رواية عشق لا يضاهي الفصل الثامن و الخمسون بقلم اسماء حميدة
مع وجود المال الكافي، تصبح الاحتمالات بلا سقف، والأبواب التي كانت موصدة بالأمس تُفتح على مصراعيها اليوم.
تنهّد زكريا وهو يفرك عينيه الناعستين وكأنما يحاول نفض بقايا الأحلام العالقة بجفنيه ثم دفع باب الغرفة بخفة وخرج إلى بهو المنزل.
"صباح الخير يا أمي... صباح الخير يا كوثر."
رفعت كوثر حاجبًا ماكرًا قبل أن تجيب بنبرة يملؤها المزاح:
"صباح الخير أيها الوغد المدلل."
***
في المطبخ، كانت سيرين تتحرك برشاقة بين أواني الفطور تنثر رائحة الخبز المحمص والقهوة
الطازجة في الهواء وكأنها تحيك خيوط صباح دافئ يليق ببداية يوم جديد.
التفتت سيرين نحوه قائلة بنبرة حانية:
"اسرع واغتسل الفطور جاهز."
ثم أضافت وهي تنظر إلى كوثر بابتسامة جانبية:
"زاك، كوثر وجدت لك روضة أطفال سنسجّلك اليوم."
توقّف زكريا لبرهة وكأنه يستوعب كلماتها لكنه لم يبدِ أي اعتراض إذ كان يعلم أن المدارس تُغلق أبوابها في الصيف لكن ما لم يكن يعرفه أن تلك الروضة الدولية التي رشّحتها كوثر تعمل على مدار العام.
حسناً لقد كان هذا هو الخيار الأمثل
بالنسبة لسرين فإن التحق زكريا بتلك الروضة لن يجعلها تشعر بالقلق بشأن بقائه وحيدًا طوال النهار والأهم من ذلك أنه سيجد فرصة للاختلاط بأقرانه حيث تنمو الطفولة وتتشكّل ملامحها الحقيقية وسط ضحكات الأطفال وأحاديثهم العفوية.
رد زكريا بصوت خاڤت لكنه مطيع:
"حسنًا."
راقبته كوثر وهو يقف على الكرسي الصغير في الحمام يُنظّف أسنانه بحركة رتيبة أمام المرآة.
كانت تعابير وجهه هادئة بشكل غريب وكأن قرار تسجيله في الروضة لا يعنيه في شيء.
قطّبت حاجبيها بفضول وسألته:
"لماذا أنت مطيع لهذه الدرجة زاك؟ ألا تريد أن تعرف أي شيء عن الروضة؟ لا أسئلة لا اعتراضات؟"
ظلت تحدّق فيه وكأنها تحاول فك شيفرة شخصيته الصغيرة التي تبدو أكثر نضجًا مما ينبغي. فكيف لا يخشى طفلٌ في عمره الذهاب إلى مكان جديد؟ والأهم كيف لا يُبدي أي حماس أو توتر؟
لكن زكريا لم يتوقف عن تنظيف أسنانه وكأنما لا يرى أي داعٍ للتوقف من أجل إجابة سؤال لا يستحق التوقف عنده ثم مسح فمه بمنديل وألقى نظرة باردة نحوها قبل أن يجيب بلا مبالاة:
"الأطفال يذهبون إلى المدرسة
على أي حال، سواء وافقت أم لا سأذهب."
حدّقت فيه كوثر بذهول عاجزة عن الرد؛ فزكريا لم يكن يشبه أي طفل عرفته من قبل... لم يكن مشاغباً، لم يكن خائفًا، لم يكن متحمسًا... كان فقط زكريا ذلك الطفل الذي يحمل في ملامحه صمتًا يُشبه سرًا لم يُكشف.
بعد الإفطار اصطحبهم السائق إلى روضة الأطفال حيث تكفّلت كوثر بإتمام إجراءات تسجيل زكريا بسلاسة حتى كاد الأمر يبدو كما لو أن الأوراق قد كُتبت مسبقًا وفي انتظاره.
لم تمضِ سوى لحظات حتى وجد الصغير نفسه جالسًا بين أقرانه وكأن القدر عجّل بخطواته في هذا العالم الجديد.
رفع زكريا وجهه البريء إلى والدته وكوثر وقال بثقةٍ طفوليةٍ ممزوجةٍ بحماسٍ خفي:
"أمي، كوثر، لا تقلقا سأكون على ما يُرام... سأنتبه في الفصل."
ابتسمت كوثر ثم أشارت إلى فتى يجلس على مقربة منه، شعره
قصير وعيناه تحملان لمحةً من النباهة وقالت بنبرةٍ مطمئنةٍ تحاول أن تُواري قلقًا دفينًا:
"هذا دارين ابن أخي، لقد طلبتُ منه أن يكون درعك فلا تتردد في اللجوء إليه إن ضايقك أحدهم."
أشرق وجه زكريا وكأنه عثر على كنزٍ غير متوقع وهتف بحماسة:
"حقًا؟ حسنًا، سأفعل!"
بينما كانت سيرين وكوثر تُنهيان الإجراءات انتهز زكريا الفرصة ليتأمل الروضة بعينٍ تسترق النظر إلى التفاصيل الصغيرة وكأنه يستطلع ساحة معركةٍ قادمة.
لم يكن هذا مجرد يومٍ دراسيّ عابر بل بداية مرحلةٍ جديدة تُشبه رقعة الشطرنج حيث كل حركة قد تحمل خلفها نيةً غير معلنة.
سرعان ما التقط زكريا طرف خيطٍ أثار فضوله حين علم أن أحد الطلاب يُدعى مالك نصران حفيد عمّ ظافر الأكبر أي باختصار... قريب والده
المتنصل من التزاماته!
الاسم وحده كان كفيلًا بإشعال شرارةٍ في رأسه الصغير فمالك ليس مجرد تلميذٍ آخر بل سليل عائلةٍ اعتادت أن تكون في الجهة المقابلة من الصراع.
ترددت أقاويل بين الممرات عن ذكاء مالك ونباهته وعن كونه محبوبًا من الجميع لكنه في نظر زكريا لم يكن سوى حلقةٍ جديدة من تلك السلالة التي عرفت والدته القهر على يديها.
للحظة، راح زكريا يتساءل: أي نوعٍ من العباقرة قد تُنجبهم تلك العائلة؟ وهل الذكاء وحده كافٍ ليكسر الٹأر القديم؟
أما سيرين فكانت تجهل تمامًا خيوط الأفكار التي تداخلت في رأس صغيرها؛ ففي نظرها زكريا لم يكن سوى طفلٍ طيب القلب لم تلوثه الأحقاد بعد، كما إنه خلال إقامتهما بالخارج قد أرسلته إلى روضةٍ محلية حيث أحبّه المعلمون وزملاؤه لحسن خلقه
ولم يكن لديها أي سببٍ للقلق الآن.
بكل طمأنينة أودعته سيرين في الفصل، قبل أن تغادر مع كوثر، لكن الأخيرة لم تستطع تجاهل تلك النظرة في عيني زكريا فقد شعرت ولو لوهلة أن وراء حماسه للبقاء سرًا لم تفك شفرته.
"سيرين! هل لاحظتِ كيف بدا زاك متحمسًا على غير العادة؟"، قالتها كوثر بشكٍ.
توقفت سيرين للحظة لكنها هزّت كتفيها بلا مبالاة:
"نعم لكنه دائمًا ما كان يحب التعلّم وتكوين الصداقات."
أطرقت كوثر رأسها قليلاً وكأن إحساسها لم يخفت تمامًا ثم التفتت إليها وقالت بصوتٍ أكثر حذرًا:
"آمل أن يكون الأمر كذلك... لكن لدي شعور بأنه لن يكون مجرد طالبٍ عادي هنا."
ثم ابتسمت كوثر وغمزت لها مازحةً وهي تعقد ذراعها بذراع سيرين:
"على كل حال يبدو
أن دارين لن يكون من يحميه بل العكس تمامًا!"