رواية فراشة في سك العقرب ( حب أعمي ) الجزء الثانى الفصل الثانى بقلم ناهد خالد
“الحقيقة أن الأفعال البسيطة هي ما تُغذي مشاعرنا السيئة التي تتسرب لداخلنا لتحدث الكره والحقد، وتبني ألوفًا من الحواجز.. تقطع علاقات وتفرق أحبة، ومع تكرار المواقف يصبح الصديق عدو، والحبيب غريب مكروه، حتى وإن كانت تلك الأفعال غير مقصودة”
والزائر لم يكن سوى والد مازن” ممدوح” الذي سمع صوتهما العالي من الخارج فقرر الدخول لفهم ما يحدث، فاخترقته رصاصة طائشة أسقطته أرضًا..
صراخ وربكة وصدمة وضجيج في الوسط حتى وصل الجميع للمستشفى القريبة لحد ما..
وهناك وقفت” نادية” تصرخ بولديها من بين بكائها:
_ أنا عاوزه افهم ايه اللي حصل؟ ايه المسدس ده وازاي الرصاصة جت في ممدوح؟
اعتدل “شاهين” في وقفته بعدما كان مستندًا على الحائط خلفه وقال محاولاً اخفاء الحقيقة:
_ كان مازن بينضف سلاحه و…
اتسعت عيناها وهي توجه نظرها لمازن الذي ينظر لباب الغرفة التي اختفى فيها والده ونظراته تائهة، يخشى فقده ويخشى أن يكون بتهوره قد تسبب في موته فيحمل ذنبًا سيكويه طوال حياته..
_ جبت المسدس ده منين يا مازن؟ وجايبه ليه اصلا بتعمل بيه ايه؟
نظر لها معاتبًا:
_ معتقدش ده وقته.. احنا حتى لسه مطمناش على بابا.
وبعد انتهاء جملته خرج الطبيب ليندفعوا ناحيته بلهفة قلقة فيخبرهم انه بخير وان الرصاصة ولحسن الحظ كانت بعيدة عن القلب بعدة سنتيمترات، وأنها مسألة وقت وسيتم نقله من غرفة العناية لغرفة عادية بعد التأكد من مؤشراته الحيوية..
وبقى الوضع على أشده بين الجميع، نورهان التي التصقت بشاهين تبكي خشية فقد والدها وهول المنظر الذي رأته ووالدها غارق في دمائه، وشاهين الذي يحتضن شقيقته يدعمها ويهدأ من روعها وفي الوقت ذاته يلقي نظرة على والدته التي اتخذت الصمت والابتعاد عنهم عقابًا على الكارثة التي حدثت.. عقاب مؤقت! وأما عن الذي أصبح يقف مقابلاً له الآن لم ينفك عن رميه بنطرات اتهامية واضحة أثارت غيظه وأشعلت نيران غضبه ولا يتمنى الآن سوى أن ينفرد بهِ ليفهم معنى نظراته.
وجاء الانفراد بعد ساعات حين خرج ممدوح من غرفة العناية لغرفة أخرى وسُمح لوالدته وشقيقته بالبقاء بجواره، وحينها قرر “مازن” الانسحاب والعوده إلى المنزل ليبدل ثيابه التي تلطخت ببعض الدماء، وكذلك يجلب ثياب نظيفه لوالدته التي لم يختلف حالها عنه، وحينها استغل شاهين الفرصة وهو يبرر خروجه لحسابات المستشفى ليدفعها..
وأمام المستشفى وقبل أن يفتح “مازن” باب سيارته.
_ استنى يا مازن.
توقف بضجر واضح وهو يلتفت له بنظره يراها شاهين للمرة الأولى، نظرة لا يكمن فيها سوى الكره والشر، اقترب منه متجاهلاً نظرته وسأله بتحفز:
_ بتبصلي كده ليه؟ ونظراتك ليا فوق مش عجباني، كأنك بتتهمني بأني السبب في اللي حصل.
رفع جانب فمه ساخراً وهو يعقب:
_ بتهمك! لا طبعا حاشا لله، وانتَ ذنبك ايه يعني في اللي حصل.
قطب “شاهين” ما بين حاجبيهِ وهو يقول مؤكداً على حديثه رغم علمه بأنه مجرد سخريه:
_ أنا فعلا مليش ذنب في اللي حصل، لا انا اللي جبت المسدس اللي ما اعرفش انتَ جبته منين ولا بيعمل ايه معاك، ولا انا اللي طلعته من جيبي، ولا انا اللي هددت بيه.. ولا حتى انا اللي ضغطت على الزناد، قولي بقى انتَ المسدس ده كان بيعمل معاك ايه؟ انتَ لسه مجرد طالب في الكليه يعني لسه ما استلمتش سلاحك، جبته منين وكان غرضك ايه لما جبته؟ يا ترى كنت ناوي تخلص عليا بيه؟ ولا جايبه مخصوص عشان تهددني وتخليني اعمل اللي في دماغك؟
_ ما يخصكش.
رددها “مازن” بقسوة ونبرة يسمعها منه “شاهين” لأول مره، وكأن اليوم هو يوم تعامل شاهين مع نسخه جديده وغريبه من مازن! تنهد قبل أن يقول متجنبًا الشِجار الذي على وشك الحدوث:
_ عمومًا لما ابوك يفوق هقوله إن الغلط غلطي، وهقوله كمان أن المسدس بتاعي جايبه عشان أؤمن نفسي بيه، هو عارف كويس إن احنا في المجال بتاعنا واقعين مع ناس مش سهلين وهيصدقني ما تقلقش هبعدك انتَ عن الحوار ده.
ضحك “مازن” ضحكة تهكميه ساخرة تخفي خلفها وجعًا مؤلمًا وهو يقول:
_ هتقوله كده عشان عارف إنك لما تقوله ان الغلط غلطك انتَ الموضوع هيعدي وهيقولك حصل خير حتى لو كان اللي حصل ده كان في موته، لكن لو عرف ان الموضوع أنا طرف فيه هيشيله ليا وهيشوف إني مذنب كنت هموته و مش بعيد يقاطعني فيها.. كالعاده هيقف في صفك حتى لو كنت انتَ غلطان، وحتى لو غلطك كان هيموت بني ادم.
_ انتَ من امتى بتفكر كده؟ انا مستغرب كلامك! مستغرب طريقتك! حاسس إني واقف قدام حد ما اعرفوش، من امتى بتفكر إن ابوك بيفضلني عليك ولا بيعديلي انا غلطي وبيقفلك انتَ على الواحده!؟ ده حتى ابوك انتَ مش ابويا أنا!
قالها “شاهين” بدهشه حقيقيه وهو يشعر أنه لم يعد يفهم الشخص الواقف امامه…
_ في حاجات كتير قوي انتَ مش فاهمها عشان عمرك ما شفتها ولا حسيت بيها، لكن انا بقى فاهمها كويس قوي وملاحظها من زمان بس كنت ساكت عشان كنت شايفك تستحق كل اللي بيتعمل لك، لكن دلوقتي وبعد ما نزلت من نظري انتَ ما تستحقش ربع اللي بيتعمل معاك، ولا تستحق تاخد حق واحد من حقوقي.. ومن النهارده يا شاهين انا مش هسمحلك تيجي على اي حق يخصني.
انهى حديثه وفتح باب سيارته منسحبًا بسرعه من أمامه تحت نظراته المصدومه والمدهوشه من كل ما سمعه منه اليوم…
وإفاقة “ممدوح عمران” واسترداده وعيه كانت جحيم سقط فيه “مازن” الذي لم يشفع له اعتراف شاهين بأن المسدس يخصه وانه من ضغط على الزناد دون قصد، ليتفاجئ الاثنان برد ممدوح وهو يقول:
_ أنا متأكد إنك بتداري عليه يا شاهين، انتَ عمرك ما تكون بالتهور والطيش ده انك تطلع مسدس في مكتبك اللي في بيتك وتتخانق انتَ واخوك عليه، عمرك ما تعملها أنا متأكد ان المسدس ده يخص مازن وهو اللي خرجه وكنت انتَ بتحاول تاخده منه.
وبعد الكثير من القيل والقال، ومحاولة اقناعه بعكس ما توصل له عقله فشلت كل محاولتهم ليخرج مازن عن طور حكمته وهو يفجر الحقيقه في وجه والده:
_ ايوه المسدس بتاعي، وكان معايا بقاله فترة كنت شاريه ومرخصه عشان بحب لما انزل الاجازات اروح اتدرب على الرماية في أماكن بره، والنهارده انا كنت راجع من بره وهو معايا عشان كنت لسه راجع من التدريب، بس يا ترى مش حابب تعرف انا ايه اللي خلاني اطلعه وتحصل الخناقه بيني وبينه عليه؟ من غير ما تتعب نفسك وتسأل عشان انتَ أصلا مش هتهتم تسأل وما هتصدق ترمي اللوم عليا، المشكله اللي حصلت النهارده كانت عشان اكتشفت ان شاهين بيه اللي كلنا شايفينه ملاك ما بيغلطش، وعاقل وذكي وبيزنس مان قد الدنيا، طلع مش بس بيزنس مان ده رئيس عصابه كمان، الباشا بيتاجر في السلاح ولما واجهته حصلت بين الخناقه اللي انتهت باللي حصلك.
والرد كان صادم للجميع حين قال “ممدوح” بعدما تجاوز صدمته:
_ شاهين عارف هو بيعمل ايه كويس، وانا واثق فيه وإن عمره ما يعمل حاجه غلط، اكيد المعلومه اللي وصلتلك دي مش صحيحة.
هز رأسه مبتسمًا بعدم تصديق وهو يقول:
_ مش صحيحة! طب ولو قلتلك انه بنفسه اعترف ليا لا وبيبرر كمان عملته هتقول ايه؟ عندك اهو اسأله.. اسأله!
_ مش محتاج اسأله وما يهمنيش اعرف الإجابه، هو مش صغير هو عارف هو بيعمل ايه كويس مش محتاج حد ينظر عليه، ويا ريت انتَ اللي تعقل وتتحكم في طيشك شويه، اديك شفت أهو كان هيجيب أجلي النهارده لولا ستر ربنا.
وانتهى الأمر…
انتهى بخيبة أمل جديده انضمت لخيبات مازن من أبيه، أبيه الذي لم يقف في صفه ولو مره واحده.. والذي لم يقف في وجه شاهين ولو لمره مماثلة،
أبيه الذي لم يشعر منه ولو لمرة بمشاعر الأبوه أو حتى يلتمس منه موقفًا من مواقف الأب مع ولده، والأمر في مجمله لم ينتهي هنا..
فرد فعل والده أشعلت نيران لم تهدأ في صدر “مازن” والذي وبكل تهور اعترف لوالدته في نفس اليوم بكل شيء عرفه عن شاهين لتنشأ مشاجره كبيرة بين شاهين ووالدته وعلى أثرها تركت “ناديه” المنزل عائده الى منزلها القديم والذي يخص أهلها ومعها مازن ونورهان التي ورغم رغبتها في البقاء مع شاهين ووالدها إلا أن ناديه لم تقبل أن تتركها هناك ومن هنا كان تفرق العائله…
“عودة للآن”
_ أنتَ روحت فين؟
افاق من ذكرياته التي لم ينتهي ألمها لهنا.. بل كان كل هذا مجرد بداية لبوابة جحيم محمل بالألم والفراق والغضب!
_ معاكي.
كلمة بسيطة لكنها هزت دواخلها، وكأنه لا يخبرها أنه معها في الحديث بل معها في الحياة! هكذا كان شعورها حين سمعت الكلمة البسيطة التي لا يقصدها من الأساس، وهذا ما جعلها تتسائل هل أصحبت بائسة لهذه الدرجة! نفضت افكارها الغريبة وهي تقول بتوتر طفيف أثر تفكيرها:
_ أصل ساكت بقالك مدة فكرتك قفلت.
خرج صوته مخالف تمامًا لِمَ كان عليهِ قبل، خرج جامدًا وهادئًا خاليًا من أي مشاعر التمستها منذ قليل:
_ أنا فعلا هقفل عشان تلحقي تكلمي والدتك وتقفلي تليفونك ده تماما وتخفيه في أي مكان محدش يعرف يوصله، ولما تحبي تكلميني طلعيه واتصلي بيا بعد ما تتأكدي انك في أمان ومحدش سامعك.
_ حاضر.
قالتها باحباط بعدما عاد لسابق عهده، الدقائق التي نسيا فيها من هما وما صلتهما ببعض جعلتها تحلق بعيدًا وهي تشعر أنها شخص مهم لديهِ، يشرح له معناته ويشاركه مشاعره واحداث حياته، لكنه سريعًا ما سحب البساط من تحت قدميها ليعيدها للواقع… هو الضابط وهي بائعة الفل تجمعهما مهمة فور انقضائها لن يعرفها في طريق وسينسى انه قابلها من الأساس!
اغلقت معه واتصلت على الفور بوالدتها التي اجابتها بلهفة أم قلبها ينكوي بنيران الخوف على ابنتها، وبعد عدة دقائق كانت تنهي معها المكالمة بدموعها التي تساقطت اشتياقًا لها:
_ ادعيلي يا ماما المهمة دي تخلص على خير وفي أسرع وقت وارجع لحضنك ولبيتنا اللي اكتشفت انه أأمن بكتير من القصر اللي قاعده فيه دلوقتي.
وقالت والدتها من بين بكائها:
_ دعيالك يا بنتي، دعيالك والله في كل صلاة وفي كل قعدة ونومة، ربنا ييسرلك طريقك ويسترها معاكي ويبعد عنك ولاد الحرام يا فُلة يا بنت بطني.. بس متغبيش عني وطمنيني من وقت للتاني.
_ حاضر، هكلمك كل ما ظروفي تسمح.. مع السلامة يا ماما.
_ مع السلامة يا حبيبتي في رعاية الله.
اغلقت المكالمة وبعدها تأكدت من اغلاق الهاتف تمامًا ونهضت تدور في الغرفة تبحث عن مكان مناسب لاخفائه حتى جاء برأسها أن تخفيه في مكان أكثر حساسية الا وهو الدرج المخصص لملابسها الداخلية، رفعت القطع الداخلية بحرص ودسته تحتهم لتشعر بأن المهمة قد تمت كما يجب، واغلقت الدرج عائدة للفراش والقت بنفسها فوقه تنظر للسقف بشرود سابحة في أحداث وأفكار كثيرة.. حديث مازن معها، وحديث نورهان مع شاهين، ثم حديث شاهين معها.. وشعورها تجاه مازن الذي يتعمق كل يوم.. وخوفها من شاهين الذي يزداد بمرور الوقت وبقائها هنا… كل هذه أفكار كانت كفيلة أن تغرقها في النهاية في نومٍ عميقٍ…
*******
صباح اليوم التالي…
شركة العقرب…
دلفت للشركة التي لم تأتيها مُنذُ مدة، بل وحُرمت عليها مُنذُ انفصلت هي ووالدتها ومازن عن شاهين ووالدها.. والدها الذي لطالما وقف في صف “شاهين” حتى بعد تناثر الاقاويل حول متاجرته في السلاح!
وصلت لطابق الإدارة واتجهت فورًا لمكتب “شاهين” لتخبرها السكرتيرة الخاصة بأنه بالداخل ومعه احد اعضاء الإدارة، فدقت فوق الباب ودلفت بعدها بابتسامه واسعة اختفت بالتدريج حين رأت الذي يجلس في مكتب أخيها والذي لم يكن غير “معاذ”..
تقدمت منه ووجها قد اشتعلت به حمرة الخجل على الفور وبالأخص حين لم ترى شقيقها في المكان فقد كان معاذ يجلس بمفرده..
_ صباح الخير..
منذُ انتبه لفتح الباب والتفت ليرى الزائر وطلت هي بطلتها البهية، وقد ارتسمت فوق شفتيهِ ابتسامة ساحرة ومحبة، لا يصدق أنه يراها الآن فلقد كان يفكر فيها للتو وفي حيلة لرؤيتها بما إنها أصبحت في منزل العقرب، لتتحقق أمنيته دون عناء ويجدها أمامه، بمظهرها المرتب البسيط الذي يتكون من بنطال قماش ابيض، وكنزة خضراء حريرية مع حذاء أخضر ذو كعب عالي وزينتها البسيطة جدًا التي تخطف العين وقلبه! وكالعادة تترك لشعرها كامل الحرية، وحين سمع صوتها كان أحب لأذنه من تغريد عصافير الصباح لتتسع ابتسامته أكثر وهو ينهض ويمد كفه ليصافحها:
_ صباح الخير يا نورهان نورتي.
وتصافحا الكفان لتسري كهرباء لذيذة تصل فورًا لقلب كليهما، ولكنها سريعًا ما سحبت كفها بارتباك كبير وهي تنظر حولها بتلجلج:
_ اومال… اومال شاهين فين؟
ابتسم على توترها الواضح الذي يلازمها طول الوقت في وجوده، لكنه يبرر هذا بأنها ليست معتادة على التعامل معه.
_ شاهين في اوضة اللبس بيغير هدومه عشان القهوة وقعت عليه من غير ما ياخد باله.
نظرت لباب غرفة الملابس الصغيرة المغلق والتي حرص شاهين على وجودها تحسبًا لمواقف كهذه، وقالت بقلق:
_ هو كويس طيب؟
طمئنها مبتسمًا:
_ متقلقيش كانت بردت شوية مأذتوش.
تنهدت براحة، ليسألها راغبًا في خلق حديث طويل معها:
_ بس هو لسه جاي من ساعة ليه مجتيش معاه بدل ما تيجي لوحدك.
نظرت له تقول بحلق جاف من كثرة توترها في وجوده:
_ انا روحت شغلي بدري، بس قعدت ساعتين ومشيت لأن هنبدأ في الجرد السنوي النهاردة من بعد العصر لبليل متأخر، فقولت اعدي على شاهين بما إن الشركة هنا في طريقي.
عقب بعدم رضا:
_ نفسي افهم ازاي عندكوا شركة زي دي وتشتغلي في مكان بره، الأولى يكون مكانك هنا.
اجابته برقة:
_ بس أنا حابه شغل البنوك بلاقي نفسي فيه عن الشركات.
وأمام رقتها ابتسم يقول:
– أكيد أهم حاجه راحتك.
_ نورهان!!
رددها “شاهين” بتعجب بعد أن خرج من الغرفة ووجدها أمامه، ابتسمت وهي تقول:
_خرجت من شغلي بدري قولت اجي اشرب معاك فنجان قهوة لو فاضي.
اقترب منها يبتسم في حنو:
_ ولو مش فاضي يا حبيبتي افضالك، كفاية انك نورتيني.
تنحنح “معاذ” في حرج وهو يقول مقررًا الانسحاب:
_ طيب هسيبكوا على راحتكوا واروح مكتبي.
رفض “شاهين” انسحابه وهو يقول:
_ لا استنى اصلاً هطلب فطار اعتقد كلنا لسه مفطرناش.
_ مانتَ عارف انا زيك مبفطرش غير بعد ما اصحى بكذا ساعة.
نظر “شاهين” في ساعته وهو يقول:
_ ماهو يدوب كده الساعة داخله على ١١ اهي.. تعالوا اقعدوا.
قالها وهو يتجه للاريكة والكرسيان القابعان في جانب الغرفة، ليجلس هو ونورهان فوق الاريكة ويجاورهما معاذ على أحد الكراسي..
نظر لنورهان بعدما طلب الافطار لهم وهو يقول بحنان:
_ الشركة نورت.. بقالك سنين مدخلتيهاش.
نظرت حولها تستطلع المكان وهي تقول بحنين:
_ بس متغيرتش كتير، اخر مرة دخلتها كانت مع ماما الله يرحمها لما كانت جيالك عشان تكلم بابا انه ميدخلش مازن كلية الشرطة.
التمعت عيني “شاهين” بحنين وشوق لوالدته الغائبة عن الدنيا، وانتبه لصوت “معاذ” يسأل باستغراب:
_ معقول طنط نادية كانت رافضة دخول مازن الشرطة؟
ابتسم “شاهين” بشوق يقول:
_ رافضة بس! دي جننتنا لحد ما وافقت او اتقبلت انه يدخلها، ماما كانت خايفة على مازن اوي و مرعوبة عليه من السلك ده، عارضت كتير واحنا حاولنا نقنعها كتير اوي لحد ما في الآخر رضيت.
_ ماما كانت بتحبنا كلنا وبتخاف علينا من الهوا، بس شاهين كان له معزة خاصة.
قالتها “نورهان” بدون قصد، لتنقلب ملامح وجه “شاهين” ويظهر عليها الضيق الشديد وهو يقول بنبرة حادة:
_ مكانش ليا معزة خاصة ولا زفت، انتوا بس اللي كنتوا شايفين الوضع كده، لكن الحقيقة امكوا كانت بتعاملني زي ما بتعاملكوا وعمرها ما فرقت بينا.
فوجئت “نورهان” من حدة رده وصمتت بوجه مصدوم وحزين من طريقته، فهي لم تقول شيء سيء حتى وإن كانت والدته تفضله بطريقة ما وتحمل له حبًا زائدًا ما المشكلة في هذا!!؟
_ اهدي يا شاهين طيب، نورهان مقالتش حاجه غلط يعني!
قالها “معاذ” محاولاً تهدئة الوضع، لينهض “شاهين” واقفًا والتف حول الاريكة ليصبح مواجهًا للحائط الزجاجي المطل على الخارج وقال بخنقة:
_ جزء كبير من مشاكلي مع اخوها كانت بسبب كده، انه شايفني واخد حب واهتمام اكبر من امي وابوه.
اغضبها عدم رغبته في ذكر اسمه فقالت بعصبية طفيفة:
_ اخويا ده هو نفسه اخوك.. بعدين مازن عمره ما فكر كده ولا شال شيء جواه من الناحية دي، واه يا شاهين ماما كانت بتفضلك عنا وبتحبك اكتر مننا واحنا عمرنا ما زعلنا من كده لأن احنا كمان بنحبك وبنحترمك.
التف لها بدهشة كبيرة لم تظهر على ملامحه كالعادة لكنها كانت بداخله، حتى هي!! يشعر انه يقف امام مازن، نفس الحديث، ونفس التفكير، هل ستنقلب هي الأخرى عليه يومًا بسبب تفكيرهم العقيم هذا!
_ وأنا بقولك مازن شايف اللي بتقوليه ده بالضبط، وده كان سبب كبير اوي في مشاكلنا..
اعترض “معاذ” متدخلاً:
_ اسمحلي يا شاهين، مازن فعلا حتى لو شايف ده بس مكانش سبب في مشاكلكوا ابدًا.. لان كل المشاكل اللي بينك وبين مازن ما ظهرتش غير بعد الحوار اللي وصله عن إنك بتاجر في السلاح والكلام اللي بيقوله ده.. لو المشاكل اللي ما بينك وبينه بسبب أن والدتك بتحبك اكتر ولا مفضلاك عنه كانت هتكون المشاكل دي بادئه من قبل ما هو يقول انك بتاجر في السلاح والحوارات دي.
ابتسم ساخرًا يقول بألم خفي:
_ كلامك ده انيل.. لأن كلامك معناه انه طول الوقت كان بيخدعني، كان شايل جواه من التفضيل اللي شايفه من امه ومن ابوه ليا لكن كان بيتعامل معايا عادي.. كان بيتعامل معايا كويس قوي.. لكن لما حصل موقف خرج كل اللي جواه وقتها انا اتصدمت فيه، ومش فاهم ازاي كان جواه كل ده وفي نفس الوقت كان بيتعامل معايا بالطريقه اللي كان بيتعامل بيها.
اقتربت “نورهان” منه وهي تقول بتوضيح:
_ عشان انا كمان شايفه كده شايفه ان ماما كانت بتحبك اكتر وبتهتم بيك اكتر وبتخاف عليك اكتر.. لكن عمري ما كرهتك وعمر ده ما بنى حاجز جوايا ليك، شاهين انتَ لو مخلف وعندك ولد وبنت وشايف ان بنتك بتحبك اكتر من ابنك عمرك ما هتكره ابنك او هتحس بحاجز بينكوا، دي بتكون مجرد ملاحظه انك عارف من جواك ان بنتك بتحبك اكتر من تصرفاتها من مشاعرها اللي بتظهرها، لكن حبك لابنك هيفضل هو هو وعمره ما هيقل.
أراد الهروب من الحديث في الموضوع، وهروب شاهين لا يعني سوى شيء واحد انه اقتنع….او بدأ يقتنع، فقال بهدوء وهو يتجه لهم:
_ تشربوا قهوة مع الفطار ولا بعده!؟
نظر “نورهان” و “معاذ” لبعضهما تلقائيًا كأنهما يعلنان انتصارهما في اقناعه وهما خير من يعرفه، ولكن ما لبثت ان اشاحت نورهان ببصرها بعيدًا بارتباك حين وجدت معاذ يبتسم لها.
*******
نزلت درجات السلم بسرعة ليقابلها هدوء تام في اجواء الفيلا، زفرت بضيق وهي تنظر للساعة المعلقة لم تلحق موعد الإفطار، دلفت للمطبخ مبتسمة والقت التحية ليرد الجميع عليها، فقالت لصفاء بعتاب مزيف:
_ كده يا صفاء ماتصحنيش على الفطار.
ردت “صفاء” ببرود كاد أن يجلطها:
_ مش حضرتك من كام يوم لما شدوى هانم اتأخرت على الفطار منعتيني اصحيها وقولتي هي عارفه الميعاد لو عاوزه تنزل كانت نزلت.
ضغطت على أسنانها بغيظ حتى كادت تكسرهم، هي ترد الموقف لها! هل هي من حلفاء تلك الحيزبونه شدوى!
_ تمام، اعمليلي فطار بقى.
قالتها بحدة وغضب وهي تلتفت لتخرج لتتوقف على جملة “صفاء” :
_ بس القواعد هنا في الفيلا إن اللي الفطار بيعديه بيستنى ميعاد الغدا.
التفت لها قاطبة ما بين حاجبيها بشدة وهي تخرج عن طور هدوئها:
_ ليه احنا في مدرسة يا ابلة!
_ دي القواعد يا هانم ومن ايام الباشا الكبير كمان.
ضربت كف بآخر وهي تتلفت حولها كأنها تريد أن تلتقط شيء وتكسره فوق رأس الوقفة أمامها، لكنها على الاحرى لم تجد!
_ عدي اليوم واعملي الفطار لأحسن انا دلوقتي العفاريت كلها بتتنطط في وش أمي.
_ يا هانم انا هنا بنفذ القواعد وعلى أي حد… حتى الباشا الصغير تميم بيه، بصحيه في ميعاد عشان يفطر في ميعاده.
نظرت لها نظرة حارقة قبل أن تقول بتوعد:
_ ماشي….انا بقى هكسرلك القواعد دي خالص… قال قواعد قال.. اتصليلي بشاهين فورا.
قالتها بغضب جم بعدما شعرت بالاحراج من وقوف صفاء في وجهها امام الفتيات العاملات بالمطبخ، ولكن قبل أن تفعل صفاء وتخرج هاتفها سمعت من تقول:
_ متتصليش بحد.. والقواعد مش هتتغير واللي مش عاجبه يخبط راسه في الحيط.
هزت رأسها بعصبية وهي تسمع صوت “شدوى” من خلفها، لتلتفت لها بغضب:
_ انتِ بتدخلي ليه أصلا! محدش طلب رأيك.
ضرب الغضب وجه شدوى وهي تقف ندًا لها لتثبت لها من هنا له الكلمة الأولى والأخيرة:
_ أنا هنا صاحبة البيت وكلمتي اللي تمشي وادخل في أي حاجه تحصل هنا.. انتِ اللي ضيفة وضيفة بايخة وتقيلة اوي وياريت لو تخلي عندك دم وتخرجي من بيتي لانك مش مرحب بيكي.
واستمعت “فيروز” لتهامس الفتيات في المطبخ حول ما يحدث، فاتقدت نيران غضبها أكثر وأكثر لتصرخ بوجه شدوى:
_ انا خطيبة شاهين و….
قاطعتها “شدوى” وهي تسخر منها وتتهمها بمكر خفي:
_ ومن امتى والمخطوبة بتروح تسكن في بيت خطيبها؟ إلا بقى لو انتوا مخطوبين اه بس العلاقة بينكوا في حكم المتجوزين.. وواخدين على قعدتكوا سوا في بيت واحد.
جحظت عيني “فيروز” بصدمة وشعرت بدلو ماء بارد صُب فوقها، وارتفعت الهمسات والشهقات من الواقفات في المكان، التفت لتنظر للفتيات لتجد أعينهن مسلطة عليها وبها اتهامات لا تُقبل، عادت تنظر ل “شدوى” لتجدها تبتسم بخبث وانتصار، وفي هذه اللحظة الحريق الذي شب بفيروز كان أكبر بكثير من أن تتحكم بهِ او في رد فعلها، الذي خرج على هيئة صفعة مدوية لطمت بها خد “شدوى”… ولم تعطيها فرصة للرد أو الدفاع بل انقضت عليها تكيل لها الضربات واللكمات وكأنها تخرج بها همومها بأكملها تحت محاولة الجميع في الفصل بينهم وتعالي صرخات شدوى المتألمة…