رواية عشق لا يضاهي الفصل الرابع و العشرون 24 بقلم اسماء حميدة

 

 رواية عشق لا يضاهي الفصل الرابع و العشرون بقلم اسماء حميدة


داخل مقصورة الدرجة الأولى حيث تتوارى الأرض خلف غيوم مترفة كأجنحة حلم جلست سيرين تحدق عبر النافذة عيناها تائهتان في بحر السماء لكن فكرها كان يغوص في أعماق الماضي ينبش ذكريات أربع سنوات ولت كأنها كتاب قديم انفتح فجأة على أكثر صفحاته ۏجعا. 
حينها كان الحزن قد نسج حولها شرنقة من الاكتئاب سجنا شفافا لا يراه أحد سواها.
بعد أن استنجدت سيرين بكارم رفيقها في الظل ليكون يدها حين عزت عليها يداها فجاءت فكرته المچنونة
أن تمحو أثرها من العالم أن تختفي كأنها لم تكن. وافقت بل استسلمت وهكذا ولدت سيرين من جديد لكن في غربة تحت سماء لم تعرفها

وبين جدران لم تألفها. 
وفي هذا المنفى الاختياري جاءت الحياة تهبها مفاجأة لم تحسب لها حسابا توأمان ثمرتا حب عاش بين السراب والظلال غير أن الفرح لم يدم طويلا.
كان القدر قد خبأ لها امتحانا صعبا درسا جديدا مشحونا بالألم فقد جاء نوح ابنها الأصغر إلى العالم قبل أوانه هشا كندى الفجر ضعيفا كهمسة في مهب الريح. 
في مارس حين كانت الأرض تستعد لاستقبال الربيع تلقيت الخبر الذي سلبني دفء الشمس وألق الزهور... نوح قطعة من روحي شخص بمرض استنساخي من الخلايا الجذعية سړطان الډم كأن المۏت كان ينتظره عند الباب منذ ولادته كضيف ثقيل لن يرحل بسهولة. 
رفعت
سيرين يدها المرتعشة إلى صدرها كأنها تحاول أن تكبح رجفة قلبها فلا شيء يعادل ألم أم ترى فلذة كبدها يصارع وحشا لا تملك أمامه سلاحا سوى الدعاء.
وأخيرا لحسن الحظ أن الأطباء قد أخبروها بأن زرع الخلايا الجذعية المستخلصة من ډم الحبل السري قد يكون طوق النجاة الأخير فرصة ضئيلة لكنها قائمة كنافذة ضوء تتسلل عبر شقوق الظلام ومنذ أن تلقت سيرين الخبر وهي تجوب الدروب الملتوية تحاول بكل الطرق أن تحصل على ما تحتاجه من ظافر كمن يلهث وراء سراب في صحراء قاحلة غير أن كل محاولاتها كانت تصطدم بجدار صلد صمت أبدي لا يلين وكأن القدر قرر أن يراوغها في أشرس معاركه.
 
الوقت ليس في صف نوح فكلما تعجلت في إجراء العملية زادت فرص نجاته وكأنها تسابق عقارب ساعة رمالها تتساقط بلا رحمة.
والآن لم يكن أمامها سوى خيار واحد خيار يحمل من المرارة أكثر مما تحتمله روحها ولا محالة سوى أن تخوض المعركة بنفسها وحدها ودون تراجع. 
أجل فلولا نوح لما وطأت قدماها ذلك المكان مجددا ولا حتى فكرت للحظة في البحث عن ظافر.
لو لم يكن نوح لكانت طوت تلك الصفحة إلى الأبد كحلم أفاقت منه على كابوس واقعها.
قبل الإقلاع وبينما كانت أنوار المطار تتلألأ تحت ظلال الغيوم الشتوية تلقت سيرين رسالة من كوثر صديقتها الأقرب تلك التي كانت
دائما

رفيقة الدرب وزميلة الأسرار. 
_أيامي مزدحمة حد الاختناق لكن ما إن أعود سأكون لك درعا في وجه ظافر وسألقن تلك العاهرة دينا درسا لا ينسى _ 
تسللت ابتسامة دافئة إلى شفتي سيرين كأن كلمات كوثر أشعلت في قلبها مدفأة وسط صقيع الأجواء. ردت باختصار
حسنا. ثم أغلقت هاتفها كأنها تحاول أن تحبس تلك المشاعر داخلها قبل أن يجرفها تيار الذكريات. 
كوثر... ذلك الاسم الذي ارتبط بأجمل أيام الشباب. 
التقت بها سيرين بين أروقة الجامعة حيث تشاركتا الضحكات والأحلام المرسومة على جدران الزمن لكن الحياة كعادتها ألقت بهما في دروب متفرقة فبينما شدت كوثر الرحال إلى الخارج بحثا
عن آفاق أوسع ارتدت سيرين ثوب الزواج فانقطع الوصال حتى جمعت بينهما الصدفة مجددا قبل أربع سنوات في تلك المدينة الغامضة... أثنيا. 
لم يكن الشتاء كريما هذا العام السماء حبلى بالمطر وكأنها تبكي على أسرار لم تجد من يبوح بها وحين حطت عجلات الطائرة على أرض المطار كانت عقارب الساعة تقترب من السابعة مساء.
نزلت سيرين بخطوات مترددة تلتهم عيناها المكان الذي بدا لها مألوفا لكنه يحمل غربة خفية وكأن الزمن قد عبث بتفاصيله بينما كانت هي بعيدة. 
وحين خرجت إلى بوابة المطار انزلقت أمامها سيارة لينكولن فاخرة بلون الليل توقفت في اللحظة التي عبرت فيها الرصيف وكأنها كانت تنتظرها
منذ الأزل.
ترجل السائق وكان رجل تبدو عليه ملامح الاحترام والاحترافية وانحنى قليلا وهو يفتح الباب قائلا بنبرة هادئة 
من هنا من فضلك سيدة تهامي. 
رفعت عينيها إليه والتقت نظراتهما للحظة ثم أومأت برأسها قائلة بصوت خاڤت
شكرا. 
ارتسمت على شفتيه ابتسامة ودودة وهو يرد 
أنت صديقة رئيسي فلا داعي لكل هذه الرسميات لقد حرص على ترتيب كل شيء من أجلك. 
لم يكن الرئيس سوى كارم. 
لولا أن كارم كان طوق نجاتها قبل أربع سنوات لما أدركت سيرين أن تواضعه كان قناعا يخفي خلفه نفوذا لا يستهان به إذ أن كارم كان يقول دوما إنه مجرد رجل أعمال صغير لكن الحقيقة كانت أعمق
من ذلك... هذا الكارم كان يحرك الخيوط في الظل يتنقل بين القانوني وغير القانوني كراقص على حبل مشدود ولولا تدخله لما استطاعت سيرين الفرار من زواجها بظافر هي وتوأمها. 
الآن وهي تعود إلى هذه المدينة لم تكن تعلم ما الذي ينتظرها... لكن ما تعرفه يقينا أن يد القدر لم ترفع قلمها بعد. 
في مقعدها بجوار النافذة راحت سيرين تحدق عبر الزجاج في المشاهد التي تتبدل أمامها كلوحات فنية تتحرك بانسياب وكأن الأرض تسرد عليها قصصا صامتة عن الزمن الذي مضى.
المدينة لم تتغير كثيرا خلال السنوات الأربع الماضية لكنها بدت كأنها ترتدي قناعا جديدا قناعا يحمل بصمة دينا التي غزت شوارعها بصورها
المعلقة على كل

جدار وكأنها باتت جزءا من نسيج المكان نفسه. 
خلال هذه السنوات لم تكن دينا مجرد مغنية أو ممثلة فحسب بل تحولت إلى أيقونة ترفيهية نجمة يتسابق الجميع ليحظوا بلمحة منها كانت شهرتها أشبه بضوء ساطع يخطف الأبصار لكن سيرين تجنبت النظر إليها وگأنما بريقها قد يحمل معها ظلالا لا ترغب في استحضارها. 
بعد ساعة من السير في طرقات المدينة توقفت السيارة أمام حي هادئ بدا كأن الليل قد ضمھ إلى أحضانه فارتدى سكونا مذهلا شوارعه تهمس للأرواح التائهة بقصص لم ترو بعد. 
ما إن وصلت سيرين إلى مكان إقامتها حتى سارعت بإبلاغ فاطمة التي سبقتها إلى مكان آخر بأنها وصلت بسلام.
كان وجود كل منهما على متن طائرة مختلفة خطة مدروسة لتجنب وقوع التوأمين في قبضة ظافر فهو لم يكن يعلم من الأساس أنهما موجودان في هذا العالم.
 
أخذت سيرين نفسا عميقا قبل أن تسأل عبر الهاتف بقلق خاڤت تسرب إلى نبرتها 
فاطمة أين زاك 
ارتسمت على شفتي فاطمة ابتسامة خفيفة قبل أن ترد بمرح 
إنه في غرفته يقرأ كعادته. 
لم يكن الأطفال في مثل سن زكريا قد ألفوا القراءة بعد لكن عقله كان أشبه بصندوق كنوز يفيض بالأسرار.
لم يكن مجرد طفل يقرأ بل كان يحلل يستنتج ويتجاوز حدود عمره الصغيرة بذكاء حاد.
في بعض الأحيان حين يتحدث زكريا عن موضوع ما يخال المرء أنه أمام رجل ناضج حبيس في جسد صغير. 
وفي تلك اللحظة عبرت ذاكرة سيرين كلمح البصر لتستحضر ما سمعته ذات مرة من شادية أن ظافر كان تماما هكذا وهو صغير طفل تفتحت عيناه على العالم بذكاء استثنائي حتى بات فخر عائلته المدلل الابن الذي لم ينافسه أحد في مكانته. 
لهذا السبب وضعت
سيرين كل طاقتها في صقل مهارات زكريا الذي كان بدوره طفلا استثنائيا كأبيه طفلا ذهبيا منذ نعومة أظافره وكأن النجوم نفسها قد باركت ميلاده وأهدته لمسة من بريقها الأبدي.
تقدمت فاطمة بخطوات وئيدة نحو غرفة زكريا تمسك بهاتفها كما لو كان مفتاحا سحريا يحمل لها رسالة من عالم آخر وقبل أن تدير مقبض الباب كانت أذناها تلتقطان صوت حركة خاڤتة بالداخل وكأن الصغير كان يخفي شيئا على عجل.
ما إن دفعت الباب برفق حتى استدار نحوها بوجه طفولي يقطر عتبا ورسم عبوسا ظريفا في محاولة منه كي يبدو جادا رغم طفولته. 
جدتي لقد نسيتي أن تطرقي الباب مرة أخرى! هذا تصرف غير لائق أبدا! قالها زكريا بنبرة يكسوها وقار غريب على طفل في عمره كعجوز حكيم يحمل فوق كتفيه هموم الحياة بأكملها. 
شعرت فاطمة بوخزة خفيفة من الإحراج كمن
ضبط متلبسا بچريمة غير مقصودة.
ابتسمت فاطمة بلطف وحاولت أن تسترضيه بصوت دافئ 
يا إلهي أظنني أحتاج إلى
منبه يذكرني كل مرة! سامحني يا زاك لم أقصد إزعاجك. 
لم يبد على الصغير أنه غاضب حقا بل لمح في نظرتها شيئا جعله يلين فترك ما كان يخفيه جانبا ورفع عينيه اللامعتين نحوها وكأنهما مرآتان تعكسان ضوء القمر.
ومن ثم قال بصوت هادئ كمن يمنح عفوه بسخاء ملكي 
لن أفعل ذلك. 
ثم امتدت يداه الصغيرتان نحو الهاتف وأمسكه بحرص طفولي كما لو كان يحمل بين راحتيه كنزا ثمينا.
حدق زكريا إلى الشاشة بشغف وفي عينيه بريق لا تخطئه عين...
هناك على الطرف الآخر كان وجه سيرين يتلألأ كنجمة بعيدة تضيء عالمه الصغير بنور لا يدركه سوى قلبه.
تعليقات



×