رواية فوق جبال الهوان الفصل الثاني والثلاثون
مستعينًا بنفوذه وسلطته غير المحدودة، هيأ كافة الظروف ليتمكن من الانفراد بشقيقه الراحل في غرفة العمليات، قبل أن يتم نقله إلى المشــــــرحة. نظرة طويلة متأملة، ألقاها عليه وهو يدنو من الطاولة المعدنية المسجى عليها، كان يريد لعقله أن يصور هذا المشهد بكل تفاصيله المؤلــمة، ليتذكر أين كان، وأين انتهى به الحال.
سحب "زهير" نفسًا عميقًا، لفظه على مهلٍ ليخنـــق به نوبة الحزن المطعمة برغبة في البكاء حين أوشكت أن تداهمه، مد يده وأمسك بكفه البارد المخضب بالــدمــاء، احتضنه بقوة بين أصابعه، وخاطبه في صوتٍ جاهد أن يبدو هادئًا، إلا أنه كان محفوفًا بالأسى:
-مش احنا كنا اتفقنا ما نفرقش بعض؟
نظرة عتاب سددها له مكملًا في صيغة متسائلة:
-غــدرت بيا وفارقتني الأول يا "كوبارة"؟
رغمًا عنه خــانته عبراته، وزحفت إلى مقلتيه ليقول بتأثرٍ، وكأنه على وشك الانهيار:
-ده إنت اللي كنت حاميني من اللي استهيفوني زمان.
طفرت دمعه من طرفه أتبعها اعترافه قبل أن يغرق في دوامة من الذكريات البعيدة:
-طول عمرك كنت ضهري اللي بتسند عليه.
............................................
انتقل مجازًا إلى فترة الطفولة، حيث كان يداعب هِرة صغيرة، و"كرم" إلى جواره يفوقه طولًا، نظر ناحيته بحماسٍ خاصة حينما أعطاه الطعام ليعاونه في إطعامها، سرعان ما انتاب الأخير الفزع عندما لمح أبيه قادمًا من بعيد، فهتف في وجلٍ وهو يختطفها منه:
-إدارى أوام يا "زهير"، أبوك جاي علينا.
جزع لتصرفه معترضًا:
-بس القطة آ...
ألقاها أرضًا، واستمر يأمره:
-ملكش دعوة، أنا هتعامل، إنت مش أد زعله مش هتستحمل، وهو إيده طارشة، أنا مجربه.
استجاب لأمره على مضضٍ، وتوارى خلف كومة من الأقفاص المهملة حابسًا أنفاسه، فيما ظل "كرم" باقيًا يدعي انشغاله بمحاولة إطعام الهرة، لينتفض بشكلٍ عفوي عندما سمع صوته المتحشرج يسأله بخشونةٍ، وبسمةٍ من الإدانة:
-بتعمل إيه عندك يا واد؟
تنحى للجانب قائلًا بوجه شبه قلق، ليس لأنه يهابه، بل لكونه يرتاع من احتمالية اكتشافه لتواجد شقيقه الأصغر معه:
-مافيش يا كبيرنا.
وقعت نظرت "الهجام" على الهِرة الصغيرة، فصاح في عصبيةٍ وانفعال:
-مين جاب الهبابة دي هنا؟
لم يقل شيئًا، فانقض عليه يمسك به من تلابيبه متسائلًا:
-انطق، أخوك عمل كده؟
نفى في الحال، وهو ينظر في عينيه مباشرة:
-لأ يابا، ده أنا لاقيتها فقولت أربيها.
أرخى أصابعه عنه، ليطالعه باستخفافٍ قبل أن يسأله:
-إيه صعبت عليك؟
رد بعد لحظةٍ من التردد:
-أه..
تفاجأ به يخرج ســـلاحه النـــاري من ظهره، قبض على يده، ووضع المســدس في راحته آمرًا إياه:
-خلص عليها.
حملق فيه مدهوشًا، وبعينين مفتوحتين على اتساعهما، ليكرر أمره عليه بصرامةٍ:
-سمعت الكلام ولا انطرشت؟ بقولك خلص عليها.
ارتعشت يده وهو يصوب الفوهة تجاهها، ليجد والده "الهجام" يجبره على الضغط على الزنـــاد، فأرداها قــــتـــيـــلة في الحال، ودون أن تظهر عليه أدنى مظاهر الرأفة أو الرحمة بالمخلوقات. خفض "كرم" يده وهو بالكاد لا يستطيع إبعاد عينيه عن بقايا رأسها، ولا عن الدمـــاء أجزائها التي تناثرت بشكلٍ فوضوي في الأرجاء. توقف عن التحديق بها عندما أمسك "الهجام" بذقنه ليدير وجهه تجاهه، فنظر إليه مصدومًا، والأخير يخاطبه ببرودٍ تام:
-خد مني الكلمتين الخلاصة.
شعر بأصابعه تضغط على فكه وهو يكلمه بنفس الوتيرة الجامدة:
-في مثل بيقول اللي يصعب عليك يفقرك، بس أنا بقولك اللي يصعب عليك يضعفك...
ثم ترك أصابعه، وتابع بجديةٍ أكبر:
-في دُنيتنا دي محدش بيعمل اعتبار إلا اللي بيخافوا منه، غير كده هيدوسوا عليك، ويدوروا على حد تاني يعملوه كبيرهم، زي ما حصل مع جدك زمان، ولولا إني وقفلتلهم كان زمان رقبتنا تحت رجلين ولاد الكـــلب.
هز رأسه كأنما سمع ما قال، فأطلق والده تحذيره غير المتساهل بنبرة مهددة:
-إيدك ما تتهزش تاني، وإلا هقطعهالك!!
أومأ بالإيجاب، لينصرف بعدها "الهجام" مبتعدًا، فخرج "زهير" من مخبأه ليتساءل بذعرٍ:
-طب هي ذنبها إيه؟
تحرك من موضع وقوفه ليحجب عنه رؤية هذا المشهد الـــدامي، وتحدث إليه في نبرة صارت جادة مثل والده:
-أبوك معاه حق، ماينفعش يبقى في قلبنا رحمة، وإلا هيجوا علينا.
همَّ بالاعتراض عليه؛ لكنه استمر في مخاطبته بصوتٍ غلفه إحساس الحنق:
-أنا شوفت جدي وهو بيتذل، ومش هقبل أشوفك إنت ولا أبويا يحصل فيكم كده.
تكلم "زهير" باختنــاقٍ:
-بس آ...
أسكته قائلًا وهو يحاوطه من كتفيه بذراعه:
-تعالى معايا، أدربك بالمقرطوة على النشان.
............................................
ليتبدل بعدها المشهد إلى آخر، حيث يجلس مع والده وشقيقه، على مصطبة خشبية، و"الهجام" يتفاوض مع أحدهم على تمرير صفقة ما مشبوهة، إلا أن ذلك الرجل رفض دفع المبلغ المطلوب دون الحصول على ما يشبه الحسومات نظير تكرار تعاملهم المتواصل. آنذاك كانت عينا "زهير" مرتكزة على أحد أتباع أبيه وهو يرص فحم الجود المتقد في شكلٍ هرمي داخل قصعة من الصاج، ليضمن انتشار النار بكل قطعة موضوعة فيه، فباتت القطع أقرب إلى الجمرات الملتهبة، أعجبته طريقة اهتمامه بتنسيقها، وكأنه يظهر مواهبه بما يشبه التصميم المعماري، إلا أنه انتفض مرة واحدة عندما وجد شقيقه يمسك بالصاج الساخن بلا خوفٍ، ويقذفها بكل ما فيها تجاه الرجل، ليصرخ الأخير في ألم من السخونة الحـــارقة التي ألقيت في حجره. صاح موبخًا "كرم" في غلظةٍ:
-إنت هبتت إيه ياض إنت!!!!
هدر فيه "كرم" مشيرًا بسبابته تجاهه:
-حِسك ما يعلاش على أبويا، وإلا المرة الجاية هولـــع فيك.
ما لبث أن التفت ذلك الآخر الذي جاء مع الضيف ناظرًا إلى "الهجام" ليعنفه على تجاوز ابنه المسيء مع رفيقه:
-جرى إيه "هجام"؟ من إمتى بنخلي العيال يتكلموا؟
لتبدو نبرته أكثر إهانة وهو يتم جملته:
-ما تخليه يترزع جمب أخوه اللي لسه بيعملها على نفسه.
اِربد وجه "زهير" بالغضب، وكبت ما شعر به في نفسه، فيما قال "الهجام" في برودٍ تام، وكأن ما فعله "كرم" قد استهواه على الأخير:
-ابني راجل من ضهر راجل، وكلامك الـ..... ما يخشش دماغي بمليم، أقولك على الأنأح، اللي بيقوله "كرم" بنفذه على طول، وأنا مش عاجبني التحوير بتاعكم....
ليأتي بعدها أمره الذي لا يرد إلى ابنه:
-ريحنا منه يا "كرم".
بلا ترددٍ أطاعه في الحال:
-أمرك يا كبيرنا.
التقط إحدى زجاجات الخمــر الموضوعة على الطاولة، ليفرغ ما فيها على الرجل الذي هاج فزعًا وقد خمن ما يحدث معه من محاولة للتخلص منه حيًا:
-إنت بتعمل إيه؟ نتفاهم بس طيب...
فيما أمسك "الهجام" بعود الثقاب المشتعل بعدما أشعل طرف سيجارته الموضوعة بين شفتيه ليناوله إلى ابنه وهو يقول بتلذذٍ:
-أشوفك في جهـــنم!
بنفس الثبات الانفعالي أخذ "كرم" العود ليلقيه تجاه غريم والده، إلا أن "زهير" شده منه ليتولى عنه هذه المهمة، حيث التقط كوب أبيه المملوء بالخمـــر وألقى ما فيه تجاه من أهانه، ثم عاجله بالعود المشتعل، لتمسك النيران بجسده كليًا في غمضة عين.
راح يصرخ بجنون وهو يركض بعشوائيةٍ محاولًا البحث عما يُنجيه من هذا العـــذاب الأليم، قبل أن يسقط أرضًا، وصراخه الهادر يرج الأرجــاء، ليسكن تمامًا وألسنة اللهب لا تزال تأكل ما تبقى من جثمـــانه إلى أن غدا كالفحم، و"زهير" يتابع بنظراتٍ متشفية، خلت منها الحياة ما جرى له، ليشعر بقبضة والده على كتفه تمتدح صنيعه:
-براوة عليك يا واد، بقيت شاطر وبتتعلم من أخوك.
ليتوجه بعدها بحديثه إلى "كرم" مشددًا عليه:
-ما تخليش حد يستصغرك مهما كان كبير، إنت أكبر منهم كلهم، إنت سيد الناس.
ثم التفت ينظر تجاه الرجل الآخر الذي كان مصعوقًا مما صار مع رفيقه، ليمنحه أمره النافذ:
-كمل اللي فاضل.
اتسعت ابتسامة "كرم" الشيــــطانية، وقال في امتثالٍ واضح:
-أوامرك يا كبيرنا.
أفــاق من الذكريات على هزة قلقة من "عباس" الذي اقتحم عليه الغرفة ليطلب منه الرحيل:
-الحكومة مرشقة في المكان، لازمًا نمشي حالًا.
تجاهله كليًا، وظل محتضنًا كفه ليخاطبه:
-ما تقلقش ياخويا، مش هسمح لحد يضيع اللي عملته، أنا مكانك وهسد.
ظن "عباس" أنه لم يسمع ما فاه به، فأعاد على مسامعه بتوترٍ:
-يا كبيرنا، عيونا بلغونا إن الحكومة على وصول.
أحنى "زهير" رأسه على كفه ليقبله، وقال بعدما اعتدل في وقفته في لهجةٍ حازمة:
-اعمل اللي قولتلك عليه، وأمن الطريق.
رد مومئًا برأسه:
-حاضر.
قبل أن يتحرك "عباس" للخارج، شدد عليه "زهير" بوجهٍ سادت فيه أمارات الوحــــشية:
-ومش عايز جنس مخلوق يعرف باللي حصله، أخويا مـــات لما الدبابير كانت بتطارده، فاهمني؟
أخبره بانصياعٍ:
-فاهمك يا كبيرنا.
بدت نبرته إلى حدٍ ما غامضة، فيما كانت نظرته مخيفة للغاية وهو يوصيه:
-يتنفذ اللي أمرت بيه بالحرف، سامعني؟
استمر مبديًا طاعته إليه:
-ماشي الكلام.
ليودع بعدها "زهير" شقيقه قائلًا:
-مسيرنا نتقابل تاني يا كبيرنا.
مثلما جاء خلسة، غادر خلسة، ليصدح النداء في المشفى "كود أسود في غرفة الطوارئ"، "كود أسود في غرفة الطوارئ"، مما يعني اندلاع العنف في محيط هذا المكان، حيث تسبب أتباع الهجام في إحداث الفوضى، ليتمكن من التسلل للخارج دون أن يلقي أحدهم القبض عليه، ريثما يوفق أوضــاعه القانونية ليبدو وكأن لا صلة له بالجرائم المتورط فيها شقيقه، فيكمل ما بدأ بطرقٍ أخرى أكثر مكرًا ودهاءً.
..........................................
تعمد الالتفاف والاستدارة بعيدًا عن الطريق المؤدي إلى منزله، ليمنحها الفرصة لاستعادة سكونها، فربما تحديقها الشارد في الشوارع وحركة المارة يهدئ من خواطرها المضطربة ويسكن روحها المتألمة، فتتمكن من التنفيس ولو قليلًا عما تكبته دون أن تشعر بالمزيد من الحرج. كان "عادل" مراعيًا لأقصى الحدود، استطاع أن يفهم من نظرة واحدة إليها ما تعانيه فصمت، فلجأ إلى هذه الوسيلة لمساعدتها.
بينما شعر "فارس" بالضجر من إضاعة الوقت فيما لا يفيد، فتنحنح متسائلًا بشيءٍ من الضيق:
-هو احنا قدامنا كتير على ما نوصل.
دون أن يحيد بعينيه عن الطريق استطرد "عادل" في هدوء:
-قربنا خلاص.
علق عليه في نبرة شبه ساخرة:
-أصل بقالك ساعة سايق، إنت ساكن في المريخ ولا حاجة؟
قال مبررًا بنفس النبرة الهادئة:
-معلش، في زحمة السعادي، فأنا بحاول أدور على طرق فاضية نمشي فيها.
لوى ثغره مغمغمًا:
-ماشي.
ضمت "دليلة" شقيقتها إليها، أراحت رأسها على كتفها، وهمست في أذنها بكلماتٍ مواسية:
-هو ما يستهلكيش يا حبيبتي.
أحست بها ترتجف، فنظرت إليها مليًا، كانت رجفتها نابعة من بكائها الصامت، فاستمرت في مؤازرتها:
-إنتي خسارة فيه.
فيما هتفت "عيشة" في استنكارٍ جلي:
-أومال لو مكانتش قايدة صوابعها العشرة شمع ليه، كان عمل فيها إيه!!!
ليعلق "فارس" من المقعد الأمامي في ضجرٍ، وســيف كلماته يحز في أحدهم على وجه الخصوص:
-بيتهيألي نتكلم لما نكون لواحدنا، مش لازم نصدع الغُرب بحواراتنا.
بقي "عادل" على صمته رغم فهمه لتلميح الجالس بجواره المكشوف، وتعمد تجاهله احترامًا لمن معه، لتردد "عيشة" في حزنٍ:
-لا حول ولا قوة إلا بالله، هونها علينا يا رب، ده احنا ولايا، وغلابة.
أبطأ "عادل" من سرعة السيارة ليشير بيده نحو أحد الأبنية الحديثة مستطردًا:
-البيت هناك أهوو..
ألقى "فارس" نظرة سريعة فاحصة عليه، كان ضمن مجموعة من الأبراج حديثة الإنشاء في هذا الحي الراقي، ليتدلى فكه للأسفل في شيءٍ من الإعجاب، فقد تفقه ذهنه سريعًا لكون ذلك الشاب وأبيه من الأثرياء، وإن كانا يتعاملان بتواضعٍ مع الجميع. تنبه إليه وهو يقول في تهذيبٍ:
-تقدروا تتفضلوا عندنا لحد ما أجيبلكم المفتاح.
اعترضت عليه "عيشة" بتحرجٍ:
-مالوش لازمة يا ابني.
أصر عليها بتصميمٍ:
-مايصحش يا حاجة، عيبة في حقنا.
لم تجد بدًا من الجدال معه، وأذعنت لمطلبه وهي تبتسم في امتنان، لتستدير تجاه ابنتها تُحادثها:
-تعالي يا "إيمان".
بينما مدت "دليلة" ذراعها لتستحث شقيقتها على الاتكاء عليها قائلة:
-اتسندي عليا يا حبيبتي.
تعمد "فارس" التلكؤ في خطواته ليخرج هاتفه المحمول، وضعه على أذنه مخاطبًا أحدهم دون تمهيدٍ:
-بقولك إيه يا صاحبي، عايزك تدورلي على مطرح للسكن في حتة قريبة من (...)..
أصغى إليه للحظةٍ قبل أن يرجوه:
-أوام الله يكرمك..
عاد للصمت مجددًا، ثم تابع موضحًا شروطه:
-لأ مش مفروش، حاجة تكون تمليك، بس في الحنين كده.
سكت مرة ثانية، وأردف بعدها موصيًا:
-هستنى منك تليفون، سلام.
ليسرع بعدها في خطاه ليلحق بهم قبل أن يتعذر عليه إيجادهم في هذا المكان الغريب.
..................................
دون أن تُشعر ضيوفها الغرباء بالحرج من قدومهم المفاجئ إلى بيتها خاصة مع عدم وجود سابق معرفة بهم، سحبت "سميحة" ابنها بلطافةٍ ليأتي معها إلى المطبخ بحجة مساعدتها في حمل صينية المشروبات والحلوى، لتمسك به من ذراعه وتوبخه بصوتٍ خفيض حينما أصبح كلاهما بمفردهما:
-معقولة يا "عادل" تجيبلي البيت ناس كده من غير ما تعرفني؟
تأكد من خفوت نبرته وهو يخبرها:
-معلش يا ماما هما في ظروف صعب، هفهمك الوضع بعدين.
ردت عليه باستعتابٍ مبرر:
-أنا مقولتش حاجة، بس على الأقل تديني خبر، بحيث أستقبلهم كويس، مابقاش في نص هدومي كده!!
أمسك بكف يدها، ورفعه إلى فمه ليقبله هامسًا بتقدير:
-بالعكس، إنتي مستقبلاهم كويس، أنا بس هجيبلهم مفتاح شقتي اللي فوق يقعدوا فيها.
سألته في ريبةٍ:
-إنت متأكد إنهم مش هيبهدلوا المكان؟
قال وهو يضع يده على صدره:
-أنا ضامنهم.
رفعت حاجبها للأعلى مرددة:
-براحتك، بس ماترجعش تندم.
ابتسم مضيفًا في ثقة:
-يا ماما أنا بساعد حد محتاجني، إزاي أندم؟ ده إنتي اللي معلماني كده.
بادلته الابتسام قائلة:
-ماشي يا حبيبي...
قبل أن يغادر المطبخ استوقفته هاتفة بجدية:
-رايح فين؟ تعالى شيل الحاجات دي، ولا هوديهم أنا لواحدي؟
عاد إليه ضاربًا جبينه بظهر كفه مرددًا:
-لأ طبعًا، إنتي تؤمري.
...................................
كانت قابعة في غرفتها، تستند بظهرها إلى عارضة الفراش، وتضم ركبتيها إلى صدرها، بالكاد حاولت التكيف مع ما عايشته بأم عينيها من مشاهد اغـــتـــيال لا شفقة فيها ولا رحمة، عندما فُتح الباب فجــأة ليقتحم أحدهم حجرتها بتبجحٍ. هبت "وزة" قائمة في ذعرٍ من على سريرها، وصرخت فيه باهتياجٍ:
-إنت مين؟ وبتعمل إيه هنا؟
اندفع تجاهها، وقبض عليها من عنــقها، ليجذبها بخشونةٍ إلى الخارج، وهي تحاول دفعه وضــربه في صدره، لتتفاجأ بزوجها يقف في صالة المنزل، وجميع نساء البيت شبه فاقداتٍ للوعي. مررت نظراتها المصعوقة عليهن واحدة تلو الأخرى، لتسمع أحدهم يقول بصوتٍ لاهث:
-كله تمام يا ريس "عباس".
أبصرت آخر وهو يكمم فم إحدى الشابات بقطعة قماش حينما كانت تقاومه، لتخبو بعدها مقاومتها، وتخر على الأرض مغشيًا عليها. قفز قلبها في قدميها هلعًا، وسألته:
-إيه اللي بيحصل هنا يا سي "عباس"؟
تقدم ناحيتها، وأشار لمن يقبض عليها بتركها، ثم سحبها إليه هاتفًا بلهجةٍ يشوبها الاعتذار:
-حقك عليا يا "وِزة"، بس دي أوامر الكبير.
سألته بعينين فزعتين:
-أوامر إيه؟
أجابها صراحةً بما ضاعف من شعورها بالارتياع أضعافًا مضاعفة:
-الكل يفارقنا.
فهمت مقصده على الفور، فمدت قبضتيها المرتعشتين لتمسك به من ياقته، وراحت تتوسله في رجاءٍ، وقد غلف البكاء صوتها:
-أهون عليك بعد العِشرة اللي ما بينا؟
مسح على وجنتها برفقٍ، وقال بهدوءٍ صدمها:
-ولو إنك خسارة في المــــوت، بس ما تعزيش على اللي خلقك يا "وِزة".
تخشبت من رده الصادم، وتراجعت عنه هاتفة في استهجانٍ جم:
-حرام عليك، احنا ذنبنا إيه؟
سرعان ما امتدت يده لتحيط برأسها من الخلف، فيما أطبقت يده الأخرى على أنفاسها بقطعة من القماش المشبعة بمادةٍ مخدرة، ليأتيها صوته قبل أن تسقط في ظلمات اللا وعي:
-ادعي ربنا يرحمك.
تلقفها بين ذراعيه حينما غابت عن الوعي، وحملها لينقلها إلى داخل غرفتها، قبل أن يخرج للصالة ملقيًا أوامره على أتباعه:
-حطوا كل واحدة فيهم في مكان، وافتحوا الغاز على أخره، وقفلوا الشقة كويس، مافيش مخلوق يطلع من هنا حي.
دون تأخير شرعوا في تنفيذ أوامره بحذافيرها، فقد رسم "زهير" الخطة بالتخلص ممن شهدوا على لحظة اغـــتيـــال شقيقه الغادرة على يد "توحيدة"، حيث أمر "عباس" أتباعه بتخدير كافة قاطني المنزل، ووضع طعام نصف مطهي على الموقد، ليتم بعدها ترك الغاز مفتوحًا، ليبدو وكأن تسريبًا قد صار في المنزل، فتسبب في مــقتـــل الجميع اختناقًا به، وما قد يعزز من اكتمال جريمته النكراء التأكد من عدم دخول أو خروج أحدهم من البناية، بجانب تعطيل الهواتف الأرضية ومنع استخدام المحمول لاستدعاء النجدة.
تحرك "عباس" بعدما اطمأن من نجاح كل شيء، ليفر سريعًا من المكان تاركًا أحد تابعيه جالسًا بالمقهى ليبلغه بالمستجدات التي قد تطرأ بعد ذهابه ................................. !!!!
......................................