![]() |
رواية حين تساقط الزهر في قلبي الفصل الثالث بقلم بشري اياد
الطرقات كانت فاضية، لكن عقلها مليان ضجيج.
كانت تمشي بلا هدف، والبرد بيعض أطرافها، بس قلبها بيغلي بأسئلة ما إلها أجوبة.
"رُلى ما ماتت؟ طيب… وينها؟ وليش هالصوت الغريب حكى بهالطريقة؟"
كل خطوة عم تاخدها كانت تودّيها أعمق جوّا متاهة من الشك… بسها الغريزة، كانت تقول:
"روحي على دار الأمل – الغوطة."
رغم إنها بتعرف إن الدار أُغلقت من سنين، بعد حريق غامض ما ترك وراه غير الرماد.
**
وصلت على أطراف الغوطة مع أول خيوط النهار.
المكان مهجور، كله تراب وذكريات مكسورة.
لكنها ما كانت جاي تشوف أطلال، كانت جاي تدور على جزء من نفسها ضاع هون.
دخلت من باب خلفي، مكسور القفل…
وما إن لمست عتبة الدار، حتى انكسر شي جوّاها.
الهواء كان خانق، والمكان بيصرخ صمت، لكن عيونها علقت على حائط قديم، عليه صور باهتة.
ولمحت صورة… كانت إلها ولرُلى.
لكن الأغرب…
في شخص تالت واقف وراهم، ملامحه مو واضحة، بس ملامحه مألوفة بشكل مرعب.
رفّت عيونها، سحبت الصورة، وركضت عالدرج المهدم.
**
في الطابق التاني، سمعت صوت خافت…
كأنه عزف بيانو قديم، بيطلع من مكان ما.
اتبعته.
وصلت لغرفة كانت مغلقة.
فتحت الباب، و…
تجمّدت.
كان في بيانو فعلاً… مغطّى بالغبار، لكن وحده المفتاح الأبيض بالوسط كان نظيف… وكأن أحدهم عزف عليه توًا.
على البيانو، وُجد دفتر صغير… مكتوب عليه:
"مذكرات رُلى – الصفحة الأخيرة مؤرخة بـ2009."
صفّحت المذكرات بأصابعها المرتجفة، ولما وصلت للصفحة الأخيرة، شافت آخر سطر:
"إذا لقيتي هالدفتر، فمعناه إنهم كذبوا علينا يا رُبى… والد عُدي مو بس قتلني، هو خباني… عنك… عن الدنيا."
**
في هاي اللحظة، دق جوالها.
نفس الرقم… نفس الصوت.
– "هلأ بلّشتِ تعرفي… بس لسه في شي أكبر.
إذا بدك تعرفي الحقيقة كلها، لازم تختاري:
تفتحي باب الغرفة رقم 6… أو ترجعي وما تسألي شي.
بس تذكّري… الحقيقة ما بترجع اللي ماتوا، بس بتقتل اللي ضلّوا."**
**
والمكالمة تقطعت.
**
في نفس الوقت، عُدي كان قاعد بسيارته، والصورة يلي لقاها بإيده، بس هالمرة، بعد ما نظّفها، ظهرت ملامح الشخص التالت يلي واقف ورا رُبى ورُلى.
وجهه اتجمّد…
لأن الشخص… كان هو.
"بس كيف؟!"
كان وقتها عمره 11 سنة، وكان متبنّى فترة قصيرة قبل ما يرجع لأهله…
بس هو ناسي كل شي صار وقتها.
**
هل نسي؟
ولا حد خلاه ينسى؟
**
كانت المذكرة بين إيديها، وقلبها عم يطرق كأنه بينتفض من سجن عمره سنين.
كل كلمة كانت تطعن… كل سطر كأنه دمعة ما نزلت بوقتها.
"خبّاني… عنك… عن الدنيا."
رُبى ما عادت تشوف السطور، صارت تشوف وجه أختها، وجه كانت تشوفه كل ليلة بالحلم… وتصحى لتلاقيه ذكرى.
لكن، إذا كانت رُلى حيّة… ليه ما رجعت؟ وليه تركتها تحترق كل ليلة بالذنب والوحدة؟
**
صرخة مكبوتة خرجت من صدرها، لكنها ما دوّت إلا جوّاها.
رجعت تمسك الجوال، تدور على أي رقم للشرطة… أي جهة تساعدها، بس ما كانت قادرة تتنفس أصلاً.
وفجأة، صوت خطوات!
حدا عم يقترب من الغرفة!
حاولت تختبئ، لكن الباب انفتح فجأة…
وظهر رجل ملثم، طويل، يرتدي معطف أسود.
ما حكى… بس رمى ظرف بني صغير وطلع.
ركضت خلفه، لكنه اختفى كأنه دخان!
رجعت للغرفة، فتحت الظرف.
في داخله:
• صورة حديثة لرُلى… واقفة أمام مبنى ضخم، على جبينه لافتة مكتوب عليها: "مركز إعادة التأهيل – سري للغاية."
• شريط كاسيت صغير، وملاحظة بخط مجهول:
"هذا الشريط هو بداية النهايات.
لكن اسألي نفسك قبل ما تسمعيه: هل بتقدري تحملي ذنب الحقيقة؟"
**
عُدي بنفس اللحظة كان بمكتبه، قدّامه صورة الطفلتين.
بس هلأ صار في شي جديد… هو تذكر لحظة.
ذكرى قديمة رجعت فجأة…
صراخ بنتين، يداه مغطاة بدم، أبوه يصرخ فيه:
"انسَ… ما صار شي! نسينا، سمعت؟ نسينا!"
تراجع عُدي، وقع الكرسي من وراه، مسك راسه.
كان صغير… بس تذكر!
كان هناك… كان في الحريق!
بس هو نُقل بعدها مباشرة لبيت أهله، واتمسحت كل شي من ذاكرته.
أبوه… مسح ذاكرته!
كل هذا… بسبب الحادث.
بس شو دخل رُلى؟
**
عُدي ركض لعند والده، ودخل عليه بغضب.
– "رُلى… عرفت كل شي، مو هيك؟! أنتَ كنت تعرف إنها عايشة!"
الوالد طالع فيه بنظرة باردة، وقال:
– "بنت ميّتة… ما بتشكّل خطر. بس إنت، إنت يلي عم تخرب كل شي."
– "شو يعني؟! بتحكي عن أرواح بشر كأنك عم تحكي عن ملفات!"
الوالد قال بهدوء قاتل:
– "لو بدك الحقيقة… روح شوف بنفسك.
بس تذكر… فيه ناس مستعدين يقتلوا ليحافظوا على هالصمت."
**
في نهاية الليلة، كانت رُبى واقفة قدام باب قديم، عليه رقم (6).
الباب يلي انقال إلها ما تفتحه…
بس كانت عارفة… إن كل خطوة من هون ورايح، فيها خطر، فيها ألم، بس يمكن… فيها أمل.
حطت يدها على المقبض، وضغطت بهدوء.
الباب فتح.
والمشهد اللي شافته جوّا…
كان كفيل إنه يغيّر حياتها إلى الأبد.
**
فتح الباب ببطء، وصوت صريره اخترق سكون الليل كأنه أنين قديم حبسته الجدران.
رُبى دخلت، وخطاها كانت مترددة… الجو بارد، والإضاءة خافتة، وكل شي فيها عم يرجف، حتى قلبها.
الغرفة كانت شبه فارغة… بس كان في زاوية بعيدة، في شخص قاعد على كرسي حديدي، مقيّد اليدين والرجلين، وراسُه محني كأنه نايم أو فاقد الوعي.
خطت بخوف… عيونها عم تدمع، وإيدها على قلبها.
– "رُلى؟"
همست… وكأن الهمس أخف من أن يوقظ الحقيقة.
بس الشخص ما تحرّك.
اقتربت أكتر… وكل خطوة كانت تقرّبها من إجابة ما بدها تسمعها، من وجع جديد ما كانت جاهزة له.
وصلت لعنده… رفعت راسه بهدوء.
وصُدمت.
كانت… هي.
وجه أختها… لكن عيونها مطفأة، فيها أثر دواء قوي… ملامحها متعبة، جسمها هزيل.
– "رُلى… حبيبتي… أنا رُبى!"
حاولت توقظها، حضنتها بقوة… بس رُلى ما كانت واعية.
**
وفجأة، صرخة عالية شقّت المكان!
التفتت رُبى وراها، لقت كاميرات مراقبة عم تشتغل… وضوء أحمر بدأ يومض بالسقف.
نظام أمان!
ورُبى عرفت إنها دخلت مكان مش لأي حدا…
دخلت جحر ثعابين.
**
ركضت صوب الباب… لكنه قفل لحاله!
صار صوت إنذار، وداخل السماعة، طلع صوت رجولي عميق:
– "قلتِ ما تفتحي الباب، يا رُبى…
بس الظاهر إنك، زي أختك… ما بتسمعي الكلام."
شهقت، عرفت الصوت.
والد عُدي.
– "ليش؟ ليش كانت هون؟ شو عملتلكم؟!"
صرخت بألم.
– "هي كانت شاهد على شيء… ومين بشهد ضدّي، ما بعيش حر."
**
رُبى ضمّت أختها بين إيديها…
دموعها كانت تغسل ملامح أختها الغايبة، المكسورة.
بس فجأة، رُلى همست بصوت مبحوح:
– "روحي… لا تخليهم ياخدوك كمان…"
رُبى صارت تبكي:
– "أنا ما رح أتركك! مش بعد كل شي…"
بس فجأة، انقطعت الإضاءة…
وصوت طرقات على الباب الحديدي صار أعلى…
حدا جاي.
**
في الخارج…
عُدي كان يسابق الزمن.
وصل للمبنى، مع نسخة من مفاتيح الطوارئ.
وكان متأكد إنه هالمرة، لازم يعرف الحقيقة كاملة… ويواجه والده، حتى لو دفع الثمن غالي.
**
البارت بينتهي على مشهد:
رُبى ماسكة بيد أختها، صوت صرير الباب الحديدي يُفتح من جديد…
وضوء باهر بيغمر الغرفة.
وصوت يقول:
"إما أن تنقذيها… أو تموتي معها."