رواية حين يهمس الحب الفصل الرابع 4 بقلم وسام اسامه

 

رواية حين يهمس الحب الفصل الرابع بقلم وسام اسامه

أقرب مما ينبغي، أبعد مما يجب”
……………
في الصباح التالي، نهضت نورا كمن تُزفّ إلى قدرٍ مجهول. كانت تقف أمام المرآة بثباتٍ لا يُشبه ما في قلبها. ارتدت بذلتها البيضاء، تلك التي حفظت خطوطها جيدًا رغم ما مرّ عليها من أيام
واختارت لها حجابًا ورديًّا بلون الزهر حين يتفتح بعد بردٍ طويل. لم تبالغ في الزينة، فقط لمعة خفيفة على الشفاه، وظلالٌ باهتة تحت العينين، محاولة بائسة لتخبئة الإرهاق المتغلغل في ملامحها.
لم تكن مستعدة… لكنها كانت تمثّل.
وحين بلغت الشركة، كانت خطواتها موزونة، لا تخونها، لكن شيئًا بداخلها كان يهتز، يهتز بعنف، كغصن رقيق في مهبّ ريح صامتة.
وقبل أن تعبر البوابة، باغتتها هالة.
– “نورا؟! إيه ده؟! إنتي جاية ليه؟ في حاجة حصلت؟”
رفعت نورا رأسها، أجابت بثباتٍ مصطنع:
– “كلموني من العلاقات العامة… قالوا لي فيه إنترفيو تاني.”
هالة رمشت بدهشة، نظرت في ساعتها، ثم قالت:
– “طب استني… أنا مش فاهمة، بس ورايا شغل، هكلمك لما أخلص، ماشي؟”
هزّت نورا رأسها بخفة، وابتسمت ابتسامة باهتة، ثم أكملت طريقها بخطى متزنة نحو المصعد.
حين خرجت، وجدت أمامها منار، السكرتيرة القصيرة التي لم تنسَ ملامحها ولا نظارتها السميكة، ولا تلك الجدية التي تحيط بها رغم صغر سنها.
رفعت منار نظرها بسرعة، وبصوتها الهادئ، قالت:
– “أستاذ راشد وصّاني أول ما توصلي أودّيك لمكتب أستاذ زيدان، هو اللي هيعمل معاكي الإنترفيو النهارده.
هزّت نورا رأسها إيجابًا، وهي تُخفي ارتجافة خفيفة في عينيها. كانت تتوقع أن ترى راشد، أن يكون حاضرًا كما وعد، أن يُخفف من وطأة الموقف… لكنّه لم يظهر.
ترددت لوهلة، ثم سألت بصوت خافت:
– “هو… أستاذ راشد مش في مكتبه؟”
نظرت منار في الورق أمامها سريعًا وقالت:
– “موجود، بس مشغول في اجتماع دلوقتي.”
كلمة “مشغول” تسللت إلى صدرها كريحٍ باردة، لا تحمل قسوةً ظاهرة، لكنها تُربك دفء التوقع.
أومأت نورا مجددًا، وتبعت منار في صمت. خطواتها كانت هادئة من الخارج، لكنها من الداخل كانت تُصارع الخوف.
كأنها تمثّل دورًا لم تتقنه بعد. تمثّل الثبات… أمام حياةٍ بدأت تُغير قواعدها دون إذن.
في مكتبٍ تغمره ظلال الضوء المنعكسة من زجاج نوافذه العالية، كان راشد يجلس خلف مكتبه العريض، يتحرك في مقعده ببطء، يلوّح بقلمه بين أصابعه كما لو أنه يتحدى الصمت المحيط به.
عيناه لم تُغادرا سطح المكتب، لكن ملامحه كانت تنطق بأشياء لم تُقال، مزيج من الضيق والحزم والشرود.
وأمامه، وقفت علا، كتفيها مشدودان، ويديها متشابكتان عند صدرها في وضعٍ دفاعي، بينما صوتها يعلو بنبرة غاضبة، محاولًا كسر الجمود:
– “إزاي تاخد قرار زي ده من غير ما ترجعلي يا راشد؟ إزاي تعين حد أنا رفضاه؟!”
رفع راشد عينيه نحوها، ملامحه جامدة، وصوته خرج ساخرًا، منخفضًا، أشبه بصفعة ناعمة:
– “أنا ما عيّنتش يا علا… هي لسه هتعمل إنترفيو مع زيدان. وبعدين، قراراتي مش محتاجة إذن.”
تجمدت ملامحها للحظة، ثم تهدج صوتها بالعصبية:
– “بس أنا الـHR هنا! مسؤولتي أراجع كل حاجة تخص التعيينات… انت بتقصيني ليه؟ عشان تعاندني؟!”
أزاح راشد جسده قليلًا للوراء، كأنّه يمنح المسافة بينه وبينها بُعدًا رمزيًا، وقال ببرود لا يخلو من الحدة:
– “أنا من مُلاك الشركة، ومن حقّي أستخدم سلطتي كاملة. لما حد يطلب رأيك، ساعتها ادّيه.”
كانت كلماته مثل قطرات زيت ساخن على نارٍ مشتعلة.
تنفست علا بعمق، وابتلعت غصّة في حلقها، ثم قالت بصوت أقلّ صخبًا، لكنه مشحون:
– “راشد… بلاش تخلط بين الشغل وبين اللي بينّا. ماينفعش تقرّر كده بس عشان تضايقني لأني اتخطبت.”
كان يمكن لأيّ أذن حساسة أن تلتقط ارتجافة خافتة في صوتها، ذلك الارتجاف الذي لا يصدر إلا عن قلبٍ مجروح لا يزال ينبض بالغضب والأسى.
لكنه قاطعها بحدة هادئة، كمن يُغلق بابًا خلفه:
– “علا، صدقيني… اللي بتقوليه ده آخر همي. البنت دي شُفت فيها حاجة تستحق التجربة.
شعرت عُلا أن الجدار الذي كانت تستند إليه بدأ يتهاوى. نظرت إليه طويلًا، تبحث عن ذلك الوميض القديم في عينيه، لكنها لم تجد سوى انعكاس لوجهها المتوتر.
– “أوكي يا راشد… زي ما تحب. بس أنا مش مسؤولة عن أي غلطة هي تقع فيها. وهبلّغ أستاذ رضوان رسميًّا إنّي مش طرف في القرار ده.”
لم يجبها، بل أشار لها نحو الباب بإيماءة باردة، وقال بنبرة حاسمة:
– “تمام. اكتبي المذكرة، وقدّميها. ويا ريت يا علا، ما تراجعينيش تاني في قراراتي. الشغل حاجة، و… اللي بينا حاجة تانية خالص، لو كان لسه فيه حاجة.”
خرجت عُلا من المكتب، لكن في قلبها فوضى. مشاعر متداخلة من الإهانة والغيرة والخذلان. لم تكن متأكدة إن كانت غاضبة من راشد… أم من نفسها. أما هو، فبقي جالسًا في صمته، يحدّق في الباب المغلق، كأنّه يحاور الفراغ.
أسند ظهره للكرسي ببطء، ثم أغمض عينيه، وترك لعقله حرية الهروب.
علا…
ذلك الاسم الذي كان لصيقًا بقلبه منذ الطفولة، منذ أن كانت تلك الطفلة التي تلعب معه في الممرات الضيقة، وتتشاجر معه على دراجة صغيرة تقاسماها رغما عنهما، وتقاسما بعدها كل شيء… الذكريات، الأسرار، حتى الحزن.
كبرت جواره، ومرت السنوات، فانتقلت عائلته إلى عالمٍ آخر، عالم من المال والنفوذ، لكن علا بقيت كما هي، بنت الدكتور المعروف، ببساطتها المعهودة، وروحها التي تقتحم الأمكنة دون استئذان.
كانت جزءًا من حياته… لا، بل كانت الحياة ذاتها.
ظنّ أن ما بينهما سيتحوّل يومًا إلى حبٍ معلن. كان يراها كل يوم، يعرف ضحكتها من بين آلاف الأصوات، يشعر باهتزاز قلبه حين تمر بجانبه، لكنّها لم تره كما يراها…
أو ربما رأت، وتجاهلت، كمن اعتاد وجود لوحة معلقة على الحائط، لا تلفت النظر رغم جمالها لأنّها مألوفة حد النسيان.
ولكن منذ أشهر، بدأ يُبصر التغير يتسلل إليها كنسمة خفيفة لا تُرى، لكنها تُشعر…
هروبها الصامت، تجاهلها الحذر، انشغالها الدائم بشيءٍ لا يُفصح عن نفسه،
كلها كانت إشارات تُنذر بما هو قادم، لكنه تجاهلها، أو لعلّه كان يخشى تصديقها.
وحين اضطر للبحث عن الحقيقة بنفسه،
انكشفت أمامه الصدمة الكبرى …وجود رجلٌ آخر.
غضب حينها، اشتعل قلبه وانطفأ في اللحظة ذاتها.
جُرحت كرامته كرجل، وانكسر داخله كحبيب.
شعر كأن قدمه زلّت إلى هوةٍ عميقة من الغضب والخذلان، فسقط فيها بلا مقاومة.
ورغم كل شيء، لم يواجهها.
كان المضحك – المؤلم – أنه خشي على مشاعرها. خشي أن يضعها في موضع الحرج، خشي أن يفضح علمه بما أخفته عنه،
خشي أن يخسرها تمامًا إن قرر المواجهة.
فألقى لها بالخيط الأخير.
عرض عليها الزواج من جديد، هذه المرة بجدّية صافية لا تعرف التلميح، تلعثمت للحظة، لكنه لمح القرار في عينيها قبل أن تنطق.
ابتسمت ابتسامة ناعمة، لكنها كانت كسكين تُسحب ببطء، وقالت:
“راشد، أنا آسفة…
أنا مش حاسة بحاجة ناحيتك.
يمكن كنت مفكرة إن ده حب، بس هو مش حب.
دي صداقة، قوية جدًا، بس مش أكتر.
بقالي شهور عايزة أقولك، بس مكنتش لاقية الوقت المناسب.”
كلماتها لم تكن مجرد اعتذار…
كانت طعنة مغلّفة بالحرير.
لم تجرحه فحسب، بل أعادت تشكيله من جديد.
هدمت يقينه، وعبثت بثوابته.
ومع ذلك، ابتسم.
الابتسامة ذاتها التي كان يحتفظ بها لكل لحظة خيبة، الابتسامة التي تخفي خلفها جمرًا لا يُطفأ.
بارك لها، كما يفعل الكبار، دون أن يضيف شيئًا.
ومنذ تلك اللحظة… انكسر شيء ما بينهما، ولم يُصلح.
راشد وعلا…
الاسمان اللذان ارتبطا ببعضهما منذ الطفولة،
منذ أن كانا جارين تقف طفولتهما عند السور ذاته، ويتشاركان الأحلام ذاتها.
راح كلّ شيء أدراج الريح.
وفجأة، بات هناك اسم جديد يملأ المساحة التي كانت لها وحدها “محمد” حبّها الحقيقي كما قالت.
خطيبها الآن.
رجلٌ لم يرَ فيه راشد شيئًا يُذكر،
سوى أنه الدليل القاطع على أن قلب علا… لم يكن له يومًا.
لكن… ما كانت تلك إلا القشّة.
هو لم يغضب منها لأنها أحبّت رجلًا آخر…
بل لأنه اكتشف فجأة أنه لم يكن سوى “شيء” في حياتها.
كُتيّب جميل تضعه على رف الذاكرة ولا تجرؤ على استخدامه. حقيبة ثمينة لا تُستعمل كي لا تُهلك. لوحة معلّقة… تزيّن جدارها، ولا تُعاش.
الآن… جاء الوقت ليغيّر مكانه في روايتها.
لن يكون بعد الآن شيئًا مسلمًا به.
سيخرج من إطارها، سيكسر الزجاج، ويخبرها أن الحب لا يُهان، ولا يُختزن في أدراج الصداقات الآمنة.
فتح عينيه ببطء، وحدّق في السقف كأنه يرى السماء من وراء الجدران.
“كان لازم تتعلم.”
قالها في سره، لا بحقد، بل بشيءٍ من الثقل، بثأرٍ هادئ وبارد.
ولم تكن هناك طريقة أعنف من أن يضع نورا في طريقها.
نورا… التي لم تكن كعلا، ولا حاولت أن تكون.
فيها شيءٌ لا يُفسَّر، شيء قادر على أن يلقن علا درسًا لن تنساه…. يتمنى ذلك.
***
قبل ثلاث سنوات
كان اليوم صباحًا هادئًا في المكتب، حيث كان ضوء الشمس يتسلل عبر نوافذ الشركة، ليصطدم بجدرانها الزجاجية ويلقي بظلاله الناعمة على الأرض. وفي هذا الصباح،
كان رضوان يقف جوار راجح، بن عمه ومساعد والده الشخصي في عمله، ولكن بعد تقاعد الوالد، أصبح ولاء راجح لرئيسه الجديد
كان رضوان قد استلم أخيرًا الفرع الجديد للشركة بعد قرار والده بالتقاعد وترك أغلب العمل على عاتقه، ومنهم شركة تصميم الازياء والمقربة لقلب والده.
كان أول لقاء له مع الموظفين، وها هو يحاول أن يضع قدميه على أولى خطواته في هذا المكان ليسير به في طريق جديد يناسب التطور والعصر، فوالده رجل الذي كان عظيمًا في مجاله، ولكنه لا يتبع الطرق الحديثة، ويظل متشبثًا بالطرق التقليدية.
لذا كان عليه أن يبتدأ يومه الأول في الشركة ويوضح اسلوب عمله، وينبه العاملين أن وجودهم الان مرتبط بجودة العمل على طريقته الخاصة
وبالفعل ابتدى الشباب موافقة متحمسة، وأما القُدامى الكارهين لتغيير الروتين بدا التذمر واضح عليهم.
وسط الزحام، كان يجلس متأملًا في التفاصيل الصغيرة حوله، ولكنه كان يشعر بشيء من الغربة. لم يكن يعرف بعد الكثير عن هذا الفريق الذي سيقوده، ولكنه كان يراقبهم بعينين يقظتين.
وبينما كانت الجلبة تعم القاعة بعد انتهاء الاجتماع، جذب انتباهه وجود فتاة لمحها لأول مرة بوضوح أثناء الاجتماع.
حقق النظر فيها دون أن يُبدي ردة فعل واضحة
يشعر أنه رأى هذا الوجه في مكان ما قبلا
ورغم أن نظراته لها طالت، إلا انها لم تلحظ وسط زحام العاملين
كانت تلك المتدربة التي تعمل بين الموظفين، واقفة عند طرف القاعة، مستندة إلى أحد الأعمدة، كانت ضحكتها خفيفة مثل نغمة موسيقية تهدئ الأعصاب.
جعد جبينه وهو يرتكز بمرفقه على الطاولة
يتأملها مليًا وقد بدى وجهها مقبول، يحمل من البشاشة والرقة ما يجذب الأنظار لها
غمازتها كانت تظهر بوضوح حين تبتسم، وكل حركة منها كانت تنبض بحياة لا يمكن تجاهلها. كانت في مقتبل العمر، ربما لم تتجاوز الخامسة والعشرين، وكان حضورها يملأ المكان بهالة من الجمال الطبيعي.
كانت ليست بالرفيعة ولا الرشيقة، بل كانت مليئة بالجاذبية التي لا تعرفها إلا النساء اللواتي يمتلكن توازنًا طبيعيًا في أجسادهن. بشرتها البيضاء الناعمة، وعيناها اللامعتان، لا تخطف الأنفاس ولكنها جذابة، وتبقي كل من حولها في دائرة تأثيرها.
حينها أشار لراجح يقترب منه لينخفض له الأخر يسمع سؤاله المصحوب بنظرة جانبية للفتاة…
-مين الي هناك دي !
نظر راجح للمنشودة قبل أن يغمغم بإيجاب مختصر…
-سلسبيل، متدربة ضمن ٧ انضموا للشركة من شهر
في قسم تنفيذ العينات
وفي حين حديثهما عنها، كانت سلسبيل قد لاحظت نظراته المتمعنة، لكن لم يكن هناك شيء واضح يفسر هذا الاهتمام المفاجئ. كان يشعرها وكأن نظراته تلتصق بها مثل مغناطيس خفي، ومع ذلك، لم تستطع تحديد السبب وراء ذلك الفضول الغريب الذي شعرته في عينيه.
استجمعت أنفاسها، وأجابته بابتسامة واسعة، صافية، كما لو كانت مجرد رد فعل تلقائي. كانت ابتسامتها هادئة، وكأنها تحمل في طياتها شيء من التساؤل، لكنها لم تكن تحاول إظهار أي شيء أكثر من ذلك.
ثم عادت نظرها إلى مكان آخر، وكأن ابتسامتها كانت مجرد مجاملة لا أكثر، لكن ما بين هذه اللحظات، كان شيء غير مرئي يربط بينهما، شيء لم تُفصح عنه بعد.
رد رضوان بابتسامة مقتضبة، ليبقى في حال من الترقب، انتهى بعد دقائق حينما انتهى الاجتماع وتزاحمت عليه أعماله، فغفل عن وجودها كأنها نسمة خفيفة اختفت.
وكان الوضع مشابه بالنسبة لسلسبيل التي انشغلت في المهمات التي كانت كاختبار لها بالنسبة لكونها متدربة، فكان لقاء نظراتهما لقاء عابر، معرض للنسيان والغفلة.
بعد تلك اللحظة العابرة، انشغل رضوان في دوامة جدول أعماله المزدحم، غارقًا في الاجتماعات، وملاحقة الملفات، واتخاذ القرارات التي تتطلب منه أن يكون حاضر الذهن بكامله.
مرت الأيام تتابع كأمواج لا تهدأ، ولم تجمعه الصدفة بسلسبيل مرة أخرى، كأن الحياة قد ابتلعت تلك اللحظة في زحامها المتسارع.
لم يفكر بها كثيرًا، أو هكذا خُيّل إليه، إلا أن ملامحها الجذابة، وغمازتها الوديعة، بقيت كامنة في ركن قصي من ذاكرته، لا تُطالب بحضور، لكنها تأبى النسيان.
كانت ذكرى خفيفة، كنسمة عبرت سريعًا، ولكنها، بطريقة ما، تركت أثرها في قلبه دون أن يدري.
لم تشأ الأقدار أن تجمع بينهما مجددًا، حتى شاءت المصادفة أن تخترق جدوله المزدحم ذات ظهيرة قائظة.
كان رضوان واقفًا أمام شرفته الزجاجية الواسعة، يتحدث عبر هاتفه، بينما عيناه تتجولان على مهل فوق شوارع المدينة التي بدت ملتهبة تحت وطأة الشمس.
صوته كان رتيبًا، ممزوجًا بشيء من الإرهاق، بينما الحديث مع أحد شركائه في العمل كان قد طال أكثر مما يجب.
وبينما كان يتابع السيارات العابرة والمارة الذين يتحركون كظلال متثاقلة على الرصيف، لفت نظره مشهد لم يكن ليمر أمامه دون أن يثير انتباهه:
فتاة صغيرة القامة، تحمل بين يديها حقائب كثيرة، تسير مسرعة تعبر الطريق المقابل لمبنى الشركة، وهاتفها محشور بين رأسها وكتفها، تتحدث بانفعال واضح، في محاولة مضنية لتسيير كل هذه الفوضى في آنٍ واحد.
شدّ بصره إليها، ودقق النظر مليًا، ومرت لحظة، ثم اثنتان، وثلاث، قبل أن يعتدل في وقفته فجأة، وكأنه تذكّر شيئًا ثمينًا فُقد منه، أو ضاع في زحمة الأيام.
كانت هي…
الفتاة التي أسرت انتباهه أول مرة خلال اجتماع التعارف قبل أسابيع.
قطب حاجبيه قليلًا، يحاول أن يسترجع اسمها الذي التقطه آنذاك من حديثه العابر مع راجح…
“سلسبيل.”
الاسم انساب إلى ذهنه كما ينساب النسيم عبر نافذة مغلقة منذ زمن.
ها هي أمامه الآن، ولكنها لم تكن تلك الفتاة الوقورة الهادئة التي رآها أول مرة، بل نسخة أخرى، أكثر بشرية، وأكثر فوضوية، بين أكوام الأغراض الثقيلة التي بالكاد تحملها، وكلماتها السريعة عبر الهاتف، والشمس اللاهبة التي كانت تصهر الأرصفة من تحت قدميها.
تأملها بصمت، في تلك اللحظة العابرة التي تخلق في القلب شيئًا لا اسم له: مزيجًا من الفضول، وربما الاهتمام.
راقبها وهي تتعثر قليلًا فوق الرصيف، تحاول جاهدة ألا تسقط الأكياس من يديها، بينما ترفع صوتها عبر الهاتف في محاولة يائسة لتُسمِع محدثها وسط الضجيج، والعرق يلمع فوق جبينها.
ابتسم رضوان بخفوت لا إرادي، كأنما انعكست على وجهه رعونة الموقف وطرافته.
ورغم أنه كان لا يزال غارقًا في مكالمته الرسمية، إلا أن عينيه لم تغادرا المشهد، متابعتين تلك الفوضى الصغيرة التي تحمل اسم “سلسبيل”.
ثم، كما جاء المشهد فجأة، اختفى…
عبرت الطريق، ابتلعتها الزحمة، وعاد كل شيء كما كان، شوارع مزدحمة، وأحاديث رسمية، وجدران زجاجية صامتة.
ولكن، كانت هذه المصادفة أهون الصدف جميعها مقارنةً بما تلاها؛ إذ باتت تظهر أمامه تارةً عند مدخل الشركة، وتارةً أخرى في الرواق الطويل، وأحيانًا في غرفة الاجتماعات، وكأن حضورها صار مألوفًا لعينيه دون أن يقصد.
كانت الفتاة أشبه بكتلة من النشاط المتقد، لا تستقر في مقعدها أكثر من ساعة، تتنقل بين الأقسام بشغف ظاهر، وروح متعطشة للتعلّم في عالم التصميم.
وما لبث أن علم، عبر مديري الأقسام، أن اسمها ذُكر مرارًا في تقاريرهم، لما تبديه من حماسة غير معتادة لمتدربة في مقتبل مسيرتها.
ومع ذلك، لم يعد يرضى فقط بابتسامات المجاملة التي كانت تهديه إياها كلما التقت عيونهما مصادفةً.
كان يبتغي ما هو أكثر من ذلك؛ أراد أن يراهم جميعًا عن قرب، أن يكسر الجليد بينهم، أن يُحسن اختيار العناصر التي سيبني بهم مستقبله المهني الجديد.
فما كان منه إلا أن استدعى راجح، وبنبرة هادئة وحاسمة قال:
ــ “بلغ الأقسام كلها، إن الأسبوع ده، هيبقى في عشا معايا كل يوم قسم لوحده… عشان أتعرف عليهم بشكل أقرب.”
وانتشر قراره كالنار في الهشيم بين العاملين، عمّت أجواء الترقب أروقة الشركة، واختلطت مشاعر الحماس بالحذر بين الأقسام العشرة.
حلّ اليوم الأول لقسم التصميم وسط نظرات مترقبة، وشيء من الغبطة التي لا تخفى.
وفي اليوم التالي، انتشرت الأصداء والآراء كالعطر في الهواء، تتحدث عن كرم السيد رضوان وبذخه، إذ اصطحبهم إلى واحد من أفخم مطاعم المدينة، وجلس بينهم كأحدهم، يناقش شؤون عملهم، ويستمع إلى آرائهم بتواضع العارف الذي لا يغتر.
سرعان ما باتت تلك الليالي بمثابة وقودٍ متوهجٍ لحماس باقي الموظفين، فازداد الترقب والانتظار في بقية الأقسام، وجعلوا يُمنّون أنفسهم بلقاءٍ مماثل.
ومع كل عشاءٍ جديد، كانت شعبيته تزداد وتترسخ أكثر؛ ذلك الرجل الهادئ الباذخ في كرمه قد أسر القلوب قبل العقول.
توالت اللقاءات حتى اجتمع بتسعة أقسام كاملة.
ولم يبقَ إلا قسمٌ واحد… قسم تنفيذ العينات.
وجاء المساء الذي كان ينتظره دون أن يدرك كم كان يترقبه… ولأجله عقد كل تلك الاجتماعات.
مساء قسم تنفيذ العينات.
أعدّ العشاء بعناية، وكأن اللاوعي قاده للاهتمام بتفاصيل تلك الليلة أكثر مما سبق.
وقف أمام مرآته يُصلح من هندامه الرسمي بلا مبالغة، ثم مضى إلى المطعم الذي اختاره لهم بعناية؛ مكان مريح، فخم دون صخب، يوحي بالاحتفاء الهادئ.
وصل الموظفون تباعًا، وكان هو هناك بالفعل، بابتسامته الوقورة التي توحي بالترحيب دون تكلف.
جلس الجميع إلى الطاولة الطويلة، وأخذ الحوار ينثال بسلاسة بين مناقشات العمل والأحاديث الجانبية المتفرقة.
وكانت هي هناك.
سلسبيل.
جلست في الجانب المقابل، غير بعيدة كثيرًا عنه، مرتديةً فستانًا بسيطًا يعكس ذوقها الهادئ، تلمع عيناها كلما ضحكت بخفّة مع زملائها.
لم تكن هي أول من تحدث، لكنها حين فعلت، شدّته عفويتها؛ مزيج من الاحترام والجرأة المتزنة، وحماسٍ فطري لا تلوثه المبالغات.
راقبها من طرف عينيه، بينما يتظاهر بالإنصات لمحدثيه.
كانت تحكي عن إحدى الصعوبات التي واجهتها أثناء تنفيذ تصميم معقد، تسرد تفاصيل عملها بشغف لا يخلو من خفة الظل.
وعلى غير عادته، شاركها الحديث.
بادرها بسؤال بدا عابرًا للآخرين، لكنه بالنسبة له كان اختبارًا خفيًا لصوتها، لطريقتها، لما تخبئه تلك البسمة التي لا تفارق ملامحها.
“واضح إنك بتحبي شغلك أوي… إيه أكتر حاجة بتستهويكي في التنفيذ؟”
رفعت عينيها نحوه، وعلى شفتيها ابتسامة صافية، لكنها ليست مبتذلة.
أجابت بحماس ممزوج بنبرة جدية:
ــ “بحب أشوف الافكار والخواطر بتتحول لحقيقة… بحب أشوف الرسم بيتحول لقماش.
مال برأسه قليلًا، كأنه يزن كلماتها، ثم اكتفى بإيماءة راضية.
لم يطُل الحديث بينهما، فقد توزعت كلماتهما وسط ضحكات الزملاء وأسئلتهم التي ملأت الأمسية.
لكنه كان قد عرف شيئًا واحدًا:
هذه الفتاة تحمل في داخلها ما يتجاوز تلك الغمازات المشرقة والبشرة الناعمة.
تحمل شغفًا، روحًا، شيئًا ربما يستحق أن يُنتبه له أكثر مما توقع، شيء يفتقده وسط روتين البارد.
وفي نهاية الأمسية اقترح أحد الموظفين مرحًا أن يلتقط صورة جماعية كي يوثق اجتماعهم، وجائت الموافقة المتواضعة من رضوان.
وبينما تفرقوا ليلًا، كلٌ عائدٌ إلى حياته المعتادة، مضى هو إلى سيارته، وعيناه ما تزال تحملان بقايا صورة لابتسامتها العابرة، تتهادى في عقله كضوءٍ بعيد، يُغريه ليقترب… وقرر يُلبي نداهُ.
العودة للوقت الحاضر
كان لا يزال قابضًا على هاتفه، يحدق في تلك الصورة البعيدة…
لم تكن المسافة التي تفصل بينه وبينها تُقاس بالسنوات وحدها، بل كانت تبتعد عنه بمسافة التغيرات التي عصفت بكليهما.
حتى سلسبيل، لم تعد تلك الفتاة الرقيقة، المبتسمة بعفوية، التي خطف حضورها انتباهه ذات يوم.
مرّت ثلاث سنوات ثقيلة، تغير خلالها كل شيء.
رغم أن العشاء الأول الذي جمع بينهما قد قرّب المسافات كثيرًا، إلا أن هذا القرب لم يدم طويلًا…
حياته الصاخبة، العواصف التي لا تهدأ، الفجوات العميقة بين عالميهما…
جميعها كانت حواجز حالت دون أن تستمر تلك الألفة الوليدة.
أغلق الهاتف ببطء، وأسند رأسه إلى الوسادة، وهو يسترجع ما حدث قبل ساعات.
كانت الأخبار قد تسربت إليه سرًّا، أخبارًا عن اقتراب خطبة سلسبيل.
خبرٌ لم يُعلن، لكنه اخترق جدران السرية ليصل إليه، في وقتٍ لم يكن فيه مستعدًا لسماع اسمها مقترنًا بغيره، حينها ثار، جن جنونه.
وحينما حدق بالشاشة أمامه، حيث ترصد كاميرات المراقبة قسم تنفيذ العينات
فرآها…
هادئة، باسمة، تمارس عملها وكأن لا شيء في الدنيا يعنيها.
أما هو، فقد اشتعلت النيران في صدره، تحرقه غيظًا وغيرةً وعجزًا.
أمسك بسماعة الهاتف بحدة، وأصدر أمرًا مختصرًا:
“هاتولي سلسبيل على مكتبي حالًا.”
ولم تمر دقائق حتى كانت سلسبيل واقفة في منتصف المكتب، بملامح هادئة جامدة، تخلو من الدفء أو المجاملة.
كان صمتها البارد يستفزه، ذلك الصمت الذي يجعلها أشبه بلوحة حجرية… لوحة كان يتمنى لو يكسرها ليعيد إليها الحياة.
تحدثت بنبرة محايدة، خالية من أي نبرة ود:
-“حضرتك طلبتني، يا فندم؟”
كان يدرك أنها تعمدت استفزازه، وكان يعلم يقينًا أنها تدرك حجم الغضب الذي يشتعل داخله.
لكنه كبح ثورته، وقرر أن يرد بنفس السلاح: البرود.
راح يتأملها مليًا…
لقد فقدت بعضًا من وزنها، وشحب وجهها قليلًا…
ومع ذلك، ظلت جميلة بطريقة موجعة.
قال أخيرًا بنبرة محايدة تخفي وراءها العاصفة:
-سمعت انك هتتخطبي.
رفعت حاجبًا ساخرًا، ثم ضمّت ذراعيها إلى صدرها، وقالت بهدوءٍ يحمل سخرية لاذعة:
-مش شايفة إن حياتي الشخصية تهمك للدرجة دي إنك تطلبني مخصوص تسألني…
بس ماشي، أيوه، هتخطب، لو دا يرضي فضولك
يا لجرأتها!
ما اعتاد منها لسانًا لاذعًا كهذا.
كانت يومًا رقراقة كالندى…
حتى جاء هو وأطفأ نورها بيده.
رمقها بنظرة ثقيلة، قبل أن يسأل بمرارة:
-وانتي بقى اللي مختارة؟ ولا أبوكي اللي مختارلك زي زمان؟
في سؤاله إهانة واضحة، لكنها لم ترف لها جفن.
بل ابتسمت ببساطة، وأجابت بصوت صافٍ:
-لأ، أنا اللي مختارة… وبحبه كمان.
رأته يتلوّى صامتًا تحت وطأة كلماتها، وكأنها سددت له طعنة هادئة.
تابعت بذات الابتسامة الهادئة التي تقطر جليدًا:
-وبعدين… انت أكتر حد عارف إني ما بعملش حاجة غير لما أكون مقتنعة بيها… وبحبها.
ساد الصمت بينهما لحظة ثقيلة، كانت نظراته تطوقها، تحاصرها بلا هوادة.
حاولت أن تثبت أمامه، أن تتمسك بذلك البرود الوهمي الذي أحاطت به قلبها، ولكن حضور رضوان كان أكبر من أن يُتجاهل، أعمق من أن يُقاوم.
مدّ خطوة نحوها، خطوة واحدة فقط، لكنها كانت كفيلة بإرباك اتزانها الداخلي.
رأت في عينيه شيئًا لم تفهمه… شيئًا يمزج بين الحزن والتحدي والغضب والأمل، كل ذلك دون أن ينطق بحرف.
همس بصوت عميق، دافئ، اخترق قلبها قبل أذنيها:
“سلسبيل… لو فاكرة إنك تقدري تسيبيني، يبقى أنتي مش عارفاني كويس.”
شهقت أنفاسها الخفيفة دون وعي، وجاهدت أن لا تُظهر له تأثير كلماته، لكنها كانت تتآكل من الداخل.
ثم…
تراجعت سلسبيل خطوة إلى الخلف، كأن الأرض اهتزت تحت قدميها.
كانت تعرف أن الاقتراب منه يعني الغرق بلا نجاة، ومع ذلك… قلبها خانها، وخطفتها مشاعرها نحو المجهول.
تقدم رضوان نحوها بخطى واثقة، بعينين ثابتتين لا تعرف التراجع، وابتسامة هادئة تحمل وعدًا لا يحتاج إلى كلمات.
وقف أمامها، على مسافة تنفاسها، لينحني قليلًا حتى تلامس كلماته شغاف قلبها مباشرة، وهمس بصوت دافئ كنسمة ليل:
“اهربي براحتك، قرري إنك تتخطبي، رتبي لجوازك كمان… بس في الآخر، هتلاقي نفسك معايا أنا، سلسبيل لرضوان.”
ارتجفت أنفاسها تحت وطأة كلماته، وانسحبت منها كل مقاومة كانت تتشبث بها.
في عينيه، لم ترَ تهديدًا ولا قيدًا، بل أمانًا مُرعبًا… أمان يجعل الهروب مستحيلًا.
وسقطت كل أسوارها دفعة واحدة.
وفي عقلها، لم يكن هناك سوى سؤال واحد ينبض بشدة:
كيف له أن يتحدث بكل هذه الثقة؟
من أين أتى باليقين أنها ستكون له في النهاية؟
تلاشى الصمت الثقيل بصوت أنفاسها المتسارعة، تراجعت قليلاً، نظراتها تشتعل بالغضب المكبوت، كأنها تحاول أن تحفر حدودها بينهما بقوة عينيها وحدها.
نظرت إليه نظرة حادة، حملت في طياتها كل الغضب، كل الخوف، وكل الكبرياء المجروح، ثم همست بصوت منخفض لكنه ممتلئ بذرات من الحدة والتحذير:
-تحبي اقولك الي انت بتعمله دلوقتي اسمه ايه !
اسمه تحرش، ولو فاكر اني هسمحلك تتجاوز حدودك معايا تبقا غلطان، سلسبيل العبيطة مبقتش موجودة.
كانت كلماتها كسكين مسنون، انغرست في المسافة الضيقة بينهما، تحمل رسائل لا تقبل التأويل.
ورغم ارتجاف يديها الخفيف، إلا أنها وقفت أمامه بشجاعة مكسوة بجرح غائر
لم يبتسم رضوان، لم يسخر، فقط ظل يحدق فيها بعمق، وكأن كل كلمة قالتها لم تزد في قلبه إلا يقينًا… أن هذه المرأة، بكل مقاوماتها وانكساراتها، قد أصبحت جزء من هوسه.
وعلى عكس ما توقعت، لم يرد بسخرية، لم يهاجمها، بل انسحب للخلف بخطوة هادئة، وعيناه لا تزالان مشتبكتين بعينيها، يقرآنها دون أن يتكلم.
كانت سلسبيل تشعر أن قلبها يكاد يخرج من بين ضلوعها، ولكنها ثبتت نظرتها عليه، ثابتة رغم العاصفة التي تجتاحها.
قال لها أخيرًا، بصوت خفيض هادئ للغاية:
-تحرش !! انتي شايفة كدا ؟!
ظلت سلسبيل واقفة في مكانها، نظراتها ثابتة لا تهرب، لكنها هذه المرة تحمل شيئًا مختلفًا… قرارًا واضحًا لا رجعة فيه.
قالت بنبرة هادئة لكنها حاسمة، تخلو من أي تردد:
-أنا شايفة إن الوضع بينا بقى مينفعش، وعارفة إن استمراري هنا بقى غلط.
تنفست بعمق، وواصلت، بنفس الثبات:
-عشان كده… أنا قررت أقدم استقالتي.
تحركت نظرتها بين عينيه للحظة خاطفة، كأنها تتأكد أنها توصل الرسالة كاملة، ثم أضافت بصوت أقل حدة، لكنه أكثر وضوحًا:
-يمكن القرار ده يمحي حلمي اللي بنيته هنا… بس على الأقل هحافظ على نفسي.
لم تنتظر رده، ولم تتوقع منه شيئًا.
استدارت بخطوات هادئة ومدروسة نحو الباب، كأنها تحمي كرامتها بكل ذرة من كيانها.
أما رضوان، فظل واقفًا مكانه، ملامحه جامدة لا تفصح عن شيء.
لم يمنعها، ولم ينادِ عليها، فقط راقبها بصمت ثقيل، كأن كل كلمة قالتها ترسم خطًا جديدًا من المسافة بينه وبينها.
عاد من شروده وأغلق عينيه لوهلة، يحاول طرد شبحها من أمامه، لكن عبثًا.
انتبه من شروده على خفقات قلبه المضطربة وصدى كلماتها التي ظلت تدور في رأسه.
مرة أخرى، وجد نفسه وحيدًا في غرفته الهادئة، ينازع النوم الذي اعتاد أن يجافيه منذ زمن بعيد.
لم تكن الليالي ملكه قط…
كانت دائمًا لطيف سلسبيل، تتسلل إليه دون استئذان، تسرق راحته، وتحفر اسمها فوق جدران ذاكرته.
أما النهار، فكان له شأن آخر؛
ساحات مشغولة بالعمل، معارك يشنها ضد انشغاله بها، وضد محاولاتها المستميتة لإبعاده عن حياتها.
ابتسم بسخرية مريرة، وهو يرمق سقف غرفته بنظرة خاوية، كأنما يعترف لنفسه أخيرًا:
بينه وبينها، لا هدنة ولا نهاية قريبة…
هي حربه الأطول والأعذب.
***

تعليقات