رواية عشق لا يضاهي الفصل الثلاثون بقلم اسماء حميدة
كان ظافر قد ألقى نظرة متفحصة على السجلات الطبية لسيرين منذ أربع سنوات حينها أدرك أنها كانت أسيرة اكتئاب حاد غارقة في ظلامه كما الغريق في بحر بلا شطآن
حاول أن يفهم طبيعة هذا الاضطراب وجاهد كي يفكك طلاسمه المعقدة لكن مهما تعمق لم يستوعب كيف يمكن للذاكرة أن تخون صاحبها إلى هذا الحد
صحيح أن الاكتئاب قد يعبث بالذاكرة فهو كفيل بأن يجعلها ضبابية لكنه لا يمكن أن يمحو شخصا بالكامل من الوجود
كيف لها ألا تتذكره وهو الذي ظل جزءا من عالمها لأكثر من عقد من الزمن
ظل ظافر هادئا متشبثا بصمته كمن يخشى أن
ټنهار جدران روحه إن نطق بحرف
لكن صوت سيرين ظل يتردد بعقله متذكرا عينيها اللتين كانتا تسبحان في بحر من الحيرة حينما سألته هل التقينا من قبل أم أنك واحد من الغرباء الذين قاموا بأذيتي وإن لم تكن كذلك فلماذا لا أذكرك
تتذكرك
كانت كلماتها كالسيف الذي شق طريقه إلى صدره بحد نافذ وكأنها تمزق شيئا ما بداخله لم يكن يعلم بوجوده حتى تلك اللحظة لكنه لم يسمح لصډمته بالظهور بل تبدلت نبرة صوته متحولا إلى برود ثلجي وهو يجيبها
يبدو أنك تفكرين أكثر مما ينبغي يا آنسة تهامي لقد كنا مجرد سفن عابرة في ليل بلا قمر كل منا مضى في
طريقه دون أن يترك أثرا
لقد قرر في تلك اللحظة أن يجاريها في لعبتها فإن أرادت التظاهر بالنسيان فلن يكون هو من يوقظ ذاكرتها بالقوة بل على العكس سيتركها ټغرق في هذا النسيان كما تشاء فالحقيقة مهما كانت مؤلمة لم تكن تعني له الكثير منذ البداية
قبل أن تغادر سيرين وقف ظافر بجموده المعتاد وكأنه قطعة من الجليد لا تذيبها النيران ثم طلب من أحد مساعديه أن يجهز عقد الشراكة معها وكأن الأمر لا يتعدى صفقة باردة لا مشاعر فيها ولا ماض ولا ذاكرة
عاد ظافر إلى مكتبه يلقي بحمل جسده المرهق على الكرسي الجلدي يزفر مع كل نفس دخان سيجارته
كأنما ينفث ۏجعا لا ينقضي اشتعلت بين أصابعه سېجارة تلو الأخرى وكأنها الحبل الوحيد الذي يربطه بالواقع وسط دوامة أفكاره
كلمات سيرين كانت تتردد داخله كصدى بعيد في كهف معتم
هل كنت أحد أولئك الذين آذوني وإن لم تكن فلماذا لا أذكرك
شعر وكأن صدره قد امتلأ بكتلة من الجمر التي تسللت إلى حنجرته ومنعته حتى من التنفس براحة
كان يجلس شاردا في ظلام أفكاره يتأمل الجدار المقابل بعينين غارقتين في التيه وكأنما يبحث بين تشققات الطلاء عن إجابة لهذا الفراغ
عندما دخل ماهر إلى مكتب مديره التنفيذي كان الدخان قد نسج ستائر رمادية
في الأجواء
يرخي خيوطه حول المكان كأن الغرفة تحترق في نيران الانتظار
ماهر كان يدرك أن ظافر منذ اختفاء سيرين قبل أربع سنوات قد أصبح ېدخن بنهم كالباحث عن خلاص في احتراق التبغ لكن السؤال الذي ظل يحيره هو
لماذا لم يتغير شيء حتى بعد عودتها لماذا لم يضع سيده تلك العادة السيئة جانبا
رفع ظافر بصره نحو ماهر عيناه كانتا كبحيرتين راكدتين تخفيان عاصفة وشيكة ومن ثم قال بصوت غليظ كأنه مقطع من صخر
لا يهمني كيف تفعل ذلك لكن يجب أن أعرف ما الذي حدث لسيرين في السنوات الأربع الماضية
ارتجف قلب ماهر للحظة لكنه حاول أن يبقي صوته متزنا وهو
يرد
سيدي لقد أرسلت شخصا للتحري لكنه لم يتمكن من جمع أي معلومات حياتها في الخارج كانت محاطة بجدار من السرية
انقبض فك ظافر واشټعل الشرر في عينيه كجمرة وئدت طويلا وعادت للاندلاع بشكل أشرس ومن ثم خفض بصره وهو ينحني إلى الأمام ساحقا سيجارته في المنفضة المسندة على طاولة المكتب أمامه ببطء وكأنه يدعس صبره المتآكل يقاوم قررا حاسما ولكن بات يوقن أن في حربه معها قد تحطمت كل القواعد التي تلاشت معها كل ذرة تعقل غمغم بصوت رخيم
ثم استخدم قوى أخرى لا يهم أي ثمن يجب أن يدفع أو لمن ستألجأ لتوافيني بأخبارها السابقة
تردد ماهر للحظة
فهو يعلم جيدا ما يعنيه لفظ القوى الأخرى إنه لم يكن مجرد مصطلح عابر بل بابا لا يفتح إلا عندما تحسم الأمور بوسائل لا تعرف الرحمة لطالما استخدمها ظافر لانتزاع منصبه كرئيس لعائلة نصران لكنه لم يشر إليها يوما بسبب امرأة حتى جاءت سيرين
لم يجرؤ ماهر على السؤال فالتردد لم يكن خيارا حين يصدر ظافر أمرا لذا انحنى برأسه قليلا في امتثال قائلا بصوت هادئ
سأتواصل مع الأطراف المعنية على الفور سيدي
ومع ذلك ورغم العاصفة التي اجتاحت صدر ظافر ظل العالم الخارجي غافلا فبعد أربع سنوات من الغياب لم يكن معظم العاملين في مجموعة نصران يعرفون من
هي سيرين ولم تثر مفاوضاتها التجارية اهتماما يذكر لكنها بالنسبة له كانت بركانا لفظ حممه ولم يطفأ رماده بعد
وسط الطريق المغمور بأضواء بعد الظهيرة أمالت سيرين رأسها قليلا تستند إلى نافذة السيارة تتأمل الفراغ الممتد أمامها ومن ثم تنهدت بحزن وهي تلتفت إلى السائق تقول بصوت هادئ لكنه يحمل بين طياته أثقالا لا ترى
خذني إلى المقاپر هناك بالضاحية الغربية
قبل أن تصل سيارتها إلى هناك بالجهة المنشودة توقفت سيرين أمام متجر صغير على ناصية الشارع تترجل من السيارة بعد أمرها لقائدها بأن يصف على جانب الطريق واشترت باقة من زهور الأقحوان
البيضاء كما
اعتادت أن تفعل كلما زارت المكان
نظرت سيرين لما تحمله بأعين تفيض حنينا كانت أزهارا نقية كأنها تقطف من ضوء القمر نفسه
وحينما وصلت إلى حيث يرقد والدها تحت ثرى الصمت انحنت قليلا لتضع الباقة برفق فوق حجر القپر البارد ومررت أصابعها فوق الاسم المنقوش عليه كأنها تربت على كتف الزمن
تحدثت إليه وروحها تتماهى مع الفضاء من حولها وكأن صوته لا يزال يسكن تجاويف ذاكرتها
أبي لقد عدت إليك سامحني لأني تأخرت كثيرا في ذلك
كانت سيرين أكثر هدوءا الآن بل وأقل اضطرابا مما كانت عليه يوما لكن بداخلها كان هناك زلزال لا يهدأ
أخذت تسرد له
بصوت يشوبه الشوق كل ما مرت به خلال السنوات القليلة الماضية كأنها تقلب صفحات عمرها أمامه تطالعه بأحداثها وهمساتها تتناثر بين شقوق حجر القپر كنجوم خاڤتة في ليل معتم
كنت أود أن أحضر زاك ونوح لرؤيتك لكني أخشى أخشى أن ينتزعوهما مني إن علموا بأمرهما لذا كان علي أن أتركهم في مكان آمن أعلم أنك ستفهم وستسامحني
رغم أنها تعرف الحقيقة جيدا إلا أنها لم تجرؤ على خوض المجازفة أفراد عائلة نصران لا يخسرون أبناءهم بسهولة فكيف ستسمح لهم بمطالبتها بطفليها إذا عرفوا بوجودهما
في خضم شرودها اخترق رنين هاتفها سكون المكان فرفعت الهاتف إلى أذنها حتى جاءها
صوت رامي الحارس المكلف بحمايتها يقول مختصرا لكن مجمل ما قال كان محملا بالتحذير
السيدة تهامي شخص ما قادم إليك
أجابت دون ارتباك
حسنا
أغلقت الهاتف واستدارت تستعد للمغادرة لكن قدميها تجمدتا في موضعهما عندما أبصرت شخصا يقف في نهاية الطريق
تمتمت بخفوت
طارق
كان طارق واقفا هناك يرتدي بدلة مصممة بعناية ممسكا بباقة كبيرة من الزهور يداه تحيطان بها كأنها أثمن ما يملك وعيناه عيناه كانتا غارقتين في صمت مريب
نظر إليها مطولا وكأنما الزمن عاد به إلى لحظة فقدانها وكأن روحه تتهشم من جديد
ارتجفت أنفاسه حاول أن يقاوم
لكن الدموع تسللت إلى عينيه رغما عنه
في الجهة الأخرى لمع بريق خاطف في عيني سيرين قبل أن تخبو ملامحها إلى حيادها المعتاد وارتفع صوت كعب حذائها في المكان يعلن اقترابها بخطوات راسخة غير مترددة
أما طارق فشعر وكأن الأرض تشده إلى باطنها تثبته في مكانه وكأن الزهور بين يديه ثقلت فجأة كجبال رواسي حتى أنه لم يقو على حملها
مرت لحظات بدت وكأنها دهور قبل أن يستعيد طارق وعيه وراح يرمش بعينين متسعتين كأنه يحاول تصديق ما يراه
لم تكن شبحا لم تكن ذكرى
سيرين لم تكن مېتة
ها هي أمامه حية تتنفس وتركل كل ما ظنه حقيقة