رواية عشق لا يضاهي الفصل الثالث و الستون بقلم اسماء حميدة
لم يعبأ ظافر بدينا ولم يكلف نفسه عناء التجمل برد دبلوماسي بل أطلق كلمته كالسهم البارد
أنا مشغول.
كأنما تلقت لكمة في صدرها إذ لم تتوقع دينا تلك الصراحة الچارحة وذلك الجفاء الذي قدم لها بلا أي زخارف أو مواربة.
طافت عينا دينا سريعا على ملامحه باحثة عن تفسير ثم التفتت نحو سيرين تلوك بين أسنانها تساؤلاتها عن سر ما دار بينهما وقد غاصت أظافرها في كفها كأنها تحاول تثبيت تماسكها واحتبست إحباطها خلف ستار من الهدوء المصطنع.
ثم وبابتسامة مدروسة كمن يضع قطعة شطرنج جديدة في مكانها نظرت إلى سيرين وقالت
إذن هل يمكنك الحضور يا سيرين تصادف أن
لقاء دفعتنا الجامعية سيقام عقب المؤتمر الصحفي مباشرة وأظن أن رؤية زملائك القدامى ستنعش ذاكرتك أليس كذلك
حينها التقت نظرات دينا بعينا ظافر واشتعلت بينهما معركة صامتة وبما أنه كان يدرك أن سيرين تبحث عن ذكرياتها الضائعة فكيف لها أن ترفض هذه الدعوة
تنفست سيرين بعمق وألقت نظرة جانبية على ظافر قبل أن تجيب
بالطبع سأكون هناك.
ثم انسحبت من المكتب تاركة خلفها أثرا غير مرئي أشبه بذبذبات هواء ثقيل لا ينقشع بسهولة.
لكن مع كونها ستحضر المؤتمر أيضا شعر ظافر بانجذاب خفي ذلك النوع من الإغراء الذي يعبث بالخيوط الخفية داخل المرء دون أن يشعر في الحقيقة هو لم يكن يريد
الذهاب لكن إصرار دينا والوجود المرتقب لسيرين جعله يستسلم أخيرا.
لاحظت دينا ذلك التحول في موقفه وهي تراقب بصمت كيف تسرب اهتمامه إلى سيرين كقطرة حبر تذوب في ماء صافي.
عندها شعرت أن كراهيتها لتلك المرأة تضاعفت بل وتوغلت في صدرها كجذور شجرة سامة.
أما سيرين فحينما خرجت من مكتب ظافر تركت أنفاسها تتثاقل كأنها تخلت عن معركة لم تكتمل وهي تهمس لنفسها بأسى
اللعڼة لقد كنت قريبة جدا من تحقيق ما عدت من أجله فأنا أريد الرحيل من هنا في أقرب وقت ممكن...
في ذلك المساء كانت المدينة تكتسي بثوبها المخملي تتلألأ أنوارها كأنها كواكب معلقة في السماء ترقص على إيقاع الليل.
جلست سيرين في المقعد الخلفي لسيارتها ترمق الطرقات بعينيها المتأملتين بينما كان السائق يشق طريقه نحو دار الأوبرا حيث كانت تنتظرها أمسية لم تكن تعلم أنها ستنقش في ذاكرتها كوشم لا يبهت.
عند البوابة اصطفت السيارات الفاخرة يخرج منها رجال ونساء كأنهم قطع شطرنج مذهبة كل منهم يحتفظ بمكانه في اللعبة الاجتماعية.
ترجلت سيرين من سيارتها تطوف بعينيها بين الحضور فترى وجوها تحمل عبق الماضي زملاء الجامعة الذين كانوا يوما جزءا من فصل مضى من حياتها.
ودينا بطموحها الذي لا يعرف سقفا قد استأجرت القاعة الموسيقية وقاعة المعارض معا محكمة قبضتها على ليلتها كما يتحكم العازف أوتار
كمانه.
قلبت سيرين عينيها
بعد أن تآملت المشهد بعناية إذ لم يكن الحضور عشوائيا فكل كرسي هنا وضع بعناية كل دعوة كتبت بميزان الذهب فقد كانت الحفلة للعلية فقط لمن يظنون أن السماء ليست حدا بل بداية.
اجتازت سيرين بوابة القاعة تقدم دعوتها كمن يقدم جواز عبوره إلى عالم آخر.
في تلك الأثناء قادها أحد المنظمين إلى مقعد يتيح لها رؤية بانورامية حيث يمكنها أن تراقب المسرح وأروقة القاعة دون أن ترى.
في البداية لم تفهم ما تخطط له دينا إلى أن وقعت عيناها عليه إنه ظافر.
كان يجلس في مقعد مميز وكأنه عرش معد لملوك من زمن آخر.
عقدت سيرين حاجبيها وهمست لنفسها بتهكم خفي
ألم يقسم أنه لن يأتي ها هو هنا حيث لا يستطيع مقاومة سطوة دينا.
دينا...
كانت تتلألأ تحت الأضواء تتغذى على وهجها كما تتغذى الفراشة على رحيق الأزهار.
كانت الصحافة تلتف حولها لتحول وجودها إلى مادة دسمة للعناوين الكبرى ودينا تستقبل ذلك كحق مكتسب وكأن القدر قرر أن يكون لها وحدها.
أما زملاؤها القدامى
أولئك الذين اعتادوا التحديق بدينا من عل فقد أصبحوا الآن حولها ككواكب تدور حول شمسها يتصنعون الود يحاولون التقرب من ظافر فهم يطمحون لنيل لحظة من وقته.
لكن محاولاتهم كانت ضړبا من العبث
فظافر ذلك الذي تسوره هالة من الغموض كان محاطا بحراسه الشخصيين كقلعة لا ټقتحم فلا أحد يجرؤ على اختراق دائرته ولا أحد يستطيع أن يقترب منه سوى من يريد هو أن يقترب.
ومن مقعدها في العتمة كانت سيرين تراقبه في محاولة منها أن تقرأ شفتيه أو أن تلتقط أي إشارة لكن كلماته كانت أسرارا يلقيها على حراسه كتعويذات غامضة وسرعان ما تذوب في ضجيج المكان تاركة سيرين في دوامة من التساؤلات.
بعد لحظات من الانتظار المشوب بالترقب اقترب أحد الحراس الشخصيين من سيرين ثم انحنى قليلا وقال بصوت يتسم بالاحترام
السيدة تهامي السيد نصران يطلب حضورك إلى طاولته.
توقفت سيرين للحظة وجيزة إذ لم يكن لديها مبرر لرفض الدعوة ولا حتى رغبة في ذلك ومن ثم انتصبت من جلستها وخطت إلى الأمام بثقة
هادئة لكن تلك الخطوات كانت كحجر يلقى في مياه راكدة يهز السطح ويثير الهمسات.
وما إن وطئت قدماها أرض القاعة حتى انقسمت النظرات بين دهشة مذهولة وريبة متحفظة.
الهمسات تصاعدت تبعثرها موجات الفضول
أليست هذه سيرين تهامي!
سمعت أنها ماټت منذ سنوات... هل يعقل!
لا بد أنها شبح! أو زومبي عاد من القپر!
كانت كلماتهم طعنات غير مرئية لكن سيرين مضت غير عابئة وكأنها تسير فوق جليد هش تتهددها نظرات مشټعلة بالأسئلة كأنها محاكمة صامتة من ماض لم تنسلخ عنه تماما.
حين وصلت إلى طاولة ظافر سحبت الكرسي وجلست قبالته تحت وطأة الأعين التي لم تكف عن
اختراقها.
رفعت سيرين رأسها بثبات وسألت بصوت خاڤت لكنه نافذ
لماذا استدعيتني يا سيد نصران
ارتفع حاجباه قليلا وبريق ماكر لمع في عينيه كأنها صقر يطوي جناحيه قبل الانقضاض وقال بصوت عميق يحمل نكهة تحد خفي
ألم تقولي إنك ترغبين في استعادة ذاكرتك... فلتدعي الماضي يتحدث عن نفسه.
تحت وطأة عينيه المتفحصتين شعرت
سيرين بشيء يشبه القلق لكنه لم يكن خوفا بقدر ما كان اضطرابا لم تفهم مصدره وكأن شيئا كان على وشك الانفجار في هذا اللقاء لكنها لا تعرف بعد إن كان ذلك الانفجار في صالحها أم ضدها.
في تلك اللحظة أنقذها القدر بشكل درامي حيث صعدت دينا إلى خشبة المسرح.
كانت الأضواء تسلط عليها فتوهجت نظرتها للحظة عندما وقعت على سيرين جالسة هناك إلى جوار ظافر لكنها سرعان ما استعادت هدوءها ورفعت الميكروفون بين يديها بإيقاع مدروس ثم قالت بصوت يقطر هدوءا مريبا
الأغنية القادمة أهديها لحبي الأول... الوحيد... الذي لم يفارق قلبي يوما.
كان وقع الكلمات كحجر ثقيل ألقي في بركة المشهد فتردد الصدى في الأرجاء.
لم يكن هناك أحد في القاعة يجهل الحقيقة دينا كانت تشير إلى ظافر.
وهكذا بدأ العرض ومع أولى النغمات تعالت بعض الهتافات من الحضور وكأنهم يترقبون بداية مشهد آخر أكثر إثارة في هذه الليلة المشحونة بأشباح الماضي.
وكانت المفاجأة.....