رواية أجنبي الفصل الخامس 5 بقلم الهام رفعت

 

 رواية أجنبي الفصل الخامس بقلم الهام رفعت



شُدِهت من إغلاقه العنيف للباب، كذلك بُهِتت من ملامحه المستاءة حين ولج الشقة. ازدادت حيرتها حين توجه لغرفته غير ناظرٍ لما حوله، أو انتباهه لها وهي جالسة هكذا تشاهد التلفاز. فغمغمت مدهوشة:
-الواد حسين ماله، مش عوايده يدخل كده، يا ترى مين مزعلك يا ابني
تذكرت أمر طليقته فأردفت في نفور:
-تلاقيه بسببها، منها لله بنت نادية، أشوفك تعيسة زي ما حرقتي قلب ابني...!!

في غُرفة حسين...
جلس على المقعد في زاوية الغرفة مغلولًا، هيئته عصبية للغاية، نظر حوله يريد كسر أي شيء، فما حدث معه لم يتحمله مطلقًا، فقد وجدها إهانةً له، فرد فعلها فاجأه؛ خاصةً أنه لم يجد أنه قال شيء أثار انزعاجها، نفخ حسين بقوة ليفرغ بعض من انفعالاته الداخلية، وهتف متوعدًا:
-أنا تضربيني بالقلم، ماشي يا ورد!
فرك أسفل ذقنه يفكر في تمعن كيف سيأخذ حقه منها؟، أو ماذا سيفعل ليُأدبها على تطاولها هكذا؟، تعثر في إيجاد وسيلة لذلك، فهو لن يستطع أن يتمادى في أفعاله تجاهها. نظر حسين أمامه فجأة كأنه قد وجد ضالته، ولاحت بسمة شيطانية على ثغره، ردد مسرورًا:
-مافيش غير الحل ده!
ثم نهض من جلسته وتحرك لينظر من النافذة، أردف في نفسه:
-أنا عارف بعد ما شوفتي أدريان مبقاش عاجبك، وكنت بهزر معاكِ لما قولت هجوزهولك، علشان كده هعاند وأجوزهولك يا ورد، ويا أنا يا إنتِ
تغلل شعور الراحة بداخله، فسوف يثأر لنفسه، ثم توجه لخارج الغرفة فوجد والدته تنظر إليه. سار نحوها في ثبات، وحين وصل إليها انحنى ليُقبّل أعلى رأسها، فتأملت ملامحه وسألته مهتمة:
-دخلت كده من غير سلام وشكلك متعصب، مالك يا حبيبي؟!
جلس حُسين بجانبها واستغل الأمر لصالحه حين قال:
-زعلان علشان ورد
رددت في ذهول:
-ورد!
أوعز قائلًا في مكرٍ داخلي:
-باين فيه حد مطلع عليها كلام مش كويس والحتة ملهاش سيرة غيرها.
شهقت السيدة زبيدة واستنكرت أن ورد ابنة أخيها المؤدبة قد تفعل ما هو قبيح، فهتفت محتجة:
-مين ولاد الحرام دول اللي بيلسنوا عليها، ورد مش كده أبدًا 
زيف حسين الضيق معبرًا عن خوفه على الأخيرة حين قال:
-أنا بقول ورد لازم تتجوز، وبكده نقطع لسان أي حد يقول عليها حاجة!
نظرت له السيدة لبعض الوقت كأنها تفكر في ذاك الحل. ثم اتفقت معه وأثنت على فكرته حين قالت:
-فعلًا هو دا الحل 
ثم تذكرت أمرًا فعقدت حاجبيها مستفهمة:
-بس هنجوزها مين؟!
سريعًا قبل أن يرد حسين سبقته وأكملت متهللة:
-أيه رأيك في رامي؟!
انتفض في جلسته معلنًا رفضه حين قال:
-لأ مش رامي، أدريان
أخرج حسين ما في جعبته وما عَمَد عليه؛ انتقامًا من الأخيرة، بينما دُهشت السيدة من اختياره وهتفت:
-بس دا واحد غريب عننا، ومنعرفش عنه حاجة!
وضح لها في لؤم:
-هي معجبة بيه، وكتير مصريين بيتجوزوا أجانب!
لم تقتنع السيدة بذاك، فهو يظل غريبًا عنهم، حتى وإن أحبته الأخيرة. تابع حسين مؤشرات وجهها غير الراضية وتأفف داخليًا، واعتزم اختلاق سببًا لتنفيذ ما قرّره حين حثها على القبول قائلًا:
-تلاقي الكلام اللي طالع عليها ده بسببه، من إمتى بيقولوا عليها حاجة وحشة!
بدت السيدة مقطبة الوجه فربما أن ذلك السبب، فردت عليه متحيرة:
-طيب إفرض خالك رفض و...
جعلها تصمت حين قال معللًا:
-هيقبل لما يعرف الناس بتقول عنها أيه! 
ظهر الحزن على وجه السيدة متأثرة بذلك، قالت:
-يعني ورد القمر دي، هيكون نصيبها قدري
كتم حسين ضحكته فقد تشفى من غيظه، فتابعت السيدة في قلة حيلة:
-هروح النهارده عند منصور وأكلمه، وبالمرة أشوف موضوع جوازك من شهد.
أعلن حسين رأيه في الأمر دون نقاش:
-خلاص فكرت يا ماما، مش عاوز اتجوز دلوقتي........!!

****

جمعت الأوراق من على مكتبها وهي في حالة غضب، وقررت مواجهة أخيها بفعلته غير المقبولة لتعرف على ماذا ينوى سرًا. خرجت لميس من مكتبها في الشركة متجهة لمكتب أخيها على الناحيةِ الأخرى، وحين وصلت لم تستأذن لمقابلته وولجت فجأة مكتبه.
اندهش أمجد من دخولها دون سابق إنذار ثم نهض من مكانه راسمًا الهدوء لمعرفة سبب مجيئها. تدرجت لميس ناحيته ونظراتها نحوه لا تبشر بالخير، وعفويًا أخفض أمجد نظراته على الأوراق التي تحملها بيدها وفشل استكشاف الأمر، واتضح كل شيء حين رفعت الأوراق نصب أعينه وقالت مستاءة:
-وأنا بعمل جرد الأوراق دي وقعت في إيدي، تقدر تقولي عشرة مليون اتعمل بيهم أيه؟!
تجمدت تعابيره للحظات مكتربًا من فضح أمره، وخشي أن تكون قد أعلمت الجميع، فسألها مترقبًا:
-حد غيرك عرف؟!
تهكمت من سؤاله السخيف وهتفت:
-طبعًا دا اللي يهمك، إنما تقبل تسرق مال غيرك عادي.
تبدلت حالته من البهوت إلى الشِدة العجيبة، وقال:
-دي فلوسنا، ودي شركتنا، كنت عملت أيه يعني!
سخرت من رده القوي الآن وحالته حين أخبرته، وعلّقت:
-طالما إنت مبتعملش حاجة غلط خايف حد يعرف ليه؟!
بدا وقحًا في رده على أخته الكبيرة حين هتف:
-ميخُصكيش، فخليكِ في شُغلك وملكيش دعوة
-إنت قليل الأدب، وكل حاجة هنا تخُصني
ردت عليه منفعلة، فابتسم مستهزئًا منها:
-إنتِ بالذات تسكتي، لأن بابا شايل منك، ولو قولتي عليا حاجة، هقوله أنا كمان.
لثوانٍ لم تدرك مغزى كلامه، وتساءلت هل يعرف شيء مستور يخُصها، ثم استنكرت ذلك قائلة:
-هتقوله أيه إن شاء الله؟!
-اسألي جوزك!
ردّ مقتضبًا في كلامه؛ لكن حمل ذلك الكثير من المعانى، فرمشت لميس دليل توترها، وخشيت انغماس زوجها في أمورٍ كتلك. رغم عدم معرفتها بماهية الأمر وتعمدت عدم السؤال، قالت:
-الشركة دي لينا فيها كتير، واللي بتعمله فيها ده مينفعش، حرام تسرق!
شرع في الضحك الذي يتعالى تدريجيًا دليل على سخريته من كلامها، ولم تتفهم لميس ذلك حتى كشًرت تعابيرها، فيبدو أن أخيها الشاب طائش وعليها تأديبه. فكف أمجد عن ضحكه المدروس قائلًا:
-الشركة دي إحنا فيها موظفين، عاوزاني في سني ده ولسه متجوزتش، استنى مرتبي زي أي واحد هنا
لاحظت لميس في نبرته مرارة ما يعانيه تحت ظل سطوة والديهما، ورأت في عينيه ضغينة جمة؛ لكن ذلك جعلها على موقفها، ووجب عليها نصحه. فلامست صدغه في حنوٍ وقالت:
-إنت الولد الوحيد، وبابا أكيد مش عاوزك في وضع وحش، هو بس دا طبعه!
لمحت في طلعته عدم قبول لكلامها، فنظرت لعينيه بقوة وعادت تنصحه:
-إنت لسه صغير، متخليش حد يدفعك تعمل حاجة بابا لو عرف بيها هتخسّرك كتير.
جاء سيف ابن عمه على ذهنه وتأكد أنها تقصده فأخفض نظراته ولم يعلق، فابتسمت لميس كون تلميحها قد وصل لهدفه، فهتفت في جد:
-مش عاوزة دا يتكرر تاني يا أمجد.........!!

*****

هبط الدرج في خفةٍ ليكمل عمله في الورشة بعد أن تركها مع أحد عماله، وفي الطابق السفلي كانت تنتظره فتاة ما رشيقه في مطلع العشرينات من عمرها، رغم سنها الصغير كانت ملامحها تعطيها عُمر أكبر، ونسبة جمالها تكاد تكون معدومة. استندت تلك الفتاة على الدرابزين الحديدي رافعة رأسها للأعلى عندما سمعت خطوات شخصٍ ما يهبط الدرج، قفزت فرحة لكونه هو كما خمّنت، تجمد حسين مكانه فجأه من رؤية تلك الفتاة البلهاء ابنة صاحب العمارة التي تتعمد انتظاره في ذلك الوقت تحديدًا، لتلقي على مسامعه تفاهاتها المعتادة. أكمل هبوطه الدرج متأففًا ومتجاهلًا إياها، بينما هي طالعته بنظراتٍ هائمة والهة ثم وقفت أمامه تعترض طريقه، نظر لها حُسين في اشمئزازٍ بائن وخاطبها ممتعضًا: 
-مساء الخير يا "بثينة"
زمت ثغرها للجانب في غضبٍ طفولي مستفز، لامته وهي عابسة الملامح: 
-أخص عليك، بثينة أيه بس!
ابتسمت بنعومة جعلته يلوي فمه، تابعت في دلالٍ أجج من حنقه نحوها: 
-قولي يا بوسي! 
لم يتحمل سخافتها وهتف لينهي حديثه معها: 
- ممكن أعدي بقى علشان اتأخرت 
أومأت بحاجبيها مغازلة إياه في جراءةٍ: 
-ما تنزل يا حبيبي حد حايشك 
لوى ثغره للجانب من حماقتها المتطاولة معه، أشار بإصبعه على يدها الممسكة بالدرابزين قائلاً في تهكم: 
-دي اللي حيشاني، ممكن بقى توسعيلي علشان أعدي 
قطبت بوسي بين حاجبيها من عدم اكتراثه بها رغم اهتمامها الذي تغدقه به، حاولت التأني في كسب محبته لها، رسمت ابتسامتها البلهاء مرة أخرى وقالت في هيام: 
-اتفضل يا سوسة عدي 
حدقها في نفور ملحوظ، ثم حدّث نفسه وهو يهبط الدرج متابعًا طريقه: 
-سوسة لما تخرم ودانك يا بعيدة.
تعقّبته بثينة بنظرات مهتمة ثاقبة حتى غاب عن أنظارها. اعتزمت شيء فقالت:
-لازم تكون من نصيبي، مش هسيبك تروح لغيري أبدًا.......!!
*****

على تختها ظلت جالسة تنفث دخانًا ولم تستطع أن تدرس جيدًا، لذا ألقت الكتاب الذي بيدها أمامها في إهمال. حدقت ورد أمامها في غيظ، فحين صفعته لم يشفي ذلك غليلها المضرم بداخلها، فصكّت أسنانها بقوة وهي تغمغم:
-آه لو في إيدي حاجة كنت كسّرت دماغك بيها
لم تتحمل ورد كم الضغط والصدمة عليها من تفكيره نحوها وودت أن تصرخ حزنًا، فتابعت:
-قال حاسس بيكِ قال، دا إنت معدوم الإحساس، عاوز تجوزني أدريان، طبعًا ما هو لو حلو مكنتش قولت عليه، بس أنا فهماك!
غاصت بفكرها للوصول لطريقة تنتقم فيها منه، وتحيرت في ذلك، فزفرت قائلة:
-ما أنا مش هقعد كده بعد اللي قاله، لازم أنتقم لنفسي
كانت قد ولجت رشا الغرفة منذ لحظات وتابعت حالتها وهي واقفة قُرب الباب مدهوشة، فهي تُحدّث نفسها بطريقة بلخاء، اقتربت منها في حذر حتى انتبهت ورد لها ونظرت لها عابسة، خاطبتها:
-بتبُصي كده ليه؟!
لم تجد رشا ما ترد به وتجاهلت أمرها، قالت بفمٍ ملتوٍ:
-عمتك برة وعاوزة تشوفك
قطبت ورد جبينها وأوعزت قائلة:
-هغيّر هدومي وجاية
التفتت رشا لتغادر الغرفة وتركتها خلفها تجهز نفسها، ثم سارت ناحية الصالون حيث والدتها وعمتها، زيّفت بسمة وقالت:
-ورد هتلبس وجاية!
خاطبتها السيدة زبيدة في تكليف:
-ادخلي لأبوكِ صحيه وقوليله إني عاوزاه
أومأت رشا في طاعة وذهبت لتفعل المطلوب، فنظرت السيدة هنية لها وقالت خائفة:
-منصور لو عرف ممكن يجراله حاجة، دا إحنا ماشيين جنب الحيط.
ردت السيدة زبيدة عليها مستنكرة:
-ما أنا جاية وجايبة الحل معايـا....!

بغرفة الحاج منصـور، لم يكن غافيًا كما يدّعي، بل اضطجع على تخته يتذكر كيف تزوج بـ لميس والمقابلة الأولى بينهما، كم كانت راقية وجميلة. كان ارتباطهما بالفعل غير موفق، أين هو من مكانتها؟، فلتلك اللحظة لم يلومها على تفضيلها البقاء في طوع والدها، وتفهّم ربما حداثة سِنها حينها قد دفعتها للارتباط به. وصل بذكرياته المشؤومة إلى الحديث الأخير بينه وبين والد أم ابنته ومن كانت زوجته، وأسِف على تحول الأمور بينهم لذلك الحد من النفور والخسة، والتهديد الصريح من الأخير بـ بناته، ولخوفه عليهن فعل ما يريد، حين ذهب بنفسه ليمحي اسم زوجته من شهادة ميلاد ابنتهما، ولم يجد غير زوجته هنية أمًا لهـا، وبالـفعل كانت الأم الحـانية.
خرج الحاج منصور من سفـح ذكريـاته على صوت ابنته تدق الباب ثم ولجت بهدوء، فادعى الحاج النوم فورًا، ثم زيّف إفاقته حين هزته رشا في خفةٍ ونادته:
-بابـا!
اصطنع بسمة لها فتابعت:
-عمتو برة وعاوزة تشوفك علشان الموضوع مهم قوي!
اهتم بكل كلمة تقولها ثم اعتدل قائلًا:
-هغسل وشي وجاي!
ابتسمت له ثم توجهت للخارج، وحين سارت للصالون تفاجأت بـ ورد منفعلة بشدة وتتحدث كمن حدثت لها مصيبة، وبدت مهتمة في معرفة ماذا حـدث. 
بينمـا صاحت ورد في غضب:
-هو الجواز بالعافية، أنا مش هتجوز حد.
لم تتدخل السيدة هنية مطلقًا وتركت الحُرية لها، ومن محبتها تجاهها قالت:
-خلاص يا حبيبتي لو مش عاوزة بلاش. 
عارضت السيدة زبيدة ما قالته في حنق:
-مش بمزاجها، إحنا كده هنقطع لسان اللي بيتكلم عليها.
هنا قد أتى الحاج منصور واستمع لحديث أخته في دهشة، فعلّق عليه مقطّب الوجه:
-مين دا اللي بيتكلم على بنتي؟!
حين رأته ورد نهضت لتلقي بنفسها في أحضانه وهي تبكي، هتفت:
-معملتش حاجة يا بابا، أنا مظلومة وهما بيفتروا عليا!
مسّد على ظهرها ثم ضمها بقوة ليبث بداخلها الأمان، هتف:
-متخافيش يا حبيبتي، أنا اللي يقول عليكِ حاجة أقطع لسانه.
ثم جلس وهي ما زالت قابعة بأحضانه، فتعالى بكاؤها وهي تخاطبه:
-عاوزين يجوزوني بالعافية يا بابا!
وزع الحاج منصور نظراته عليهن وهو يستنكر:
-صحيح الكلام ده؟!
رغم ضيق السيدة زبيدة من الموضوع وعدم موافقتها عليه قالت:
-غصب عننا يا منصور، الحتة ملهاش سيرة غير على ورد، ودا حصل من وقت ما قدري وصل من أمريكا.
تذكرت ورد كلام حسين عن ذلك وتكرر الأمر الآن، وفطنت أن هو السبب في إصرار عمته وأن الأمر بسبب ذاك الأجنبي اللعين، واغتاظت بشدة، وودت أن تخنقه بيديها عديم الإحساس. ثم نظرت لوالدها وهي تعلن رفضها:
-مش صحيح يا بابا، أنا مافيش مرة مشيت فيها معاه قدام الحتة، شفوني فين بس معاه، دا كانت مرة وحسين ورامي كانوا معانا.
كلحت ملامح الحاج وأدرك أن في الأمر شيئًا ما غير معلوم، قال:
-مش علشان حد بيتكلم على بنتي أقوم أرميها لواحد مش عاوزاه.
تدخلت رشا في تطفل حين تفهّمت الأمر:
-بس دا أمريكاني يا بابا، يعني الجنسية لما تتجوزه
رمقتها ورد في سأمٍ من تدخّلها، بينما ظل الحاج على رأيه قائلًا:
-أيًا كان مين، مغصبش بنتي
اتسعت بسمة ورد ثم رفعت رأسها وطبعت قبلة عميقة على صدع والدها، هتفت في محبة:
-ربنا ما يحرمني منك يا بابا!
قالت السيدة زبيدة متحيرة:
-والناس اللي بتتكلم دي آ..
قاطعها في إصرارٍ جعل ورد في غاية السرور:
-أنا بنفسي هشوف أيه الموضوع ده، ومش هسكت عليه أبدًا.......!!

*****

طالع الأجواء من حوله مبهورًا، وأحب التجول في الحارة وتجربة بعض الأشياء، كتناول الطعام والمشروبات الشعبية. ثم عزم على السير هنا وهناك، فشعر رامي أثناء تجولهما بمحبته لكل ما حدث اليوم، فسأله مهتمًا:
-أيه رأيك في الحارة؟
تنفّس أدريان في راحةٍ قبل أن يجيب:
-أحبتته للغاية، الناس ودودون ومتعاونون، أنا مسرور لذلك.
استنكر رامي أن يعجبه المكان إلى ذلك الحد، فهناك أماكن أجمل بكثير في مصر، فماذا إذا رآها، فابتسم قائلًا:
-تلاقيك مبتشوفش الأماكن اللي زي دي في أمريكا؟!
نفى أدريان بشدة:
-على العكس، يوجد أماكن مثلها، لكن هنا أشعر بالأمن أكثر!
وافقه رامي الرأي قائلًا:
-فعلًا، تحس إنك في وسط أهلك
زاد أدريان من مدحه العميق وهو يتأمل الأبنية من حوله قائلًا:
-ما أجمل ما أرى، كل شيء هنا عظيم، أوو...
انقطع صوته فجأة مما دفع رامي لينظر بجانبه ولم يجده، فصاح مذهولًا:
-أدريان، روحت فين؟!
اجتمع الناس من حوله إثر صوته العالي، والعجيب أنه كان ينظر للأعلى بحثًا عنه، وحينما وجد البعض يثرثرون في شفقةٍ وهم ينظرون للأسفل فعل مثلهم، وتفاجأ بحفرة عميقة، وعلى الفور تأكد بأنه سقط فيها، فركع على ركبتيه وعينيه تحدق بالأسفل مفزوعًا، هتف:
-أدريان، بتعمل أيه عندك؟!
كان سؤاله أبلهًا، والغريب رد أدريان عليه طالبًا العون:
-انقذني يا رجل!
تحوّلت حالة رامي فجأة وكتم ضحكته كأنه يسخر من حديثه قبل قليل، فعاد يقول له مستهزئًا:
-فيه حاجات من دي عندكم!
انتبه رامي لبعضهم يحاول معاونة أدريان على الخروج، ثم أخذ الأمر بجدية وفعل ما يوجب عليه، حيث تجمع الأهالي في إخراجه ببعض الأدوات كاستخدامهم الحبال وغيرهــا..!

في ورشة حُسين، استمع لأصوات غير عادية في الخارج، وتأكد حدسه حين جاء أحد الصِبية اللذين يعملون معه قائلًا:
-الراجل الغريب اللي مع أستاذ رامي وقع البلاعة 
ترك حُسين ما بيده وتحرك فورًا حيث الحادثة، وحينما وصل كان قد أخرج الشباب أدريان، فانحنى حسين لفحصه ووجد جرحًا في رأسه، فسأله قلقًا:
-إنت كويس، فيه حاجة في جسمك بتوجعك؟! 
تألم أدريان وأصبح في حالة يرثى لها، فرفعه حسين في حذر بمعاونة رامي الذي هتف:
-روح هات عربيتك يا حسين، خلينا ناخده المستشفى
استجاب حسين ثم تركه معه وتوجه ناحية العمارة ليجلب سيارته. بينما خاطب رامي أدريان ليهدئه:
-متخافش، هتبقى كويس
زاد أدريان من إخراج تأوهات عنيفة دليل وجعه، فأخذ رامي يبث فيه الشجاعة كي يصبر حتى جاء حسين بالسيارة، ثم رفعه الشباب مع رامي ليجلس معه بالخلف، بينما قاد حسين السيارة سريعًا ناحية أقرب مشـفى....!!

*****

في ردهة المشفى، بدّلت نظراتها بينهما في تفحصٍ حتى أدركت خصامهما، ثم دنت من شهد المشغولة جانبًا وقد زاد فضولها لمعرفة انقلاب الأمور هكذا وسألتها:
-إنتِ وآية في بينكم حاجة؟!
أعطت شهد الورقة التي وقّعت عليها للممرضة أمامها ثم نظرت لها لوهلة، وبعدها وجهت بصرها نحو آية التي تقف على مقربة تدعي انشغالها بأمرٍ ما، قالت في لا مبالاة مصطنعة:
-أنا معملتش في حد حاجة.
مالت أماني عليها ثم همست في فضول:
-هي وكريم في حاجة مش طبيعية بينهم، باين بيخططوا لحاجة غريبة
لثوانٍ لفت الأمر انتباه شهد، ثم عادت لتجاهلها قائلة:
-ماليش علاقة بيهم خلاص، ولا عاوزة أعرف بيعملوا أيه!
دُهشت أماني من ذاك الجفاء المفاجئ بينهما، فهما أصدقاء منذ سنوات، جاءت لتعلّق على ذلك، لكن أوقفها صوت أحدهم يصيح مستغيثًا، فورًا تحركت شهد ناحية الصوت وهم من خلفها.
هرولت شهد متخوفة من رؤية أبناء عمتها يحملون شخصًا، فقد ظنت عمتها مريضة، دققت النظر وارتاحت قليلًا حينما وجدته شخص آخر. دنت من حسين متسائلة:
-مين ده يا حسين وحصل معاه أيه؟!
قالت ذلك وهي تدلّه على طريق الكشف وعينيها تتأمل ذلك الشخص الذي يتألم والدماء تغطي جبينه حتى صدغيه، فرد عليها حسين مختنقًا:
-دا أدريان، وقع في بلاعة الصرف
وضعت يديها على أنفها مشمئزة رغم عدم وجود روائح عالقة به، ثم جعلته يلج الغرفة كي تفعل المطلوب معه.

أحضرت الممرضات الأدوات اللازمة لفحصه، وعند الكشف عليه أخبرهم أنه بخير، فقط رأسه المصابة، وسريعًا كانت شهد تبدأ في خياطة الجرح وسط تحمُّل أدريان، وبالأحرى تناسى ما به حين تأمل شهد الواقفة بجانبه وتطبّب جراجه، كانت جميلة بشدة بلون عينيها الأخضر وبشرتها البيضاء النقيّة. ظل هكذا شاردًا في حلاوة وجهها وصوتها حين تتحدث حتى انتهت. انتبه لنفسه حين خاطبته في لطفٍ:
-حاسس إنك بقيت أحسن؟!
أومأ مؤكدًا، رغم ما به من أوجاع تناسى أمرهم، وعي لنفسه ثم رد بصوتٍ أبح:
-أنا بخيـر!
ابتسمت له شهد ثم أخذت في تنظيف الدماء من على وجهه وصدغيه وهو يطالع جمالها في حذر، فشكرها حسين:
-تسلم إيدك يا دكتورة شهد، أدريان محسش بحاجة خالص
قالت بطلعتها البشوش:
-إن شاء الله هيكون كويس، الجرح مش كبير قوي!
ثم جمعت الأدوات على الصينية الصغيرة، وتابعت:
-طالما معندوش حاجة تانية يقدر يروّح معاكم
اقترب رامي منه ليطمئن عليه وقد أحس براحة حين وجده بخير. ثم عاونه لينهض، وبداخله تمنى أدريان أن يبقى فترة أطول هنا. تقدم حسين منه هو الآخر ليتمم على وضعه قائلًا:
-هتبقى كويس، هترّوح وترتاح وهتخف إن شاء الله
ابتسم أدريان من رؤية قلقهم عليه، فسألها حسين:
-مافيش علاج ولا أي حاجة؟!
ردت في دراية:
-هجبلكم مسكن هنا من المستشفى لو حس بوجع ياخده
شكرها حسين ثم خرجت شهد لتجلب المطلوب، فتعقّبها أدريان بنظراته حتى اختفت ثم تأفّف متضايقًا، تجرأ وسألهما:
-أراكم تتحدثون مع الطبيبة كأنكم تعرفونها
جاوب رامي عليه موضحًا:
-دي بنت خالنا، وأخت ورد اللي كانت معانا يوم ما جبناك من المطار.
تفاجأ أدريان بذلك الخبر وتهلل داخليًا، فهذا يعني رؤيته لها مستقبلًا، فتأفف حسين فهو يشعر بالاختناق في جو المرضى، هتف:
-يلا نطلع من هنا نستناها برة.........!!

*****

رفعت والدتها قليلاً ثم ناولتها حبة الدواء وكوب الماء وعاونتها على أخذها، حزنت لميس من رؤية انطفاء ملامح وجه والدتها هكذا، وخشيت أن تتركها وحيدة، فما يخفف عنها هو وجودها المُجدي، حيث تبث فيها الصبر والقـوة.
عـادت السيدة أُلْـفت تسند ظهرها على الوسادة ويبدو أنها تريد الراحة، ليس الآن بل للأبد، فقد اكتفت من حياتها وملأ اليأس روتينهــا. أحست لميس بها وخاطبتها في حنوٍ:
-مالك يا ماما، شدي حيلك كده علشاني حتى.
تطلّعت عليها بنظرات عطوفة وقالت:
-أنا باخد العلاج بس علشانك يا لميس، إنتِ بس اللي تهميني
جلست لميس بجانبها وأعربت عن مدى الضيق الواقع عليها حين قالت:
-لو مش ولادي كنت انتحرت من زمان من اللي بشوفه
صُدمت السيدة من طيشها ورددت:
-استغفر الله العظيم!
نفخت لميس في إحباطٍ وألم، فضمتها السيدة لأحضانها وقالت:
-حاسة بيكِ، فراق الولاد صعب، هنعمل أيه بس شدي حيلك يمكن كل حاجة تتغير متيأسيش
ردت عليها في عدم راحة:
-حضرتك هنا مش بتشوفي برة بيحصل أيه، أنا في غابة يا مامـا.
أدركت السيدة الأمر وقالت:
-كله من عمك، واكل دماغ أبوكِ، وأبوكِ أصلًا لوحده ظالم وشديد.
اعتدلت لميس وقد تذكرت أمرًا، خاطبتها متوجّسة:
-أمجد دايمًا مع سيف، وأكيد موديه في طريق غلط
لم تهتم السيدة لأمره، فهو ابن ضرتها، قالت:
-المهم خليكِ بعيد، علشان عمك مش طايقك في الشركة
ظلت لميس متخوفة وقالت:
-مهما كان أمجد أخويا ولسه طايش، ولازم أخاف عليه
أحبت السيدة حنان ابنتها تجاه الأخير وابتسمت لها، فغيّرت السيدة الموضوع متسائلة:
-المهم قوليلي، المبلغ اللي ببعتهولك كويس؟!
قبّلت لميس وجنتها ورأسها امتنانًا لها وقالت:
-أصلًا من غير الفلوس دي مكنتش هعرف أبعت لبنتي حاجة
قالت السيدة في ارتياب أقلق لميس:
-أنا حاسة إن أبوكِ عارف بالموضوع ده..........!!

*****

قرر شراء بعض المستلزمات المنزلية بنفسه وأشياء من البقالة لـ أدريان، وحينما عاد تأفف بشدة فمصباح المدخل يبدو أنه قد تعطّل. ولذلك خطا حسين من بوابة العمارة حذرًا، وقبل أن يخطو ناحية الدرج تفاجأ بمن يسحبه من قميصه من الخلف جانبًا، على الفور وجّه بصره ناحية الشخص ثم صرخ مذعورًا من هول ما رأى، هتف:
-ميــن؟!
اتسعت بسمة بثينة وهي تخاطبه في هيام:
-أنا بوسي، شكلي حلو مش كده!
تأمل وجهها متقززًا ومتخوفًا في ذات الوقت، فتلك المساحيق التي تلطخ وجهها أثارت حنقه، وبعزيمة قبضت بثينة على ذراعه بقوة كي لا يهرب بعيدًا، قالت بنفس حالتها الوالهة:
-أيه رأيك فيا؟!
حاول التملُّص منها وفشل، خاطبها في نفور:
-أيه اللي عملاه في نفسك ده، سيبيني يلا!
شدّدت من قبضها عليه وهتفت رافضة:
-أسيبك أيه، أنا مصدقت أقفشك، دا فرصتي النهارده!
ملأه القلق والخوف معًا، وأدرك سريعًا نواياها السيئة، وبكل قوته جاهد على إبعادها عنه، فصرخت تمثل الاستغاثة من الجميع:
-الحقوني، بيعتدي عليا!
اضطرب حسين بشدة وهتف:
-إنتِ كدابة!
ولجت ورد من البوابة فقد جاءت لتزجره على فعلته الشنيعة معها، ثم تفاجأت بأحدهم يستنجد من الظلام بجانب الدرج، فاقتربت في حذر حتى اتضحت الرؤية وصُدمت من وجود حسين ومعه تلك المرأة، فصاحت غاضبة:
-بتعملوا أيــه؟!
انتبه لها حُسين وخاطبها مرتجيًا:
-الحقيني يا ورد وابعديها عني.
هتفت بثينة وهي تكذّبُه:
-هو اللي ضحك عليا
دفعها حسين بكل قوته لكنها كالغراء، فأردفت:
-هتتجوزني ولا لأ!
اغتاظت ورد مما تراه وعبست، وبدأوا يسمعون أقدام سكان العمارة على الدرج فتعالى خوف حسين، نظر لـ ورد طالبًا مساعدتها قائلًا:
-ورد اتصرفي، الناس هتتلم وهتبقى فضيحة!
وقفت ورد تشاهد وبسمتها تتسع تدريجيًا فقد تعجّب من أمرها، وتأججت صدمته منها حين هتفت:
-أنا شاهدة على كل حاجة
وبّخها في سخط:
-شاهدة على أيه الله يخرب بيتك!
رفعت يديها للأعلى وهي تخاطب ربها قائلة:
-أشكرك يا رب، انتقمتلي من غير ما أعمل أي حاجة!
تذكر حسين ما فعله معها وندم، وبدا في حالة سيئة؛ خاصةً تجمع البعض أمامه ونظراتهم نحوه تقتله كالسهام، تلعثم في تبرير الأمر وتبرئة نفسه، وزادت بثينة الطين بلة حين خاطبتهم:
-كان بيعتدي عليا ووعدني بالجــواز.............................!!
تعليقات



×