رواية عشق لا يضاهي الفصل المائة الثانى و العشرون
لم تجد **سيرين** منفذًا تنفث من خلاله دخان إحباطها سوى أن تتسلل إلى ظلال الليل وتلوذ بحانةٍ خافتة الأضواء.
هناك على طاولةٍ لامعةٍ كمرآةٍ عتيقة، شرعت تشرب كأسًا تلو الآخر، تُسكِت بها صخب قلبها الذي أرهقه الفقد والانتظار وقد بدا لها السكر ملاذًا مؤقتًا، يُعطل ذاكرتها كما يفعل النعاس بيقظة العيون.
في تلك الأثناء كان **ظافر** يُصارع بقايا الدواء التي ما زال يسري في عروقه وقد لجأ إلى الماء البارد، يتركه ينهال على جسده كخناجر ثلجية تمزق سُباته القسري.
ساعةً كاملة قضاها تحت وقع البلل حتى بدأت آثاره تنحسر تاركةً وراءها جسدًا متعبًا وروحًا يقظةً كمن خرج للتو من بين فكَّي وحش.
خرج من الحمام مرتديًا رداءً ناعمًا يلتصق بجلده المبلل فشعر بغيابها في فضاء القصر.
زفر أنفاسه بغيظ وهو يهتف عبر الشرفة منادياً على أحد حراس البوابة الداخلية وسأله عن مكانها، فجاءه الرد:
"لقد ذهبت إلى الحانة."
سبة نابية خرجت من بين شفاه ظافر الذي تكورت قبضة يمينه تلقائياً وارتفعت بلا إرادة منه لاكمة زجاج باب الشرفة الذي انسدل فتاته أسفل قدميه العاريتين يخطو فوق الشظايا بلا وعي غير عابئ لا بجراح يده ولا تلك الوخزات ببطن قدمه، يهرع إلى حاوية الملابس يخرج ما طالته يداه من ثياب ارتداها في عجالة، والتقط هاتفه وأسرع يهبط الدرج قفزاً (يهدك ربنا يا بعيد) ومن ثم غمز السائق الذي انطلق بسيارته كالريح.
في البار كانت **سيرين** غارقةً في وحدتها
تحتسي مُرٍ كحياتها... عيناها نصف مغمضتين وشفتاها تنطقان بكلماتٍ مبعثرةٍ تحت سُكرةٍ تحجب عنها همومها.
وفجأةً أسدل رجلٌ طويلٌ قامته ظلًا كثيفًا عليها فرفعت عينيها في ذهولٍ لتجد وجه **ظافر** الذي بدا لها وسيمًا كطيف فارسٍ جاء لينتشلها.
قالت بصوتٍ متهدجٍ تنبعث منه رائحة النبيذ المعتق:
"لِمَ أنت هنا؟"
قطب حاجبيه وانكمش صوته كغيمةٍ ثقيلة:
"متى تعلّمتِ الشرب؟"
تذكرت أن كأسًا واحدًا كان يُذهب عقلها في الماضي لكنها الآن كانت محاطةً بكؤوسٍ فارغةٍ تشهد على معركتها مع وحدتها.
لم تكن تتوقع هذا السؤال فتلعثمت قبل أن تهمس بصدقٍ مؤلم:
"أعتقد… بعد عامنا الثاني من الزواج."
حينها لم يكن موجودًا ولم تجد لنفسها خلاصًا سوى الغرق في بحر الكحول لعلها تنسى طعنة الغياب.
ابتلع ظافر ريقه، وشعر وكأنه يكتشف امرأةً يراها للمرة الأولى – امرأةً لم يُحسن يومًا قراءتها.
انتزع الكأس من يدها وألقاه بعيدًا كمن ينبذ ذكرى موجعة، وقال بصوتٍ حازم:
"هيا بنا إلى المنزل."
لم تستطع منع دمعةٍ ثقيلةٍ من الهبوط على وجنتها وكأنها اعترافٌ خافتٌ بحجم الخيبة التي تعصف بروحها.
هبّت ريح الليل على جسدها النحيل فارتعشت مثل غصنٍ عارٍ تحت مطرٍ بارد لكنها وقفت على قدميها المرتجفتين تحاول التماسك.
خطت خطواتٍ قليلة مترنحة فباغتها ظافر يحملها بين ذراعيه كمن ينقذ وردةً من طوفانٍ هادر.
شهقت تخبأ وجهها وهي تتمسك بذراعه كمن يتشبث بالحياة... ومن ثم قالت بصوتٍ
خافتٍ مشوبٍ بالقلق:
"دعني… أستطيع المشي بمفردي."
لكنه تجاهل تضرعها ومضى بها كمن يحملها بعيدًا عن ماضٍ موحشٍ لا يستحقها... وجاء صوته حادًا كالسيف:
"لن يُسمح لكِ بالشرب مرةً أخرى."
مالت نحوه في خدرٍ تستند إلى كتفه ولم تدرك ما قاله بوضوح وكأن صوت الليل ابتلع كلماته فاختارت الصمت الذي يجيد قول كل ما عجزت عنه.
حين وضعها في المقعد الخلفي للسيارة أغلق الباب برفقٍ لكنه كان كمن يغلق بوابة على شياطين الليل.
أومأ ظافر للسائق فانطلقت السيارة تشق ليل المدينة، تحمل في قلبها امرأةً مثقلةً بالأسر، ورجلًا تشتعل في صدره نارٌ صامتةٌ لا تنطفئ.
كان الليل خارج النافذة ينفث زمهريره البارد يلفح وجوه المارة كصفعةٍ مباغتة... وحالما بدا الجو أبرد من المعتاد تسللت **سيرين** إلى زاويةٍ بالمقعد تلتمس دفئًا من جدران السيارة الصامتة التي حاصرها... ولكن على ما يبدو أن هذا لم يكن كافياً إذ ارتجفت في فستانها الرقيق كزهرةٍ وحيدةٍ ترتعد تحت مطرٍ مباغت.
رآها **ظافر** فمال إليها دون تردد يجذبها إلى صدره كمن يخشى أن يبتلعها الليل.... ضمّها بذراعيه القويتين، وراح يتساءل:
لمَ ترتجف هكذا، والصيف لم يُودّع بعد؟
كانت ساكنةً لا تقاوم... لكن أرخى لسانها وحرر ذكرياتها من قيودها.. فهمست بصوتٍ مشبعٍ بالحنين:
"ظافر… لقد تذكرتُ يوم تزوجنا… حينها… خرجتُ وحدي من السيارة، لم تحملني كعروس في ليلتها الأولى ولم تساعدني كأي رجلٍ آخر."
تصلب ساعده حولها
يقرأ في كلماتها جرحًا لم يندمل.
استمرت وعيناها كمرآةٍ تعكس سخريةً مؤلمة:
"ربما من طبيعة البشر أن يتذكروا الأمور السيئة في الآخرين، أليس كذلك؟"
قبض على ذراعيها بقوةٍ وهمس بنبرةٍ خشنة:
"أنتِ ثملة."
ابتسمت بسخريةٍ حزينة، وهزّت رأسها:
"لستُ كذلك... بل إنني رصينةٌ جدًا… ربما للمرة الأولى."
تأملت وجهه، وعينيه اللتين تلمعان في ضوء المصابيح.. ولحيته المهندمة ومن ثم قالت بجرأةٍ لاذعةٍ:
"أنت رجلٌ فاتن ظافر... لكنك لستَ زوجًا جديرًا بالإعجاب… أتمنى أن يأتي يومٌ تتخلى فيه عن تحاملك عليّ… وتُطلق سراحي... عندها… ربما نصبح صديقين."
كانت كلماتها تزلزل كيانه فقد بدت صادقةً كمن يعترف بخطيئةٍ مستترة.... لم يصدق أذنيه؛ قبل ساعاتٍ قليلةٍ فقط كانت تحاول إغواءه، تتوسل إليه بعينيها ليرتدي عباءة العاشق والآن وهي تغرق تعلن رغبتها في الصداقة لا غير.
ذكّره صوتها المتهدج بذلك اليوم البعيد يوم اعترفت له بحبها وهي بعد طالبةٌ جامعية.
أخبرها حينها أن الصداقة قد تجمعهما، لكنها رمقته بنظرةٍ داميةٍ تخفي دموعها وقالت:
"الحب… أنانيةٌ نبيلة... رغبةٌ في امتلاك من تُحب… إن لم تكن رجلي فأفضل أن أراك ميتًا على أن أراك صديقي."
تأوه قلبه من الألم وحدق في سماء الليل الداكنة فتناثرت النجوم في عينيه وانسابت دمعةٌ يتيمةٌ على خده لم يشعر بها.
سألها بصوتٍ خفيضٍ كمن يغزل في صدره صراعًا مريرًا:
"وهل هذا ما تريدينه حقًا؟… أن نكون صديقين؟"
أومأت
برأسها وكأنها تُوقّع على قدرٍ مرسوم، وعيونها تنظر إليه بسلامٍ زائفٍ كأنها استسلمت لواقعٍ لم ترسمه هي.
شارك