رواية شظايا قلوب محترقة الفصل الثامن و الاربعون 48 بقلم سيلا وليد

 


 رواية شظايا قلوب محترقة الفصل الثامن و الاربعون بقلم سيلا وليد



في كل حياة، لحظة تشبه السقوط بلا هاوية...
ونبضة لا تُشبه سواها،
تشطر القلب نصفين؛
نصف ينجو، ونصف يظل عالقًا فيه.

هناك كلمة… لم تُقال،
لكنها تظل تصرخ في الصدر كل ليلة.
وهناك نظرة… لم تستأذننا،
لكنها سكنت الذاكرة كأنها بيتها الأول.
وهناك وجع... لا نُفصح عنه،
لأن اسمه وحده يُبكينا!

لم يكن مجيئك صدفة…
كنتَ قادمًا من سطر مكتوب في الغيب،
كأنك الجزء الناقص من دعائي القديم…
جئتني كأنك الردّ المتأخر،
الذي لم يفقد أثره رغم تأخره.

أحببتك كما لم أفعل من قبل…
أحببتك بصوتي الذي خَفت،
بدمعي الذي لم يره أحد،
بحرفي الذي ارتجف كلما كتبتك…

أخبروا ذاك الذي تنفّسني:
أنه حين حضر، زُرعت في صدري زهرة،
وحين غاب… ماتت كل حدائقي!

أخبروه…
أنني كنت أبحث عن طمأنينة،
فجاء كعاصفة تحملني ثم تذريني شظايا.
أنه كان هدنةَ قلبي،
ثم صار الجبهة التي لا تهدأ!

واسألوه…
أي قلبٍ ذاك الذي لا يرحم؟
كيف يأتيني وأنا أحتاجه كالماء،
ثم يتركني أختنق في غيابه كالغريق؟!

أنا تلك التي…
دخلت عينيه بريئة كطفلة،
وخرجت منه مُحطّمة كأنثى عبرت كل الحروب…
فهل سمعتم يومًا عن قلبٍ... ضاع وهو ينبض؟!

#ابطال_شظايا

مساء الخير يارب تكونو بخير

الفصل دا ربنا اعلم انا كتبته ازاي، بنتي تعبانة جدا جدا، ادعولها ربنا يشفيها 

مش طالبة غير انكم تدعموني وبس، الرواية والله تستاهل اكتر من كدا، مش بشكر في نفسي، بس بجد متعوب فيها، وقلة قليلة من الكاتبات اللي تلاقوهم يكتبوا اكتر من كابل، لانه بيكون إرهاق ذهني جدا جدا على الكاتب علشان كدا المعظم بيكتب كابل او اتنين بالكتير، وانا صراحة مش عارفة اتعامل مع كابل واحد، فرجاء شوية دعم منكم ..عارفة الفصل دا مش كبير زي مااتعودوا بس والله ظروفي اقوى مني، وانا مبحبش كل شوية اعتذر، وترجعوا تقولوا دي بتدلع 

ندخل على الفصل اللي اتمنى أن ينال إعجابكم..وياريت متنسوش الفووووت، واخيرا حبيت اشكر الحلوين اللي بيرشحوا الرواية في الجروبات...

اقتربت إيلين منهما، توِّزع نظراتها بين الوجوهِ المرتبكة، قبل أن تهتفَ بصوتٍ متقطِّعٍ مشوبٍ بالبكاء:

- أنا بنتِ مين ياخالتو؟ فعلاً بابا محمود مش أبويا؟!

صاعقة اجتاحت جسدَ فريدة، فارتجفت نظراتها وهي تحدِّقُ بها بذهول، تهمسُ بانكسار:

- إنتي بتقولي إيه يابنتي؟!

قالتها واقتربت منها تحتضنُ وجهها المرتجف، بدموعها وجسدها الذي انتفض بقوة، أجفلت إيلين بخطوةٍ إلى الخلف، وهي تهمسُ بانكسار:

- أمِّي..خانت أبويا؟! الكلام دا حقيقي؟!
صحيح أنا...أنا بنتِ حرام؟!

قالتها مع انهيارِ جسدها الذي خانها، وسقطت بين ذراعيّ فريدة التي مازالت عاجزةً عن استيعابِ ماسمعته.

في تلك اللحظة، وصلت ميرال مسرعة، تنظرُ بذعرٍ بين الوجوه، حتى استقرَّ بصرها على إيلين التي كانت تبكي بشهقات، تهتفُ من بين أنينها:

- أنا بنت مين ياخالتو؟ مين أبويا؟! راجح قالِّي أسألك إنتي...إنتي الِّلي تعرفي.

اهتزَّت ملامحُ فريدة، تحرك رأسها بالنفي، وعيناها تسبحانِ على مصطفى والياس، ثمَّ همست بخفوت:

- أنا مش فاهمة حاجة، يعني إيه "هيَّ بنتِ مين"؟..ثمَّ نزلت ببصرها إلى إيلين: إنتي بتقولي إيه؟!

صرخت إيلين بألمٍ ممَّزق:

- مش عارفة! إنتو المفروض تقولولي.

نهضت فريدة، بجسدٍ مترنِّحٍ وردَّت:

- أقولك؟...أقولِّك إيه يابنتي؟!

خطا إلياس إلى جلوسها وأشار إلى ميرال:
– ساعديها يا ميرال، عايز أفهم هي بتقول إيه.
لكن قاطعهم وصول آدم، وهو يهتف بفزع:
– إيلين!
أسرع نحوها، جاثيًا ، يحيط جسدها بين ذراعيه، يساعدها على النهوض:
– كده تقلقيني عليكي...
رفعت إليه عينيها الباكيتين، وهمست برجاء مهزوز:
– قولهم الحقيقة يا آدم، قولهم... أنا مش بنت...
ضمها لصدره بحنان، يربّت على ظهرها، يحاول تهدئة نوبة بكائها:
– اشش اهدي حبيبتي، مش صح اللي سمعتيه، مش...
تراجعت مبتعدة عن أحضانه، وهمست بانكسار:
- برضو يا آدم؟!
تدخّل إلياس بنفاد صبر:
- ممكن أفهم فيه إيه؟ وليه الدكتورة جاية هنا وبتسأل "هي بنت مين"؟ إيه يا آدم؟ عايزين نفهم!
هز آدم  رأسه وهو يقول بنبرة متوترة:
- مفيش حاجة يا إلياس... إيلين بس تعبانة من الحمل... لازم نمشي دلوقتي.
طالعتهُ إيلين بذهول، ثمَّ التفتت إلى إلياس:
– راجح بيقول إنِّي مش بنتِ محمود!! - يعني إيه؟ وامي مالها، مش فاهم...تساءلَ بها إلياس..
اقتربت من فريدة التي ظلَّت صامتة، تنظرُ في نقطةٍ بعيدةٍ وأردفت:
– إيه ياخالتو؟ مش عايزة تتكلِّمي؟
استدارت إليها فريدة، تنطقُ أخيرًا:
– راجح؟ يعني قالِّك إنِّك مش بنتِ محمود؟ أنا أعرف إنِّ راجح كان قريب أوي من والدتك...بس معرفشِ يقصد إيه..وبعدين إنتي اتولدتي بعد ماجمال مات بسنين، والوقت ده ماكنتش أعرف عنُّكم حاجة...
ثمَّ التفتت إلى مصطفى:
– وقتها طلبت من مصطفى يدوَّر على زين، فاكرة وقتها زين كان مسافر مع زهرة ونورا، يعني معرفشِ حاجة من الِّلي بتقوليه.
تراجعت إيلين للخلف، وكأنَّ كلمات فريدة أعادت لها وعيها المسلوب..
أطلقت ضحكةً قصيرة، وهزَّت رأسها، ثمَّ نظرت إلى آدم:
-يعني عمو جمال، مات قبل مااتولد بسنين، أيوه...صح! افتكرت، لمَّا خالو كان بيقول لماما إنُّه دوَّر عليكو كتير...يعني كده ماما ماخانتش بابا مع عمُّو جمال.

شهقت فريدة بذهول، ثمَّ اقتربت منها وعيناها تتفجَّرُ بالصدمة:
– إنتي بتقولي إيه؟! مين؟! جمال ونورا؟! يعني راجح قالِّك إنِّك بنتِ جمال؟!
قاطعهم ضحكُ إلياس الصاخب؛ ظلَّ يضحكُ بطريقةٍ هستيريةٍ حتى أدمعت عيناه، اتَّجهت ميرال تنظرُ إليه بحزنٍ ممزوجٍ بالوجع...إلى متى ستظلُّ تنزف من ذلك الرجل؟
– معرفشِ بتضحك على إيه ياحضرةِ الظابط؟...قالتها إيلين..
تراجع يهزُّ رأسه، ومازالت ملامحهِ تنطقُ بالتهكُّم، حتى هوى على المقعدِ مشيرًا إلى مصطفى:
– شوفت فُجر أكتر من كدا ياحضرة اللوا؟ دا حتى الموتى ما سلموا منُّه، وحضرتك زعلان على اللي عملته!
لا، والدكتورة العبقرية صدَّقته! طيب واحد متخلِّف، إنَّما عقل الدكتور كان في فسحة!
– إلياس، لو سمحت، مينفعشِ أسلوبك دا.
هكذا نطقها آدم، بينما خطت إليه إيلين وقالت:
– أنا معرفشِ إيه الِّلي في الموضوع مضحك ياحضرة الظابط...بس اتفضل، علشان تبقى تضحك كويس.
قالتها وهي تُخرجُ ورقةً مطوية من جيبها...
-اتفضل اقرأ دي وقولِّي رأيك. 
ألقى الورقة دون أن يفتحها ثمَّ نصبَ عودهِ وتوقَّف أمامها:
-واحد ميت بقاله تلاتين سنة، وإنتي عندك اتنين وعشرين سنة، إيه جابك من تحت القبر؟. 
هزَّت رأسها ولمعت عيناها بالدموع: 
-أيوة أنا مكنتش اعرف أو ماأخدتش بالي، بس أفهم الكلام دا..قرأ مابين السطورِ سريعًا ثمَّ 
استدار لوالدته: 
-أروح أقتل الراجل دا، قولي لي أروح أقتله دلوقتي ولَّا أعمل إيه دلوقتي؟. 
ثمَّ استدار إلى إيلين: 
-وإنتي يادكتورة إزاي تصدَّقي كلام معتوه زيِّ دا؟!.
صاحت ببكاء: 
-لأن الورقة مش راجح الِّلي إدهالي، خالو لقيها في حاجات تانية لماما

هرولت فريدة تختطفها تقرأُ سطورها بدموعها، رفعت رأسها إلى إلياس: 
-أنا مش فاهمة حاجة، إيه علاقة جمال باللي بيحصل؟.. 
جلسَ مصطفى متمتمًا:
-الراجل المذكور في الورقة يافريدة، ابنِ أخوه هوَّ اللي خطف ولادك.. 
التفتت إليهِ سريعًا عاقدةً جبينها بجهلٍ من حديثه، توجَّه إليه إلياس متسائلًا:
-وحضرتك عرفت منين يابابا؟!.
-زين..جالي من فترة وكان عايز يربط الأحداث برضو، وأنا عرفت بطريقتي. 

ارتجف قلبهِ وهو يردِّدُ السؤال، فتساءلَ بلسانٍ ثقيل:

- يعني...موت بابا كان بسبب طنط نورا؟
- معرفش ياابني..بس الأهمِّ من ده، ليه راجح اتَّهم جمال بكده؟ هوَّ مش عيل، وعارف إنِّ لعبته باينة.
- أنا هاعرف..
قالها بنبرةٍ صارمة، وخطا خطوتين ولكنَّه توقَّف على صوتِ آدم المتردِّد:

– أنا قابلته امبارح، ياإلياس، وسألته.
التفتَ إلى إيلين، وتجلَّت عيناهُ بالحزن:

– للأسف...هوَّ مصرّ إنِّ عمُّو جمال اتقتل بسبب عمِّتو، وقالِّي: "اسأل طنط فريدة".

تاهت نظراتُ فريدة في الفراغ، 
وتغوصُ في ماضٍ رفضَ أن يُدفن.

– أنا...معرفشِ حاجة، الِّلي أعرفه إنِّ نورا كانت بتحبِّ واحد اسمه سمير الدمنهوري...وكان له أخ، اسمه عزت..ده كان عايز يتجوِّزني، بس عمِّي رفض، واتجوِّزت جمال...الموضوع ماأخدشِ حاجة، تذكَّرت شيئًا فاسترسلت:

– عزت كان بيحبِّ نورا، حاول مع عمِّي كذا مرَّة، بس عمِّي ماكانشِ بيحبُّه وسمعته كانت وحشة أوي. 

شهقت إيلين، وارتجفَ صوتها كمن اكتشفَ جرحًا قديمًا لم يندمل.

- يعني..أمِّي كانت بتحبِّ حدِّ تاني؟
- حبيبتي..إيه الِّلي بتقوليه ده؟ أمِّك دلوقتي بين إيدين ربِّنا...

- خالتو فريدة..أنا تعبت..من وأنا صغيرة، وبابا بيعاملني كأنِّ ماليش وجود في حياته، وكنت بسأل نفسي ليه بيعاملني كدا، لوحت بيديها تتراجع بجسدها ودارت عيناها بالمكان بتيه:

- كان بيبصلي كإنِّي غلطة!

هزَّت فريدة رأسها، وارتجفَ صوتها  تدافع عن نورا: 

- اسكتي يابت، أنا عمِّي ربَّاني على الدين، وعلى الأخلاق..معرفشِ ليه أبوكي كان بيعمل كده، بس الِّلي واثقة منه...والدتك ما كانتشِ هتخون ربِّنا مهما حصل.

ارتسمت السخرية على وجهِ إلياس، لكنَّها لم تخفِ انكساره..

– ورانيا؟ ماكانشِ عمِّك مربِّيها برضه؟
أنا عايز أفهم...أبويا كان له أية علاقة بعزت وسمير؟

- سمير...تمتمت بها بشرودٍ قائلة: كان عايز يشارك أبوك في شغل..رفض، بس سمعته كانت وحشة...

هنا، ربط إلياس  الأحداث وما فعلهُ عطوة ، كأنَّ الماضي القاتم فردَ ذراعيهِ أمامه.. 

اقتربَ من والدته، وأردف بصوتٍ جاد:

- سمير ده...لو ورِّيتك صورته، هتعرفيه؟
لكن مصطفى قاطعهُ بحدَّة:

- إلياس، ابعد عن الِّلي في دماغك ما تدخَّلشِ والدتك في صراعات.

- صراعات؟! صاح بها إلياس، عيناهُ تشتعلانِ بالغضب.
-حضرتك مش شايف الِّلي حوالينا؟ مش شايف إنِّنا بنغرق؟

ولم يُكمل...إذ قطع صوتُ آدم وهو ينادي باسمِ زوجته، وجسدها يترنَّحُ كأنَّ الحياةَ انسحبت منه فجأة، لتسقط بين ذراعيهِ كدميةٍ فقدت خيطها.

في مكانٍ آخر، وتحت سقفٍ مظلم:

دفع أرسلان الباب بقوَّة، دخل كأنَّه عاصفة، لا هدوءَ فيها ولا رحمة..جلس على المقعدِ بالمقلوب، وعينيهِ تراقب راجح كصقرٍ ينقضُّ على فريسته.

– إزيك يارجوحة؟ عامل إيه؟
– يارب تكون مستريَّح في ضيافتنا...

لوى راجح شفتيهِ ساخرًا، ثمَّ مال إلى الأمام، مستندًا على الطاولة:

– تعرف؟ أنا بكرهك..عارف ليه؟ عشان شبه أبوك...شبههُ بالضبط.

لم يحتمل أرسلان تلك الكلمات، فجذبهُ من ياقةِ قميصه، عينيهِ تقدحانِ شررًا:

– صدَّقني...مش هرحمك.

تراجعَ راجح، يحاولُ الحفاظَ على توازنه، وابتسامةً متعجرفةً ترتسمُ على وجهه:

– ولا هتقدر.
– بالعكس...

بالعكس ياراجح، جيت تحت إيدي، وأوعدك هدفنك قريب..
-اتكلِّم على قدَّك يابنِ جمال، لأن الِّلي قدَّامك مش أهبل..وبكرة ولَّا بعده بالكتير هتلاقيني برَّة زنزانتك دي، ومش بس كدا، هطلَّع عليكم القديم والجديد. 

توقَّف أرسلان يرمقهُ بتهكُّمٍ قاسٍ، واردف بصوتٍ يقطرُ سخريةً وغطرسة: – خليك واثق ياراجح… يمكن الوهم دا ينفعك..

تراجعَ راجح خطوة، وعيناهُ تتَّقدُ بتحدٍّ عنيد، كأنَّ الشررَ يتطايرُ منها: 

– هات أخرك ياابنِ الجارحي…لحدِّ دلوقتي إنتَ قدَّام الكلّ ابنِ الجارحي، وده اللي مخلِّيك واقف قدَّامي، ماسك نفسك..إنَّما لو قرَّرت تبقى ابنِ الصيَّاد..ساعتها هتبوس التراب الِّلي بمشي عليه، ويمكن…يمكن تطلب الرحمة برجلي...بينا تار

انحنى ارسلان  للأمام، يستندُ بمرفقيهِ على الطاولة، وهتف بصوتٍ ينزفُ نارًا مكتومة:

-زي ماقولت بالظبط بينَّا تار…مش جاي أطلَّع منَّك كلام لأنَّك خلاص اتحرقت، ثمَّ أومأ بخفَّة، يتراجعُ ببطء، وصوتهِ ينخفضُ كنذيرِ موت: 
– أيوه…بتار. والتار لازم يتصفَّى...

-هنشوف مين الِّلي هيقضي على التاني.. قالها راجح باستخفاف 
قهقه أرسلان وهو يضربُ كفَّيهِ ببعضهما:
- البجح بيهدِّد..انحنى وغرز عينيهِ بمقلتيه:
-إنتَ بجح ياراجح، وبجاحتك عدِّت الليفيل.
-فريدة عاملة إيه؟..قالها راجح بعيونٍ متهكِّمة، وفمٍ مزمومٍ ثمَّ تراجعَ بعدما تغيَّر وجهُ أرسلان، 

وقبل أن يبتعد ، كان أرسلان قد وصل إليه في رمشة عين، وكفاه تطبقان على عنقه، وعيناه تشتعلان بجحيمٍ لا يُحتمل، يهتف من بين أسنانه بفحيح شيطان: 

– هقتلك… ورحمة أبويا لأقتلك!

اندفع الباب بعنف، ودخل إلياس كعاصفة هوجاء، دافعًا أرسلان بعيد عنه بكل ما أوتي من قوة، وصرخ بانفعال
: – أرسلاااان!! إيه اتجننت؟ ابعِد إيدك!

تهاوى راجح على الأرض يتلمّس عنقه، يسحب الهواء بأنفاسٍ مقطّعة، بينما رمقه إلياس بنظرة باردة كالموت:

-لسه روحك معلّقة يا راجح؟! ربنا لسه ما أذنش… بس قريب، قريب جدًا.

ثم التفت بعنف نحو أرسلان، وقال بنبرة مرتفعة كالسياط:
- اطلع برّة… إنت دخلت من غير إذني، مين سمحلك أصلاً؟!

ركل أرسلان المقعد برجلهِ في نوبةِ غضبٍ مكبوت، وخرج دون كلمة، بينما أطلقَ راجح ضحكةً ساخرةً تخترقُ الصمت:
- إيه؟ ماتتخانقوش عليَّا ياولاد جمال…اهدوا بس.

اقترب إلياس، ودفعَ الكرسي بعيدًا بحدَّة، وأشار نحوهِ بازدراء: 

- قوم…مين سمحلك تقعد؟!
ثمَّ صرخ على العسكري:
– خد الكرسي والترابيزة دي برَّة…مش عايز في الأوضة دي ولا مسمار، نزِّلوا درجة الحرارة تحت الصفر، وغرَّق الأوضة ميَّة ساقعة…عايز القرف ده يتحبس في تلج وجحيم.

انحنى إليه بعينينِ تقدحانِ نارًا: 
– بقى ياأهبل…تقول للدكتورة إنَّها بنتِ جمال؟! دي محتاجة عيِّل مجنون علشان يصدَّقك، مش عاقل.

نهض راجح دفعةً واحدة، واشتعلت عيناهُ بنيرانِ الانتقام:
: أيوه قلت…ليه؟ مش مصدَّقين؟

قهقهَ إلياس كالمجنون، حتى ارتطمَ صدى ضحكتهِ بجدرانِ الغرفة 
وتزلزلت، ثمَّ دفعهُ فجأةً ليصطدمَ بالحائط، شهقةُ ألمٍ حادَّة انفلتت منه، ليقتربَ إلياس  أكثر، وصوتهِ صار كأداةِ  تعذيب: 

– أبويا الِّلي ميت من تلاتين سنة يخلِّف؟!

سكن راجح لحظة، ثمَّ انفجرَ ضاحكًا بصوتٍ أجش:
– أبوك بقى…وقوِّته الخارقة.

دارَ إلياس حول نفسهِ كمجنونٍ فقد عقله، وأناملهِ تحت ذقنه، يهزُّ رأسهِ وهو يقول:

– قوَّة خارقة؟ أيوه عندك حق، ماهو أبويا، يعني لازم يكون كامل متكامل، قالها وتوقَّف يتطلَّعُ إليهِ قائلًا:

- واحد ميِّت، يخرج من القبر يخون مراته اللي هوَّ بيحبَّها، وأخدها منَّك، يخونها مع بنتِ عمَّها…ويخلِّف كمان؟ والأدهى إنَّها متجوزة؟ أصدَّقك؟ طبعًا…عشان خيالك المريض عايش في حفرة عقلك، مفكَّر الرجالة كلَّها زيك، حرام ماهو الِّلي اتعمل فيك بقيت، بترتِّب سينورهات خيالية، إنَّما أخبار جرحك إيه؟..بتغيَّر عليه؟.

تجهَّم وجهُ راجح، وأردفَ بنبرةٍ وحشية:

- وحياة أمَّك ياابنِ جمال…ماهعدِّيها، لازم أعمل فيك زيِّ الِّلي عملته.
أطبق على عنقه وتحولت عيناه لجمرة نارية
- اقطع لسانك، اقسم بالله اقطعه من غير مايرف لي جفن، امي دي ملكة متوجة الحقراء اللي زيك ممنوع حتى خيالهم المريض يذكروها..
دفعه بغضب بعدما شحب وجهه، ثم نفض كفيه مع سعال راجح..توقف يرمقه: 
-عم ..انت عم انت، الحيوان ارحم منك..اللي يعمل في اخوه كدا يبقى الحياة حرام عليه
-هندمك يابن جمال، والله لأخد حقي، وهعرفك ازاي تمد ايدك علي، حاوط جسده ورمقه مستهزئا، وهعمل فيك زي اللي عملته واكتر كمان، ودا وعد مني

ضحكَ إلياس باستهزاء، واقتربَ منه، يسجنهُ بينهِ وبين الجدار: 

– ومستنِّي إيه؟ أنا قدَّامك…وريني.

شعر ببرودةِ الغرفة، الضبابُ يتكاثف، 

أشار إلياس لملابسهِ قائلًا: 

-اخلع.

تراجعَ راجح، بعدما تغيرت ملامح إلياس إلى جبروت، ونطق بصوتٍ مبحوح: 

– أخلع إيه يامجنون؟!

لطمهُ إلياس بقوَّةٍ أسقطته، وهتافٍ مرعب:

– اخلع هدومك، هعيِّشك كلِّ ليلة في جحيم…علشان تفهم إنِّ جمال خلَّف رجّالة، همسَ بجوارِ أذنه
- ولسة هعمل فيك أسوأ ماتتخيَّل، كلِّ دمعة نزلت من عين أمِّي، هنزلَّها من جسمك دم..مرَّر كفَّيهِ على جنبه:
-الكلية شغَّالة حلو صح؟..تراجعَ راجح ينظرُ إليه بذعرٍ من حديثهِ المبطَّن..
مطَّ إلياس شفتيه:
-متخافش، هسبها شغَّالة شوية، فيه حاجة تانية بفكَّر فيها بس مش هقولَّك..خلِّيها مفاجأة، قالها بغمزة،
ثمَّ صرخ للسجَّان: 
– عايزه من غير هدوم..ونفِّذ الِّلي قولته بالحرف.

تحرَّك بضعَ خطواتٍ ثمَّ عاد، وانحنى نحوه، يحرقهُ بعينينِ تشتعلانِ بالدم:

– سمير الدمنهوري هوَّ الِّلي قتل أبويا علشان طنط نورا..صح؟! زي ما قالَّك تضحك على البنتِ وتفهَّمها إنَّها بنتِ حرام؟ بس إنتَ وهوَّ أغبى من إنُّكم تحسبوها صح.

ارتجفَ راجح، وتمتمَ بصوتٍ مبحوحٍ برجاءٍ يائس:

– إلياس…طلَّعني من هنا، صدَّقني… هتموت لو فضلت حابسني!

نظر إليه إلياس، يضغطُ بإصبعهِ على صدره:

– أموت؟! علشان حابسك؟ 

اعتدل، يرمقهُ بنظرةٍ ساخرةٍ ثمَّ خرجَ  تاركًا خلفهِ جحيمًا يتوسَّدُ الألم..

بمنزلِ زين..
دثَّرها جيدًا يمسِّدُ على خصلاتها بحنان، استمع إلى طرقاتٍ على بابِ الغرفة:
-ادخل...دلفت مريم تتطلَّعُ إلى أختها بقلبٍ ينتفضُ رعبًا:
-مالها إيلين ياآدم، ليه جايبها بالشكل دا؟!..
تنهَّد محاولًا السيطرة على آلامِ قلبه التي تنزفُ بسبب ماتعرَّضت له، أشار إلى مريم:
-مريم خلِّيكي جنبها، أوعي تسبيها لوحدها لحدِّ ماأرجع.
أطبقت على ذراعيهِ ورفعت عيناها إليه تتساءل:
-إنتَ مخبِّي عليَّا إيه يابنِ خالي؟. 
هزَّ رأسهِ وتحرَّك دون أن ينطقَ بحرف.. 
بعد فترةٍ وصل إلى منزلِ محمود والدها، فتحت سهام وتوقَّفت تعقدُ ذراعيها على صدرها: 
-خير يادكتور، جوز عمِّتك مش موجود ومينفعشِ أفتح لك الباب. 
دفعها بغضب حتى هوت على الأرضيةِ أمامه، ثمَّ سحبها من خصلاتها مع صرخاتها: 
-أنا اتحمِّلتك كتير، وحاولت أتغاضى وأقول ست، بس إنتي طلعتي بنتِ ستين ك..لب ياحيوانة، فضلتي تملِّي دماغها بالسم، إنتي الِّلي قولتي لها إنَّها مش بنتِ محمود صح؟..
-اااه ..قولتها، ومش بس كدا، الغبية عملت تحليل وانا زورتها، لازم احرق قلبها زي ماامها حرقت قلبي، بسببها اتجوزت ابوها 
-إنت شيطانة..!!
قالها بصوتٍ صاخبٍ حتى فزعت تتراجعُ بجسدها وأشارت بسبَّباتها:
-هودِّيك في داهية، إزاي تهجم عليَّا، إنتَ مفكَّر البلد مفيهاش قانون والله.. 
لم تُكمل حديثها حينما اقترب منها وتناسى أنَّها امرأة وبدأ يلكمها بكلِّ ألمٍ شعرت به زوجته، ارتفعت أنفاسهِ يطالعها بنظرةٍ مشمئزةٍ ثمَّ بصقَ عليها: 
-اتحمِّلي اللي جاي يانكرةِ الستَّات، قولتها لك زمان الِّلي يقرَّب من مراتي هدفنه..قالها وخرج كالماردِ متَّجهًا إلى سيارتهِ وقام برفعِ هاتفه:
-مراتك لو قرَّبت من مراتي هنسى إنَّها ست، أنا عذرتك زمان وقولت حقُّه يعمل اللي بيعمله، بس دلوقتي مابقتشِ بنتِ مراتك، دي مرات آدم الرفاعي..قالها وأغلقَ الهاتف ودقَّاتُ قلبهِ في تسارعٍ كدقَّاتِ طبولِ حرب.. وبدأ يطرقُ بقوَّةٍ على المقود، قاطعهُ رنينُ هاتفه: 
-أيوة ياإلياس؟.
-مراتك عاملة إيه دلوقتي؟. 
-كويسة الحمدُ لله..
سحبَ إلياس نفسًا وزفرهُ ببطئٍ وتساءل:
-إنتَ كنت تعرف الحوار دا؟..يعني هيَّ قالت أبوها كان بيعاملها وحش و..
قاطعهُ قائلًا:
-سمعت حوارات بس بابا مصدَّقشِ حاجة، بس حقيقي أنا ضايع..معقول تكون مش بنتِ عمُّو محمود؟..
رد إلياس بهدوء رغم غليان صدره:

-نتيحة التحليل تظهر وكلِّ حاجة هتبان، أنا دلوقتي بربط الخيوط وربِّنا يسهِّل، بدل راجح مش هيتكلِّم يبقى رانيا هتتكلِّم..

عند أرسلان..

وصل إلى مكتبِ إسحاق، دلف إلى الداخلِ وألقى التحيةَ على الحاضرين أمام شاشةِ العرض الضوئية..أشار إليه إسحاق بالجلوس، ثمَّ واصل حديثهِ بنبرةٍ صارمة:

-دلوقتي فيه كذا شخص مشكوك فيهم، والقبض على راجح هيعمل بلبلة وتخبُّط..هيحاولوا يقتلوه، خصوصًا إنُّه مأمِّن نفسه كويس، وزي ما قالُّهم: "أنا مابوقعش لنفسي".

تساءلَ أرسلان، وقد بدت الحيرة في عينيه: 

- عذرًا ياباشا..ليه الدول دي بتموِّل الناس دي؟ يعني هيستفيدوا إيه؟

سحبَ إسحاق أحدَ المقاعد وأشار لأحدهم أن يعرضَ شيئًا على الشاشة: 
- شوف الخريطة دي وإنتَ هتعرف..
إنَّما المهمِّ دلوقتي مفيش خيط واحد يطلع من المكتب ده..لازم نعرف الشخص المدَّاري بينهم..وأنا متأكد إنُّه مش مصري.

ردَّ أرسلان وهو يومئُ برأسه: 
-وأنا كمان.

أشار إسحاق إلى الأوراقِ الموزَّعةِ أمامهم:

-كلِّ واحد مهمِّته قدَّامه ياشباب، ناخد بالنا...الحذر، ثمَّ الحذر.

- تمام يافندم.

خرجَ الجميع، إلَّا أرسلان بقيَ جالسًا، يحدِّقُ في الورقة أمامه، ثمَّ زفر بحرارةٍ مشتعلة، رفع رأسهِ وقال بامتعاض:

- وبعدين ياعمُّو؟ حضرتك وعدتني الشغل هيكون جوَّه مصر...ليه غيَّرت كلامك؟

نهض إسحاق وربتَ على كتفه:
- علشان ماعنديش غير صقر واحد أقدر أراهن عليه، وأنا دايمًا مطمِّن وواثق فيك.

هزَّ رأسهِ باعتراض: 
- عمُّو إسحاق، أنا قولت لحضرتك عايز أعيش في هدوء، أربِّي ابني وإنتَ وافقت، أنا مش مسافر تاني.

ناظرهُ إسحاق بثقل:
- أرسلان، راجح هيهرب، ومفيش غيرك يعرف يلاحقه وده آخر كلام، ومش عايز معارضة...فهمت ولَّا لأ؟

قهقهَ أرسلان حتى اهتزَّ جسده، ثمَّ هدأ فجأةً ونظر إليه بعينينِ تضجَّانِ بالمرارة، ولكن أردفَ إسحاق: 
-عارف هتقول إيه...إزاي هيهرب؟ أنا الِّلي ههرَّبه، وساعتها روح قول لأخوك علشان أسجنك مكانه، أنا لازم أحمي بلدي، وعارف ومتأكد إنُّه هيحاول يوصلهم في اللحظة اللي بيخطَّطوا يقتلوه فيها.

- طيب، لمَّا يموت...هستفيد إيه من مراقبته؟

ردَّ إسحاق وهو يشيرُ إليه بالانصراف:
بعدين هقولَّك...قوم دلوقتي، عندي شغل مش فاضي للرغي.

نهضَ أرسلان وقال بمرارة: 
-واللهِ؟! طيب شوف شغلك.

تحرَّك حتى وصل لدى الباب..ناداهُ إسحاق بصرامةٍ لم تخفَ فيها شفقةً خفيَّة: 
- أرسلان، لو إلياس عرف حاجة... وقتها أنا مش هسامحك.

توقَّف أرسلان لحظة، ثمَّ التفتَ إليه وقال بهدوء: 
- أنا مش هقولُّه حاجة..بس هوَّ مش هيسيب حد يقرَّب منُّه..عمُّو، الراجل اللي بنقول عليه "عمِّنا"... إيده ملطَّخة بدمِّ أبويا، اللي لحدِّ دلوقتي منعرفشِ اتقتل ليه.

ثمَّ أردفَ بهدوءٍ قاتل: 
بعد إذنك ياعمُّو..قالها وانصرف.

بعد قليل، وصل إلى منزله..وجد غرام تحملُ طفلهما كالعادة، دلف للداخلِ ملقيًا مفاتيحه، ثمَّ هوى بجسدهِ المُثقل على الأريكة..
وضعت طفلها في مهده، ثمَّ اقتربت منه، عيناها تحتضنُ ملامحهِ المتألِّمة، إذ بدا عليها أنَّه يحملُ ثقلَ الدنيا فوق كتفيه.

جلست مقابلتهِ على الطاولة، تناديهِ برفق: 
- أرسلان...!

لم يرد...انحنت ترفعُ رأسهِ التي كان يطمرها بين راحتيه..عانقتهُ بعينيها:

-حبيبي مالك؟.

تمتمَ بمرارة: 
- بابا مات مقتول يا غرام...يعني مش قضاء وقدر.

شهقت، ولمعت عيناها بطبقةٍ كرستاليةٍ أوجعتها، ثمَّ اقتربت منه أكثر وجلست إلى جواره:

- طيب ياحبيبي...إنتَ كنت شاكك، يعني كان وارد ده، ليه الصدمة دي؟

مسح وجههِ بكفَّيه، وزفرَ بقوَّة، ثمَّ هزَّ رأسه نافيًا: 
-الشكّ حاجة...والحقيقة حاجة تانية خالص، منكرشِ كنَّا متوقِّعين، بس لمَّا تتأكِّدي..ولمَّا تكتشفي إنِّ عمِّك شريك في ده...ده وجع ملوش حدود.

سحبتهُ إلى صدرها، تضمُّ رأسهِ إلى قلبها، تتحسَّسُ نبرةَ صوتهِ التي تشي بكسرٍ داخليٍّ حاد.

- طيب حبيبي، ممكن تهدى؟ وإن شاء الله كلُّه هيعدِّي.

لكن دمعة غائرة سالت على خدِّهِ رغمًا عنه.

- أنا تعبان...وواقف في النص، لا قادر أساند شغلي، ولا قادر أجيب حقِّ أبويا الِّلي اتغدر بيه..الموضوع طلع أكبر من كلِّ توقعاتنا..

عند يزن..

استيقظَ من نومهِ يعتصرهُ صداعًا يكادُ يفتكُ برأسه...مدَّ يدهِ إلى هاتفِ الغرفة وطلب دواءً وقهوتهِ المعتادة، ثمَّ عاد واستلقى على الفراش، عيناهُ على الساعة، وكفَّاهُ فوق جبينه، محاولًا التماسك.. 

عاد  بذاكرتهِ إلى ماحدث ليلةِ البارحة...فأطبق على عينيهِ بقوَّة، حتى كاد أن يُدمي شعيراتها الدموية..ظلَّ للحظاتٍ على حاله، أنفاسهِ تتسارعُ كلَّما تذكَّر كلماتها التي ألهبت كيانه، وجعلت من جسدهِ فوهةُ بركانٍ على وشكِ الانفجار..انتفضَ من مكانهِ فجأة، عندما فقدَ السيطرةَ على غضبه، قاطعهُ طرقًا خفيفًا على بابِ الغرفة..

أمر بالدخول..دلفت العاملةُ وهي تجرُّ عربةً تحوي طعامهِ وماطلبه...دقائقَ قليلة ومضت مغادرة، اتَّجه يزن مباشرةً نحو علبةِ الدواء، ابتلع قرصًا سريعًا، ثمَّ حمل كوبَ قهوته، وأشعلَ سيجارته..خرج إلى شرفةِ الغرفة، جلس على المقعد، وأطلقَ بصرهِ تائهًا في أرجاء المكان..إلى أن وقعت عيناهُ على فتاةٍ تُشبهها..تشبهُ معذِّبته، لكن هناك فرقٌ شاسعٌ بين الاثنتين؛ تلك تقفزُ كطفلةٍ اجتازت الامتحان بتفوُّق، بينما تلك..قد سكن الألمُ ملامحها حتى باتت كتمثالٍ شاحبَ الروح.

تنهَّد وتراجعَ في جلسته، رفع ساقيهِ على المقعد، ونفث دخانَ سيجارتهِ مرَّة، وارتشفَ من قهوتهِ مرَّةً أخرى.. عاد بذاكرتهِ إلى تلك الليلة...ليلةٌ كُتبت بمدادِ النبض، وتوشَّحت باعترافٍ مجنون، حين همست له بحبُّها، وارتمت بين ذراعيهِ عاشقةً حتى النخاع.

يعلم أنَّها لم تكن تمثِّل...لقد أحبَّتهُ حقًّا..لكن السؤال الذي لا يفارقه:
هل يمكن للحب أن يتحوَّل إلى دمارِ قلب؟!.

دقائقَ مرَّت ولم يشعر بنفسه، إلى أن استمعَ إلى رنينِ هاتفهِ ليتناوله: 
-أيوة عملت إيه؟.
-بص ياسيدي اشتغلت في شركة لرجل أعمال مشهور أوي، ومش بس كدا..العلاقة بينهم توطَّدت جدًا، لدرجة إنَّها دايمًا معاه وبتروح عنده، الراجل دا أصله مصري بس عايش برَّة ومتجوِّز بنتِ عمُّه ودكتورة، عرفت كمان أنُّه كان صاحب مالك العمري، يعني هيَّ راحت له بعد اتِّفاق من مصر قبل ماتسافر.
-تمام شكرًا لحضرتك.

ظلَّ جالسًا بمكانهِ لفترة، يحدِّقُ بشرودٍ في مشاهدهما معًا، قبضةٌ قاسيةٌ اعتصرت صدرهِ فجأة، التقطَ هاتفهِ دون تردَّد.
-"إلياس..."
كان إلياس يقودُ سيارتهِ عائدًا إلى منزله، قاطعهُ رنينُ هاتفه، رفعهُ وأجابه:
-"أيوة يايزن..."

فرك جبينهِ وسحبَ نفسًا عميقًا زفرهُ بهدوء:

-"عاملين إيه؟ وميرال..عاملة إيه؟"

قصَّ عليهِ ما جرى، فهبَّ من مقعدهِ مفزوعًا:
"عمل فيها حاجة؟! ميرال كويسة؟"

-"لأ... أه، هيَّ كويسة، المهم هترجع إمتى؟ لازم تكون هنا قبل محاكمة راجح...جه الوقت الِّلي تظهر فيه إنَّك يزن راجح الشافعي."

تلك الكلماتُ التي يتمنَّى كلُّ ابنٍ سماعها من والده، لم تكن له سوى أصفادٍ من لهبٍ تكبُّله...
أفاقَ من شرودهِ على صوتِ إلياس:

-يزن رحت فين؟!

"معاك ياإلياس...قدَّامي يومين تلاتة.. بس اسمعني كويس..أنا عايز رحيل ترجع، وترجع نهائي، مغادرة من غير رجعة."
-نعم..مغادرة، وليه؟!.
-مش مرتاح قعدتها هنا.

"إنتَ اتجنِّنت يايزن؟! لا طبعًا، الِّلي بتقوله ده مستحيل..دي طليقتك، وكلِّ واحد فيكم شاف طريقه."

"أنا عايزها ترجع القاهرة، وبشكل نهائي، دا اللي طالبه منَّك"

"يعني ناوي ترجَّعلها شركتها؟ علشان كده عايزها ترجع، طيب قولَّها؟"

"إلياس، هتساعدني ولَّا لأ؟"
صمتَ إلياس وأردفَ بامتعاض:

"يزن، إنتَ رجَّعتها لعصمتك؟!"
صاحَ يزن بنفادِ صبر:

"هتساعدني ولَّا لأ؟"
توقَّف إلياس بسيارتهِ فجأة، ضرب المقودَ بعصبية:

"يا بني، بصفتك إيه؟ إنتَ ليه عايز تئذيها؟ كلِّمها واتّفقوا...بس مش كده..بلاش يايزن!"

"هتساعدني ولَّا لأ؟"

"لأ!" قالها إلياس بنبرةٍ غاضبة، ثمَّ أغلقَ الهاتفَ بعنف.

هوى على مقعده، ثمَّ كوَّر يدهِ بغضب، وما إن رنّ هاتفهِ حتى أجابَ بنفور:
- فيه إيه تاني ..؟!

"المدام الِّلي طلبت أعرف كلِّ حاجة عنها...خارجة دلوقتي مع شخص، ياباشا."
أرسلَ له الصورة..كانت تتحرَّكُ بجوارِ رجل..نعم، هو ذاتهِ الذي رآهُ معها من قبل.

هبَّ من مكانهِ كالأسدِ الحبيس، ودار حول نفسهِ كالمجنون..حطَّم كلَّ ما أمامه، يصرخ، يشتعلُ داخله، ثمَّ 
سقطَ على الأرض، يلهثُ كعدَّاءٍ أنهكهُ السباق..دقائقَ من الجنونِ الكامل، حتى هدأ أخيرًا.
تناولَ هاتفه، وضغطَ على اسمٍ واحد:

"أرسلان...طالب منَّك خدمة..ولازم تنفِّذها..من غير أعذار."

بعد يومين..
في فيلا السيوفي، وتحديدًا في غرفةِ إلياس..

استفاقَ على رنينِ هاتفهِ الصاخب، فمدَّ يدهِ بتثاقلٍ وأجاب:

– "إلياس، راجح اتحوَّل للجنايات والمحاكمة بكرة!"

هبَّ واقفًا، كأنَّ صاعقةً أصابته.
– "يعني إيه؟!"
– "معرفش، اتفاجئت زيك."
– "طيب اقفل."

أغلقَ الهاتف ودقَّاتهِ تضربُ صدرهِ بقسوة، تنذرُ بعاصفةٍ قادمة...

تململت ميرال في نومها، وقد أقلقتها حركتهِ المفاجئة:
– "إلياس..الساعة كام؟"

انحنى إليها، وطبعَ قبلةً دافئةً على جبينها:
– "لسه بدري ياحبيبتي..نامي، عندي شغل مهم."

دلفَ إلى الحمَّام، وبعد دقائقَ معدودة خرج وأدَّى صلاةَ الضحى بخشوعٍ مرتبك..ارتدى ثيابهِ سريعًا، وخرج يطلبُ أرسلان من هاتفهِ المحمول:
– "فينك؟"
– "رايح الشغل."
– "هموِّتك، سمعتني؟ وقول لإسحاق مش هعدِّيها على خير!"

بمنطقة راقية 
دلف الرجل يشير إليها بالدخول
-البيت هيعجبك يااستاذة، والباشمهندس يعقوب موصيني عليكي، وسيادة المهندس مش أي حد، علشان كدا البيت دا ميغلاش عليكي 
-شكرا ياعم ..قاطعها الرجل 
-خدامك حسن ياهانم 
-اشكرك ياعم حسن، البيت فعلا شكله حلو ومريح، وعجبني الفيو بتاعه 
-طبعا ياهانم لازم يعجبك، كفاية الجيران اللي جنب سيادتك، تعرفي الجهة الغربية من حديقة المنزل دي تبع مين
ضيقت عيناها وتسائلت
-مين ..؟! شكلهم ناس مهم 
-اومال ياهانم، دول عيلة الألفي، والمكان المحاوط بالحدايق دي كلها والبيوت دي تبعهم، هما ماشاء الله ناس ليهم قيمة وعز، بكرة تتعرفي عليهم هتحبيهم اوي 
-خلاص خلاص ياعم حسن شكرا، ولو احتجت حاجة هكلمك 
-تحت امرك ياهانم ..قالها وتحرك ..بينما ذهبت هي لوالدتها التي جلست بالحديقة تطلع إليها بشرود
-ماما البيت شكله حلو
-احنا ليه نزلنا مصر بالشكل دا ياراحيل، ليه اتعاملنا كأننا مجرمين 
استدارت واتجهت تحمل حقيبتها:
-هعرف ياماما، صدقيني هعرف، ويارب ميكونش اللي في بالي ...

باليوم التالي 
خرج من مكتبه بعدما هاتفه شريف:
-راجح خرج من السجن تحت قيادة مشددة، متخافش راكان البنداري بنفسه متابع كل حاجة، واحسن ظباط في القضية، وعلى قدر عالى من الشرف والمهنية ...خطى إلى سيارته وفتحها وهو يتحدث بهاتفه:
-اتمنى مفيش حاجة تبوظ الدنيا، زي ماقولت لك ..كلم ياسين الألفي وعرفه بالوقت، مش عايز لا قبل دقيقة ولا بعد دقيقة، الضربة الحقيقة للكل من هنا 
-ولا يهمك ياالياسو، كله تحت السيطرة، حتى ارسلان معرفتوش حاجة 
-شكرا ياصاحبي...قالها إلياس واغلق مع رنين هاتفه:
-الياس النهاردة محاكمة راجح، ازاي معرفتنيش 
-ميرال ممكن تهدي، مش عايزك تخرجي من البيت سمعتني
صاحت غاضبة ولم تشعر بدموعها 
-"تعرف إن ماما فريدة كانت عنده امبارح، طلبها وراحت مع عمو مصطفى ، ومن وقت ما رجعت وهي قافلة على نفسها، معرفش الراجل دا قالها ايه..بس اللي متأكدة منه أنه هددها بحاجة علشان سمعتها بتقول لعمو مصطفى، لازم يطلع من السجن، انا مش مستعدة اضحي بولادي"

-"اقفلي "..قالها وقام بقيادة السيارة

وقادهُ الغضبُ إلى المحكمةِ كقنبلةٍ موقوتة..بعد دقائق ترجَّل من سيارتهِ والنارُ تشتعلُ في صدره، تكادُ الأرضُ تحترقُ تحت خطواته..لمح راجح ينزلُ من سيارةِ الترحيلات، محاطًا بحشدٍ من الصحفيين، يبتسمُ بثقةٍ زائفة.

ارتدى إلياس نظارتهِ الشمسية، وخطا نحوهِ بخطًا سريعةً غاضبة، لكن راجح سبقهُ بكلماتهِ المتوجِّهة للصحفيين:

– "أيوة، أنا راجح الشافعي، عمِّ الظابط إلياس السيوفي...الِّلي هوَّ في الحقيقة يوسف جمال الشافعي!"

صُعقَ الصحفيون، وتبادلوا النظراتِ المشدوهة، قبل أن يهرعوا لالتقاطِ الصور، كمن وجدوا كنزًا إعلاميًّا.

في تلك اللحظة، وصل إسحاق بسيارته، يرافقهُ أرسلان..أشار إلى أحدِ الضباط:

– "ابعد الصحفيين فورًا عن إلياس، ودخَّل المتَّهم."

تحرَّك راجح نحو القاعة، لكنَّهُ توقَّف أمام إلياس، وحدجهُ بنظرةٍ ناريةٍ وتحدِّي:

– "وأهو بقولها قدَّام الكل..حضرةِ الظابط المزوَّر، حبّ يتخلَّص منِّي هوَّ والِّلي عامل أبوه مصطفى السيوفي، الوقور، علشان يضمن مكانة ابنهِ المزوَّر..زوَّر ولفَّق بلاغات علشان ينتقم لمَّا حاولت أظهر حقيقته.

اندفعَ جاسر وهو يصرخ ُبالعسكري:

– "مين سمحلك توقف؟! يلَّا المتَّهم في مكانه"
ثمَّ اتَّجهَ ناحيةِ إلياس وقد بدأت العدساتُ تتَّجهُ نحوه:
– "حضرةِ المقدَّم، إيه ردَّك على كلام المدعو راجح الشافعي؟"

توقَّف أرسلان في مكانه، مذهولًا من تطوُّرِ الأمور، بينما صعدَ يزن وكريم درجات المحكمة في صمت ثقيل..

دخل الجميعُ قاعةَ المحكمة، وساد السكونُ حين دخلَ القاضي وهيئةِ النيابة..توقَّف راجح في قفصِ الاتهام، متَّكئًا على حافةِ القضبانِ بابتسامةٍ ساخرة.

بدأت الجلسةُ بعرضِ الأدلَّةِ والشهود الذين استعان بهم راجح...حتى وقفت النيابة لتُقدِّمَ مرافعتها.

نهضُ وكيلُ النيابة، المستشارُ راكان البنداري، ثبَّتَ نظارته، وتقدَّمَ بخطواتٍ واثقة...نظر إلى القاضي والجميع، ثمّّ قال بصوتٍ عالٍ، عميق النبرات:

– "سيَّدي القاضي، حضرات المستشارين، السادة الحضور..."

"نحنُ اليوم لا نواجهُ جريمةً فرديةً عابرة، بل نواجهُ منظومةَ فسادٍ متكاملة، متجسِّدةٌ في شخصٍ واحد، هو المتَّهم راجح الشافعي."

"هذا الرجلُ لم يكتفِ بخيانة الدم، بل امتدت يدهِ لتغتالَ شقيقه، وتجعلُ من جسدهِ الطاهرِ جسرًا تعبرُ عليهِ أطماعهِ القذرة..لقد خانَ الأمانة، خانَ الأخوَّة، خانَ الوطن!"

"أدلَّة النيابة العامَّة تؤكِّدُ بما لا يدعُ مجالًا للشك، تورُّطهِ في قتلِ المرحومِ جمال الشافعي، عبر تحريضٍ مباشرٍ وتهديداتٍ موثَّقة، وشهاداتٍ تؤكدُ عزمهِ المسبق على التخلُّصِ من شقيقهِ بعدما أثبتَ شقيقهِ تورُّطهِ مع بعض العناصرِ الإجرامية وتواطئهِ ضدَّ الوطن"

"أمَّا الأعظم، فهو ارتباطهِ بعصاباتٍ دوليةٍ مشبوهة، تعملُ تحت ستارِ التجارة، لكنَّها في حقيقتها خلايا سياسية مموَّلة، تخترقُ الحدودَ وتغذِّي الفوضى، ولقد ثبتَ بالأدلة البنكيَّة والاتصالات تواصلهُ معهم، وتحويلاتٍ ماليةٍ مشبوهةٍ وصلت إليه من الخارج."

"لقد قادَ هذا الرجل شبكةً كاملةً للإتجارِ غيرِ المشروع، بدءًا من الأموالِ المشبوهة، وصولًا إلى التلاعبِ في السلطة، والتستُّرِ خلف نفوذٍ مزيَّف."

"إنَّ هذه المحكمة تقفُ اليوم على مفترقِ عدالة، فإمَّا أن ننتصرَ للحق، وإمَّا أن نغرقَ في مستنقعِ الفساد"

"بناءً على كلِّ ماسبق، تطلبُ النيابة العامة من عدالتكم توقيع أقصى العقوبةِ على المتَّهم، ليكونَ عبرة، وليُطهَّرَ هذا الوطن من دنسِ الخيانة."

"فالعدل...لا يُستأذن، بل يُنتزع، والقصاص...هو لغةُ الذين أُهدرت دمائهم بغيرِ حق!"..
قالها راكان وجلسَ بمكانهِ ينتظرُ حكمَ القاضي، وهو يومئُ برأسهِ إلى إلياس الذي ينظرُ بساعتهِ باستمرار.. 
التفتَ القاضي إلى راجح بعدما صاحَ قبل مرافعةِ محاميهِ الخاص:

-كذب، كلُّه كذب، وأنا هثبت لحضراتكم سيِّدي القاضي إنَّها اتهامات ملفَّقة، لكي يتخلَّصونَ منِّي بعدما ظهرت حقيقتكم الشنعاء.

ساد الصمتُ القاعة...حتى راجح، الذي لطالما تباهى بجرأته، شحبَ وجههِ للحظة، وبدت نظراتهِ كأنَّها تستجدي مخرجًا وهميًّا..

وما إن همَّ القاضي لإسكاته، حتى فُتحَ بابُ القاعةِ على اتِّساعه، ودخلت رانيا الرفاعي تسيرُ بخطًا ثابتة، وإلى جانبها ياسين الألفي..علت الهمهماتُ في القاعة، وتوقَّف القاضي.

رفعَ المحامي الخاص بإلياس صوته:

– "سيِّدي القاضي، تلتمسُ هيئةُ الدفاعِ من عدالتكم سماعَ الشاهدةِ الأهم...السيدة رانيا الرفاعي، أو تقدر تقول سيادتكم المقتولة."

اتَّجهت الأنظارُ إلى راجح، الذي بدت على وجههِ ملامحَ كمن انسكبَ عليه دلوَ ماءٍ مثلَّج..بدأ يلهثُ بهلع، وعيناهُ تتابعُ اقترابها.

توقَّف راكان من مقعده، حاملاً ملفاتٍ ثقيلة، وأشارَ إلى الحاجب:

– "قدِّمَ كلِّ الأدلة فورًا..أوراق وتسجيلات وشهادات خطية..كلَّها تدينُ راجح الشافعي بلا مواربة"
دي حصل عليها المحامي الموكَّل من قبل إلياس الشافعي، وأرسلان الجارحي، واللي بيأكِّد كلام راجح الشافعي إنِّ الاثنين بالتأكيد لم يُنسبوا إلى عائلتهم الحالية، فلقد تمَّ اختطافهم من قبل تلك السيدة. 

رمقَ إسحاق أرسلان بنظرةٍ مملوءةٍ بالغضب، كأنَّ كلَّ شيءٍ خرج عن السيطرة...
-تعالي يارانيا..قالها القاضي مع دفعِ راجح لبابِ القفص: 
-دول خونة سيدي القاضي. 
-اخرس يامتَّهم..نطقَ بها القاضي مع تحرُّكِ رانيا إلى مكانها المخصَّص، مع دخولِ فريدة بجوارِ مصطفى كالطفلِ التائهِ بغيباتِ الجبّ.

تعليقات



×