رواية عشق لا يضاهي الفصل الثانى والسبعون بقلم اسماء حميدة
تظاهر زكريا بالحذر كأنما يتوشح درعا من السکينة المصطنعة ورفع بصره تجاه شادية يقول بنظرة واثقة تنضح ببراءة مصطنعة
قالت لي معلمتي إن من قلة الذوق أن نسأل عن أحوال عائلات الناس يا سيدة نصران.
كلماته سقطت على قلب شادية كحجر صغير يلقي تموجاته على سطح ماء راكد فاختنقت أنفاسها للحظة إذ أدركت وقد خجلت كم كانت أسئلتها فضولية كأنها تنبش في رمال لم تدرك بعد كم تخفي تحتها من شظايا الذكريات... لكنها في خضم الارتباك لم تخف دهشتها من حنكة الصبي ووعيه المبكر وكأنه خلق وفي عينيه خريطة حذر ترشده في طرق الكبار قبل الأوان.
أنا آسفة... لقد أخطأت.
قالتها بصوت مكسو بالندم ثم مدت يدها برفق كما لو كانت تمسح على رأس قط أليف لكنها لم تلامس شيئا إذ انزلق زكريا بخفة من تحت يدها كقطرة مطر عصية على الإمساك وتجمدت يدها في الهواء شاهدة على رفض صامت مؤلم لكنه مفهوم.
كان مالك يراقب بصمت وعيناه تلتقطان المشهد كما تلتقط كاميرا صورة بلون الذكرى... لم يفهم تماما لماذا تهتم عمته الكبرى تلك التي بالكاد تمنحه اهتماما بهذا الطفل الغريب. وفي قلبه نمى شيء يشبه الغيرة لكنها غيرة شفافة أقرب إلى الحزن منها إلى الڠضب.
جدتي شادية لا يزال علي أن أري زاك القصر. أرجو المعذرة.
قالها مالك كمن يحاول الهروب من حجرة امتلأت بأنفاس لا تخصه.
شادية التي شعرت وكأنها فقدت خيط الحديث اكتفت بهز رأسها ومن ثم قالت بود
حسنا... استمتعا وإن احتجتما شيئا ستجدانني هنا.
كان صوتها ناعما لكن عينيها بقيتا معلقتين على خطوات الطفل المغادر كما تلاحق طيف حلم ترغب في تحقيقه.
وما إن اختفى الصوت الخفيف لخطوات الولدين خلف الممرات حتى عادت نيران الفضول لتتوهج في قلب شادية فقد كان هناك شيء غامض يحيط بزكريا... شيء لا تراه لكنها تشعر به كما يحس المرء ببرودة الغيم قبل المطر فنادت سكرتيرتها بنبرة صارمة فيها أمر يختبئ خلفه سؤال
أريدك أن تبحثي عن خلفية هذا الطفل خاصة والديه... اجمعي كل ما تستطيعين.
مفهوم.
قالت السكرتيرة بلا تردد لكنها لاحظت الشرر المختبئ في عيني سيدتها.
ثم همست شادية لنفسها كأنما تتكلم مع شبح ذكرى
إنه يشبهه... تماما كما كان ظافر وهو صغير...
لو أن للقدر سطورا أخرى لكان زكريا هو الابن الذي لم يولد... كان صورة مصغرة من ظافر كأنه خرج من الماضي ليذكرها بما فات.
بالمناسبة... هل ظافر لا يزال هنا قالتها شادية بصوت مسموع.
ألقت السكرتيرة نظرة خاطفة إلى الساعة الفضية التي تتوسط المكتب
ما زالت أمامنا ساعة حتى تبدأ المأدبة... السيد نصران في طريقه الآن.
أومأت شادية برأسها لكنها في داخلها كانت تستعد لمعركة صغيرة فحين يصل ابنها ستذكره بل ستلقي عليه الحقيقة ككأس من النبيذ المر أن الوقت لا يرحم وأن عليه أن يختار امرأة لا لتملأ فراغ أيامه فقط بل لتمنحها حفيدا... ربما... طفلا يشبه زكريا.
في ذلك الوقت كانت سيرين وكوثر تتجولان بين رفوف الفساتين داخل أحد المتاجر كمن ينقب عن لحظة مثالية وسط كومة من التفاصيل.
لم ترغبا في لفت الأنظار... أو هكذا أوهمتا نفسيهما إذ كانتا تبحثان عن شيء بسيط لا ېصرخ بالألوان ولا يسرق الأضواء بل يتسلل إلى العيون في هدوء.
لكن البساطة حين تلف جسد امرأة كأنها منحوتة من الضوء تتحول إلى فتنة خفية تأسر النظر دون حاجة لصخب أو بهرجة.
كلما اختارت سيرين فستانا أكثر هدوءا بدا جمالها وكأنه يصيح في وجه العالم بصوت لا يسمع... لكنه يشعر.
نظرت كوثر إليها بدهشة ثم همست بانبهار
يا إلهي... تبدين مذهلة فمعظم الناس يحتاجون ثيابهم ليبدوا رائعين لكنك تبدين كما لو أن الجمال خرج منك وارتدى الفستان لا العكس.
ابتسمت سيرين وبدت ابتسامتها كنور فجر يتسلل من بين الغيوم يبعث في القلب راحة وفي العين دهشة.
أما كوثر فكانت تحمل جمالا من نوع آخر... ليس ذلك الذي ېصفع البصر من أول وهلة بل ذاك الذي يتسلل إلى الروح ببطء وكلما طالت النظرة ازدادت بهاء فقد كانت مثل لحن... لا يدهشك في البداية لكنه يبقى في رأسك طويلا بعد أن يتوقف.
خرجت الفتاتان معا فبدتا كقصيدتين من زمن مختلف تنطقان بلغة الأناقة وما إن وقعت عليهما عينا السائق حتى انتصب في جلسته وكأنما يقود ملكتين في موكب غير معلن.
في طريقهما إلى قصر نصران ظلت سيرين تحدق عبر زجاج السيارة تشاهد المدينة تذوب في ضوء الغروب وفجأة ارتطمت ذاكرتها بصورة قديمة
كانت تلك المرة الأخيرة التي زارت فيها القصر قبل خمسة أعوام كاملة مر الوقت سريعا... همست كأنها تحدث نفسها أو طيفا ما كان يجلس إلى جوارها.
وبينما غاصت سيرين في صمتها كان الخارج يضج بالحياة.
قافلة من السيارات الفاخرة تتوالى أمام بوابة القصر كأنها موكب من المجرات اللامعة في ليلة بلا قمر.
لم لا! واليوم هو يوم ميلاد كبير عائلة نصران والمكان بدأ يغص بالشخصيات البارزة في المدينة من رجال المال إلى نسائهم المتزينات بالذهب والابتسامات المعلبة.
أما والد كوثر فقد كان هناك منذ بداية الحفل واقفا كجندي ينتظر الإشارة لا لشيء إلا ليرى ابنته تصاد من قبل ثري يرضي طموحه.
وما إن التقت به كوثر حتى دوى صوت غير مسموع داخل رأسها خفقان أشبه بطرق على باب لا ترغب بفتحه.
استدارت كوثر نحو سيرين وقالت بصوت خاڤت
أظن أن عليك البحث عن ظافر بنفسك لاحقا... يجب أن أعالج مسألة أبي أولا.
أومأت سيرين وابتسمت بهدوء
حسنا اذهبي.
ترجلت كوثر من السيارة وسارت بخطى حذرة كمن يقترب من حقل ألغام.
أبي...
قالتها بهدوء لكن الكلمات لم تسعفها.
هل تعلمين كم الساعة! بنات أكبر العائلات وصلن باكرا وتقربن من السيدة نصران بينما ابنتي تتأنق في مرآة لا تنتهي.
صوته كان كالسوط يجلدها بغير رحمة
لكنها لم تظهر شيئا فقط ردت ببرود كأن طبقة جليد غطت روحها للحظة.
أما سيرين فظلت في السيارة تراقب من بعيد وفي عينيها... شيء يشبه الحسد ليس الغيرة الطفولية بل حسدا حقيقيا خاما يتدفق من شقوق قلب فقد أباه قبل أن يكبر.
تخيلت سيرين للحظة أنها تمشي بجوار والدها تتشابك أضلاعها معه في حضرة الذكريات وسط الحشود لكنها لم تسمح لحنينها أن يطول بل خاطبت السائق بصوت راجي
هلا توقفت في مكان أقل ازدحاما
أومأ السائق دون كلمة ثم مال بالسيارة جانبا وما إن هدأ الزحام فتحت الباب بخفة وترجلت كأنها تستعد لكتابة فصل جديد من رواية سئمت من سرد أحداثها وتريد ختمها عند هذا الحد.
رفعت سيرين معصمها ببطء ونظرت إلى ساعتها كما لو كانت تحاول قياس نبض اللحظة لا الوقت تهمس
ست دقائق فقط...
لم يتبق سوى هذا القليل ويبدأ العرض الكبير... مأدبة آل نصران... تلك الرقصة الصامتة التي يتحرك فيها الجميع على نغمة واحدة يقودها ظافر كعازف لا يخطئ نوتة.
ظافر... الذي لم يعرف التأخير يوما دقته كانت أسطورية كأن الساعة نفسها تعيد ترتيب دقاتها على إيقاعه.
استدارت سيرين بخطوات محسوبة واتجهت نحو الطريق الذي تعلم بأن ظافر سيسلكه... ذاك الذي يؤدي إلى القاعة الفخمة حيث ستفتح الأبواب وترفع الستائر عن مشهد طال انتظاره.
وقبل أن تكتمل خطواتها قطع صوت محرك هادئ كهدير بحر بعيد سكون اللحظة... سيارة بنتلي فاخرة انزلقت أمامها كأنها شبح أنيق يشق المدى
لم تكن تحتاج أن تراها مرتين لتعرف صاحبها.
هو... كان هناك جالسا في المقعد الخلفي يغوص في أوراقه كمن يكتب فصلا جديدا من ملحمة لا يملك أحد مفتاحها سواه.
هاتفه في يد وملامحه ثابتة كأنها محفورة في صخر من الجليد لكن عينيه حين رفعت نحوها التمعتا فجأة كوميض برق وسط ليل ثقيل.
أشار ظافر إلى الأمام برأسه وسأل سائقه دون أن يرفع نظره
أليست هذه السيدة تهامي
كانت نبرته هادئة لكنها مشبعة بشيء لا يقال كأن في سؤاله خيطا غير مرئي يتلوى حول اسمها.
السائق وقد أدرك المعنى خلف العبارة لم يجبه فورا بل تمهل قبل أن يقول
أجل سيدي
أما سيرين فوقفت هناك بين الزمن والحقيقة بين رغبة أن تتقدم وخوف أن يكون هذا اللقاء بداية اشتعال لا يمكن إخماده وبالأخير اختارت أن تهرب بين ظلال الأشجار سالكة طريق أرشدها إليه ظافرها منذ زمن تتوهم أنه سيعبر كالآخرين من ذاك الطريق المباشر إلى بوابة القصر الداخلية.
ولكن.......