جَزَاءها الرَّجْـم لحد ما تَـمـوت لو كانت متجوزة، ولو بكر تتجِــلد مية جَــلدة، يعني المفروض ارجمك، لكن للأسف مش بيطبق ومش هضيع حياتي عشان واحدة زيك، عشان كده هطبق الحل التاني، يمكن يربيكِ!
- والله بريئة! اتصلت بِك وقولت لك تعبانة الحقني.
اندفع إليها صًـارِخًا وقبض على ذراعيها:
- فشوفتِ حد تاني يساعد ويطبطب، صح!
أومأت نافية بذُعْـر ولم تسعفها كلماتها، نفض ذراعيها، عاد لهدوئه اتجه للفراش يمسك أداته بفخر، ضرب به الأرض فارتد صوته يدوي بأرجاء الغرفة وبكيانها، سرد عليها كيفية حصوله عليه:
- قضيت وقت كتير قوي أدور عليه كنت عايزه سوداني عشان يليق بكِ، ما لقتش للأسف، ده هيوفي بالغرض وهيربي كويس، جبته من عربجي كبير في السن، يستخدم حاجات أصلي مش أي كلام، أخد فلوس كتير، لكن يستاهل الحقيقة، وعشان مش ضامن بوقك يتقفل؛ فأنا هقفله بالقماشة دي مش عايز ازعاج.
وبعكس ما اعتادا مؤخرًا، اختفى سامر تمامًا، لا يجيب هاتفه ولا يظهر على مواقع التواصل، كما لا يرد على رسائل حسن على تطبيق الواتس، آخر مرة تواصلا بها كانت عقب إرساله للمبلغ الذي طلبه سامر ليشاركهم في المشروع الذي حدَّثه عنه، فترة طويلة مضت، تملَّك الشك من قلبه، قد أرسل له كل ما جمعه بآخر عامين، كل ما يملك بعدما ابتاع شقة وفرشها بالكامل، استأمن أخيه على أمواله، لكن أين أخيه؟ اختفى فجأة، اتصل بوالده لعله يستشف منه سبب غياب سامر وابتعاده عنه:
- بابا ازيك عامل ايه؟
- أخيرًا افتكرت تسأل.
- آسف يا بابا، الفترة اللي فاتت كانت لغبطة شوية، هو سامر كويس كتير أكلمه ما يردش.
أجابه بتنْهِيدة محبطة، يدعو ألا يكون سامر أساء لأخيه:
- ربنا يهديه، ما تزعلش منه يا حسن، ده أخوك الصغير.
- ليه بتقول كده؟ حصل إيه؟
- مش راسي يا حسن، بقى له فترة يعمل مشاكل وتصرفات غير مسئولة، ربنا يستر.
- ازاي تخليه يمسك مشروع زي ده وهو مش راسي كده.
- مشروع أيه يا ابني؟ ما فيش حاجة مِن دي.
- يا بابا سامر حكى لي، وقالي سر، أنا ما كنتش هتكلم لولا كلام حضرتك.
- وأنا لو عامل مشروع هاخبي عليك ليه؟! حرام ولا عيب! ولا قصدك هخبي عليك أنت بالذات؟!
- يا بابا...
- بلا بابا بلا بتاع، وأنت عملت أيه لمَّا عرفت؟ وقال لك ليه أدام أنا عايز أخبي؟
- عشان.. عشان أشارك بدون ما تعرفوا.
- وشاركت ازاي؟
- بعت له الفلوس اللي طلبها.
- ازاي تعمل كدة من غير ما ترجع لي؟!! وبعت له كام على كده؟
- قالي إن حضرتك متابع معاه، بعت ستين بحوش فيهم لاكتر من سنتين، حارم نفسي من كل حاجة، طمني يا بابا قولي إن في مشروع فعلًا.
- أنتَ غبي يا حسن، غبي، خد إجازة وانزل مصر، شوف الحيوان التاني فين؟ وانا هحاول أحصَّلك، حد يفرط في تعبه وشقاه كده، أبوك مات! بتتصرف من دماغك.
رحلت عنهما الرَّاحة وتملكهما القَـلق، شعر الأب بضياع الأبناء وفرقتهم، وحسن يشعر بالتخبط، هل رسم سامر عليه خُطة ليحتال عليه، أكان يمثل الاهتمام والحب الأخوي؟!
بإجازة اضطرارية ظنها قصيرة عاد لأرض الوطن محمل بالهموم، شعوره بالغدر يقْـتُله، ذهب الى بيتهم القديم فوجده خاوي، وحين هاتف والده أعطاه عنوان لبيت الجديد، ابتسم حسن ساخرًا متهكمًا؛ فوالده بالفعل يخفي عنه خطواته، ها هو اشترى منزل جديد وانتقلوا إليه دون إخباره، ولو بشكل عابر، يبدو أنه لا يصارح نفسه بما يفعل، بسمة ساخرة مؤلمة لقلبه أنهى بها حديث عقله، ثم تحرك للعنوان الجديد.
وهناك وجد سامر بحالة غير طبيعية، شاحب الوجه، جسد هزيل كما أنه غير متزن، ود الاشتباك معه؛ لعله يطفئ حريق قلبه وعقله، لكن حالته تلك جعلته يتراجع، واجهه بما علم من والدهما، ففاجأه سامر بوقاحة حديثه التي صدمته وشلت تفكيره:
- بس، بس، بس.. فلوسك أيع اللي بتقول عليها، دي قلوس أبويا أنا، حقي أنا وسعاد، أنت دخيل علينا، مش أخونا، لولا فلوس بابا اللي دفعها عشان تلاقي عقد عمل لا كنت سافرت ولا بقى معاك قرش منهم، المفروض كمان أخد الشقة اللي معاك بفرشها، روح بيعهم وأدخلك مشروع بفلوسهم.
- أنت مش في وعيك، صح! أنا أخوك الكبير، ازاي بتفكر كده؟ أنا اشتغلت وتعبت عشان اجمع الفلوس دي، سنين لا بخرج ولا أشتري هدوم، ولا بعمل حاجة في حياتي غير أني أحط القرش على القرش عشان اشتري الشقة وافرشها.
- أنت عارف بابا دفع لك كام عشان تسافر؟؟
- أبويا أنا كمان!!
- لأ، أبويا أنا وسعاد بس، أنت ابن مروة.
لم يثُر حسن، بل سخر من نفسه، سمع تلك الكلمات مِرارًا من زوجة والده، كيف لم يتوقع تغلغل معتقدها لأبنائها، طالما ناداه زوج والدته بابن رمزي، ليست سبه نسبه لوالده أو والدته، لكنه بينهم بلا هوية أو قيمة، تحدث بقوة يخفي خلفها ضعفه وتمزقه:
- أنا ابن مروة ورمزي، أبوك هو أبويا، سواء رضيت أو لأ، اخبط راسك فكل الحيطان اللي تقابلك لو مش عاجبك، دلوقت أنا عايز فلوسي.
ابتسم بسخرية وأشاح بيده، ثم اضَّجع على الأريكة القريبة، وأجابه ببساطة:
- الفلوس بح، طارت.
- خلصت ستين ألف في شهرين؟!
- شوفت، الفلوس قيمتها قلت يا أخي!
سُجنت الكلمات خلف شفتيه، لا قيمة لها، يرى مسخ بلا عقل أو منطق، التف ليرحل، بنفس اللحظة وصلت سعاد ودلفت للداخل طالعتهما ببرود، زاد من نَـزِيـف قلبه، تجاهلتهما وتحركت بصمت مطبق، كسر حاجزه هجوم سامر عليها، يعنِّـفها بكلماته كما همَّ بفعله لولا أن حال حسن بينهما:
- مش قولت مية مرة ما تتأخريش.
- أيه! هتضربها ولا ايه؟ يا أخي على الأقل احترم الكبير، ولا بقيت طايح في الكل.
وكأن كلماته اللاذعة لا تخصها، بهدوء ومعالم باردة اتجهت لغرفتها، صـمت بكل تفصيله فيها، تبعها حسن طرق باب غرفتها المفتوح ثم دلف إليها، لم يغرق نفسه بآمال الأخوة منهما، لكنه يحملها تجاههما، وباهتمام أخ نصحها:
- بالرغم من همجية سامر إلا أنه عنده حق، حاولي ما تتأخريش بره للوقت ده، مش شك فيكِ، لكن الناس هتبص انكم عايشين لوحدكم، وهيركزوا مع كل خطوة ليكِ، خلى بالك من نفسك.
انصرف من المكان بالكامل، نظرت في أثره لثوانٍ دون أن يحمل وجهها أي معالم، وكأنها شاردة بعالم آخر، عادت لواقعها مع سماع خطوات سامر قادم إليها، أسرعت تغلق باب غرفتها واحكمت اغلاقه بالمفتاح من الداخل.
ملت من مهاتفة نادية التي لا تجيبها، تهرب مِن برودة وخواء البيت إلى عملها، الذي لم يُصبح مكان هادئ كالسابق؛ فوسيم لا زال يلاحقها، يختلق سبب للتحدث معها، تخطو باتجاه مكتبها؛ فسمعته ينادي عليها بإصرار، ولم تجد مفر مِن الوقوف، تنظر لبشاشة التي تراها سماجة:
- أفندم.
- كل ده مش سامعة! المرتب مش مظبوط الشهر ده، هو في قرارات جديدة، أنا ملتزم والله! مش بتاع مشاكل ومواعيدي مظبوط.
- حضرتك ملتزم أو لأ، مواعيدك مظبوط ولا لأ دي حاجة ترجع لك، ما تفرقش معايا، والمرتب شغل زميلة تانية وحضرتك عارف، ممكن تسألها أو تسأل مدير القسم مش أنا.
انصرفت وتركته يشتعل غَضَبًا، يتساءل: ألن تترك ثغرة ليستطيع رمي شباكه عليها؟! بقدر غَضَب وسيم بقدر سعادة رامي الذي تبعه عندما رآه يحدِّثها، سعد بردها وشعر براحة تجذبه إليها، يعنف نفسه كل ليلة بسببها، يحاول جاهدًا ابعادها عن تفكيره، ويجد حاله بالصباح يتحسس أخبارها ويتابع تحركها.
دلفت لمكتب الحسابات، تطمئن على صديقتها التي التزمت مكتبها وانفصلت عمَّن حولها مِنذ حضرها بالصباح:
- مسا مسا على القمر.
رفعت عينها الحزينة إليها الممتلئة بالدموع الحبيسة، حاولت رسم بسمة تداري خلفها حالتها، سألتها باهتمام قَلِق:
- مالك؟ عمو ضايقك أو قريبك الغلس جاي تاني؟
أومأت نافية:
- نادية كويسة؟
كادت فقد سيطرتها على دموعها الحبيسة، فناشدتها غادة التماسك:
- امسكي نفسك، تعالي الجامع تحت نتكلم براحتنا.
طريقهما للجامع يرغمها على المرور بغرفة الطبيبين، شعر بقربها فرفع رأسه ورأى حالتها، وقف أمام الغرفة تتبعهما نظراته حتى غابتا لاحظ وسيم فعله فتساءل بخبث قصده:
- أيه يا روميو؟ في أيه شدك قوي كدة؟
- روميو! أيه الاسم ده، لما تعرف اسمي ابقي أرد.
- آسف يا دكتور رامي، بهزر يا سيدي، لا بجد في حاجة؟ قومت مهتم قوي.
- لا مفيش.
يشعر بتبارز وسيم وتنافسه معه، لم يفهم السبب بالبداية حتى ظهر حقده بحديثه ببعض الأوقات، بسبب شهرة والده وغناه، لا يعلم أنهما نقمة عليه، فوالده الطبيب المشهور رغم تفاخره به، إلَّا أنه هو سبب معاناة رامي وبقائه طوال تلك الأعوام بقسم الاستقبال، ويتوقع ألا يخرج منه أبدًا.
بكت لفترة طويلة تركتها غادة تخرج حزنها وألم روحها:
- مش بترد عليَّا، وحشتني قوي، والله مش عايزة فلوس! عايزة أكلمها بس، ليه يا غادة بيبعدوا عني؟ هو أنا وحشة؟ ماما وبعدها نادية، حتى جدو، طاب الموت قدر، لكن هما ليه؟ لو عيب فيَّا قولي، والله مش هزعل! وعدتني زمان أنها مش هتبعد، لكنها خلفت وعدها وبعدت يا غادة، ليه؟ ليه؟
- لا يا حبيبتي، ما قوليش كده، يا ريت كل الناس زيك، مامتك الدنيا أخداها شوية وإن شاء الله هترجع، نادية أكيد عندها عذر يمكن تعبانة ومش عايزة تقلقك، أكيد إن شاء الله هترجع لك في يوم، وبعدين ما أنا معاكِ أهو.
- ما تبعديش يا غادة، عشان خاطر ربنا أوعي تبعدي، أنا تعبت بجد، تعبت قوي.
- مش هابعد، وعد، والله مش هابعد.
- الدنيا بتلف بيَّا يا غا..
لمَّا فشلة في افاقتها توجهت إلى الاستقبال لتبحث عن الطبيبة، فاندفع رامي إليها يسأل عن شيماء باهتمام شديد:
- هي فين؟ تعبت تاني؟
- أيوة في الجامع.
أسرع ليسعفها نقلوها للطوارئ، أكتفى بقياس ضغط الدم وكان منخفض بدرجة أرعبته، اهتز داخله ولم يحاول مواجهة نفسه بالسبب، حرص ألَّا يتعامل معها أي من التمريض لغرس المحلول بذراعها، بل هو من وضعه كي لا يؤلمها، بالرغم من تأكده أنها بعالم أخر ولن تشعر بشيء، لم تلحظ غادة لهفته لشدة خوفها على صديقتها الحميمة التي حازت حبها سريعًا، انتهى فأغلق الستار الذي يحيط مرقدها بإحكام، يمنع الجميع من رؤياها، وأثناء حديثه ناولها زجاجة دواء جهزها معه سابقًا:
- أدام بتتعب كتير كدة والضغط بيهبط للمرحلة دي لازم علاج، الدوا ده يكون دايما معاها، أول ما تحس أنها هتتعب تاخده، ممكن لا قدر الله تتعب مرة وهي لوحدها.
لم يفارقه قلقه عليها، لكنه يحَــارب للسيطرة عليه وعلى مشاعره التي تقوده إليها بإصرار؛ لن يسمح لأي من جنس حواء بالدخول إلى عالمه، لا يريد أيًّا منهن بعالمه، لن يعرض نفسه للطعنات مِن جديد، يكفي والدته.
تابعه مِن البداية، يتوغل الحقد داخله، حتى تلك العنيدة بسهولة دخلت محيط رامي وترفضه، قرر الضَّغط على عقدته من جنس حواء، لا يعلم أسبابها، لكنه سيطوع ما علم ليصل لمراده:
- الدكتور رامي وقع في الحب ولا إيه! شكلك طبيت يا دوك.
- يتهيأ لك، هي صعبانة عليَّا، شفقة مش أكتر، ولو على إعجاب وحب؛ فأنا شايفك غرقان.
- تفتكر حاسة بيَّا! حاولت كتير أقرب ومش سامحة، جدار مُسَـلح مش نافع معاها حاجة.
طالعه بوجه جامد لا تأثر معه أو ضده، ولازم الصَّمت، بينما قرر وسيم محاصرتها بجميع الطُّرق، يلاحقها بنظرات مزجها بحب واهتمام لم ترَ زيفهما، استطاع جذب انتباها وجميع مَن بنطاقهما، باتت مصدرًا خصبًا للنميمة، ضاقت وخجلت من تسلط الأعين عليها؛ فانغلقت وتقوقعت على نفسها، نهشَـت رامي الغيرة وفتكت بقلبه، وهو لا زال يكابر يُجَـاهِـد ليبتعد عنها.
هاتفها والدها يخبرها بقدوم ابن عمتها للمشفى، أمرها بتنفيذ كل ما يريد بعدما عنفها بكلماته كعادته التي لا يغيرها دومًا، قابلته بنفس المكان مدخل قسم الطوارئ، بمرمى نظر الطبيبان، تنَهَّد رامي بإحباط، حرص ألَّا يَصدُر عنه حتى الهمهمات، وابتسم وسيم بمكر، تحرك على الفور، أسرع إليهما واستمع لآخر حديثهما:
- يا ترى ناوي تكشف أيه المرة دي؟ نفسي أعرف بتيجي ليه؟ وأنت ما شاء الله زي الفل.
- فاضي فبسلي نفسي، ناوي أكشف أمم..، مش عارف! ممكن باطنة، إيه رأيك؟
- هي بدلة وعايز رأيي، يا سيدي روح دور لك على شغل بدل الفراغ ده.
- أدور ليه؟ ما أنا بشتغلك أهو.
الغيظ الجمها قيَّد كلماتها، واحتقن وجهها، فاجأها صدوح صوت وسيم من خلفهما:
- أيه رأيك تشتغلني أنا؟!
نظرا إليه واختلف رد فعلهما، بين تعجب مُحْرَج وتفحص، تحرك معه ليكتشف نواياه، دار بينهما حديث يحمل ذو معانٍ متباينة، لم يشعر ابن عمتها أسامة بالرَّاحة تجاه هذا الوسيم، الذي يشع منه المَكْر والخبث ويخفيهما وراء وسامته وحلاوة لسانه، شكره باصطناع وتركه، قبل رحيله هاتف شيماء وطلب منها ملاقاته بعيدًا عن ممر الطوارئ، رافقتها غادة ظنًّا منها بمحاولته أذيَّتها بكلماته، وقفت جوار بتحفز، تتفحص معالمه التي يرتسم عليها لأول مرة الجدية والحزم، وبسماع كلماته تحولت معالمهما للحيرة:
- عارف أن تصرفاتي معاكِ استحالة توضح لك مدى احترامي لك، أتمنى أنك تهتمي بالنصيحة اللي طلبتك عشان أقولها لك بصدق، أبعدي عن الدكتور ده، هو مش سهل، خبيث ونواياه سيئة، أنت مش قده يا شيماء، يا ريت تهتمي بكلامي.
رغم اندهاشهما إلَّا أن شيماء ابتسمت بسعادة؛ فهناك مَن يهتم ويقدرها، زادت شيماء انغلاقًا على نفسها، وزاد وسيم إصرارًا للحصول عليها؛ فقرر التقدم لخطبتها، صارحها بما ينوي؛ فشعرت بالتخبط والحيرة، لا تتقبله، هناك حائل خفي بينمها، وكأنها روحيهما تتنافر، فحدثها عقلها الخطبة تعني قدوم نادية لتدعم رأيها أو ترفض؛ أذن فلتوافق لتضمن رؤية نادية، وهي على يقين من رفضها لسببين، أولًا النقود، ثانيًا لأنها سترى عدم تقبلها له، لم تسمع لاعتراض غادة، ومحاولاتها لإثنائها عمَّا نوت.
وبتقدمه حدثت مفاجأتين احــرقتا قلب شيماء ابكتها لفترة طويلة، لم تهتم نادية، أكتفت بسؤالها ووالدها عبر الهاتف، وافقت على الفور، وجاء والدها بدوره ليقضي على ما بقي سليم بروحها، حضر وسيم ليتعرف على والدها ويفاتحه بطلبه، ارتسمت على وجهه الدهشة التي تحولت سريعًا لعلامات النصر فقد حاز أكثر مما توقع:
- بما أنك دكتور، يعني معاك فلوس؛ فأنا موافق بشرطين، الأول أنا ملزم بشنطة هدومها بس، والتاني كتب الكتاب يتم على طول، أنتم مع بعض طول الوقت، وتتقابلوا كل يوم.
ابتسم ببشاشة يخفي خلفها مكره؛ نالها دون مجهود، ظن أن والدها مثلها فوجده على النقيض تمامًا، أجابه بترحيب شديد وبسمة عريضة:
- يا ريت يا عمي، أنا كنت محرج أطلب من حضرتك ده؛ فتفهمني غلط.
- بما أنك من ناحيتها، يعني هي موافقة.
ليس الامر كذلك، أرادت تذكيره وأختها بوجودها بحياتهما، فاكراها وقللا منها، عرضها والدها كبضاعة راكدة أراد التخلص منها، حزنها هذه الليلة ضاهى حزنها يوم وفاة جدها، نَـزَف قلبها، وانْتَـحَبَـت روحها.
بيوم وليلة وجدت نفسها باحتفال عقد قرانها، كأنَّها غُيِّبت طوال الفترة الماضية، أو تحيا كابوس لن تستيقظ منه، زاد حزنها ووهنها بحثت عن نادية بين الحاضرين ولم تجدها، سقطت دموع الخذلان دون إرادة منها، أسرعت غادة تضمَّها تخفي دمعها عن الحضور، واقترب رامي يثبت لنفسه أنها مثلهن لا تستحقه، لكن كلماتها المختصرة التي وقعت على مسامعه بثت إليه حزنها وسبب قبولها.
- ما جاتش يا غادة، خلفت وعدها وما نفذتش وصية جدو، قالي اختك هترجع، ما جاتش ليه؟
كم احزنت تلك الكلمات غادة! كما أدمت قلب رامي، الذي ظن السوء بعا، أعتقد أنها تنصب شِركها لترتبط بأي منهما، أذاها وخذلها وإن لم تعلم، قرر المغادرة قبل اتمام عقد القران، لكن كلمات إحدى المدعوات قيدت قدماه، وجلته عَـاجِـز عن التَّحرك:
- دي بتعيط، شكلها زي ما قولت لك غلط معاها، وأبوها فرضها عليه عشان الفضيحة، أصل دكتور وسيم ألف مين تتمناه، عشان كده كتبوا بسرعة، دي لو شروة خضار كانوا أخدوا وقت أطول!
- شكلها كده بجد! بصي، بصي.
أعلنهما المأذون زوجان، وبارك لهما الجميع، كاد وسيم أن يضمها إليه؛ فوضعت كفيها على صدره تبدي عدم رغبتها، لم تتقبل فكرة أنه أصبح زوجها، سالت بعض دموعها ورجته بهدوء:
- مش قادرة، ارجوك.
جذبها إليه قسرًا، محتفظًا ببسمته وهمس بأذنها:
- مش مِن حقك تمنعيني، أنا بقيت جوزك، لازم تطيعيني، لفي ايدك على ضهري العيون علينا، ممكن يفكروا فيكِ بشكل وحش.
أغلقت عينها متألِّمة، ما الذي فعلت بنفسها؟! وأي نهاية تنتظرها! ألقت بنفسها بنيران متأججة، هي وحدها من سيحــترق بها، لم تكن وحدها من يتألم، فزواجها أبرح قلب رامي ألمًا، توقع أنه سيبعد طيفها عنه بإتمامه، لكن حدث العكس، تملكه الحزن وتأنيب الضمير، عذاب حاوطه ككُـربَـاج يحط على قلبه بتذكر دمعاتها، نبرتها المَـذْبُـوحَة ونظرة البعض لها، حمَّل نفسه وزرها، يشعر أنَّه دفعها للتهلكة بتركها لذلك الوسيم.
تقدم أسامة ليهنئها ونظراته تسألها لمَ وافقت؟ أخفضت وجهها هروبًا؛ فبمَ تجيبه؟!
انصرف المدعوين، وبقي وسيم معها، يرى حيرتها جليَّة، يوقن بوجود سبب لموافقتها، لم يهتم بمعرفة، لكنه يشعر الظروف التي أخْـضَـعتها له، ثبت نظره على وجهها الذي سكنه الحُـزن، لا يهتم بحالتها، لديه غاية ويعتقد أنه على شفا الوصول لها، هي الآن تحت سَيْـطَرَتِه، يحق له كل ما يريد ولن تستطيع الاعتراض.
تركها مُلقاه أرضًا تئن وجــعًا، لا تقوى حتى على البكاء، مر عليها وقت طويل ربما ساعات حتى استطاعت النهوض، تشعر باحْـتِـراق جَسَــدها، لا تتحمل الهواء، بكت بإشفاق على حالها، تساءلت لمَ لا يزورها ملك المَــوت؟ لما لا تخرج أنفاسها دون عودة؟ استلقت على الفراش تحاول تحمل الألم، نظرت حولها، المنزل مهجور وهي وحيدة به، عادت للنحيب؛ فهي اشتاقت لابنتها، لم ترَها لما يزيد عن الأسبوع، تتوق لمعانقتها لا لمعانقة السَّـوط لها، استمرت على حالها لأسبوع كامل، لم تحاول فتح أي نافذة، تمني نفسها كل يوم بعودة حلا.
يشْـتَعِل قلقًا عليها وغَضَبًا منها ومن سارة، يراقب نافذتها يوميًا، علم بمغادرتها المشفى، شاهد عودتها مع شهاب الذي بقى معها لقرابة الساعة، ثُمَّ غادر منفردًا ومنذ ذاك اليوم لم يلمحها، ولم يلحظ أي حركة بالبيت، دب الرعب بقلبه، ماذا فعل بها زوجها؟! ما حدث يبدو خطأً، لكنه لم يكن ليتركها غائبة عن الدنيا أسفل منزلها، أراد حمايتها، زوجها لم يهتم، بل عنَّـفْها، استمع لصِـرَاخه بوضوح وتهديده لها، تضاعف غَضَب مِن سارة، يُوقن بضلوعها فيما حدث، تُعَـاقِـبها، ليتها تصب حِقْـدها عليه فقط، وتترك طيف وحالها.
أخيرًا عاد شهاب وحلا التي أسرعت إلى والدتها تحتضنها وتقبلها بشوق:
- أخيرًا يا ماما خرجتي من المستشفى، ليه طلبتي من بابا ما ازوركيش؟ وحشتيني قوي.
- كنت تعبانة، ما كنتش عايزاكِ تقلقي، أنتِ كمان وحشيني قوي.
ارتَـمَـت حلا بين ذراعيها، طَوَّقَت طيف بيديها الصَّغيرتين؛ تألمت طيف وحاولت كتم آنينها:
- ماما أنتِ لسه تعبانة؟
- شوية صغيرين.
أتى صوت شهاب من الخلف ينهي المشهد:
- حلا غيري هدومك.
أومأت متجهة لغرفتها، ووقفت طيف محلها ترتعش، تمنت عودته كي ترى حلا وتضمها، لكنها الآن تخشاه، حتى أنفاسه باتت تخشاها، نظر لها باحْتِــكار وسخرية، خطى لغرفته تبعته صامتة، وقف بالداخل يوليها ظهره، وهي ثبتت محلها عقب إغلاقها باب الغرفة تخفض رأسها، تتصارع أنفاسها، التف إليها بحِدَّة، اقترب منها:
- ارفعي وشك.
نفذت بذعر؛ فنبرته مُخيفة، والنظر بوجهه أكثر رُعْــبًا، تكاد تجزم أنَّها رأت النِّيِــران تتــأجــج بنظراته:
- طبعًا كنت عايزة تكملي قَــذَارَة، بس الباب كان مقفول بالمفتاح.
- أبدًا والله!
كَمَّـم فاهها بيد ووضع الأخرى خلف رأسها، ضغط بإحكام، انكمشت معالم وجهه بغَضَبٍ وكُــره، اتسعت مقلتيها بِـرُعْـب، تجمدت بكلماته:
- أنتِ حيـ.. وقَـ ذرة، عايشة دور الضَّحِيَّة، مفيش مُبرر يخلي راجل غريب يشيلك ويدخلك اوضة نومك، مفيش راجل يمشي ورا واحدة إلَّا إذا هي سمحت، تمثلي التعب مبرر، لمسك؟! انبسطتِ صح؟ قارنتِ مين فينا أحسن؟ أنا قــرفـان فوق ما تتخيلي، لسه باقي عِـقَـابك، مفاجأة.
يُصِر على الطعن في شرفها، لا يصدقها، شُلَّت حواسها، واندفعت دموعها بغزارة، دفعها بقوة؛ فارتدت للخلف واصطدمت بباب الغرفة، واكمل هو بتهديد:
- طول ما أنا في الاوضة تفضلي بره، تخلصي اللي شغلك وتقعدي بعيد على الأرض، ولو حلا سألتك تقولي أي سبب، لو قعدتي على أي كرسي هعيد اللي حصل مضاعف، القذارة مكانها الأرض أو الزِّبَــالة، وقت النوم تنامي على الأرض في أي ركن، وهسمح لك بدخول الاوضة عشان حلا، غوري بره.
لا تعلم كيف تحركت، وضعت راحتيها على فمها تكتم شهقاتها، دخلت إلى ملجأها الدائم -المطبخ- انزوت بأحد أركانه، تخفي وجهها به، وسقط منها دموع حــارقة؛ فكلماته أشد وطأة من سّـوْطِـه، هل أصبحت نَجَــاسة؟ لم تقترف خطأ ليس خطأها، في وعيها رفضت، وأصرت على الرفض، يتردد صدى كلماته على أذنها تحْــرقها، بقيت على حالها لفترة، ثم انتبهت على صوت حلا، تألمت مِن كفها الصغير عندما ربتت عليها:
- ماما أنتِ زعلانة! حقك عليَّا، بابا زعق لك! هو زعق جامد، معلش هو طيب، بيبقي خايف علينا، شوية ويفهمك زي ما بيعمل معايا، تعالي نعتذر له، وهو مش هيزعلك تاني.
- كان بيتكلم في الموبيل، أنتم بس وحشتوني قوي، ومش مصدقة أننا تجمعنا تاني.
- ما تعيطيش خلاص، يلا نقعد مع بعض.
- أعمل الغدا الأول؛ عشان ناكل مع بعض.
شغلت نفسها بالعديد من الأعمال، رغم شدة تألمها إلَّا أنها فضَّلت العمل عن إحراجها أمام ابنتها، بوقت الغداء حدجها شهاب باحتقار، جعلها لا تقوى على رفع رأسها أو تناول الطعام، حرص كلاهما على ألا تلاحظ حلا ما يحدث، وعندما انهت طيف أعملها وحان وقت جلوسها معهم لم تعلم ماذا عليها ان تفعل، انتهت حججها وتضاعف ألمها، اضطرت للخروج إليهما، اندفعت إليها حلا، تمسك بكفها وجذبتها لتجلس معهما:
- أخيرًا خلصتي وحشتيني قوي تعالي اقعدي معانا بقي.
جاورت والدها وجذبت طيف لتجلس معهما؛ ابتعدت طيف بلطف معتذرة:
- رجلي وجعتني يا حلا، هفردها على الأرض.
- خلاص أقعد معاكِ على الأرض.
- مش مقامك يا حلا، تعالي جنبي هنا، مكانك معايا، مع بابا.
نظرت إلى طيف، ثم لوالدها ولم تجرؤ على الاعتراض، لا تراجعه أبدًا، اتجهت إليه مبتعدة عن طيف، التي جلست أرضًا، تعاد كلماته بعقلها وجسدها يئن ألمًا، فجلوسها ضغط على بعض جراحها، وجميعها لم تُشفَ.
أسبوعان مرا كالحنظل، حسن ووالده فشلا مع سامر الذي أضاع نقود حسن، وزاد مرار حسن بعد عودته؛ فقد وجد كارثة بانتظاره حطت على رأسه، أرسل سامر فاكسًا إلى مقر عمله، يحوى استقالته لأسباب اضطرارية، وما زاد الامر سوءًا، هو قبولها، فالشركة تقلل العمالة الأجنبية الوافدة، ليحل أحد مواطني الدولة محله، ورغض طلب سحب إستقالته رفضًا قاطعًا، اتصل بوالده قص عليه ما حدث، يطلب العون، فعـنَّفه، ثم استمع لصوت ارتطام قوي، نادة على والده مرارًا حتى انهي الاتصال من جهة والده، عاود مهاتفته مرارًا دون مجيب، تملكه القلق وكرر محاولته حتى أجابت زوجة والده بفظاظة، اخبرته بعدم رغبة والده في التحدث إليه، اليأس وخيبة الأمل سيطرا عليه، تخلى عنه الجميع حتى والده، عاد لمصر يجر أذيال خيبته. دلف شقته التي كان يعدها ليتزوج بها، ونظر لأرجائها بحسرة، يجب أن يتدبر أمره ويحسن التصرف فيما معه من مال، يعلم صعوبة الحصول على وظيفة مناسبة، انتبه حينها سهوه عن الحصول على شهادة خبرة بمدة عمله، سب نفسه، ألا يكفي ما يفعله به الآخرون، كي يكمل هو ما بدأوه، نوى مراسلاتهم ليطلبها، يأمل قبولهم لإرسالها.
يجلس خلف زجاج شرفته يتمنى أن يطمئن عليها، لكنه لا يراها سوى لحظات بسيطة وهي تضع الغسيل على الأحبال، ويرفقها شهاب، ببعض الأوقات يقترب منها مثبتًا مقلتيه على شرفته ويؤذيها عامدًا، يري بوضوح تغضُّن ملامحها بالألم رغم بعد المسافة، كما لو كان يرسل إليه رسالة بتملكه وتعذيبه لها، وما زال شهاب يتلقى رسائل سارة التي تزيد بغـضه لطيف فيتعمد إيلامها نصب عيني مؤنس المراقبة، كما يلاحق طيف بنظرات محــتقرة نافِـرة، ويسمعها بذيء كلماته كلما خلا بها بعيدًا عن أعين ابنتهما.
مرت شيماء بأكثر أيامها عَـذابًا، تشعر أنها أذت نفسها ووسيم، حاولت تقبل وضعها الجديد، لكن وسيم يقوم بتصرفات تحبطها وتزيد نفورها منه، جلست تؤدي عملها المعتاد، فوجدت وسيم أمامها:
- مش بتردي ليه؟
- قافلة الصوت عندي شغل.
- طيب تعالي.
- أنا مش فاضية خليها أخر اليوم.
- مش هأخرك يلا.
اضطررت للتحرك معه كي لا تثير تساؤل مَن حولها، وتحدثت بصوت منخفض غاضب:
- قولت لك مش بحب الطريقة دي، أنا فعلًا عندي شغل، ليه تحرجني وسط زمايلنا؟!
لم يكن رامي بالداخل، أجلسها على أريكة جانبية موضوعة خلف الباب، تجعلهما غير ظاهرين لمن بالخارج:
- وحشاني قوي يا مشمش.
استباحت يديه جسدها؛ فانتفضت واقفة، هم رامي بدخول المكتب لولا سماعه صوتها، الذي تأجَّـج بالغضــب رغم انخفاضه:
- قولت لك ميت مرة، ما بحبش كدة ومش من حقك.
- أنتِ مراتي ومن حقي.
- لحد دلوقت جوازنا على الورق، كلها شهر وكام يوم، وابقي في بيتك وقتها أكون حقك.
- الشرع بيقول مراتي.
- الشرع بيحترم العرف ادام مفيش بينهم تعارض، وفي العُرف الدُّخلة مع الزفاف يا دكتور.. يا وسيم ما تستعجلش، ادينا فرصة نعرف بعض، ليه مش مركز غير على ده، دايما نتخانق لنفس السبب.
- أنتِ معـقدة يا شيماء.
اتسعت عينها بصدمة؛ فأدرك أن قوله يبعده عن هدفه فحاول اصلاح ما أفسد:
- أقصد أني غير أي حد قابلتيه وخوفك كده.
- أنت فعلًا غريب، أنا لا عرفت حد ولا هعرف غير بشكل رسمي، وإن كنت اديتك فرصة تقرب مني قبل كتب الكتاب ابقي عملت مع غيرك.
اندفعت للخارج ولم تنتبه للرامي الذي اشتد إعجابه بها، كما اشتد تأنيب ضميره وقلقه عليها من غدر ذلك الوسيم.
غَضَب وسيم، لا زالت مستعصية عليه، ظن أنه ملكها، لكن خاب ظنه.
نادية لا زالت تلوذ بالفرار من مواجهة شيماء، لا تهاتفها ولا تجيب اتصالاتها.
بالكاد حصل حسن على شهادة الخبرة، وقدم أوراقه لأماكن عدة، يبحث عن عمل، قوبل بالرفض فوري في بعضها، لظنهم مطالبته بمرتب باهظ، وما زال ينتظر رد باقي الجهات.
أتم إجراءات سفره واشترى تذاكر الطيران له ولابنته، وكعادته يقابل ريڤال بمنزل والده، ثم يخرجا للتنزه أو لشراء حاجاتهما، حين خرج شهاب مع زوجته، تلاه والده وذهب إلى طيف، التى انتفضت برؤيته، تخشاه أضعاف ما تخشى زوجها وكشهاب تحدث أمِرًا:
- غيري أنت والبنت وتعالوا.
- شـ شـ شهاب، هيضايق، لو لو خرجت من غير ما يعرف أنـ...
اخرستها نظرته، أخفضت وجهها أرضًا، أخذ كف حفيدته بلطف في راحة يده، وتبعتهما طيف.
يصف سيارته جانبًا بعد عودته من العمل، فرآها تتبع رجلًا غزا الشيب رأسه، فتكت برأسه الظُّـنون، لا يعرفه، لكن تبدو الطفلة سعيدة، في حين ترتعش طيف بوضوح؛ تبعهم ليطمئن عليها، وهو متأكد أنه ككل مرة سيزداد خوفًا عليها وقلقًا.
بعد فترة وصلوا إلى وجهتهم، لم يكن شهاب قد عاد، جلست طيف بتوتر، وحلا تلهو بالتاب الجديد الذي أهداها جدها إيَّاه، ثم جلس جوارها يوضع بياناتها عليه، قصد ذلك ليلهيها عما سيحدث، وكعادته يتابع طيف بنظرات ثاقبة، لم يحبها ولن يفعل، وكذلك زوجته.
وصل شهاب يتردد صدى ضحكته بالأرجاء تجاوره امرأة تماثلها عمرًا، اندهشت طيف برؤيته عهدته عابسًا منذ اليوم الأول، عنيف حتى بكلماته، وقفت محلها، تطالع تلك السيدة المتأبطة ذراعه بتساؤل لا تستطيع الافصاح عنه، زادت صدمتها، التي اطاحت بها واحضرت رفيقتها الوفية -دموعها الملازمة لها دومًا- كلمات والده:
- مش تعرفهم على مراتك الجديدة.
رمق والده بتدقيق، لم يتوقع فعله، سريعا ترجم عقله دور زوجة والده عندما رأى بسمتها التي تحاول اخفائها، حدجها بنظرات حادة لوهلة، ثم نظر إلى طيف باحتقار، لم يوجه لها كلمة قاصدًا تصغيرها فحدث ريفال:
- أعرفك يا ريفال، دي مراتي الأولى.
نادى ابنته بعدما رسم على وجهه ابتسامة رقيقة عريضة:
- تعالى يا حلا سلمي على ماما التانية، دي بنتي اللي كلمتك عنها.
اقتربت حلا بترقب تدور بمقلتيها بين طيف ووالدها، ترى بوضوح رغم صغر سنها عدم اهتمام والدها بمشاعر والدتها، وقفت جوار والدها، والتفتت لها ريفال وتحدثها ببسمة مزيفة:
- جميلة حلا، مش شبهك يا شهاب.
دققت النظر بطيف، ثم عادت بعينها لحلا تحدث شهاب:
- شبه مامتها شوية، معقول عمرها عشر سنين بس، أخدت الطول منك.
- فعلًا هي شبه ماما -الله يرحمها- وطويلة زي عيلتنا إحنا كبار في كل حاجة.
رمق طيف باحتقار مع جملته الأخيرة، شعرت بالأرض تميد بها، دق آخر مسمار بنعشها، لم تصبح إهانتها مستترة وستشاركه زوجته الجديدة، لم تتحمل الفكرة، وجدت قدمها تأخذها لخارج المكان تحررها منهم، ابتعدت عنهم.