رواية المطارد الفصل العاشر 10 بقلم امل نصر

رواية المطارد الفصل العاشر بقلم امل نصر

 
فور أن عادت يمنى لمنزلهم عيناها أتت على الغرفة المعروفة على الفور، ولكنها لم تجرؤ على الدلوف اليه، وتوجهت مباشرةً الى داخل المنزل تهتف باسم والدتها، التي ردت عليها من داخل المطبح :.
- تعالي يايمنى، انا هنا يابنتي.
وصلت اليها تلقي التحية وتشاكسها كالعادة:.
- مساء الفل على احلى ست الكل، عاملة آيه ياست ابوها ؟
رفعت نجية حاجبيها بدهشة مشوبة بالسعادة بعد أن ذكرتها ابنتها بالأسم المحبب على قلبها وهي تقلب في الإناء الموضوع أمامها على الموقد، فقالت :
- وه وه يايمنى، دا انتِ باين الغزالة رايقة معاكي، مدام جاية تفكريني باسم الدلع اللي كان يناديني بيه ابويا .
تبسمت يمنى بتصنع كما مازحتها بتصنع كي تداري ما تشعر به من قلق،  وسألتها :
- بتحبي انتِ قوي الأسم ده ياما؟
- ومين ماتحبش دلع ابوها يابتي بس ؟ اه الله يرحمك يابوي ويبش بش الطوبة اللي تحت راسك.
قالت نجية بتأثر واضح على ملامح وجهها الشاردة قبل إن تستفيق عائدة لابنتها تسألها:
- هو انتِ إيه اللي رجعك بدري النهاردة كدة، مش عوايدك يعني ؟
ارتبكت قليلًا قبل أن تتماسك في الرد :
- ولا حاجة، اصل الحركة كانت خفيفة في الوحدة فقولت اروح احسن.
- خفيفة كيف والنهاردة التلات، يوم تطعيم الأطفال في الوحدة؟
سألتها بتشكك زاد من توترها وجعلها تتلعثم قليلًا قبل ان تخرج جملة مفيدة:
- ااا..  ياما انا كنت مصدعة وماكنش فيا دماغ لتطعيم اطفال ولا وجع قلب .
- طب وما تقولي انك مصدعة من الأول، هو انا كنت هاحاسبك يعني؟
توقفت قليلًا صامتة بعد أن أحرجتها والدتها بكلماتها، وخرج صوتها اَخيرًا بخجل:
- اهو اللي حصل بقى، اتلخبطت.
قالت نجية بمغزى :
- سلامتك من الصداع واللخبطة يايمنى، ربنا يصلح حالك .
شددت على كلماتها الاَخيرة وهى تنظر لابنتها التي ادعت عدم الفهم ، وسألتها:
- أبويا واخويا محمد يعني مش شايفاهم؟ هما راحوا فين ؟
- ابوكي واخوكي شغالين في الجنينة جوا بيعزقوا في حوض الخضار.
اومأت برأسها وهي ترتد للخلف لتخرج، تكبح السؤال الملح عنه بصعوبة، ولكنها أجفلت على هتاف والدتها  فور ان استدارت :
- صح يايمنى اما اقولك، الجدع اللي جوا ده مارديش يفطر النهاردة وكان مُصر ياخد العلاج على بطن فاضية، بس انا مارديتش اتبعه في جنانه :
التفت اليها تسألها بقلق:
- كيف يعني على بطن فاضية ؟ هو عايز يُضر نفسه ولا إيه؟
- والله ما انا عارفة يابنتي إيه اللي جراله، وخلاه مقلوب،كدة ، دا الكلمة بيطلعها بالعافية، باين يونس شد عليه بكلام واعر ماتحملوش.
ردت يمنى على كلماتها بجزع :
- عمي يونس كان عنده جوا؟ ودا ايه اللي دخلوا أساسًا ؟
ارتفعت كتفاها وانخفضت بقلة حيلة:
- والله ما اعرف يابتي، أهو فجأة كدة لقيته داخل على اؤضته يفتحها ويدخل عنده من غير استئذان.
...........................

وبداخل الغرفة وامام النافذة الخشبية المفتوحة على مصراعيها من وقت ان فتحها يونس قبل أن يوقظه ويتحدث معه، لقد استطاع للمرة الثانية ان يتحامل على قدميه واَلام رأسه حتى يصل اليها ويجلس أمامها، يتنفس الهواء النقي من الخضرة والأشجار المزروعة بهذه الحديقة المتواضعة بمساحتها الصغيرة، وانواع الخضروات واشجار الفاكهة، محدقًا بسالم وابنه محمد الصغير وهم يعملون في الأرض بكل جد ونشاط، ابتسم من قلبه وهو يرى محمد  المشاكس الصغير وهو يقلد أبيه في كل خطوة يقوم بها، حتى في وقفته والأفعال الصغيرة له، مااروعه من مشهد قد لا يشعر به سالم في ظل انغماسه طوال الوقت في الكد في العمل ومشاغل الحياة، هو نفسه لو مر أمامه هذا المشهد منذ سنوات أمامه، لم يكن يراه بهذا الجمال ، بل لم يكن يراه من الأساس؛ مع هذا الثراء الفاحش والحياة المرفهة التي كان يعيشها، فنحن لا نشعر بقيمة الأشياء والمعنى الحقيقي للحياة سوى عندما نتعرض للضغط الشديد، أوالقسوة والخيانة من اقرب الأشخاص.
انتبه على طرق خفيف على باب، فعلم من الطارق، هتف عليها لتدخل، وحينما دلفت بطلتها التي تثير بقلبه الراحة والسعادة ، رفرف قلبه بين اضلعه؛ مع رؤيته لنسمات الهواء التي ضربت وجهها وطيرت طرف حاجبها بلمسة ساحرة، فلم ينتبه لما تقوله، حتى كررت بصوت اعلى:
- بقولك عامل ايه النهاردة، مابترودش ليه؟ 
اجفل من شرده ليعود لواقعه، ثم اشاح بوجهه نحو النافذة مرددًا بصوت خافت:
- الحمد لله كويس، متشكر:
انتبهت يمنى على نبرته الحزينة والخالية من العبث كعادته في الحديث معها، فقالت :
- امي قالتلي انك مارديتش تفطر ، وكنت عايز تشرب علاجك على معدة خالية، ودا مُضر.
ظل صامتًا ولم يرد ، اردفت هي :
- هو عمي يونس قالك إيه بالظبط وخلاك تزعل بالشكل ده؟ معلش هو عصبي شوية وكلامه كمان شديد زيه.
- عمك معاه حق يايمنى .
اجفلتها كلماته، ونظرت اليه باستفسار وعدم فهم ، فتابع :
- عمك راجل بيدافع عن ابوكي وبناته بدافع الأخوة ، المشكلة فيا انا وفي المصيبة اللي وقعت فيها، وبعدها جرت كل البلاوي  اللي وقعت فوق راسي، وكله كان بسبب غبائي .
قطبت بحيرة تسأله:
- غباء ايه ده اللي يوقعك في المصايب والبلاوي .
أطرق برأسه لحظات قبل أن يجيبها:.
- ممكن يايمنى تكلمي عمي سالم وتقوليه اني عايزه في موضوع ضروري .
اومات له بالإيجاب وقالت:
- تمام هاقوله ، بس انت لازم تاكل دلوقت عشان علاجك ، ماينفعش يتأخر أكتر من كدة .
حدق بها صامتًا لبعض اللحظات قبل أن يسألها:
- هو انتِ ايه اللي رجعك بدري النهاردة؟ مش برضوا ميعادك على  ٣ العصر.
اذهلها تركيزه الشديد بمواعيد عملها ودراستها، خجلت من سؤاله، فقالت وهي تشغل نفسها في النظر على بعض عبوات الدواء التي وجدتها على الطاولة القريبة امامها، كي تفحصها ثم ترتيبها ورفع المنتهية منها:.
- عادي يعني، حسيت بشوية صداع في دماغي فاستأذنت ومشيت . 
- لو قولتلك ان دخلتلك عليا دلوقت كانت من ساعة تقريبًا، امنية في قلبي واتحققت في وقتها هاتصدقي ؟
تركت مابيدها والتفت اليه مستفسرة :
- يعني ايه؟
أجاب وعيناه تأسر خاصتيها :
- يعني يايمنى، انا لما اتخنقت قوي اتمنيت اشوفك في اللحظة نفسها عشان برؤيتك، بحس بأمان كبير وهم بنسى حمله على كتفي، هل دا بقى طبيعي؟ 
صمتت وتركت مابيدها كي تستأذن للخروج من أمامه على الفور ، حتى اذا وصلت الى غرفتها شهقت بصوت عالي بفزع، تجيب لنفسها عن أسئلته بما لا تجرؤ على البوح به امامه ، انه يسألها وكأنه ليس على علم، كيف يسألها وهي تحلم برؤيته وتشعر بألمه من قبل أن تراه؟ كيف يسألها وقد امتلأت كراستها برسم عيناه التي طاردتها في منامها وصحوها قبل رؤيتها على الحقيقة؟ كيف يسألها وهي قد انقبض صدرها وتشتت ذهنها في نفس اللحظة التي اخبرها فيها عن شعوره بالإختناق، وهذا برغم بُعد المسافات بينهم، اذًا فالأحق لها هي أن تسأله وتسأل نفسها أيضًا :
- هل هذا طبيعي؟ وماالرابط الذي يربط بينهم ليحدث ؟
................................  

وفي الحديقة الصغيرة وبعد أن انتهى سالم من العمل في حوض الخضرة واطلق المياة على الباقي كي ترويهم ، جلس أسفل الشجرة الكبيرة لفاكهة الجميز يلتقط أنفاسه ، مسح بطرف كمه العرق المتساقط بغزارة على جبهته ووجهه وعنقه، ثم تناول زجاجته البلاستيكية ليشرب،من مياهاها الباردة ويرتوي هو أيضًا ، لكنه شهق فجأة ينتزعها عنوه حينما شرق يسعل بفضل الثمرة التي سقطت على أنفه فجأة وأجفلته ، وبعد أن هدأ
والتقط انفاسه صرخ وهو ينظر بالأعلى :.
- يابن الكل....... مش تاخد بالك كنت هاتفطستي دلوقت .
رد محمد الجالس على إحدى اغصانها المتينة :
- افطسك ليه يابوي؟ هو انا عملت حاجة؟.
- نزلت الجميزة الناشفة على مناخيري وانا بشرب، وخليتني شرقت ياواض الناصحة.
قال سالم بغضب وكان رد محمد ضحكة مقهقهة بصوتٍ عالي، دون توقف، جعلت سالم هو الاَخر تصيبه العدوى ، وهو يجاهد لرسم الحزم امام ابنه فقال :
- خلص فُضها ياولدي وانزل من عندك لاحسن تقع، كفاية الحباية اللي جمعتهم 
ردد محمد بانفعال :
- حباية قليلين اللي لقيتهم طيببن وجمعتهم يابوي ، والباقي كله اخضر .
- ياولدي ما هو لسة الموسم بتاعها، انت اللي مستعجل عليها ، انزل ياللا ياحبيبي كفاية كدة .
- حاضر يابوي حاضر باه .
قال محمد وهو ينفض كفيه بغضب طفولي، ثم تراجع حتى اقترب من اَخر الغصن الغريب واصبح في متناول اباه ، الذي انزله سريعًا مرددًا بارتياح:
- ايوة كدة ربنا يهديك ياولدي، دا انا كنت حاطط يدي على قلبي، خايف عليك لا توقع .
رد محمد بتشنج وهو يضع ماجمعه من ثمار داخل اناء بلاستيكي :
- تاني برضوا هاتقولي خايف، دا انا مطلتعش غير عالجزع الاولاني ومجمعتش غير الحباية القليلين دول، المش مكملين كيلوا حتى.
- فضل ونعمة يامعلم محمد، دا كفاية ان جمعتهم بيدك ياخي ، هو احنا نطول برضوا؟
تفوه بها سالم وهو يتناول جلبابه من على الأرض يرتديها، وتحمس محمد من قول فردد وهو ينظر اليهم في الإناء:
- انا هاقسمهم بالواحدة علينا انا وخواتي البنات، وانت امي وصالح يابوي . 
أجفل سالم على جملة ابنه فسأله باهتمام :
- هو انت صالح فاكره منينا يامحمد عشان تحسبه معانا ياولدي؟
رد محمد بعفويته :
- ايوة يابوي عشان صالح زين وكلامه زين زيه، وانا بحبه قوي عشان هو صاحبي ، ودايمًا يقولي انت راجل يامحمد، شد حيلك عشان تفرح ابوك وامك واخواتك لما تكبر وتبقى حاجة زينة  .
انهى محمد كلماته امام صدمة ابيه منها ثم هم ليذهب ولكن سالم استوقفه قبل ان يتحرك:
- خد هنا يامحمد ، اوعى تكون ياولدي بتقول الكلام ولا تجيب سيرة الراجل ده قدام حد من صحابك ولا عيال الجيران، او اي حد،
رد صالح بحمائية :
- ماانت نبهت عليا يابوي في الموضوع ده وانا قولتلك حاضر ، ومدام قولت حاضر؛ يبقى عمري ما هافتن على واحد  صاحي .
- صاحبي!!
تمتم  بها  سالم بدهشة، وهو متسمر محله فظل ينظر الى ابنه الذي أردف بكلماته ثم ذهب من أمامه، لا يعي بخطورتهم .
...........................

حينما دلف سالم من الباب الداخلي للحديقة التي في خلف المنزل، وجد امامه يمنى  متكتفة الذراعين واقفة أمامه وكأنها تنتظره ،
-  إيه امال ؟ في حاجة اياك؟
سأل سالم ابنته بريبة،  فاجابته بسؤال :
- هو عمي يونس قال ايه لصالح عشان يبقى بالحالة دي؟
قطب سالم بحيرة سائلًا :
- حاجة ايه بالظبط؟ وحالة ايه اللي بتقولي عليها دي ؟
اجابته يمنى بتفكير :
-  مش عارفة اوصفلك ازاي ؟ بس هو مارديش يحط لقمة في جوفه من الصبح وبيقول لامي انه عايز ياخد الدوا كدة ، وانا لما دخلت عنده عشان اسأله، قالي ان عمي معاه حق ، وان الغلط منه هو عشان غباءه كان السبب في كل المصايب والبلاوي اللي حلت فوق راسه!
ضيق سالم عيناه قليلًا يستوعب قبل يسألها :
- بلاوي  ولا مصايب ايه اللي بيقول عنها ؟
- مش عارفة يابوي بس انا لما سألته طلب يشوفك عشان يكلمك.  
اجابته بحيرة، فتمتم سالم بكلماتها :
- عايز يكلمني ! ودا هايكون عايزني في ايه يعني ؟
تحرك ليتخطاها ويذهب ولكنها أوقفته :
- بابوي انا كنت بسألك، هو عمي قالوا ايه بالظبط وخلاه بالحالة دي وانت مجاوبتنيش ؟
- يابتي انا كمان ماعرفش، عمك نفسه انا ماشفتوش ولا كلمته  امبارح من وقت مااتصلت بيه و...... 
قطع كلماته متذكرًا، اكملت على كلماته تسأله:.
- و إيه يابوي ؟ قولتوا لبعض ايه في التليفون ؟
نظر اليها قليلًا بصمت قبل ان يرد عليها:
- ماقولناش ولاحكينا يا يمنى ، انا بس قولتله على اسم صالح الحقيقي واسم بلده وعيلته، ويس على كدة مقولتش على حاجة تانية، اوعي بقى خليني اروح اشوف الجدع ده، واشوف ايه حكايته.
اوقفته يمنى قبل ان يبتعد عنها :
- معنى كلامك ده ان عمي سأل عليه وعرف ايه حكايته ؟
استدار اليها ابيها قائلًا بتخمين:
- ويبقى أكيد حكايته واعره قوي، بدليل ان عمك دخل عليه وحذره بشدة حسب مافهمت من كلامك .
صمتت يمنى تستوعب كلمات ابيها الذي غمغم عائدًا :
- ربنا يسترها ويعديها على خير.
.............................

اقترب سالم من الغرفة الموجود بداخلها صالح وقبل ان يدلف اليها دافعًا الباب المفتوح قليلًا بمواربة، ولكنه توقف حينما استمع لصوت صالح وهو يتكلم مع ابنه الصغير محمد:
- سامعني يامحمد، عايزك ياحبيبي تخلي بالك من الكلام دا كويس .
قطب سالم وانتابته الريبة من الكلمات، فدفع الباب قليلًا ليرى، فوجد ابنه جالس امام صالح على الاَريكة اسفل النافذة الخشبية بالغرفة، يتناول معه من الطبق الصغير ثمار الجميز التي جمعها من شجرتهم ، رد محمد بسؤال:
- ايوة يعني ايه؟ برضوا مش فاهم، كيف اخلي بالي من خواتي البنات؟ وكيف عايزني احذر من القرايب.؟.هما مين القرايب دول مش خواتي برضوا؟
تبسم صالح يمسح بكفه على شعر محمد قائلًا بحنان:
- خواتك البنات مش قرايب يامحمد، خواتك دول يبقوا دمك،  يبقوا عرضك اللي لازم تحميه من كل عين تبصله بنظرة شينة، خواتك دول مهما كبروا ولا اتجوزا ولا خلفوا حتى،هايفضلوا محتاجين اخوهم سندهم يبقى في ضهرهم.
توقفت الكلمات على لسانه يبتلع الغضه المؤلمة بحلقه حتى، ادمعت عيناه وراَها محمد، وانتبه عليها سالم الذي ظل واقفًا محله يستمع، يستشعر معنى كلماته ومغزاها، كلمات لا تصدر بهذه الحرقة الا من قلبٍ موجوع .
- انت بتبكي باعم صالح؟
سأل محمد فنفى صالح يمسحها بطرف سبابته :
- لا يا حبيبي، دا انا بس عيني اطرفت على خفيف، حكم هي وجعاني من الأساس، المهم بقى انت فهمت كلامي يامحمد ؟
اجاب محمد بثقة:
- ايوة فهمت طبعًا، اي حد هايكلم اخواتي ولا يضايقهم هافرمه فرم .
تبسم صالح يقبله على رأسه بحب، فهذا الصغير لخص بعفويته معنى الحماية والسند، دون مجهود في التفكير.
سالم أيضًا الذي ابتسم في محله، تحمحم يدفع الباب، فيكفيه ماسمعه من حديث،
- السلام عليكم
رفع الاثنان راسهم اليه وردد خلفه صالح التحية:
- وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته،
تكلم سالم ممازحُا وهو يجلس أمامهم على الكرسي الخشبي.
- وه وه دا ايه الرضا السامي ده؟ الباشا محمد جايبلك من الجمبز لحد عندك؟ دا انت باين امك دعيالك .
- امي!
تمتم صالح بها بألم قبل ان يتابع باقتضاب :
- ربنا يرحمها .
انتبه سالم على حزنه، فا اردف سائلًا ابنه :
- وعلى كدة بقى الصحن اللي بتاكل منه من نصيب صالح ولا نصيبك؟
سأله مستفسرًا:
- نصيب ايه بالظبط ؟
- اصله ياسيدي بعد ما جمع الجميز الطايب، اتفق معايا انه هايوزعهم بالواحدة علينا، بما انها اول طرحة من الشجرة.
قال سالم فجاء الرد من محمد.:
- الصحن دا مش محسوب، دا صحني انا هاكلوه مع صالح، والباقين هانوزعهم مابينا بالعدل..
- وه ياضلالي، 
اردف بها سالم ضاحكًا امام صالح الذي اصابته العدوى وابتسم ممازحًا رغم حزنه:
- دا العدل بتاع محمد باشا بقى، حد يقدر يعترض؟
رد سالم على مزحنه:
- وانا مين بس يابوي عشان اعترض؟ هو في حد في الدنيا يقدر يعارض الباشا؟  
توقفت الثمرة على فم محمد الذي نظر اليهم ببلاهة، لايفهم شى مما يقولانه، فضحك الاثنان على تعبيرات وجهه الذي انقلبت لغضبٍ طفولي بعد ضحكاتهم، فنهض فجأة قائلًا بحنق:
- انا قايم احسن .
بعد ان غادر وهدا ضحكاتهم  نظر صالح لسالم يحدثه بجدية:
- كويس انك جيت ياعم سالم، عشان انا كنت عايزك في موضوع مهم .
سأله سالم :
- عايز تحكيلي على اللي حصل بينك وبين يونس.
نفى قائلًا :
- لا طبعاً ، انا عايز احكيلك حكايتي يمكن تصدقني 
- يهمك قوي اني اصدقك .
اجاب على سؤال سالم بتأكيد :
- مدام قعدت في بيتكم وكلت من وكلكم وشربكم، يبقى أكيد يهمني انكم ماتندموش على مراعيتي ولا علاجي، رغم اني معرفش ان الكلام اللي هاقوله ده ، هايدخل دماغك وتصدقه ولا لأ.
اومأ سالم برأسه وهو ينهض قائلًا:
- سيب كل حاجة لوقتها، انا هاقوم دلوك عشان تعبان وعايز اتغدى واريح، كُلك لقمة انت كمان وريح راسك التعبانة، وعلى العشية بإذن الله انا هاجيلك واسمع كل حكايتك .
- بس انا كنت عايز احكي دلوقت.
قال صالح بإصرار، فرد سالم بعند :
- وانا ياسيدي مش عايز اسمع دلوقت، خليها على العشية زي ماقولتلك، هي الدنيا هاتطير؟
........................    . 

على الطاولة المستديرة للطعام ( الطبلية) في المساء وجميع أهل المنزل جالسون على الأرض، في انتظار رب الأسرة سالم الذي أتي اليهم بعد ان فرغ من صلاته ليتناول معهم وجبة العشاء، جلس مثلهم وعيناه تطوف عليهم، يقول :
- عيني باردة عليكم النهاردة تتحسدوا!
ردت نجية باستغراب:
- وايه اللي جد بقى عشان يتحسدوا ؟ .
بنظرة ماكرة رد سالم وعيناه ذهبت نحو ندى التي جلست تتناول العشاء معهم اليوم :
-وه يا مرة يامتوهة انتِ، مش واخدة بالك ان الطبلية كاملة  ومحدش غايب؟ 
التفتت نجية نحو ابنتها بلهجة ماكرة هي أيضًا تجاريه قائلة:
- اَااه ، فهمت، اصلي مكنتش واخدة بالي بقى ياابو محمد ؟ بس انت تقصد البسة اللي كانت غايبة بقالها يومين، والنهاردة جات تاكل معانا تحت الطبلية صح؟
اومأ ضاحكًا سالم :
- صح ياام محمد، عرفتيها ازاي دي؟
وانطلقت ضحكات الجميع بعدها ومزاحهم المبطن حول ندى التي اسبلت عيناها تتناول طعامها في صمت، دون ان ترد عليهم، وما الداعي للرد وقد اطمان قلبها بعودة فرصتها مرة اخرى؛ نحو الشاب الذي اتى اليوم ليخبرها بأنه يريد معاودة التقدم لطلب يدها مرة أخرى، عاد بذهنها لقاءهم اليوم بجوار سور مدرستها وطلبه اخذ رأيها، في الإرتباط به، بقدر الخوف الذي اجتاحها بهذه اللحظة من جرأته، بقدر السعادة التي شعرت بها، حينما وجدته متمسك بها رغم تعرضه للرفض من ابيها ووالدتها، لم تجرؤ على احراجه؛ بل صمتت تخجل عن الرد ؛ فاستغل هو الفرصة لاخذ رقم هاتفها ! ذاكرًا لها ان اسمه كي تذكره .
رددت بأسمعاها الأسم تعيده بذهنها .
- كرم،
- ساكتة يعني ياست ندى ومابتروديش؟ بش بعادة يعني الأدب ده؟
- همممم.
خرجت منها بعدم تركيز، بعد أن أجفلها ابيها بسؤاله، والذي تابع :
- ايه يابت ؟ هو انتِ سرحانة كمان ؟
استفاقت من شرودها فردت بسأم :
- وه يابوي ، هو انتوا هاتخدوني سيلوتكم النهاردة ؟ يعني الحق عشان قولت اكل معاكم؟ لو مضايقين اقوم.
هدر عليها غاضبًا :
- اقعدى يابت واترزعي على حيلك، هو انت كمان مش حاملة الهزار ؟
اطرقت ندى برأسها نحو الطعام تتناوله بصمت، كما فعل الجميع بعد صياح سالم الغاضب وتحوله، ثم مالبث ان يقطع محمد الصمت بعفويته كالعادة:
- انا النهاردة عملت زي سبايدر مان وطلعت الشجرة .
ردت يمنى على كلماته ضاحكة:
- سبايدر مان مرة واحدة يااستاذ محمد؟ وعلى كدة طلعت الشجرة كيف ياعم سبايدر؟.
حكى لهم محمد كيف صعد على شجرة الجميز خاصتهم، وكيف التقط ثمارها التي نضجت مبكرًا ، ثم توزيعها على افراد العائلة وصالح؛ صديقه كما يدعي! وعند هذه النقطة تدخلت ندى معترضة:
- صاحبك كيف ياض بلا هبل؟ هو في سنك ده ولا تعرفوا انت من الأساس .
رد محمد مدافعًا:
- صاحبي والنعمة، هو دايمًا بيقولي كدة، عشان هو طيب وبيحبني.
- طيب وبيحبك!
رددتها ندى بسخرية اثارت عضب يمنى اخيها واستنكار الجميع، تدخلت معهم سمر في الحديث:.
- وفيها ايه يعني لما يقول عليه انه صاحبه ياست ندى ؟ ثم ان الراجل اساسًا، في حاله وفي حال نفسه، دا طول الوقت محبوس في الأوضة، ما بيطلعش منها غير على الحمام اللي جمب اوضته وهو بيتسند على الحيطان ولا في مرة عينه رفعها عن الأرض ولا بص لواحدة منينا، طب والله انا بيصعب عليا لما نبقى بنهزر ونتكلم مع بعضينا هنا، وهو قاعد لوحدة طول الوقت.
اجفلت سمر الجميع بكلماتها المتعاطفة مع الرجل وحالته، حتى الجمتهم عن الرد، وعادوا لطعامهم يتناولوه بصمت، حتى أتى اليهم يونس الذي خرج من غرفته اَخيرًا كي ينضم اليهم  :
- معلش ياجدعان اتأخرت عليكم، بس كان معايا تلفون معهم.
قال يونس وهو يجلس ليتناول الطعام معهم، اومأ له سالم بعيناه وأكمل يمضغ طعامه بشرود في كلمات ابنته الصغيرة ومحل اعراب خذا الرجل في البيت،  ثم مالبث أن ينهض سريعًا وهو يخاطب شقيقه:
- كمل وكلك يايونس وتعالي ورايا فوق عالسطح، عشان انا عايز اتكلم معاك.
لاحقه يونس باستفسار:
- مابدري ياخوي، هو انت لحقت تاكل؟
لوح سالم بكفه له بصمت، وتابع سيره الى الصعود نحو السطح.
...................................  
  
- مابيرفعش عينه من الأرض هههه .
تفوه بها يونس مستنكرُا بسخرية وتابع :
- والله باين بتك مخبلة وطالعة بركة يا واد ابوي؟
تغضن وجه سالم من سخرية اخيه فقال باستياء:
- ولزوموا إيه المقلتة دي يا يونس، هو انت شايف بتي هبلة عشان تتمألس عليها.؟!
ذهب عن وجه يونس العبث فاردف بجدية نحو أخيه:
- انا مش بتمألس عليها ولا اتريق، انا بس مستعجب البت وامها وابوها واختها الكبيرة كمان،  كلكم ياسالم  بقى قلبكم ني معاه وانا بقى العفش فيكم، قولت نخلص منه من الاولى عشان مانعرفش المصايب اللي هاتيجي وراه ، لكن انتوا رفضتوا بحجة انكم عايزين تساعدوه وتعالجوه وقولت عليه روح وكلام فاضي ، طب اهو اللي حسبتوا طلع صح، والواد اللي قاعد تحت دي في أوضة ولدك ماطلعش مجرم وبس ، لا دي طلع ابن حرام ومابيتمرش فيه الجميل ولا يقدر شرف ولا عرض.
انقبض قلب سالم فسأله بجزع :
- قصدك ايه يا يونس بكلامك ده ؟ خلي بالك ياواد ابوي، دا كلام واعر ويطير فيه رقاب .
رد يونس بشبه ابتسامة ساخرة :
- رقبة مين بقى ياسالم ؟ رقبتي انا اللي هاكمل ٣٠ سنة دلوك ومالمستش مرة عشان طمعان في حلال ربنا؛ وبحط القرش على القرش وطافح الكوتة  عشان اقدر اكمل شقتي وحق الشبكة قبل ما اتقدم لبنت من بنات البلد، ولا رقبة صاحبنا ده ؛ اللي كان عايش في قصور وبياكل احسن وكل ويلبس احسن لبس، في عز بيت جده ، وفي حما النايب ابن كبير البلد عندهم شعبان ابو مندور؛ اللي مقدرش مكانته واتهجم على مرته بعد ما سرقهم .
حجظت عيناه سالم واضربت حدقيتيه وهو يسأله بعدم استيعاب :
- انت بتقول ايه يايونس ؟ وجبت الكلام ده منين ؟ 
رد يونس بثقة :
- جبت الكلام ده من ناس ساكنة في بلدهم نفسها، يعني مش بالف ولا بخترع من مخي، ماهو انت لما ادتني الأسم امبارح واسم بلده على طول انا اتصلت بجماعة اصحابي هناك وهما اللي رسوني على الحكاية، وكمان قالولي الكبيرة؛ المحروس كان محبوس بقالوا يجي اربع سنين ومحدش يعرف في البلد ان كان خرج من السجن ولا لساتوا محبوس فيه.
- يعني كمان خريج سجون؟
سأل سالم ورأسه لا تقوى على تلقي حجم الصدمات ، رد يونس بتهكم :
- امال انت كنت ظانن إيه بعد الكلام اللي قولته دا كله؟ الراجل بلغ عنه وسلمه للحكومة متلبس ، يعني واخد لعنات عيلتوا كمان .
دارت الأرض بسالم ، من كم الصدمات التي يتلقاها واحدة تلو الأخرى عن هذا الرجل الذي يأويه داخل بيته بدافع انساني ويقوم على خدمته وعلاجه مع زوجته وابنت.....
انتقض فجأة وقد اشتعل رأسه لمجرد التخيل انه قد يأذي ابنته، فتناول بندقيته ليتحرك مغادرًا دون النطق ببنت شفاه ، اوقفه يونس وهو يتصدر بجسده أمامه :
- هاتعمل ايه ياسالم ؟ مش عايزين نجيب لنفسنا النصايب على واحد مالوش تمن زي ده.
- اوعى من قدامي يايونس ، خلينا امشي اعدي احسنلك .
قال سالم وهو يدفع اخيه بيده الحرة ، ولكن يونس تشبث به وبالبندقية:
- يا سالم ماينفعش تتهور ، انت معاك عيال عايز ترابيهم .
دفعه بقوة هادرًا بأعين حمراء مشتعلة ببراكين الغضب:
- ماهو عشان عيالي اللي عايز ارابيهم سيبني ياسالم .
تعليقات



×
insticator.com, 6ed3a427-c6ec-49ed-82fe-d1fadce79a7b, DIRECT, b3511ffcafb23a32 sharethrough.com, Q9IzHdvp, DIRECT, d53b998a7bd4ecd2 pubmatic.com, 95054, DIRECT, 5d62403b186f2ace rubiconproject.com, 17062, RESELLER, 0bfd66d529a55807 risecodes.com, 6124caed9c7adb0001c028d8, DIRECT openx.com, 558230700, RESELLER, 6a698e2ec38604c6 pmc.com, 1242710, DIRECT, 8dd52f825890bb44 rubiconproject.com, 10278, RESELLER, 0bfd66d529a55807 video.unrulymedia.com, 136898039, RESELLER lijit.com, 257618, RESELLER, fafdf38b16bf6b2b appnexus.com, 3695, RESELLER, f5ab79cb980f11d1