رواية عشق لا يضاهي الفصل الثامن و الثلاثون بقلم اسماء حميدة
لم تكن سيرين ترغب في التعامل مع رجلٍ كطارق ذاك الذي حمل في طيّات كلماته وقاحةً لم تعرف للندم طريقًا، وجحودًا يثقل كاهل السماء لو استطاعت أن تحمل وزره.
نظرت إليه بعينين ضجّت بالبرود كأنها تسدل ستارًا على ماضٍ لم ترد أن ينبش رماده ثم قالت بصوت خاڤت لكنه كان كفيلاً بأن يخترق صمت الليل كخنجر مغروس في قلب الحقيقة:
"آسفة… لقد أصبتُ بمرضٍ خطېر منذ سنوات، وأجهل الكثير مما مضى، الأشخاص، الأحداث… كل شيء أصبح سرابًا في ذاكرتي."
ثم استدارت مغادرة بخطوات تشبه انسحاب القمر حين يبتلعه الفجر وعادت إلى القصر دون أن تمنحه فرصةً للرد.
تجمّد طارق في مكانه كأنما ألقت عليه تعويذة من النسيان
نفسه.
هل يعقل أنها لا تتذكر؟
ظلّ واقفًا هناك يراقبها وهي تغادر وعيناه متسمّرتان على ظلّها الذي ابتلعه الظلام.
مرّت لحظات طويلة، ثقيلة، حتى إنه شعر بأن الزمن قد تعثر في خطاه ورفض أن يمضي معه كما كان يفعل دومًا.
الحراس الشخصيون الذين اعتادوا رؤيته متماسكًا، ثابتًا كجدار لا يتصدّع وقفوا إلى جانبه في ذهول، ولم يجرؤ أحدهم على الاقتراب وكأن الاقتراب منه في تلك اللحظة أشبه بمناوشة من نمر جريح لا يعرف الرحمة.
أما سيرين فعندما عادت إلى القصر ألقت بجسدها المنهك على الأريكة وكأنها تحمل فوق كتفيها جبالًا من الذكريات التي لا تريد أن تشرد بها لكنها تشعر بوطأتها.
أغمضت عينيها ليس
للنوم بل للهروب من طوفان الأسئلة الذي اجتاح عقلها… ومن الشعور المريب الذي بدأ يعبث بقلبها.
ما لم تكن تعلمه سيرين أن كوثر قد حسمت أمرها منذ زمن واشترت تذكرة الطائرة سلفًا فالليلة ستشهد وصول كوثر إلى المدينة غير مدركة أن هناك من يتبع خطواتها في الظل.
إنه زكريا ذلك الذي يجيد التحرك كطيفٍ لا يُرى فقد حصل على مقعد في الرحلة ذاتها وذلك بلمسة سريعة على لوحة مفاتيح حاسوبه حجز تذكرة أون لاين وها هو الآن يحذو حذوها ولكنه خفِياً كنسمة ليلية لا تُثير الشكوك.
**الساعة السابعة مساءً**
لامست إطارات الطائرة أرض المطار وأعلنت عجلاتها عن وصول كوثر إلى المدينة، حينها لم تتمكن كوثر من كبح جماح شوقها
للاتصال بسيرين لكن ما لم تدركه أن هناك عيونًا ترصدها وأقدامًا تتبعها بصمت.
كان شخصاً يرتدي بدلة رياضية، وقناعٌ يخفي ملامحه، وقبعة تحجب عينيه يسحب خلفه حقيبة تكاد تفوقه حجمًا كأنها صندوق أسراره يتقدم خلفها بلا استعجال كمن يثق من أن طريدته لن تفلت من قبضته.
لكن كان هناك شيءٌ غريب، نظرات الناس إليها حملت نوعًا من النفور الممزوج بالاستغراب، وهمساتٌ تخرج من بين شفاههم كنصلٍ بارد يمر على عنقها دون أن يمسّها، ومن بينهم من ردد:
**"كيف تسمح تلك المرأة لطفلها بحمل حقيبة بهذا الحجم؟!"**
وآخرون:
**"تصرفٌ لا يُغتفر، إنها أمٌ غير مسؤولة!"**
وسيدة رمقتها باستنكار وأردفت:
**"يا
للأسف، طفلها أحق منها برعايةٍ أفضل!"**
عقدت كوثر حاجبيها في ارتباك وهي تتساءل:
أي طفل؟ عن أي أمٍ يتحدثون؟
لم تُدرك الخطأ إلا عندما تسرّب إلى مسامعها صوتٌ ناعم لكنه ذو نبرة حازمة كمن يلقّن درسًا لا يحتمل الجدال:
**"أمي، لا يجب عليكِ التحدث على الهاتف أثناء المشي، عليكِ أن تكوني أكثر حذرًا."**
تصلبت أطرافها للحظة وكأن الزمن توقف في عروقها. أمي؟ متى أصبحتُ أمًا؟!
استدارت بسرعة فوقع بصرها على صاحب الحقيبة العملاقة، بدا كطفلٍ أو هكذا أراد أن يبدو.
كانت عيناه تلمعان من خلف القناع تتراقصان كحدقتي ذئبٍ يختبئ في صوف حملٍ وديع.
في هذه اللحظة أرادت أن تصرخ، أن تلعنه علنًا أمام الجميع، لكن ما نفع ذلك الآن؟ وحتى إن فعلت سيزيد ذلك الأمر سوءاً.
جلّ ما كان يهمها
هو إن علمت سيرين بأن زكريا كان يلاحقها سرًا فستفقد صوابها بلا شك.
لم يكن الحشد مدركًا لما يجري لكن الصوت الذي انساب من زكريا كقطرة عسلٍ تنزلق على حافة كأس جعل قلوبهم تذوب تعاطفًا.
فهمهموا بأعين تقطر عجباً:
**"طفلٌ ناضج وذكي... ليت ابني مثله."**
فأعلنت إحداهن بصوت جمهوري يفيض غيظاً:
**"لكن والدته... آه، من المؤسف أن تكون لديه أمٌ لا تكترث بمسؤوليّتها."**
شعرت كوثر بحرارة الڠضب تزحف إلى وجنتيها لكن قبل أن تنبس بحرف قاطعها زكريا بنبرة خبيرٍ يبيع قصصًا مستعارة للحشود:
**"لا تلوموا أمي، إنها تعمل بجدٍ لتوفر لنا حياة كريمة."**
بلمح البصر، تحوّلت نظرات الاشمئزاز إلى نظرات إشفاق، فاعتذرت واحدة منهن تقول
بمؤازرة:
**"يا لها من أمٍ مكافحة... كم هو مؤلم أن تعاني وحدها!"**
احتقن وجه كوثر حتى كاد ينفجر، فقبضت على يد زكريا بقوة ورفعته عن الأرض تحتويه بين ذراعيها وسحبت حقيبته باليد الأخرى تتسلل عبر الجموع بسرعة كمن يهرب من سجنٍ دون أن يثير الريبة.
وحين باتا في ركنٍ أكثر هدوءًا وضعت الحقيبة أرضًا وهي تلهث ثم حدّقت في زكريا بعينين تقدحان شررًا، تنهره بغيظٍ:
**"متى تبعتني؟! هل تعلم سيرين أنك هنا؟!"**
على عكسها بدا زكريا هادئًا بل شبه مستمتع، ومن ثم رمقها بابتسامةٍ جانبية قبل أن يرد بصوتٍ منخفضٍ لكنه محملٌ بسخرية خفية:
**"كوكي، عليكِ أن تكوني أكثر حذرًا حين تكونين وحدكِ بالخارج؛ لقد تبعتكِ منذ البداية ولم تلحظيني حتى الآن،
هذا ضعفٌ فادح في إدراك الخطړ."**
لم تستطع تمالك نفسها فمدّت يدها وقرصت وجنته من خلال القناع، ثم قالت:
**"كُفّ عن المراوغة، وأجبني!"**
ضحك، وعيناه تنحنيان في مكرٍ واضح.
**"خمني."**
في تلك اللحظة أدركت كوثر أن هذا "الطفل" ليس إلا ذئبًا يعتمر قناع البراءة بمهارة، فسألته باستسلام:
**"إذن... ماذا سنفعل الآن؟"**
أمال رأسه قليلًا ونظر إليها بعينين تملؤهما البراءة المصطنعة:
**"تسألينني أنا؟! أنا طفلٌ لم يُكمل عامه الرابع بعد..."**
ابتلعت كوثر غيظها وهي تدرك أن هذه الليلة ستكون طويلة جدًا...