رواية عشق لا يضاهي الفصل المائة و الثامن
انقطع الخط فجأة كما لو أن الهاتف نفسه لفظ أنفاسه خجلًا من وطأة الكلمات...
إذ أغلقت شادية الاتصال في وجه دينا كأنها أسدٌ صفَع فريسته قبل أن تتمكن من الزئير.
أما دينا فكانت أصابعها تشتعل غضبًا، فأخذت قبضتاها تنطبق ككماشة فولاذية على شظايا الهواء، وعيناها تتوهجان بشررٍ مكتوم... تتمتم بغيظ:
"ذلك الصغير اللعين... مالك! لا بد وأنه قد وشى بي!"
راحت دينا تعيد شريط الأحداث في ذهنها مشهدًا تلو الآخر كما يُعيد عقل المحقق ترتيب الأدلة في جريمة مدبرة.
السقوط؟ ممر الروضة؟ الماء؟
لم يكن كل ذلك سوى مسرحية أُتقن إخراجها بشكل عجيب.
كيف كان الممر زلقًا إلى هذه الدرجة؟ ولماذا جاء مالك وطفل آخر يحملان دلوًا للمسح تحديدًا في تلك اللحظة؟
هل كانت صدفة؟ لا… بل كانت مصيدة، وفخٌ نُصب بإبداع طفولي لا يُستهان به.
ضحكت دينا بسخرية مجروحة، إذ لم تكن تتوقع أن يخدعها طفل في مثل سن مالك... لا بل يتفوق عليها بدهاءه!، فتوعدته سراً:
"في المرة القادمة... لن يفلت مني، مهما كلفني الأمر."
لكن غضبها لم يُمنَح وقتًا ليختمر، إذ انطلق رنين الهاتف من جديد جرسه يقتحم اللحظة كطلق ناري في ليلة صمت.
"دينا! نحن في ورطة."
جاءها
صوت إيفون محمّلًا بالتوتر كأنها تتحدث من فوق قارب يتهاوى وسط بحرٍ هائج.
"أغنيتكِ *شظية من ضوء*... تلاحقها تهمة انتحال والفضيحة تنتشر كالنار في هشيم الإنترنت."
شهقت دينا لكن شهقتها خرجت مكتومة كأن الهواء نفسه خانها، تمتم بخزي:
"ظننت أن الأمر قد سُوِّي..."
قالتها والشك يتسرب من حنجرتها قطرة قطرة.
"لم يُحل شيء، دينا."
جاء الرد كطلقات متتابعة بلا رحمة:
"تحققي بنفسك... هناك تطابق بنسبة تسعة وتسعين بالمئة بين أغنيتكِ وأغنية قديمة أصدرتها سيدة تُدعى ساسو قبل أربع سنوات... الناس يتحدثون الآن عن سرقة علنية، بل ويتهمونكِ بإساءة استخدام نفوذكِ! يقولون إنكِ حبستِ محاميها ليومٍ كامل... التسريبات بين شركتنا واستوديو ساسو خرجت للعلن... الجميع يظنون أننا حاولنا شراء الأغنية وفشلنا، فسرقناها."
وكأن العالم كله انقضّ عليها دفعة واحدة كصخور تتساقط من جرفٍ فوق جسدها الهش.
دارت الأرض بها ورأسها بدأ يطنّ كخلية نحل غاضبة.
حاولت أن تستجمع ما تبقى من اتزانها، فتمتمت بصوت مخنوق:
"سألقي نظرة على الأمر بنفسي..."
أمسكت بهاتفها وبدأت تتصفح منصات التواصل.
العناوين تتوالى كطلقات وهاشتاجات تتصاعد كأعمدة دخان في سماء الفضيحة.
"فضيحة الانتحال: دينا في مهب العاصفة!"
"هل سقطت نجمة *شظية من ضوء* في مستنقع السرقة؟"
"محادثات مسرّبة تُدين شركة الإنتاج!"
كانت الحروف تحترق أمام عينيها كأن كل كلمة تصفعها على وجهها مرةً بعد مرة.
قلبها ينكمش ونفسها يتقطع... العالم بدأ ينهار من حولها لكنّها كانت تعرف جيدًا:
هذه ليست مجرد أزمة...
**بل بداية السقوط.**
لم تكن دينا قد استوعبت بعد زلزال الاتهام الذي ضرب مسيرتها الفنية حتى تسللت إلى عينيها تغريدتها الأخيرة تلك التي كتبتها بحروفٍ مبلّلة بالإنكار:
"البراءة ستنتصر."
لكنها لم تكن تعلم أنها حفرت بها شاهد قبرها بيديها... فالردود انهالت عليها كأمطارٍ من سهام لا رحمة فيها ولا هوادة.
الصفحة صارت ساحة معركة والهاشتاغات تصرخ باسمها كجرس جنازة يتكرر في الأثير:
"انقلب السحر على الساحر!"
"أين أنصار البراءة الآن؟ هل ترون الحقيقة كما نراها؟"
"أغنية مطابقة بنسبة ٩٩٪؟ هذا ليس انتحالًا... هذا استنساخ صريح!"
ثم جاء التعليق الذي طعنها في خاصرتها:
"لم تسرق لحنًا... بل سرقت روحًا كاملة، نسخت ولصقت... كما لو أن الفن بلا حرمة."
كلماتهم تنغرس في قلبها مثل إبر زجاجية... وبعضهم تمادى في تفكيك الجريمة
وكأنهم يشرِّحون جثة موسيقية:
"الكلمات لا تُطابق الإيقاع وهذا ما فضحكِ... حتى اللص يحتاج إلى موهبة ليُخفي أثره."
كانت دينا تُحدّق في الشاشة بعينين متخشبتين والعرق يتسلل من بين مساماتها رغم برودة المكيف.
لم تعد تجرؤ على الضغط على زر *نشر*.
حتى الرد؟ صار رجسًا لا تطيقه أصابعها.
رنّ الهاتف مرة أخرى وكانت إيڤون على الطرف الآخر ونبرتها هذه المرة تشبه من يخبر أحدهم بأن جسده ينزف دون أن يشعر:
"اتصلي فورًا بفريق العلاقات العامة، لا وقت للتردّد."
تنهّدت إيڤون وكأنها تخشى أن تزعج شبحًا لا إنسانًا:
"أعلم علاقتك بظافر ولهذا سأكون صريحة معك دون صراخ."
ثم أردفت بصوت كمن يقرأ عليها حكمًا صدر لتوّه:
"لو كنا قد أبرمنا تسوية مع استوديو السيدة ساسو في البداية لربما انتهى كل هذا بهدوء.... لكنكِ رفضتِ، دينا... رفضتِ حتى الاعتراف بوجود شبهة والآن؟ حتى لو دفعنا ملايين لشراء حذف العناوين لن يُمحى أثر هذه الفضيحة من الذاكرة."
صمتت إيڤون لبرهة ثم قالت بنبرة حاسمة:
**"أمامنا خسارتان فقط وعليكِ أن تختاري واحدة: إما نعود إلى ظافر ونستجدي مساعدته مرة أخرى... أو تبحثين عن السيدة ساسو وتعتذرين لها وجهًا لوجه."
شعرت دينا
أن قلبها سقط إلى قاع معدتها.
ظافر؟!
كيف تجرؤ أن تطلب دعمه مجددًا بعد أن داست على كرامة وريث عائلتهم تحت قدميها صباحًا كما قالت شادية التي تجهل تفاصيل ما حدث وحتماً استمعت لما قاله الشيطان الصغير وصدقته؟
كما أن اللجوء إلى ظافر أمر غير منطقي بالمرة إذ كان الظل الأخير المتبقي من حبه لها هشًّا، لا يحتمل نسمة، فكيف بعاصفة؟ فأن تطلب منه العون الآن هو بمثابة القضاء على البقية الباقية من صورته عنها... من صورتها عنده.
لا... لا، هذا الخيار مستحيل.
تبقّى فقط طريق واحد...
**السيدة ساسو.**
اسمها بدا كجرس إنذار في عقل دينا فاهتزت داخليًا حين قفزت فكرة جامحة إلى ذهنها:
"ماذا لو كانت ساسو هي... سيرين؟"
الاحتمال كان سخيفًا في ظاهره لكنه ظل يقرع أبواب وعيها بإلحاح مؤلم.
كوثر محامية ساسو... وسيرين الفتاة الهادئة ذات الأسرار الثقيلة.
هل يعقل أن تكون سيرين هي تلك الفنانة المجهولة في العلن، المضيئة في الظل؟
هزّت رأسها محاولة طرد الهوس من عقلها... وهي تقنع نفسها بأسباب واهية:
"سيرين عاشت في الخارج بضع سنوات فقط، لا أكثر... وساسو؟ لها جمهورها في أوروبا وأمريكا."
ومع ذلك، الشك مثل البذرة، إن وُجدت... نبتت.
نظرت
دينا إلى لارا، وجاء صوتها أكثر صلابة هذه المرة وإن كان يرتجف من الداخل:
"أعطيني رقم هاتف السيدة ساسو... سأتحدث إليها بنفسي."