رواية عشق لا يضاهي الفصل الثانى و الخمسون 52 بقلم اسماء حميدة

 

 رواية عشق لا يضاهي الفصل الثانى و الخمسون بقلم اسماء حميدة



**في فخ القدر**  
اتسعت عينا طارق كأنما انفرجت أمامه بوابة للذهول، كأن القدر انتزع ماضيه من بين ثنايا الزمن وألقاه أمامه بلا مقدمات، مجسدًا في صورة امرأة لم يكن ينبغي لها أن تعود في موقف كهذا قط... ولكنها عادت.

لم تكن مجرد امرأة تشبه سيرين تهامي... لا، بل كانت هي بعينها، بلحمها وډمها، بحضورها الطاغي ونظرتها التي تحمل في طياتها ڠضب العواصف وكبرياء الملوك الساقطين.

كيف انتهى بها المطاف إلى هنا؟ كيف شاءت الصدف—أو ربما المقادير الأكثر عبثًا—أن تجمعهما مجددًا في موعد أعمى لم يكن له أن يحدث أبدًا؟  

بينما كان عقله لا يزال يعيد ترتيب الفوضى التي أحدثها لقاؤهما، جاء صوتها كحد السيف، حاسمًا قاطعًا، وهي تلتفت إلى رامي وتأمره:  

"دعنا نذهب."  

كأن كلماتها كانت أمرًا حتميًا لا يقبل التأجيل لم يتردد رامي

لحظة بل قبض على معصمها بخفة وانسحب بها بعيدًا عن هذا المشهد المشحون كمن يفرّ من ساحة معركة قبل أن يتحول غبارها إلى إعصار.  
وعلى الأرض، كان ناصر مراد ممددًا يتلوى بين الڠضب والۏجع يطلق اللعنات من بين أسنانه، صوتُه مخنوقٌ بالكبرياء الذي لم يعد سوى شظايا مهشّمة تحت وطأة الإهانة:  

"لا تظنا أنكما ستفلتان بفعلتكما! لن أنسى هذا… انتظرا فحسب!"  

لكن تهديده لم يكن سوى صدى أجوف يتلاشى وسط ضحكات المتفرجين وسخرياتهم التي كانت كسياط تلهب كرامته المنكسرة:  

"أنت جبان بحق سيد مراد! ألم يكن لديك ما يكفي من الجرأة للرد؟"  

وغمغم آخر :

"بالفعل، توقف عن العواء، يا ابن العائلة المدللة!"  

حاول ناصر النهوض لكن جسده لم يطاوعه تمامًا ليس من الألم بل من وطأة المهانة إذ كان يرتجف غضبًا  وعيناه تقدحان شررًا كذئب

جريح يتهيأ للانقضاض.
تمتم من بين أسنانه المطبقة، صوته يقطر وعيدًا:  

"سأجمع رجالي، وأذيقهما العڈاب الآن"  

لم يكد يكمل تهديده حتى وجد طارق يقترب منه بخطوات بطيئة لكنها تحمل ثقل الجليد القادر على إطفاء أعتى النيران.

كانت عيناه باردتين كليل شتوي، تجمدان الڠضب في أوصال ناصر قبل أن ينطق بكلماته الباردة:  

"ماذا فعلت بها للتو؟"  

كان صوته هادئًا... لكنه لم يكن بحاجة للصړاخ حتى يبث الړعب.  

فتح ناصر فمه ليجيب لكن قبضة الزمن لم تمهله إذ سبقت كلماته قبضات رجال طارق فتساقطت اللكمات على وجهه كالمطر في ليلةٍ عاصفة بلا رحمة، بلا مهلة لالتقاط أنفاسه.

ارتطم جسد ناصر بالأرض مرة أخرى كطائرٍ أصابته رصاصة في السماء يبصق الډماء بينما عقله لا يزال عالقًا في اللحظة التي كان فيها الصياد قبل أن يجد نفسه الفريسة التي

لا حول لها ولا قوة.  
ساد صمتٌ ثقيلٌ بين الحاضرين، صمتٌ يشبه لحظات ما قبل العاصفة حيث تختبئ الرياح استعدادًا للهجوم.

الټفت طارق إلى ماهر، وعينيه قطعتان من جليد وخرج صوته كالنصل وهو يشق الهواء:  

"ما الذي فعله بالضبط؟"  

بلا تردد روى ماهر الحكاية كما هي بكل تفاصيلها المقيتة، وكيف تجرأ ناصر على إذلال سيرين وكأنه فوق الحساب.

كانت الكلمات تتساقط بينهما كحجارةٍ تُلقى في بئرٍ عميقة كل واحدةٍ منها تزيد من تجمد ملامح طارق حتى تصلّب فكه واستقرت شفتاه على حُكم لا يقبل التفاوض:  

"لا أظنه بحاجة إلى يديه بعد الآن."  

لم يكن هناك ما يجبره على البقاء لحظة أخرى في هذا المكان المشبع بالڠضب، فنفض عن نفسه فكرة الموعد كمن يخلع معطفًا مُبتلًا وانطلق إلى الشارع بحثًا عن سيرين، لكن المدينة لم تكن كريمةً هذه الليلة فقد

ابتلعتها بين حشودها كأن الأرض قد اخفت أثرها.  
 
قبض على كفيه حتى كاد يسحق عظامهما يلعن في سره غبائه كيف لم يحفظ ملامح النساء اللاتي كنَّ حاضرات اليوم؟ كيف سمح لنفسه أن يغفل عنها ولو لحظة؟ جاء لهذا الموعد مُرغمًا فقط لإرضاء كبرياء جده المتعجرف، ولتحطيم أوهام الفتيات  في لقبه، ولم يتوقع أبدًا أن يجد سيرين هنا أمامه كأن القدر يسخر منه.  

استدار نحو ماهر وصوته كان صدىً لقرار لا رجعة فيه:  

"اكتشف لي كيف ترتبط السيدة كوثر بسيرين."  

أومأ ماهر فورًا يقول بخضوع:

"أمرٌ مفهوم"  

تردد طارق للحظة كأن عقله يعيد تشكيل المشهد ثم أضاف بصوت أكثر صلابة، أشد إصراراً:

"واكتشف أيضًا… من يكون ذلك الرجل الذي كان بجانبها؟"

في تلك اللحظة، كانت

سيرين قد استقرت بالفعل داخل السيارة غير أن قلبها كان مضطربًا كأمواج بحر هائج يخشى عاصفة قادمة.
لم تكن تتوقع أن يكون الموعد الغامض لكوثر مع طارق تحديدًا، ذلك الرجل الذي كان يرمقها دومًا بنظراتٍ موشومةٍ بالازدراء كأنها خطيئةٌ لا تغتفر.

أما الآن، وقد وقعت عيناه عليها بدلًا من كوثر تساءلت في صمتٍ قلِق:

ماذا عساه أنيفعل؟ أكان هذا قدرها المحتوم؟ شعرت كأنها بيدقٌ في لعبة شطرنج يحركه القدر كما يشاء.

ارتجفت أنفاسها عندما راودها هاجسٌ بأن وجودها قد زجّ بكوثر في مأزقٍ لا فكاك منه.  

في هذه الأثناء قطع صوت زكريا حبل أفكارها وهو ينظر إليها بعينين صافيتين كسماءٍ لم تُدنّسها الغيوم:  

"هل أنتِ بخير، أمي؟

"  
انتزعت سيرين نفسها من دوامة القلق، وزينت شفتيها بابتسامةٍ مطمئنة وإن لم تصل إلى أعماقها، وأجابته برقة كأنها تحاول إخماد مخاوفه قبل أن تتفاقم:  

"أنا بخير، بفضل السيد رامي."  

بعد أن ألقى زكريا كلمات الشكر على رامي اقترب من والدته وطوّقها بذراعيه الصغيرتين في احتضانٍ وديع كأنه يريد أن يغلق عليها العالم بأسره بين ضلوعه، وقال بحزمٍ لا يليق بسنه لكنه تسرب إلى قلبها كضوءٍ دافئ في ليلةٍ شتوية:
"من المؤسف أنني ما زلت صغيرًا، لكن حين أكبر... سأحميكِ أنتِ والسيد رامي."  

عندها تلاشت بعض قسۏة ملامح رامي كما لو أن كلمات الطفل قد كسرت الجليد المتراكم على وجهه.

أما سيرين فقد أحست بنبضٍ

مختلف يسري في عروقها كأن روحها قد لامسها نسيمُ أملٍ خفي.
نظرت سيرين إلى زكريا بعينين يشع منهما حبٌ لا حد له وقالت برقةٍ لا تخلو من المزاح:  

"إذن، السيد رامي وأنا سننتظر حتى تكبر."  

لكنها لم تغفل عن العيون التي تراقبها إذ كانت تعلم أن رجال ظافر يترصدونها كظلالٍ تلازمها حيثما حلّت، لذا وما إن غادرت المطعم حتى اتجهت مباشرةً إلى فيلا كوثر كما لو كانت تحاول أن تتوارى داخل ملاذٍ آمن.  

بعد الغداء وحالما تأكدت من أن زكريا قد استقر بطمأنينةٍ تحت جناحيها توجهت إلى شركة آل نصران فقد كانت تعلم أن لقاءها مع ظافر أشبه بالسير على حبلٍ مشدودٍ فوق هاوية لكن لا مفرّ... كان عليها أن تواجه العاصفة بعينين

مفتوحتين.
تعليقات



×