رواية ركان الفصل الرابع عشر بقلم حنين إبراهيم الخليل
كان ركان واقفًا في مجلس العزاء، جسدًا بلا روح.
الناس يتوافدون عليه بكلمات المواساة والتعازي، لكنه لم يكن يراهم، بل كان ينظر إليهم كأنهم أطياف.
"من هؤلاء؟ عمّ يتحدثون؟ من الذي مات؟"
"أمي... أمي قالت إنها ستنهي أمرًا وتعود... اليوم هو اليوم الثالث لسفر أبي... موعد عودته. لعلها خرجت إلى السوق لتشتري اللحم، فهي تعلم كم يحب والدي يخنة اللحم التي تعدّها له. لن يهون عليها أن يراها متعبة ولا تفرحه بطبق شهي... كم الساعة الآن؟"
تحرك فجأة، وكأن شيئًا ما أيقظه.
انتبه له عم محمد:
– "رايح فين يا ابني؟"
رد ركان بضياع:
– "عم محمد، كام الساعة؟ مش ده وقت خروج سيلا من المدرسة؟ لازم أكون هناك، هي هتكون مستنياني."
شعر عم محمد بغصة تخنق صدره، ووضع يده على كتف ركان:
– "ركان يا ابني، استهدى بالله... اللي حصل مش سهل، بس لازم تكون أقوى. لما نلاقي سيلا، بإذن الله، هتحتاجك أنت وأبوها علشان تهونو عليها فُقدان والدتها."
صرخ ركان بانفعال هستيري:
– "أنت بتقول إيه؟! ماما كويسة! راحت السوق، هترجع! بابا جاي النهاردة، وهنتجمع كلنا... سيلا بتحب تاكل من إيد بابا... مكانتش بتحب لما يغيب!"
كان صوته يختنق شيئًا فشيئًا:
– "أنا هروح أجيبها... هتفرح لما تعرف إن بابا رجع."
احتواه عم محمد في حضنه، وركان بين ذراعيه، ساكن بلا حراك... حتى إذا ما هدأ قليلًا، انفجر فجأة يصرخ:
– "مامااا... ليه؟! ليه تسبينا وتمشي؟! قولتي إنك راجعة..."
حاول عم محمد مواساته بصوت متهدج:
– "وحد الله يا ابني... إنا لله وإنا إليه راجعون... خلي إيمانك بربنا كبير."
لكن ركان لم يكن يسمع، فقد بدأ عقله في الانهيار، خلية تلو الأخرى، حتى سقط مغشيًا عليه.
وفي غيبوبته، بدأت ذاكرته تسترجع اللحظات الأخيرة...
السيارة المسرعة... الارتطام... قسم الشرطة... الضابط الذي ناداها باسمها!
– "كانت عنده منذ لحظات..."
الضباط اخرج لاسلكي كلم زميله الذي لحق السيارة ، و أشار لزميل له...ركب سيارته و انطلق بسرعة
ركان كان هناك، في المستشفى، كالمومياء، يسير بين الأطباء وعم محمد، يخرجون تصريح الدفن...
ثم... الضابط ذاته... يمرّ على نقالة، خمس ثوانٍ فقط، لكنها كانت كافية ليعرفه.
– "لقد كانت ستقدم له الأدلة... لم يكن حادثًا... لم يُقتل الضابط على يد سائق سيارة متهور حاول الأن ينفذ بفعلته الأولى عندما اصطدم بوالدته ... بل كان كل شيء مدبر لاخفاء حقيقة قد تودي بأشخاص لا يعرفهم غيرهما"
فقد وعيه مرة أخرى، واحتمى من الواقع بعتمة الغيبوبة.
استفاق على همسات عم محمد، المتردد في إبلاغه بالخبر:
– "أبلغه إزاي؟ ده لسه ملحقش يفوق من الصدمات اللي قبلها."
ردت عليه زوجته من المطبخ:
– "يعني هنخبي عليه؟ لازم يعرف... أبوه لما سمع اللي حصل، مقدرش... قرر يمشي وراها. الكل عارف حبهم لبعض... الراجل ما استحملش يوم من غيرها."
– "اسكتي، يا وليّة... لحسن يسمعك. أنا هدخل أطمن عليه... حضري له حاجة ياكلها."
– "حاضر..." قالتها العجوز وهي توصي ابنتها بإعداد الطعام.
دخل محمد الغرفة ليجد ركان ممددًا، يحدّق في السقف بعينين جامدتين، لا رمش يتحرك.
اقترب منه بخوف:
– "ركان؟"
التفت إليه ببطء، ملامحه خاوية، وعيناه فقدتا الحياة.
– "قوم يا ابني تاكل معانا."
رد بصوت خافت دون أن ينظر إليه:
– "مليش نفس."
قال محمد بحزن:
– "حرام عليك يا ابني... اللي راح مش هيرجع."
ظل يتحدث، لكن ركان ظل كالصخر.
تركه وغادر، واضعًا صينية الطعام بجانبه... لعل الجوع يوقظه من حزنه.
بعد أيام...
استفاق ركان من سباته المعتاد، على صوت نقاش بين محمد وزوجته:
– "وبعدين يا سي محمد؟ هتسيبه كده؟ تشوف له حد من أهله؟"
– "أهله مين يا وليّة؟ أبو وأم عدنان متوفين... ندى نفس الوضع... ما كانش عندهم إخوات، حتى أخو عدنان ميت من سنين."
– "طب ماعندوش قرايب؟"
– "مافيش حد... محدش كان بيزورهم أصلاً."
– "طب ونعمل إيه؟"
– "إيه اللي مضايقك؟ هو قاعد فوق كتافك؟ سيبي الولد في حاله، لحد ما ربنا يفرّجها."
– "وإمتى هتفرّج؟ عندك بنت، مش هينفع تتكشف على رجالة، وركان مش محرم!"
– "بس هو زي أخوها..."
– "زي؟! مش أخوها... لا من أمها ولا من أبوها... من ساعة ما جه وهي مش عارفة تدخل الحمام براحتها، ولا تقلع الطرحة... عايشة كأنها غريبة."
– "بطلي مبالغة... الولد صغير!"
– "ده داخل في الـ13، يعني بالغ... ومش هيعدي!"
– "يعني نرميه؟"
– "أنا نبّهتك... عندك بنت على وش جواز، والناس مش هتسكت!"
ركان، الذي سمع كل شيء، نهض متحاملًا على نفسه، وخرج من الباب الخلفي بصمت.
سار في الطريق دون هدف، حتى سمع صوتًا يناديه:
– "ركان!"
التفت، وكانت هي...
– "مدام حياة؟"
قالت بتعب من حملها:
– "كنت عايزة أجيلك من بدري... بس ظروف. البقاء لله. شد حيلك. هما دلوقتي في مكان أحسن. أنا عارفة إنه صعب، بس خليك متمسك بإيمانك..."
قاطعه بنبرة ساخرة:
– "نفس الكلام... كل مرة مصيبة، يطلع واحد بوجه بشوش يقول: ابتلاء... ربنا بيحبك... احمده!"
سكت للحظة، ثم تابع:
– "جوزك عامل ايه معاك ؟ طيبتك وصبرك خلوه يعاملك كويس؟ زي ما ماما قالت؟"
صمتت حياة، مصدومة من السؤال.
أومأ برأسه مبتسمًا بسخرية:
– "بالضبط... كلنا بنعرف ننصح... طالما إحنا مش اللي عايشين المصيبة."
تركها مذهولة، لا لأن كلامه كان جريحًا... بل لأنه كان ابن أعز صديقاتها، وها هو يسير أولى خطواته في طريق الظلام...
عاد إلى بيتهم.
البيت موحش... لا أم تبتسم، لا سيلا تلهو، لا أب يخرج الهدايا من جيوبه...
قادته قدماه إلى غرفة والدته، فتح الخزانة، بحث بين الملابس حتى وجد المفتاح.
فتح الدرج السري... أخرج آلة التصوير...
شرد للحظة... ثم سمع صوتًا في الخارج...
