رواية فاما اليتيم فلا تقهر الفصل الثالث
مرت عشرة أعوام،
أصبحت خلالها "روح" في السادسة عشرة من عمرها،
بينما بلغ "بهاء" الحادية والعشرين.
أما "إيهاب" فقد أنهى دراسته الجامعية منذ عامين،
والتحق بالعمل في إحدى الشركات الاستثمارية بالدول الأجنبية،
بعدما رفضت والدتهما "ابتسام" أن تترك وطنها وتسافر معه، مفضلة البقاء مع ابنها الآخر بهاء، وروح، اليتيمة التي كبرت تحت رعايتها.
لكن العلاقة بين بهاء وروح لم تتحسن، كان لا يزال يرفضها كأخت له، يحمل في قلبه حقدًا خفيًا، نما مع الأيام، حتى توحش أكثر حين وقعت حادثة زادت نار كراهيته اشتعالًا.
في يوم عودتها من المدرسة،
تربص بها أحد الشباب محاولًا مضايقتها،
فتصدى له شاب آخر من شباب الحي دفاعًا عنها،
ليندلع شجار عنيف في المنطقة انتهى بتدخل بهاء الذي خلصها من وسط المعمعة،
ودفع بها إلى داخل البيت صارخًا بها أن تظل فيه ولا تغادره.
لكن الشرر الحقيقي لم يشتعل إلا حين سمع بهاء همسات الجارات، وهن يتهامسن بالقرب من منزله:
هي يا أختي "ابتسام" مش خايفة على ابنها من البنت اللي عايشة معاهم؟ دي خلاص بقت شابة...
وفيها الطمع، وكل يوم ليها حكاية! البت ناعمه ولونه كده مش مظبوطه
ردت جارة أخرى، بكلمات ظلت ترنّ في أذنيه كطعنة غادرة:
لازم تبقى لونه... وشمال الشمال كمان!
بيقولوا عليها بنت حرام، ملهاش أب، وأمها كانت صاحبة ابتسام، وهي سترت عليها هي وجوزها الله يرحمه... ربوا البنت بدل ما يرمُوها في ملجأ!
ضحكت الجارة الأولى، وقالت بسخرية لاذعة:
يادي النيلة! ليكون الشيخ "خطاب" غلط، ومراته ابتسام مدارية عليه، والبنت بنتهم وهما بيكذبوا؟
مدام عايشة وسط ولادها الشباب كده من غير خوف...استغفر الله العظيم.
هزت الجارة الثانية رأسها نافية، وأجابت بحزم:
لا، الشيخ خطاب كان راجل صالح...وولاده ما شاء الله عليهم. أنا فاكرة اليوم اللي جت فيه أمها، كانت حالتها عدم... بتتسند عالحيطة ومش قادرة تمشي.
ربنا يرحمها ويغفر لها ذنبها...وينتقم من اللي ظلمها.
عادت الجارة الأولى تقول، وقد ارتسمت على شفتيها ابتسامة خبيثة:
بس بحق ربنا، البت دي جميلة... لو أنا مكان ابتسام، أجوزها لواحد من ولادها أحسن،
بدل ما الناس تتكلم وتقطع فيهم بعد ما الراجل الطيب مات... الست صحتها عمالة تضعف يوم بعد يوم. وربنا يستر من الفضايح
تدخلت جارة ثالثة، كان ابنها هو من دافع عن روح أمام الشاب الذي تحرش بها، وقالت بامتعاض:
يا اختي ربنا ياخدها ويريحنا منها !
الواد بيدفع عنها كأنها من بقيّة أهله! قال ايه يجوزها كمان! جاتها جنازة خدتها وراحتنا منها!
ده "إيهاب" ربنا نجّاه، متفكروش سافر برغبته؟
لأ، ده هربان من فضايحها!
عادت الجارة الأولى تتحدث بضيق، كأنها تحاول الدفاع عن روح قليلًا:
حرام عليكم، البت صحيح ناعمه وسنها ضاحك ده بيطمع الكل فيها،، بس والله أمانة الله في حالها.
يمكن ده طبعها. وبعدين "إيهاب" كبير عليها...
دي لسه صغيرة وبتدرس! اللي ينفع لها "بهاء"،
تعالوا نكلم "ابتسام"، نوعّيها، ونفهمها الكلام اللي مش واصل لها. خليها تخلص وتتجوزها لابنها،
وتقطع لسان الناس، ونرتاح.
ردّت الجارة الثالثة ساخطة:
ياريت! خلي ابني يطلعها من دماغه.
ده بيقولوا ناوي أول ما يخلص السنة دي يروح يطلبها، سواء رضينا أو لا! كأن البنت ساحراه!
كانت الجارة الثانية تستعد للرد،
لكن عيناها وقعتا فجأة على "بهاء" الغاضب يقف غير بعيد وقد تصلب وجهه وتجهمت قسماته،
فسكتت فجأة وهمست:
اسكتوا... منك ليها شكله بهاء سمعنا.
ردت الجارة الثالثه:
احسن خليه يسمع! يمكن ربنا يهديه ويخلّصنا من القصة دي. ويتجوزها لما يبلغ أمه عن اللي بيتقال
ضغط بهاء على فكه بقوة، وألقى عليهم السلام ببرود،
ثم دلف إلى الشقة كالعاصفة. وما أن وقعت عيناه على روح حتى صرخ بها غاضبًا:
اسمعي يا بنت الحرام! لو رجلك خطّت الباب ده تاني، اقسم بالله، لاكسرها لك! فهمتي؟
خلاص، مفيش دراسة، مفيش مدرسة! كفاية فضايح!
يا شيخة، ربنا ياخدك! مجاش لنا من وراكِ إلا العار وقلة القيمة!
لم يكد ينهي كلماته حتى دوّى صوت صفعة قوية أطارت صوته وأخرسته،
صفعة نزلت ثقيلة على وجهه من يد أمه "ابتسام"،
تبعها صراخها الغاضب:
حسبي الله ونعم الوكيل فيك يا بهاء! مش كفاية اللي الزمن عمله فيها، هتكون أنت كمان ظالمها ومفتري عليها؟
تقدمت نحوه وصرخت بألم:
اسمعني كويس... مالكش كلمة عليها طول ما أنا عايشة! روح هتكمل تعليمها، وهتدخل الكلية،
واللي عنده كلمة يقولها، يقولها عليا أنا مش عليها!
أنا واثقة من تربيتي!
ثم ضربت كفًا بكف، وراحت تستغفر بحرقة:
أقول إيه! إذا كنت انت اللي شايفها قدام عينيك بتكبر وتتربى، وما صدقتش في براءتها...تبقى الناس الغريبة هيقولوا عنها إيه؟ فين الرحمة؟ فين العدل؟ مبقاش في قلبك رحمة على اليتيمة يا بهاء؟
تأفف بهاء بغضب، وثار على أمه صارخًا:
الأصل غلاب! امها مشيت في الحرام وخلفتها!
وهي هتطلع زيها!
المثل بيقول: "اكفي القدرة على فمها تطلع البنت لأمها!"
اسمعي..اختاري: يا أنا... يا البنت دي في البيت!
أنا خلاص... مبقتش قادر أرفع عيني في عين حد من الشارع، وكله بسببها، لو ربنا خدها... هنرتاح كلنا!
لم تتحمل روح قسوة كلماته الجارحة،
فانفجرت في بكاء هستيري، متقطع يهز صدرها،
كأن الكلمات طعنتها طعنًا لا شفاء منه.
جذبتها "ابتسام" إلى صدرها بقوة، وصرخت في وجه ابنها الغاضب:
يبقى إنت اللي تطلع برا البيت! من النهاردة...
مش هتعيش معانا! اتفضل شوفلك مطرح بعيد عننا!
أنا... بكفيني "روح"، بنت عمري، وعوضي عن تعب السنين! وحسبي الله ونعم الوكيل فيك يا بهاء،
ضيعنت تعب أبوك في تربيتك!
ضغط بهاء على قبضتيه بعنف،
حتى بدا وكأنه على وشك الفتك بأي شيء تقع عليه يداه،ثم انفجر صائحًا:
تطرديني عشان اللي ملهاش أصل دي؟!
كان عنده حق بابا لما قال إنها هتدخل علينا الخراب!
وها هو الخراب جه! خليها تنفعك! بنت الحرام!
حين رأته يهم بالمغادرة، تركت روح حضن أمها وهرعت تمسك بذراعه، ترجوه:
أحلفك بالله ما تمشي وتسيبها...دي أمك بتموت فيك! ولو عايزني أنا أمشي... حاضر! بس شوفلي شغل،أصرف بيه على نفسي... ولا يرضيك أشحت عشان أعيش؟
دفعها بعيدًا بوحشية، كأنها لا شيء، وصاح غاضبًا:
غوري مطرح ما تغوري! أنا مالي؟! تشتغلي... تموتي...
مش فارق معايا! امهم تخرجي من البيت وتريحينا!
ثم دفعها بغلٍ نحو الباب، فسقطت أرضًا، واصطدم رأسها بالأرض، وسال دمها القاني فوق البلاط.
شهقت أمه بذعر، وأسرعت نحوها، وأخذت تدعو عليه بحرقة وغضب.
وفجأة، صمت صوت "ابتسام"،ثم هوَت على الأرض بجوار "روح"، مغشيًا عليها!
نسيت روح آلامها، وركضت نحوها تضمها لصدرها،
تحاول إيقاظها وهي تبكي بحرقة:
قومي يا ماما... بترجاكي قومي!
اقترب بهاء مرتجفًا، انحنى عليها، حملها إلى الأريكة، جثا بجوارها يبكي نادمًا:
حقك عليا يا أمي..انا غلطان..الغغضب عمى قلبي...
ورحمة بابا... سامحيني!
أنا أموت ولا يحصل لك حاجة!
ضمّت روح جسد ابتسام إلى صدرها،
فلاحظت برودة أطرافها...
صرخت بهلع:
قوم! الحق نوديها المستشفى!ك
ماما 8 مننا!
لم يتردد بهاء،
حمل والدته بين ذراعيه، وجرت روح وراءه تبكي.
أوقف سيارة أجرة، ورجاه السائق أن يسرع:
أسرع... أقرب للكمستشفى!مي بتموت!
السيارة تجرغ نافعي بهم نحو المجهول،
يحملون بين أيديهم بقايا قلبهم الذي يكاد ينكسر.
أسرعت السيارة تشق الطرقات كالسهم،
وبهاء يحمل أمه في حجره،
وروح تجلس بجوارهما،
تحتضن جسد "ابتسام" البارد لصدرها المرتجف،
وكأن الزمن يعيد نفسه...
وكأن يد القدر تعيد عليها تلك اللحظة القديمة،
حين حملت أمها المنهكة إلى هذا البيت،
تنزف الحياة من جسدها.
وصلوا المستشفى،، واستقبلهم الطاقم الطبي بحركة س٢ـريعة،
حملوا "ابتسام" إلى داخل غرفة الكشف،
وتركا "بهاء" و"روح" في الخارج،
تحت جدار الخوف... والندم... والحزن القاتل.
جلس بهاء على مقعد خشبي بائس،
يخفي وجهه بين كفيه، وعيناه تحترقان،
ثم التفت نحو "روح" بنظرة مملوءة بالحزن والغضب وقال بمرارة:
ــ كل ده بسببك! لو مكنتيش دخلتي حياتنا...
مكنش حصل اللي حصل! منك لله...
انفجرت روح في بكاء هستيري،
كأن كل الألم المتراكم في قلبها قد انفجر دفعة واحدة، وقالت بصوت مبحوح:
حاضؤ تقوم ماما بس بالسلامة...وأنا هريحك مني يا بهاء...خلاص... مبقتش قادرة أستحمل تجريحك أكتر من كده... ده أنا... لو جبل... كان زمانه انهار!
قام نحوها بخطوات غاضبة، امسك ذراعها بعنف،
وهزها بقوة وصرخ بها:
انت تخرصي خالص! اسمعي؟! اقولك الاحسن تسكتـي ومتتكلميش! ولا كلمة توصّل لماما!
كفاية اللي حصلها بسببنا!
ارتجفت روح بين يديه، ثم هزت رأسها بحيرة وانكسار، وقالت بصوت مختنق:
طيب... قولّي عايز مني إيه؟ لو عايزني أمشي... همشي... بس تقوم ماما بالسلامة...ولو عايزني أتحمل تجريحك...هتحمل... بس... ورحمة كل غالي عليك...
بلاش تناديني بنت الحرام... بلاش تحكم عليا بذنب أمي... انا ماليش ذنب...
ضغط بهاء على قبضته بعنف، كأنه يحارب شبحًا بداخله، قبل أن يرد، التفت فجأة...
رأى الطبيب يخرج مسرعًا من غرفة الكشف،
وخلفه سرير يحمل جسد "ابتسام"، محاطًا بطاقم الأطباء والممرضين، يدفعونه بسرعة نحو غرفة الإنعاش!
صرخ قلب "روح" قبل صوتها:
ــ مامااااااااا!
واندفع بهاء يجري خلفهم، وروح تلحق به تلهث،
بينما في صدرها دعوة مشتعلة:
"يارب... يارب ما تحرمني منها... يارب نجّيها!"
**************