رواية ابتليت بها الفصل الرابع 4 بقلم قطر الندي

 

رواية ابتليت بها الفصل الرابع بقلم قطر الندي 


عن بيج قطر الندئ
التفت فؤاد إلى حنين وأشار نحو الرواق قائلاً بصوت هادئ: "تفضلي معي إلى المكتب." 
سارت خلفه بخطوات ثابتة، بينما كانت عيناها تراقبان الصغيرة للحظة، قبل أن تختفي عن أنظارها. دخلت المكتب، فوجدته غرفة رحبة يغمرها ضوء الشمس، جدرانها مكسوة برفوف الكتب والملفات. جلس خلف مكتبه الخشبي الكبير، وأشار لها بالجلوس قبالته.ساد صمت قصير، كأن كلًّا منهما يحاول أن يتلمس ملامح الآخر من جديد.قال أخيرًا، بنبرة رسمية جادة:
"حنين، وجودك هنا لا يعني أنكِ مجرد مساعدة إدارية فحسب. ستكونين يدي اليمنى في إدارة ملفات دقيقة، وأعتمد عليكِ في إنجاز مهام لا تحتمل الخطأ."
أومأت برأسها بإصرار وقالت بثبات:
"أدرك تمامًا حجم المسؤولية، وأنا مستعدة لأن أكون على قدر الثقة."

فتح أحد الأدراج وأخرج ملفًا رفيعًا، ووضعه أمامها قائلاً:
"هذا أول ملف ستعملين عليه. اقرئيه بهدوء، دوني ملاحظاتك الأولية، وسنناقشها معًا مساءً.
مدّت يدها برصانة وتناولت الملف، أطراف أصابعها بالكاد تلامس الغلاف، وكأنها تدرك ثقل ما تحمله بين يديها. فتحت الصفحات الأولى بعناية، وعيناها تركزان بتمعن، بينما ظل هو يراقبها بصمت، ملامحه محايدة، لا تكشف شيئًا مما يدور في ذهنه.
بعد لحظة، أغلق الدرج بهدوء، ثم وقف متجهًا نحو النافذة الواسعة خلف مكتبه.
نظر إلى الحديقة التي تكسوها خضرة ناعمة، وصوته جاء منخفضًا كأنما يخاطب نفسه أكثر مما يخاطبها:
 هذا المكان.... القصر،الشركة، كل ما تري من حولك ليس مجرد ترف أو ارث عائلي... إنه ساحة صراع مستمر. من يخطيء يقصى و من يتردد يسحق.

استدارت حنين نحوه قليلاً، محاولة أن تخفي دهشتها من حدة كلماته لكنها لم تتكلم، بل شدّت ظهرها وأخذت نفسًا عميقًا، تُريه صلابتها. التفت إليها أخيرًا، وعاد إلى مكتبه، مستندًا بذراعيه على سطحه الخشبي، نظراته مثبتة على عينيها ثم قال: مهامك ستتجاوز حدود المألوف أحيانًا. قد أطلب منك مراجعة مستندات حساسة… أو إيصال معلومات لا يجب أن تمر عبر قنوات رسمية.
أعتمد على حكمك، وعلى صمتك.

أومأت برأسها، وعيناها تنطقان بتحدٍ هادئ: أفهم تماما سيد فؤاد.
لبرهة قصيرة، خيّل إليها أن ملامحه خفّت قسوتها قليلًا — لمحة إعجاب بكفاءتها أو ربما مجرد تقدير أولى لكنه سرعان ما استعاد حذره، وأشار بيده إلى الباب: مكنك الانصراف الآن. راجعي الملف وعودي الي مساءً. سيكون اجتماعنا المقبل في الجناح الشرقي. 
نهضت برشاقة، حملت الملف بين ذراعيها، وألقت عليه نظرة أخيرة قبل أن تستدير للخروج.
خلف الباب المغلق، وقف هو لحظة طويلة، أصابعه تعبث بحافة المكتب دون وعي. ورغم كل وضوح المهمة…كان في أعماقه يعلم أن دخول حنين إلى عالمهم سيفتح أبوابًا لم يتوقعها أحد.

💥💥💥

مطار إسطنبول الدولي، في الصباح الباكر وقف مراد، بهيئته الأنيقة المعتادة، بجانب الطائرة الخاصة التي تنتظره على المدرج. بدلته الرمادية الداكنة مصممة بعناية إيطالية، ساعته الجلدية اللامعة تظهر عنصراً من الرفاهية المقنّعة بالصرامة. وراءه، كان الحارس الشخصي المخلص ينهي آخر الترتيبات مع الطاقم، بينما أحد مساعديه سلّمه ملفًا جلديًا صغيرًا يحتوي على جدول اجتماعات. أخذه وألقى نظرة أخيرة على شاشة هاتفه، حيث وصلته رسالة مشفرة قصيرة:"الاجتماع مع الحلفاء في روما حُدد رسميًا. الحضور من الصف الأول."

ابتسم ببرود ثم توجه بخطوات رشيقة نحو سلم الطائرة.
بعد ساعات، فوق أفق روما. هبطت الطائرة على مدرج خاص في مطار "ليوناردو دا فينشي". استقبله وفد رسمي صغير، وجميعهم أظهروا احترامًا واضحًا لمكانته. في السيارة السوداء الفاخرة، كان يجلس صامتًا، ينظر من نافذته إلى مآذن وأبراج روما العتيقة وهي تتداخل مع ناطحات السحاب الحديثة.
قال لمساعده بصوت هادئ: هذا الحدث ليس مجرد منتدى اقتصادي، هو ساحة إعادة رسم التحالفات، من يقف معنا اليوم، سيحسم صراعات الغد. 

في قاعة المؤتمرات، بعد الظهيرة.
كان الاجتماع على أشده، الأرقام تتطاير، الأسماء اللامعة تُذكر، والعقود تمرّر بحنكة بين الحضور. مراد، هادئ كعادته، كان يُنصت بعناية وهو يقلب صفحات ملف استثماري ضخم أمامه.
إلى يمينه، جلس رجل إيطالي أنيق في منتصف الأربعينات، يُدعى ماركو ديلا روسي — رجل أعمال معروف بعلاقاته الواسعة وشبكته المعقدة عبر أوروبا والشرق الأوسط.

ماركو كان ودودًا، أكثر من اللازم.ابتسامته ثابتة، إطراءاته دقيقة، وملاحظاته تبدو مفيدة… لكن فيها ما يُقلق الحاذق. في استراحة قصيرة، مال نحوه وقال بنبرة خافتة:
يبدو أن شركتكم توسعت أكثر مما توقعت، صديقي. سمعنا أنكم استثمرتم بقوة في العقارات الساحلية… خطوة ذكية جدًا.
لم يظهر مراد مفاجأة، لكن عينيه الرماديتين ثبتتا على ماركو للحظة طويلة. لم يُفصح من قبل عن أي تفاصيل — المعلومات التي ذكرها ماركو كانت سرية جدًا ولم يُعلن عنها حتى للحلفاء!
في عقله، دارت الأفكار بسرعة:
"إما أن لدينا تسريبًا… أو أن ماركو نفسه ليس كما يدّعي."

عند المساء، في جناحه الفندقي الفخم،جمع مساعده الخاص والحارس الشخصي وأمر بجفاف: راقبوا ماركوا ديلا روسي جيدا، اتصالاته، لقاءاته حتى رسائله يجب اعتراضها، اريد معرفة كل شخص تواصل معه خلال الثلاثة أشهر الماضية. 
مساعده تردد للحظة، ثم قال بحذر:
سيدي… هناك احتمالية أن يكون مرتبطًا بأحد منافسينا. اسم ماركو ورد في تقاريرنا السابقة… وكان ضمن قائمة العملاء المزدوجين المحتملين. 
ابتسم مراد ابتسامة خفيفة، لكنها بلا دفء: إذا لم نأت إلى روما عبثا... سنكشفه قريبا و ننهي لعبته قبل أن تبدأ. لا تتسامحوا مع من سرب أسرارنا. 
نهض من مقعده، توجه نحو النافذة، يحدق في أفق روما المتلألئ بالأنوار الليلية، يفكر في صمت أي الأعداء يجب أن يواجهه أولا أم أن اللعبة جمعت أكثر من واحد.

في البيت الصغير، جلس الثلاثة على الشرفة الحجرية الصغيرة يستمتعون بنسمات الليل الجميلة، الهواء معطر برائحة الزعتر البري، والنجوم تلمع في سماء الريف الواسعة.
كانت الطفلة تلهو بيديها في حضن حنين، بينما الفتاة تحكي لها قصة صغيرة بصوت خافت، ملوّنة بالإيماءات والحركات. كان فؤاد يراقبهما في صمت، شيء داخله يرتجف من مشهد الألفة هذا، مشهد بسيط بدا له أجمل من كل قصور الدنيا. لم يقل شيئًا، لكنه شعر أن البيت لم يعد مكانًا حزينًا... بل بدأ يتحول إلى بيت حقيقي، تنبض فيه الحياة.

مرت الأيام هنا بهدوء، بدأ البيت الريفي ينهض من حزنه كما تنهض الأرض بعد مطر خفيف. لم تكن حنين تفرض وجودها، بل كانت تظهر حين يحتاجونها، وتختفي حين يشعرون بالحاجة إلى العزلة. يستحضر في ذهنه ذات صباح حين تغيبت مدبرة المنزل، كان يحاول إلباس طفلته الصغيرة، حدثت معركة صغيرة بين الأكمام والذراعين الرقيقتين، حين دخلت الفتاة تبتسم برفق و قالت بخجل: "دعني أساعدك."
تراجع قليلًا، مرتبكًا، وهو يراها تلتقط الطفلة بخفة خبيرة، تهمس لها بكلمات صغيرة حتى تهدأ. أنهت المهمة في دقائق، وألبستها ثوبًا قطنيًا مطرزًا بنجوم صغيرة. نظر إليها بدهشة خفية، ثم قال ببساطة: "أنتِ أفضل مني بكثير."

ضحكت بهدوء، ضحكة قصيرة دافئة، ثم انشغلت بترتيب الغرفة دون أن تنتظر المزيد. فتاة تحمل صفات مختلفة، ذكية و بسيطة، خجولة أحيانًا و جريئة في أحيان أخرى، كانت تحضر أحيانًا كتبًا معها، وتتركها قرب المدفأة، فتجذبه قراءة صفحاتها. كانت تضع أزهارًا برية على الطاولة صباحًا دون أن تقول شيئًا.
تفهمه بنظرة، دون أن يحتاج إلى شرح أو طلب. كل هذه التفاصيل الصغيرة، نسجت بينهما رابطًا لم تصنعه الكلمات، بل الأيام والصبر وقسوة الفقد التي خففها الحنان. 
💥💥💥

قصر العائلة – ضواحي إسطنبول الفاخرة، بعد أسبوع من العمل الشاق دون توقف. هبطت الطائرة الخاصة في مهبط القصر مع أولى خيوط الفجر.
هدوء الفجر كان يلف أرجاء المكان، فيما كانت الحديقة الغنّاء تفوح بعطر الياسمين الطازج. نزل مراد من الطائرة بخطوات ثابتة. لم تظهر عليه آثار السفر الطويل، لكن في عينيه لمعة متحفزة، كمن عاد من مهمة لم تكتمل بعد.
في مدخل القصر الرئيسي، كان ينتظره رجلان — رئيس الحرس الخاص وصديقه المقرب، ضابط سابق ذو هيبة لافتة يُدعى كامل أصلان.... كامل، رجل خمسيني ببنية قوية، شعره الرمادي مشذّب بعناية وعيناه عسليتان فيهما حدة الضابط المحنّك. كان يرتدي بدلة داكنة أنيقة، لكن تفاصيل وقفته وانتباهه الدائم يكشفان عن خلفيته العسكرية.
ما إن اقترب مراد، حتى تقدم كامل خطوة للأمام، وحيّاه بإيماءة قصيرة، ثم قال بصوت خفيض مشبع بالجدية:
كامل: "مرحبا بعودتك. كل شيء تحت السيطرة هنا. لكن لدينا بعض المستجدات التي تحتاج لسماعها."
أومأ الآخر برأسه بهدوء حذر و قال: في مكتبي بعد خمس دقائق، أريد تقريرا كاملا.
ثم التفت لرئيس الحراس آمرا: ضاعفوا الحراسة حول الجناح الغربي و الحدائق الخلفية. لا أريد أي تحركات غير مرصودة و لا زوار غير متوقعين أو اتصالات غير مراقبة.

بعد لحظات، في مكتب القصر الفسيح،
جلس خلف مكتبه الفاخر، يضع أمامه ملف روما المغلق بإحكام. جلس كامل مقابله، يداه متشابكتان فوق ركبتيه، ملامحه جادة لكن فيها دفء الصداقة القديمة.
قال مراد وهو يفرك أصابعه بإيقاع بطيء: كان بين الحلفاء في روما من يعرف أكثر مما ينبغي. أكثر مما يفترض أن يعرفه أحد خارج هذا القصر. 
 لم يندهش كامل مما سمعه، أومأ ببطء وقال: هل تشك في ماركو ديلا روسي. 
ضيق مراد عينيه قليلاً، صوته صار أكثر حذرًا: لا اتهمه رسميا بعد لكنني رأيت ما يكفي لأعتبره مراقبا... أريدك أن تتولى هذه المهمة بنفسك كامل. 

ارتسمت على شفتي صديقه ابتسامة خفيفة واثقة: "كما تريد. سأحرك رجالي بين روما وإسطنبول. سنعرف قريبًا إن كان ماركو مجرد رجل أعمال طموح… أم شيئًا أخطر بكثير."
لحظة صمت ثقيلة سادت الغرفة.
ثم أضاف بنبرة مفعمة بالولاء، ينظر مباشرة في عيني صديقه: "كما تعلم… عهدنا قديم. لا أحد يمس هذه العائلة ما دمت أنا حيًا."
ابتسم مراد بخفة، للمرة الأولى منذ أيام، ثم قال:"لهذا السبب أنت هنا… ولهذا السبب أثق بك أكثر من أي شخص آخر."
خارج النافذة، كانت الشمس قد ارتفعت قليلًا، وبدأ نورها الذهبي ينسكب على جدران القصر الرخامية… لكن خلف الهدوء الظاهري، كانت خيوط المؤامرة قد بدأت تتشابك ببطء.
💥💥💥
االليل يطبق على أجنحته بعتمة مخملية.
أضواء خافتة تتراقص على الجدران الرخامية، بينما السكون الثقيل يلف الأرجاء. عند البوابة الرئيسية،
انزلقت سوزي من سيارتها الأنيقة بثقة متقنة. فستانها الأسود الساتان يعانق جسدها بانسيابية، فتحة الساق تكشف عن ساقين طويلتين بحذاء كعب عالٍ أنيق.
عطرها الفرنسي الفاخر تخلل هواء الأمسية مثل وشوشة خفية.
دخلت القصر بخطوات موزونة.
في مخيلتها، سيناريو واحد: هل الشقيق الأصغر سيضعف أمام سحرها كما في الماضي لولا أن أختار قلبه غيرها… وستُمرّر الرسائل كما خطط العدو.
لكنها توقفت فجأة فقد أخطأت الحساب.

في الصالون الرئيسي، وجدت مراد واقفًا بجانب المدفأة الرخامية، يرتدي قميصًا أسود بسيطًا، أكمامه مطوية حتى المرفقين. بين أصابعه، سجارة طويلة تشتعل بطرفها جمرٌ هادئ.
رفعها إلى شفتيه وسحب منها نفسًا عميقًا، قبل أن ينفث الدخان ببطء شديد، وعيناه الرماديتان مسمّرتان عليها دون أن يرمش. حين لمحها، لم يبدُ عليه لا استغراب ولا اهتمام، فقط صوته العميق اخترق السكون بنبرة محايدة:"لم أتوقعك الليلة، سوزي. توقعت شخصًا آخر."
رسمت سوزي ابتسامة مفعمة بالأنوثة، واقتربت بنعومة. وقفت أمامه، أقل من متر، رأسها مائل قليلًا، نظرة عينيها تشع وعدًا مموّهًا "توقعت أن أجد شقيقك… لكن يبدو أن القدر منحني فرصة أفضل. أليس من الواجب أن أطمئن على الكبير بعد عناء السفر؟"

مدّت يدها برشاقة ولمست طرف قميصه عند ساعده، أناملها تنزلق بخفة، لمسة محسوبة بعناية. 
"لا تبدُ مرتاحًا… دعني أساعدك في الاسترخاء قليلًا، فقط لحظات تليق برجل بمقامك."
رغم عرضها الجريء لكنه لم يحرك ساكنا.

سحب نفسًا آخر من سيجارته ونفث الدخان ببطء… مباشرة نحو جانب وجهها، دون أن يتزحزح أو يبدّل نبرة صوته قال بهدوء حذر: "أنا لا أرتاح مع ****… حتى لو كانت بأثواب أنيقة."
كلماتُه سقطت عليها مثل ماء بارد، رجل متكبر يلا يتردد في قصف من يواجهه مهما كان جنسه. عينيها لمعتا للحظة،
لكنه استمر، صوته أكثر برودة الآن:
"عودتك المتأخرة، عذرك الواهي، ومحاولتك الفاشلة هذه… كلها لا تليق بعقل ذكي كما ظننتكِ سابقًا. عودي من حيث أتيتِ، قبل أن ينفد صبري وأقرر أن أعاملك كما أعامل المتطفلات، لا الزائرات."
شدّت سوزي ذقنها قليلاً، الكبرياء انتفض في عينيها. لكنها أدركت أن اللعبة انتهت هذه الليلة. قالت بانهزام حاولت أن تخفيه:
"يبدو أنني أهدرت وقتي هنا…"

استدارت برشاقة، خطاها سريعة هذه المرة، عبق عطرها يتلاشى خلفها وهي تغادر الرواق. أطفأ سيجارته ببطء على حافة الصينية المعدنية، عينيه تتابعانها حتى اختفت خلف الباب.
همس لنفسه بصوت خافت خالٍ من الانفعال: "ورقة ملعونة محترقة أخرى."
ثم التفت نحو الحارس القريب وأمر بجفاف: "راقبوا طريق عودتها. أريد أن أعرف أول شخص تتصل به الليلة." انحنى الحارس برأسه وغادر بسرعة. وقف لحظة، يداه خلف ظهره، ينظر نحو نافذة الصالون العريضة حيث المدينة تلمع في البعيد. لعبة الظلال بدأت… ولن يُسمح لأي قطعة على الرقعة أن تتحرك دون علمه.
💥💥💥

في البيت الريفي – ضواحي إسطنبول – ليل ساكن يغمر المكان. الهواء عليل، يعبق برائحة الصنوبر والرطوبة العذبة. نوافذ الطابق العلوي تشع منها أضواء صفراء خافتة، ترسم انعكاسات دافئة على أرض الحديقة الغنّاء.
داخل المكتب، كانت الجدران مكسوة بخشب الجوز الداكن، والمكتبة الصغيرة خلف المكتب تعج بكتب التاريخ والاقتصاد. الموقد الحجري يبعث دفئًا خفيفًا، لهبه يتماوج بهدوء.
كان فؤاد يقف أمام النافذة الواسعة، يحدق في الظلام الذي يغلف الحقول المحيطة. يرتدي سترة صوفية بلون الرماد الداكن وبنطال كحلي، يديه في جيبي سترته.ملامحه هادئة، وعيناه تحملان تفكيرًا عميقًا، لكن هذه الليلة كانت تحمل في قسماته لمحة ارتياح نادرة.وراءه، كان يقف مساعده الوفي سامح،
رجل خمسيني بملامح صارمة ولكنها مطمئنة، يرتدي سترة سوداء أنيقة.كان يراقب سيده بصمت معتاد.
قطع سيده السكون بنبرة منخفضة لكنها واضحة: "حنين… لم أكن أتوقع أن تندمج بهذا القدر مع العمل… بسرعة وكفاءة معًا."
ابتسم بخفوت، دون أن يلتفت:
"دقتها، حرصها على التفاصيل، قدرتها على الاستيعاب السريع… شيء نادر هذه الأيام. والأهم من ذلك… لم أرَ منها يومًا تهاونًا أو محاولة استعراض."

أومأ سامح بتقدير يشاطر سيده إعجابه بها:
"إنها بالفعل جديرة بالثقة سيدي… بل تتجاوز التوقعات أحيانًا... لكن ماذا بشأن إخفاء أمرها عن السيد مراد."
رفع فؤاد يده ومسح بأطراف أصابعه سطح زجاج النافذة، ثم قال بصوت خافت، أقرب إلى حديث النفس:
"ربما كان أخي مخطئًا في بعض تقديراته … ليست كل الأيادي الجديدة خطرًا على عالمنا."

في تلك اللحظة، في الطابق العلوي –في جناح الأطفال، تجلس حنين على الأريكة الصغيرة بجانب مهد الطفلة. تخلّت برقة عن ملابس عملها الرسمية، واستبدلتها بثوب منزلي بسيط بلون العاجي.شعرها الغامق مربوط بذيل حصان منخفض، وملامحها يعلوها هدوء دافئ.
الطفلة الصغيرة ذات السبعة أشهر، بعينيها الواسعتين وشعرها الأسود الكثيف، كانت مستلقية في سريرها الصغير الخشبي، تتأمل رفيقتها بعينين ناعستين. 
قبل قليل، كانت مدبرة المنزل تقف قربها،
لكن حنين ابتسمت بلطف وقالت بثقة هادئة:
"يمكنكِ أن تخلدي للراحة الليلة. سأهتم بها بنفسي فقد اشتقت لها بعد نهار مليء بالعمل… أظن أنني بدأت أتقن لغة هذه الصغيرة."
أومأت المدبرة شاكرة وغادرت.
جلست على حافة السرير الصغير،
تحمل زجاجة الحليب بلطف، وعينُها لا تفارق ملامح الطفلة البريئة. بدأت تهمس لها بكلمات هادئة مطمئنة، وأصابعها تداعب خصلات شعرها الناعم بخفة.
"صغيرة جميلة… كم تحملين ملامح والدك."
ابتسمت بحنان، وعيناها غمرهما شيء من العطف العميق… وربما حنين دفين.
في الخارج، كان صوت الريح الخفيفة يداعب النوافذ، وكأن الطبيعة تشاركها سكون اللحظة.
💥💥💥

اليوم مرت ثلاثة أسابيع – فصل الربيع يزدهر بهدوء. خلال هذه الأيام، تبدّل إيقاع الحياة في البيت الريفي بهدوء ملحوظ. رائحة الأزهار البرية بدأت تعبق في الممرات الحجرية، وأشجار الكرز عند الحديقة الخلفية بدأت تتناثر ببتلات وردية شفافة، وكأنها ترحب بفصل جديد وبمشاعر تتفتح.
تبلورت صداقة صافية بين حنين والدكتور الشاب، خالية من أي تكلّف.
لقاءات العمل الصباحية تحوّلت شيئًا فشيئًا إلى نقاشات فكرية عميقة، ابتسامات صامتة، ونظرات تقدير متبادلة.
كان ينصت حين تتكلم، ويستدرك برزانة حين تنسى نفسها في الحماس.
أما هي، فوجدت في طباعه الهادئة والمتحفّظة راحة غير مألوفة… وكأن وجوده بحد ذاته مساحة أمان.
الطفلة الصغيرة، كانت أسرع الجميع تعلّقًا بـ حنين. صارت تبحث عنها بعينيها حين تغيب، تمد يديها نحوها كلما رأتها.

في صباح هذا اليوم، استفاق البيت على ضوء ذهبي دافئ، تغمره أنسام الريف العطرة. قرر الدكتور أن يكافئ العائلة الصغيرة بنزهة ريفية ممتعة. أعدّت مدبرة المنزل سلة من القش، ملأتها بأطعمة منزلية شهية وضعت بجانبها مفرش صوفي خفيف بلون الرمّان.
قادتهم السيارة الرياضية المكشوفة،ذات اللون الرمادي، عبر ممرات ملتفّة وسط حقول الخزامى والشعير الأخضر. جلست حنين في المقعد الخلفي، تحمل الطفلة بين ذراعيها، الصغيرة تضحك من نسمات الهواء التي تداعب وجنتيها،
وشعر حنين يتطاير بخفّة حول وجهها.

وصلوا إلى سفح تلة تطل على بحيرة صغيرة، مياهها تنعكس عليها صورة الغيوم المتناثرة، وأطرافها مزدانة بأشجار الصفصاف المتمايلة.فرشوا تحت ظل شجرة زيتون معمّرة،
جلس فؤاد على طرفها، يراقب المشهد بصمت مريح. جلست حنين قريبة من الطفلة، تطعمها قطع تفاح صغيرة، بينما تبتسم وتداعب أناملها. صوت العصافير خافت، الريح تمرّ مثل لحن قديم، والحديث بينهم كان خفيفًا، عن ذكريات الطفولة، عن الريف الذي يشبه أيامًا بعيدة، وعن الأحلام التي لا تزال تنتظر.
في لحظة ما،امتدّت يد الطفلة الصغيرة تمسك بأصابع الدكتور، ضحك بعفوية نادرة، تلك الضحكة التي غابت عن وجهه منذ زمن.
نظر إلى حنين نظرة صامتة مليئة بشكر خفي…لأنها أعادت للبيت نبضًا افتقدوه.

في الأفق، بعد ساعات من السعادة، بدأت الشمس تميل ببطء نحو الغروب، تلون السماء بلون العنبر والورد، والبيت الريفي البعيد بدأ يلوح كحلم ساكن ينتظر عودتهم.
💥💥💥

في عمق القصر، كان مكتب مراد يغرق في ظلّ الأضواء الخافتة. رائحة الجلود القديمة والورق تملأ المكان، وهدوء ثقيل يُطبق على الأجواء… كأن كل شيء على وشك الانفجار.
يقف خلف مكتبه الضخم، كتفاه العريضتان مشدودتان وعضلات فكه متوترة بشكل واضح. في عينيه العميقتين نار لا تخبو، والغضب يضرب ملامحه الحادة بظلال قاتمة. تقدم رئيس الحراس،بملامحه العسكرية القاسية، وضع الملف السري بلطف على المكتب."التأكيد الأخير: سوزي على اتصال مباشر برجل ماركو. يبدو أن محاولتها الأخيرة لم تكن عبثية يا مراد."

قبضة مراد انطبقت بقوة حتى كاد يسمع صوت عظامه. حدق مطولًا في زاوية الغرفة، ثم زفر بعنف وهو يدير ظهره للطاولة. في هذه اللحظة، طرق خفيف قطع الأجواء المشحونة. فتح الباب بهدوء، ودخلت مساعدته الخاصة. كانت تحمل ملفات هامة تحتاج إلى توقيعه، تقف بكعبها العالي، ترتدي فستانًا أنيقًا داكنًا، شعرها الأملس مسدول بإتقان وشفتيها مطليتان بلون عميق.
عيناها الرماديتان تلتمعان بدهاء ناعم خلف نظراتها الهادئة.

 استأذن مرافقه ليجري مكالمة مهمة و غادر المكتب، اقتربت إلى الداخل و قالت بصوت ناعم و متوازن: سمعت أن هناك توترًا هذا المساء… أردت فقط أن أتأكد أنك بخير، سيدي.
اقتربت خطوتين، مائلة برأسها بخفة،ملامحها مرسومة على ابتسامة حيادية ولكن أنوثتها تتسلل في كل حركة.
"ربما تحتاج فنجان قهوة؟ أو… حديثًا يخفف عنك بعض العبء؟"

قالت كلماتها بنبرة أقرب للهمس، تحمل في طياتها إغراء صامتًا مدروسًا. خطى نحوها ببطء، عيناه المعتمتان التقت بعينيها مباشرة، كان فيهما شيء بارد و مخيف، قاسٍ كالصخر.
صوته خرج منخفضًا، لكنه حاد كالسكين: "أنا بخير تمامًا… ولا أتذكر أنني طلبت مواساة من أحد ذات يوم."
اقتربت خطوة إضافية، عطرها الفاخر بدأ يتسلل في الأجواء، وبحركة خفيفة وضعت يدها بلطف على طرف المكتب أمامه، تميل بجسدها قليلًا كأنها تقلص المسافة أكثر، ستغامر مرة جديدة.
"أعرف أنك لا تطلب… لكن أحيانًا حتى أقوى الرجال يحتاجون لمن يسمعهم."
قالتها بنبرة ناعمة، محاولة بث دفء مصطنع. كأنه حجر، لم يتزحزح قلبه قيد أنملة. تقدم بخطوة واحدة ثقيلة، عيناه الآن صارت أعتى وأكثر قتامة. بصوت خالٍ من أي تردد، جاف كالصقيع:"توقفي ولا تختبري صبري. أنا لا أخلط بين العمل وأي شيء آخر… ولن أبدأ ذلك الليلة."
كان صوته نهائيًا… قاطعًا كالسيف المصقول. ارتجفت ابتسامتها لوهلة، لكن كبرياءها منعها من إظهار الخيبة. اعتدلت في وقفتها سريعًا، رمشت بعينيها محاولة استعادة توازنها،ثم قالت بنبرة باردة قليلاً، تظن أنها أخفت ارتباكها:
"بالطبع، سيد مراد… أعذر تطفلي."

استدارت بخفة وغادرت، صوت كعبها يتلاشى على أرضية الرخام… لكن في عينيها شرارة مكبوتة، تدرك أن محاولتها هذه الليلة فشلت أيضا، لكنها لم تستسلم بعد.
داخل المكتب، بقي مراد ثابتًا في مكانه،يداه خلف ظهره وعيناه تحدقان في النافذة المُغلقة. الغضب فيه لا يزال يتخمر… لكنه الآن ممزوج بنفور واضح من أي تقرّب زائف.

قطع سكون المكان عودة رئيس فرق الحراسة، تقدم بخطوتين للأمام. كان وجهه صلبًا كعادته، لكن نظرة عينيه احتوت ترددًا واضحًا.تردد نادر بالنسبة لرجل مثله.
وقف باعتدال عسكري، ثم قال بنبرة حذرة، ثقيلة:
"مراد… ثمة أمر آخر أظن أنه يجب أن تعرفه… الآن."
توقف لحظة، كما لو كان يوزن كلماته بعناية. لكن نظرة مراد التي التفتت فجأة نحوه كانت كافية لتأمره بأن يكمل فوراً.
"شقيقك السيد فؤاد… لم يخبرك بكل شيء عن حياته في البيت الريفي."
عيني الآخر تضيقان، حواجبه تنخفض ببطء، لكنه لا يتكلم.
ابتلع كامل ريقه ثم أكمل بثبات حذر:
"ثمة شابة جديدة… مساعدة له. انتقلت مؤخرًا للإقامة في البيت الريفي معه. اسمها حنين. خريجة متميزة من جامعته… وهو قرر الاستعانة بها للمساعدة في إدارة شؤونه… و—"
"لم يخبرك عنها لأنه… خشي من ردة فعلك... أعتقد تفهم لماذا."

لحظة صمت خنقت الغرفة.ثوانٍ فقط لكنها بدت أثقل من دقائق.
مراد لم يتحرك… لكن عينيه اشتعلتا بشرارة قاتمة، كأن شرخًا خفيًا انشق في داخله. وجهه المتحكم دائمًا تشقق للحظة. 
ثم… بخطوة مباغتة، ضرب سطح المكتب بقبضته بقوة جعلت الكؤوس ترتجف ثم تهوي حطاما على الأرضية! صاح بصوت أجش غاضب:مــاذا قلت؟! يخفي عني أمراً كهذا؟!
بعد كل ما فعلته لحمايته، أوصيته مرارا ان لا يخفي عني شيئا و إذا به… يجلب فتاة غريبة تحت سقف بيته دون علمي؟!"

دار حول المكتب بخطوات سريعة، كتفيه مشدودين، يده تمشط شعره الفاحم بعنف واضح.
"كيف تجرأ؟!.. هل نسي ما حدث سابقًا حين تسللت الأفاعي إلى عائلتنا؟!"
عيناه العميقتان التمعتا بنار خالصة،لكن خلف ذلك الغضب الوحشي، كان هناك خيط خفي من القلق… أو حتى خوف عتيق لم يعترف به أمام أحد.
رئيس الحراس تراجع خطوة بهدوء،لكنه قال بثقة عسكرية:
"أردت أن تعلم بنفسي يا مراد… قبل أن تبلُغك الأنباء من غيري."
أطلق مراد زفرة عنيفة، ثم توقف فجأة.نظره انزلق بعيدًا… إلى الفراغ، كأنه استرجع ذكرى موجعة، ثم بصوت منخفض مشوب بالمرارة، همس وكأنه يكلم نفسه:"هو لا يعلم حجم الخراب الذي قد تجرّه امرأة مجهولة إلى عالمنا… كما جرى من قبل، تلك المرة موتها أبعد عنه الخطر لكن هذه المرة لن أسمح له أن يجعلني أعيش نفس القلق، لا يدرك حجم المخاطر التي تحيط بنا."
قبض يديه بقوة، ثم قال بصوت قاطع لا يقبل نقاشًا:
"غدًا في الصباح الباكر… سأذهب بنفسي إلى البيت الريفي. ارسل حالا فريقا يراقب البيت إلى أن أصل. لا توجد صدف في هذه الحياة، في هذه الظروف بالذات الجميع في خانة الشك.
ااه يا فؤاد ااه... ظننت أن وجود طفلة في حياتك سيجعلك أكثر حذر و حكمة مع من حولك."


شكرا لزيارتكم عالم روايات سكيرهوم
تعليقات



×
insticator.com, 6ed3a427-c6ec-49ed-82fe-d1fadce79a7b, DIRECT, b3511ffcafb23a32 sharethrough.com, Q9IzHdvp, DIRECT, d53b998a7bd4ecd2 pubmatic.com, 95054, DIRECT, 5d62403b186f2ace rubiconproject.com, 17062, RESELLER, 0bfd66d529a55807 risecodes.com, 6124caed9c7adb0001c028d8, DIRECT openx.com, 558230700, RESELLER, 6a698e2ec38604c6 pmc.com, 1242710, DIRECT, 8dd52f825890bb44 rubiconproject.com, 10278, RESELLER, 0bfd66d529a55807 video.unrulymedia.com, 136898039, RESELLER lijit.com, 257618, RESELLER, fafdf38b16bf6b2b appnexus.com, 3695, RESELLER, f5ab79cb980f11d1