رواية عشق لا يضاهي الفصل السادس و الثمانون بقلم اسماء حميدة
بعين توقدت فيها شرارات الغيرة وبلغة حاول أن يغلفها باللامبالاة عاد طارق يطرق باب التساؤل مجددا لكن نبرته لم تخف ارتجاف القلب
سأذهب إلى ذاك الحفل الخيري بصحبة سيرين فأنت لست مهتم أليس كذلك
رمقه ظافر بنظرة لم تفصح عن شيء لكنها حملت خلف ستارها ما يشبه المهادنة وقال بنبرة رخيمة
لا بأس لقد قطعت وعدا بالحضور.
تسلل خيط رفيع من خيبة الأمل إلى عيني طارق كأن شيئا ما داخله انكسر بصمت ثم قال وقد اختلط صوته بشيء من العتاب
ألم تكن تكره حضور مثل هذه الفعاليات
ابتسم ظافر لكن ابتسامته كانت كظل شمس على سطح ماء خادعة ومربكة وقال بخفة ممزوجة بالدهاء
لكل قاعدة استثناء أليس كذلك
لم يطل المقام بطارق كأن المكان قد ضاق به بما رحب فاستأذن ورحل وحين خرج إلى الممر اصطدم بوهج لم يكن يتوقعه كانت سيرين هناك تحيط بها ضحكات ناعمة كالعطر المتطاير من ورود الصباح تبتسم بعفوية لم يرها بها من قبل... لا لم تكن تبتسم بل كانت تتفتح مثل زهرة قررت أن تهب الحياة لونا جديدا.
وقبل أن تقوده قدماه إليها مسيرا اقترب منه مساعده بخطى سريعة وهمس
سيد طارق الجد يطلب حضورك فورا.
أومأ طارق وهو يشد على رباط قلبه زافرا بإحباط يحبس شفته السفلى بين ناب وقاطع
أووووووف حسنا سآتي
في ظهيرة تشبعت شمسها بشيء من الحنو زارت سيرين مدرسة ذوي الاحتياجات الخاصة حيث افتتحت غرفة الموسيقى حديثا التي ولدت خصيصا لتكون ملاذا للأرواح الباحثة عن نغمة خلاص.
دخلت سيرين بخطى خفيفة كأنها لا تود أن تزعج السكون وجلست أمام البيانو الذي بدا كعاشق قديم ينتظر من يوقظه من سباته وما إن لامست أناملها مفاتيحه حتى انساب اللحن كهمس المطر رقيقا شجيا دافئا... وكأن الموسيقى ذاتها قد وجدت في سيرين لسانها المفقود.
خارج الغرفة وقف ظافر يحيط به رجاله لكنه بدا وحده وحين تسللت الألحان إلى مسامعه تجمد الزمن للحظة وكأن قلبه قد أجبر على الإصغاء.
كانت تلك المرة الأولى التي يراها تعزف لكنها كانت كافية لتزلزل قناعاته القديمة... حدق في ملامحها في تلك الابتسامة الرقيقة التي ارتسمت على ثغرها كنسمة صباح فخطړ له كم نادرا ما رآها بهذا الصفاء... وكأن اللحن هو مرآتها الحقيقية.
همس بالكاد سمعت كلماته من شدة انبهاره
أنت مذهلة... سيرين.
في الداخل راح الأطفال يحدقون بها بدهشة طفولية صافية وتناثرت حول سيرين نظرات الإعجاب كزهور برية
كيف فعلت ذلك سأل أحدهم فيما اختلطت البراءة بعشق اللحظة.
لم تكن سيرين كغيرها من الزوار والمتبرعين... شيء فيها كان مختلفا ربما لأنها مثلهم ترتدي سماعة أذن أو ربما لأن روحها لم تشح عن الألم بل صافحته وتجاوزته.
شعر الأطفال بها لأنها ببساطة كانت واحدة منهم.
ابتسمت وقالت بصوت يقطر أملا
إذا عملتم بجد فلا حدود لما يمكنكم تحقيقه أنتم قادرون جميعكم.
ظل ظافر واقفا هناك لا يحرك ساكنا كأن ساقيه انغرستا بالأرض وشيء بداخله تغير انكسر ثم أعاد تشكيل نفسه كم كان أحمق حين ظنها مجرد وريثة مدللة لا نفع لها سوى في أعمدة المجلات! الآن فقط أدرك كم كانت صورته عنها مشوهة.
ومع اقتراب الزيارة من نهايتها راحت سيرين تودع الأطفال واحدا تلو الآخر تنزل رأسها إلى مستواهم مربتة على أيديهم تمنحهم ابتسامات صغيرة لكنها صادقة كأنها كانت تخيط على كل قلب منهم رقعة من الضوء.
وكان ظافر هناك يشاهد كل شيء ويشعر للمرة الأولى أن قلبه لم يعد ملكه فعليا.
حين خرجت سيرين من المدرسة باغتها مشهد لم تتوقعه لم يكن هناك أثر للحراس الذين اعتادوا أن يحيطوا به كجدران صامتة وعلى ما يبدو أنه قد برحيلهم.
وحده ظافر كان ينتظرها واقفا بثبات تحت شجرة بلوط ضخمة كأنها تمد له ظلها عن طيب خاطر وتحتفظ له بسر لا تبوح به إلا لمن يعرف طريق الصمت.
كان منتصب القامة ملامحه حادة كمنحوتة يونانية ونظرته جانبية باردة وساحرة تخفي في عمقها شيئا عصيا على الفهم.
اقتربت منه سيرين بخطى حذرة كأنها تخشى أن تفسد السكون المتوتر بينهما.
نادت عليه بخفوت
سيد نصران...
لكن صوتها تلاشى حين لمحت السېجارة تحترق بين أنامله وصدمها ذاك الدخان الذي يتصاعد منها كأنفاس الليل.
ارتجفت داخليا تساءلت في دهشة مكتومة
متى أصبح أسير هذا الدخان!
كان في الماضي يكره رائحته يشيح بوجهه عن المدخنين كما لو أن دخانهم يمس قلبه بشيء من الضيق.
أطفأ ظافر السېجارة ببطء كمن يسدل ستارا على مشهد داخلي يعجز عن شرحه.
نظر إليها فارتبك صوت قلبه وهو ينطق
هل انتهيت
كان صوته عميقا على نحو غير معتاد وكأن الكلمات خرجت من بئر داخلي لا يرى.
قالت بهدوء وهي تخرج شيئا من حقيبتها الصغيرة
نعم هذه من الأطفال هدية رمزية لوحة صغيرة يعبرون فيها عن شكرهم لكم على دعمكم في بناء المدرسة.
استكشف ظافر الظرف بنظره فقط ثم قال دون أن يمد يده
احتفظي بها
كلماته كانت كسيف مغمد في جعبة من البرود فهو لم يكن رجل هدايا ولا يعرف كيف يجامل بمظاهر الأشياء لم تكن اللفتات الصغيرة تعني له شيئا وسيرين تعرفه بما يكفي لتدرك ذلك فابتلعت خيبتها بصمت.
قالت بخفة متماسكة
سأذهب إذا.
واستدارت كأنها تحاول أن تنهي المشهد بأقل قدر من التوتر لكن صوته فاجأها قاطعا الطريق على خطواتها
انتظري!
توقفت ومن ثم استدارت إليه تناظره بدهشة
هل هناك شيء آخر
رمقها بنظرة لا تشبه كل ما سبق ثم قال ببطء كمن يفرغ جملة ظلت تحترق في داخله
لقد كنت أنتظرك لأكثر من أربع ساعات يا سيرين.
شعرت سيرين أن كلمات ظافر خرجت من مكان هش بداخله لا يحب لأحد أن يراه فتخللتها رجفة سرت على طول عمودها الفقري ورغم اضطرابها قررت أن تغتنم اللحظة
هل
تقبل دعوتي للعشاء
لم تتوقع رده السريع إذ قال متلهفا
حسنا.
تبعها ظافر بصمت حتى وصلا إلى القصر الذي تسكنه وما إن دخل حتى بدأ قلبه يعج بضجيج صامت.
هذا المكان... ملك لكارم.
زوجته تسكن في منزل رجل آخر!
ماذا سيقول الناس
أسيظنونه رجلا فقد ماء وجهه لدرجة أنه لم يكترث بتوفير مأوى لزوجته!
كان الڠضب يعتمل في صدره لكنه لم ينطق.
أما سيرين فلم تكن تعلم شيئا مما يدور في صدره إذ كانت منشغلة بتحضير خطتها فأمسكت بهاتفها وطلبت طعاما منزليا بعناية
سيد نصران لا أظنك ستمانع إن طلبت طعاما منزليا أليس كذلك
أومأ بصمت غامض.
لكنها كانت تعرف تماما لم فعلت لو ذهبا إلى مطعم فلن تستطيع تنفيذ ما تخطط له هذه الليلة.
ابتسمت بانتصار وهي تشيح بوجهها عنه لا إلا يكشف مخططها ويمينها تربت على قارورة صغيرة احتفظت بها بجيب رداءها