رواية عشق لا يضاهي الفصل الثامن و العشرون بقلم اسماء حميدة
أخذت عيناها تتأملان الشاشة بشيء من القلق وعلى الجهة الأخرى كان صوت طفل واهن بالكاد يخرج من بين شفتيه لكنه يحمل في نبرته رنة مألوفة كأنه صدى لزكريا شقيقه التوأم.
هناك على سرير المستشفى البارد كان الطفل ممددا شاحب الوجه تتراقص على ملامحه ظلال المړض كأنها فراشات سوداء تحوم حول زهرة ذابلة.
ناداها نوح بصوت دافئ كمن يطرق باب قلبها برفق فارتعشت أوتار روحها وسرت في عروقها قشعريرة حنين فابتسمت وهي تهمس
نوح إليك قبلة في الهواء تحمل لك بعضا من دفئي.
لكن نوح لم يبتسم بل ارتسم على وجهه عبوس عميق وكأن شتاء حزينا حط رحاله على
ملامحه الطفولية.
رفع نوح عينيه إليها بعتاب موجع
أمي لم تتصلي بي حتى الليلة الماضية لتتمني لي ليلة سعيدة...
حشرجت أنفاسها وانحنت كلماتها تحت ثقل الذنب صحيح أن زكريا كان دائم المشاكسة يلقي الدعابات بمرح ليزعجها لكن نوح كان مختلفا... أكثر حساسية أكثر احتياجا لطمأنينة لا تنقطع إذ كان طفلا هشا كأن روحه تتكئ على خيط رفيع من الأمان وأي غفلة منها قد تجرحه.
أنا آسفة حبيبي... لقد خانتني الذاكرة إليك قبلة أخرى كتعويض فهل ستسامحني
أطبق نوح شفتيه قليلا كأنه يتلذذ بالسلطة المؤقتة التي منحه إياها عتابه ثم قال بصوت يشوبه دلال الطفولة
سأسامحك
هذه المرة... لكن لن يكون هناك مرات أخرى!
ابتسمت سيرين ومع كل كلمة تخرج من شفتيه تشعر وكأن الغيوم الداكنة التي كانت تغطي صدرها قد انقشعت فجأة ثم سألته برقة
أين جدتك وزكريا
عقد حاجبيه بتمثيل بارع للڠضب وهو يشيح بوجهه عنها قبل أن يرد بتذمر طفولي
لو كنت أعلم أنك ستسألين عنهما لما اتصلت بك أصلا!
ضحكت سيرين ولم تدر هل تبكي من حبهما أم تضحك من غضبه المصطنع.
حسنا حسنا لن أسأل عنهما لقد تأخر الوقت وعليك أن تنام الآن تصبح على خير نوحي.
بعد أن أغلق نوح الهاتف تلاشت الابتسامة عن وجهه كما تذوب نقطة حبر في الماء
ومن ثم الټفت إلى شقيقه زكريا الذي كان جالسا في الزاوية تتراقص أنوار الشاشة على ملامحه الصامتة.
أمي كانت تشرب مجددا...
أغلق زكريا الكمبيوتر المحمول ببطء كمن يغلق بابا على أفكار مظلمة. لم يكن بحاجة لسماع المزيد.
زكريا كان يعرف النهاية مسبقا فزفر بعمق وقال
يبدو أنه ليس لدي خيار سوى الذهاب إلى المدينة لرعايتها.
نعم... أغمض نوح عينيه ثم أضاف بصوت مبحوح لو لم تكن صحتي بهذا السوء لذهبت معك... وربما قټلت ذلك الوغد.
كانت سيرين بعيدة عن كل هذا تجهل تماما ما يدور في الظلام خلف ظهرها ومخطط توأميها للقصاص من أبيهما بات غولا
يتوحش بصدر
الصغيرين.
بعد استحمام دافئ استلقت سيرين على سريرها تعانق دميتين الأرنبيتين كطفلة تبحث عن أمان مفقود لكنها لم تجد راحة هذه الليلة إذ أخذت تقلب جسدها تنام وتستيقظ كأن السرير غريب عليها أو ربما لأن أفكارها تأبى أن تهدأ كابرت وأرجعت السبب كون اليوم كان طويلا... أو ربما لأن ظافر قد عاد إلى حياتها تعلم أن كلمة ربما ليس لها محل من الإعراب هنا فالسبب... ظافر.
عندما فتحت عينيها أخيرا كان الصباح قد تسلل خلسة إلى غرفتها فنظرت إلى الساعة إنها 510 صباحا.
زفرت بضيق ثم التقطت هاتفها لتجد إشعارا برسالة غير مقروءة.
كان كارم قد رتب لها حارسا شخصيا جديدا رامي حداد.
فتحت الرسالة فكان رامي قد كتب لها
السيدة تهامي لاحظت أن هناك سيارة تراقب مسكنك منذ عودتك الليلة الماضية... ولم تغادر حتى الآن.
تسارعت نبضاتها وهي تحدق في وقت الإرسال 0300 صباحا.
أرسلت سريعا
هل لا يزال هناك
جاءها الرد بعد لحظات قصيرة
نعم.
لم تكن بحاجة للتفكير كثيرا... لقد عرفت فورا أن هذا أحد رجال ظافر.
تنفست ببطء قبل أن ترد بهدوء
لا تقلق
دعه يراقب كما يشاء... فكلما اقترب كلما كان ذلك أفضل لي.
بعد الإفطار غادرت سيرين منزلها بخطوات ثابتة ترفرف حولها هالة من الغموض الذي التصق بها كظل لا يفارقها.
جلست في المقعد الخلفي للسيارة وألقت بأمرها إلى السائق بصوت ناعم لكنه لا يخلو من الحزم
خذني إلى مجموعة شركات نصران.
انطلقت السيارة تشق شوارع المدينة حيث كان ضوء الصباح الباكر يتسلل من بين المباني كخيوط ذهبية تنسج يوما جديدا لكن داخلها لم يكن هناك جديد.
كانت كعادتها... حبيسة أفكارها مشدودة إلى ماض لم ينته بعد.
في تلك الأثناء كان ظافر جالسا في مكتبه الفخم تتراقص بين أصابعه ورقة تحمل رقما قد يغير مصير حياة بأكملها. شيك بقيمة خمسين مليون دولار حررته له سيرين مقابل قلادة الزمرد.
بقى ظافر يرمق الأرقام الضخمة بطرف عينيه لكنه في الحقيقة كان يراها أصفارا خاوية لا تعني له شيئا أمام سؤال واحد ظل يطن في رأسه أين كانت طوال السنوات الأربع الماضية ومن أين لها بكل هذا المال
التوى ثغره بابتسامة تهكمية فعلى ما يبدو أن سيرين كانت تعيش في بعد حياة مترفة ولا يوجد من يمكنه توفير تلك الرفاهية
سوى شخص واحد.... كارم.
زمجر ظافر بزئير غاضب أظهر مدى مقته لغريمه كارم وود لو كان أمامه توا فحينها لن يتوان ظافر عن تقطيع جسده إلى أشلاء يحتارون في جمعها.
منذ الليلة الماضية قد كلف ماهر شخصا بمتابعة سيرين خلال الليل وها هو يقف الآن أمام ظافر ملامحه متوترة كما لو كان يحمل في جعبته شيئا يوشك على تفجير
المكان.
قال ماهر بصوت خاڤت لكنه محمل باليقين
سيدي لدينا أخيرا بعض الأخبار... السيدة تهامي شوهدت في أحد الأحياء العامة الليلة الماضية.
رفع ظافر عينيه نحوه ببطء كمن يزيح الغبار عن ذكرى قديمةيتساءل بإلحاح
وماذا عن سجلات المطار ومحطة القطار هل تم رصد أي حركة دخول أو خروج
تردد ماهر لحظة قبل أن يجيب
لا شيء تماما كما حدث من قبل... كما لو أن هناك من تعمد طمس أي أثر لها.
زم ظافر شفتيه لقد كانت مختفية لأربع سنوات كاملة والآن تعود فجأة لتظهر في مكان غير متوقع لم يبتلع الأمر بسهولة فلقاء البارحة لم يكن مجرد مصادفة... كان أشبه بيد القدر تمتد نحوه لتعبث بأوراقه من جديد.
أخذ ماهر نفسا عميقا ثم أضاف بحذر
هناك أمر آخر... بحسب التقارير
المنطقة التي تعيش فيها السيدة تهامي تخضع لمراقبة مشددة.
نظر إليه ظافر بنظرة لم يفهمها لكنها حملت من البرود ما جعل الغرفة تزداد برودة رغم حرارة الجو بالخارج وقال بصوت جاف لكنه قاطع
استمروا في البحث عنها لا أريد مفاجآت أخرى.
كما تأمر سيدي.
حدق ظافر فيه لثوان ثم ألقى عليه جملة أخيرة بصوت خفيض لكنه كان كافيا ليجعل ماهر يتجمد في مكانه
إذا أفلتت منا هذه المرة... لا داعي لأن تبقى في هذه المدينة بعدها يا ماهر أسمعت.
مفهوم سيدي.
غادر ماهر بخطوات متسارعة تاركا ظافر وحده مع أفكاره قلبه لم يكن مرتاحا عقله يضج بعشرات السيناريوهات كان يريد أن يذهب بنفسه ويقتلعها من حيثما اختبأت ليضعها أمامه ويبحث في عينيها عن الحقيقة التي تخفيها. لكن الأمر لم يكن بتلك السهولة.
فقدان ذاكرة
لا لم يكن ليبتلع هذا الهراء!
لم يكد يلتقط أنفاسه حتى عاد ماهر مجددا يطرق الباب بعجلة ليطل برأسه ويقول
سيدي... يبدو أن السيدة سيرين في طريقها إلى هنا.
رفع ظافر رأسه ببطء لم يبتسم لم يتفاجأ فقط تمتم بكلمات لم يسمعها أحد غيره
أخيرا.
..