رواية ليلة في منزل طير جارح الفصل السابع عشر 17 بقلم ياسمين عادل


رواية ليلة في منزل طير جارح الفصل السابع عشر  بقلم ياسمين عادل 


"يولد الإنسان بغريزة الطمع، تنمو وتتجذر في أعماقهِ حتى تنهيه؛ أو يقضي هو عليها." 

____________________________________

فتح عيناه الناعستين، عقب نومةٍ هنيئة مريحة، حظى بها بعد فترة من الشقاء البدني والذهني، شاعرًا بإنه قد حصل على قسط وفير من الراحة سيمكنهُ من دوام الحياة.

التفتت رأس "هاشم" لجانبه، معتقدًا إنه سيرى وجه عروسهِ الفاتنة على الوسادة بجوارهِ؛ لكنها لم تكن موجودة هناك، نظر في بقية الغرفة فلم يكن لها أثرًا. اعتدل في نومتهِ مستندًا على ظهر الفراش المبطن، ثم التقط هاتفهِ لينظر فيه بعجلةٍ، بعد أن اكتشف تأخره في النوم حتى أصبحت الساعة الحادية عشر والنصف ظهرًا، وقد تلقى العديد من المكالمات الهاتفية الفائتة من "مراد" ولم يشعر حتى بإهتزاز الهاتف. تأفف وهو ينزع عنه الغطاء ليشعر بمقبض الباب ينفتح ببطء، كأنه حذر شديد، مما جعل جبينه ينكمش في تعجب وهو يخمن هوية المقتحم الذي يريد فتح الباب خِلسة دون شعوره، إلى أن رآها تظهر من خلفه بهدوء حذر، ثم رسمت إبتسامة وديعة على شفتيها وهي تقول :

- صباح الخير، أفتكرتك نايم فـ خوفت صوت الباب يصحيك. 

كان جوابًا مراعيًا للغاية، بدون أن تنتظر سؤاله، جعله تلقائيًا يبتسم ببشاشةٍ من أجل اهتمامها ليقول :

- لأ عادي أنا بصحى بدري.. كنتي فين؟.

ثم نظر لثيابها التي بدت مكشوفة إلى حدٍ ما وتابع سؤاله بصيغة أخرى :

- وإيه اللي نزلك تحت بالشكل ده؟!

ضمت الروب الحريري على صدرها وقد استحت من نظرتهِ التي صوبّها على أجزاء معينة تعرّت من جسدها :

- مفيش حد في البيت غير ماما وليلى.

قطب جبينهِ مستنكرًا استسهالها للأمر :

- وحراء ؟.. والحرس اللي برا والجنانيني معاهم، والبلكونات والمكتب اللي كلهم أزاز؟.

أحنت رأسها شاعرة بالخطأ الفادح الذي وقعت فيه دونما تشعر، ثم بادرت بالإعتذار عن ذلك بدون أدنى تفكير :

- أنا آسفة.. مخدتش بالي خالص.

أحس بإنه قد أراها وجهًا حازمًا منذ اليوم الأول، ولم يحبذ ذلك الشعور بعدما كان لطيفًا ودودًا معها طوال الفترة السابقة، فتغيرت ملامحهِ فجأة لتعود إلى بشاشتها وهو يدنو منها بخطوات مقتربة :

- انتي زعلتي؟.

اغتصبت تعبير الضيق بإبتسامة مجاملة وهي تقول :

- لأ مزعلتش انت عندك حق.

مسح بإبهامهِ على وجنتها تاركًا تأثيرهِ يطغى عليها مجددًا، قبل أن يسير بإتجاه دورة المياة :

- أنا نازل.. خلى حراء تجهز ليلى عشان هاخدها معايا.

أومأت رأسها بتفهم وهو تستوقفه بقولها :

- حاضر.. بس لما تفطر الأول، أنا جهزتلك كل حاجه.

التفت إليها منبهرًا للمرة الثانية، كما أبهرته بالأمس، ثم سألها بنفس الفضول :

- جهزتي إيه ؟.

- فطار هيعجبك أوي.. وحطيتلك طقم في الحمام عشان تغير هدومك.

مدّ يدهِ إليها، فوضعت كفها بداخل راحتهِ، ليُقربها من فمهِ مقبلًا باطنها، قبل أن يعبر عن امتنانهِ :

- شكرًا يارحيل.

أحست بقشعريرة تسير على جلدها كله، فـ سحبت يدها على الفور بعدما تلوّن وجهها بالحُمرة المستحية، ثم توجهت نحو الخزانة لتنتقي ثيابًا تناسب الخروج من غرفة النوم، وهو يرى في خطواتها المتعثرة مدى تأثيره الواضح عليها. دلف لدورة المياة وهو يستعيد بذاكرتهِ مشاهد من ليلة أمس، حيث فاجئتهُ بإنها إمرأة شديدة الأنوثة، ليس كونها جميلة فحسب، بل لإنها تخلصت من إعاقة الخجل بين أحضانهِ، وجعلتهُ يعيش ليلة أقسم بعدها إنه لم يتذوق طعم الزواج من قبل، وكأنما أرادت أن تعوضه عن نقص كبير ملأ حياتهِ بدون أن يشعر، بعدما زهد زوجتهِ الأولى وسئم فتورها الشديد وعزف عن علاقتهِ الحميمية معها بعد أن استنفذت كل طاقة الصبر لديه، فأصبح زوجًا بلا زوجـة، يقضي لياليه في العمل، ويضيع وقتهِ في تضخيم حجم أعماله على مستوى الشرق الأوسط كله، حتى أصبح رائدًا من رواد الإعمار والبناء، حتى إنه تعاون مع الحكومة المصرية في بعض المشاريع، الأمر الذي وهب له نفوذًا فوق نفوذهِ بأضعاف مضاعفة.

أسقط "هاشم" رأسه أسفل الصنبور، ومازالت الحرارة النابعة من صدره تسيطر على رأسهِ الساخن، متأثرًا بمشاعر الليلة الماضية، فهو رجل صادف احتياجهِ بعد قحط شديد، وهذا بالفعل أثّر على إعداداتهِ قليلًا، وجعله أكثر تحمسًا لليالي القادمة معها.

**************************************

كانت تراقبهِ من نافذة غرفتها، ومازال يُدخن من النرجيلة الخاصة به، في الهواء الطلق وأسفل آشعة الشمس التي أكسبتهُ لونًا أسمرًا أكثر مما كان عليه. عضت "منال" على شفتيها وهي تفكر مليًا، هل تفتح أمر زيجتها مرة أخرى مع "جمال"؟.. أم تتغاضى عن ذلك الإنتقام الذي رغبت فيه أكثر من أي شئ آخر؟.

زفرت "منال" بحنق وقررت أن تذهب إليه، فلن تكسب شيئًا من تعذيب حالها هكذا.

نفخ "جمال" الدخان من صدرهِ وقد أحس بإقتراب خطواتها منه، فتجاهل النظر نحوها تمامًا وقد خمن سبب وجودها هنا الآن، بعدما أغضبته في آخر مرة تحاورت معه بشأن رغبتها في الزواج من ابن عمها "عمرو". جلست قبالته، فتصادفت عيناه العسلية مع نظراتها الجريئة التي لم يرها من قبل، فـ أحنى عيناه عنها وهو يسألها :

- ها.. لساكي محچرة راسك يا منال؟؟.

تنهدت "منال" والثِقل يجثم على أنفاسها، ثم أشاحت وجهها وهي تجيب بثباتٍ لم يهتز أو يتأثر :

- ده اللي هيرچعلي حجي ياچمال.. حِس بيا، جلبي كيف الجمر بياكل فيا أكل.

ترك "جمال" نرجيلتهِ جانبًا، ووضع كفهِ على كتفها يربت عليه في حنو :

- أبوكي لو شم خبر باللي في راسك هيطربقها علينا يامنال، مش بس أبوكي اللي هيعارض، أني كمان مش بالع الحكاية كلها.. ولو على نارك مسيرها تبرُد، الأيام علاچ يابت أبويا وهتنسي.

انتفضت "منال" من جلستها معارضة ما يقول :

- مفيش حاجه هتنسيني ياچمال.. وأني هعرف كيف أعمل اللي في راسي.

ضرب "جمال" كفًا بكفّ وهو يراها تنصرف بإندفاع :

- لا حول ولا قوة إلا بالله!.

انفردت بغرفتها ورأسها مشتعلًا من الغضب، لتسمع صوت هاتفها وهو يرن للمرة الثانية على التوالي، فـ انتقلت نحوه لترى أسم "جليلة" على واجهة الهاتف، فتأففت بحنق لتهمس بـ :

- عايزة مني إيه تاني انتي وبنتك!.

ثم أجابت عليها بصوت هادئ إلى حد ما :

- أيوة يا خالتي.. أزيك عاملة إيه.

ثم جلست جانبًا وقد تلوّت شفتيها بإستنكار :

- حالي!.. زفت، أتطلقت وقاعدة في بيت أبويا.. وانتوا عملتوا إيه؟.

كان خبر گالصاعقة، جعلها تنتفض فجأة من مكانها، وتتسع عيناها عن آخرها وهي تكرر آخر ما سمعت :

- أتجوزها؟؟!

وبمجرد أن تخيلت وجه "حسين" وماذا سيفعل حينما يعلم بالأمر، انتابها شعور بأن تركض إليه وتزّف بنفسها الخبر التعيس الذي سيقلب حياة آل طحان رأسًا على عقب، لتكون أول من يرى حالهِ بعد أن يعلم بزواجها، وليست أي زيجة، زيجة ستحطّ گالغراب صاحب الفأل السئ على العائلة كلها، فالتاريخ خير شاهد على سوء العلاقات بين العائلتين منذ قديم الأزل، وما حدث ليس سوى تجديد للعهد القديم الذي ظن البعض إنه قد مات وتوارى وراء الثرى مع موت "رضوان العزيزي"، وإنما أيقظهُ ولدهُ الآن وأعلن الحرب الحقيقية بالزواج من إبنة العائلة بدون رغبتهم.

منعت "منال" نفسها من أن يعلو صوتها بالزغاريد، كي لا يفهم أهل البيت سبب سعادتها الشديدة الآن، واستكفت بصوتها الرنان السعيد وهي تبارك الزيجة :

- ياألف نهار أبيض، ألف ألف مبروك يا خالتي.. وحياتك تباركي لرحيل بالنيابة عني، ده انا فرحتلها أوي والله.. لا متشيليش همي، المهم انتوا بخير.. مع السلامة يا غالية، سلام.

انبعج مبسمها بإبتسامة واسعة للغاية، وهي تخطط وتفكر في الطريقة التي سترسل بها الخبر إليهم، وإلى طليقها تحديدًا، كيف ستحرق قلبهِ؟.. كيف ستطعن رجولتهِ كما مزق كبريائها وكرامتها ؟.. وعلى ما يبـدو إنها وجدت الطريقـة المُـثلى لذلك.

*************************************

سار "هاشم" خلف رائحة الطعام الذكية، فكان المنزل بمثابة الذكرى الجميلة التي أيقظت مشاهد من حياة الطفولة ورغدها. تلك رائحة الفلافل المقلية مضاف إليها نبات الكسبرة وكثير من السمسم، إنه يعرفها جيدًا، وعلى ما يبدو إنها اهتمت بصنع الفول المنزلي المدمس وقد أضافت عليه تحبيشة مميزة من التوابل والطحينة، كما تخللت أنفهِ رائحة خبز طازج وكأنه مصنوع منزليًا.

دخل "هاشم" للغرفة المخصصة لمائدة الطعام، فوجد طاولة مملؤة بكل ما لذّ وطاب، حتى إنه وجد الفطير الفلاحي الشهير وعسل السدر الطبيعي بجانب الزبد الخالص، مائدة جعلته يشعر بجوع شديد يهاجم معدتهِ، و "ليلى" تترأس المائدة حتى يأتى والدها؛ ولكن على ما يبدو إنها قد بدأت بتناول الطعام غير قادرة على المقاومة.

حملتها "جليلة" عن المقعد وهي ترحب بزوج ابنتها العزيز :

- صباحية مباركة يا حبيبي.. تعالى كل لقمة تلاقي يومك طويل.

تحسس "هاشم" معدتهِ التي انفتحت بشهية عاجزة عن المقاومة، وهو ينظر للأطعمة التي يشتهيها بشدة :

- تسلم إيدك يا هانم.. الأكل ريحته وشكله يفتحوا النفس فعلًا.

ابتسمت "جليلة" وهي تردف بـ :

- رحيل اللي عملت كل حاجه بنفسها، أنا يدوب عملت فطير الصباحية بس.

أصابتهُ الدهشة، فقد تخيل إنه سيطلب لها طباخًا أو ما شابه، كما كان معتادًا من قبل؛ لكنها فاجئتهُ بخبرتها الواسعة وفنونها في المطبخ أيضًا. جلس على رأس المائدة، وقبل أن يسأل عنها كانت قد أتت وفي يدها صينية الشاي المخمر، لتضع أمامه فنجانه الخاص وهي تقول :

- تحب شاي عادي ولا بحليب.

- لأ عادي.

ثم نظر المائدة مرة أخرى وهو يعرض عليها :

- تعبتي نفسك ليه؟ أنا كنت هقولك نجيب طباخ!.

ابتسمت وهي تعدّ له طبق خاص، ثم أجابت بلطافتها المعهودة :

- أنا بحب أطبخ بنفسي، وانت هتجرب أكلي وتحكم.

وضعت "جليلة" الخبز الساخن أمامه، بينما بدأت يداه تتناول اللقيمات، لقمة وراء أخرى، ملعقة ومن خلفها أخرى، بدون أن يبدي رأيًا أو يقاطع طعامه بأي حديث؛ ولكن علامات الرضا كانت بازغة على وجههِ، كذلك "ليلى" التي اعتادت على تناول البسكوت مع الزبادي والحليب طوال حياتها في وجبة الإفطار، قد عاشت اليوم تجربة لذيذة لن تنساها، وعبّرت عنها قائلة :

- طنط رحيل.. أنا عايزة breakfast زي ده كل يوم.. مش عايزة لبن وكرواسون تاني.

ابتسمت "رحيل" وهي تضع في فمها أصابع البطاطس المقرمشة لتقول :

- طبعًا يا حببتي.. حاضر.

نظر "هاشم" في ساعة يدهِ، ثم نهض عن المائدة وهو يسحب فنجان الشاي قائلًا :

- أنا أتأخرت أوي.. يلا يا لوليتا لو خلصتي فطار عشان نمشي.

نهضت "رحيل" وهى تسأله بعفوية :

- هو انت رايح فين؟.

قطب جبينه ونظراتهِ عالقة على عيناها التي تنظر إليه، حتى فهمت ضيقهِ من سؤالها، فتراجعت عنه على الفور مبررة :

- آ... يعني عايزة أعرف هترجع أمتى عشان أجهزلك الغدا.

تجاوزها ومرّ من جوارها وهو يقول :

- متشغليش بالك بيا.. عن أذنكم.

تبادلت "رحيل" النظرات مع والدتها التي لم ترغب في حشو رأس ابنتها بكلمات التعصية منذ الليلة الأولى، وبررت تصرف "هاشم" قائلة :

- معلش.. أنتوا لسه مخدتوش على بعض.. وبعدين مش يمكن يطلع من الرجالة اللي مش بيحبوا يتسألوا رايحين فين وجايين منين!.

أومأت "رحيل" رأسها بتفهم وهي تتابع تناول طعامها، وفي رأسها تفكر فيما يفكر فيه هو؟.. كيف يرى زواجهم وما الذي يشعر به تجاهها؟ ما الذي يختبئ لها بالأيام القادمة؟.

صحيح أن زواجهم تم لمصالح معينة تخدم كلاهما؛ ولكنها استمعت لنصائح والدتها وتعاملت معه گزوج حقيقي وليس مجرد وسيلة حماية، هل سيتعامل معها إنها زوجتهِ؛ أم مربية أمينة لطفلتهِ؟.

**************************************

وصل مكتبه متأخرًا على غير العادة، مما زرع الظن لدى البعض إنه لن يكون متواجدًا اليوم، فأدى ذلك لبعض الفوضى الغير نظامية وإرتياح البعض لعدم تواجد رئيس مجلس إدارة الشركة الذي فرض قوانين عملية شديدة الصرامة على الجميع، فـ باتت رؤيتهِ الآن فجأة بالممر گالصاعقة، خاصة لقسم المبيعات الذي تمادى في فترة الراحة ووصل الأمر للإحتفال بعيد ميلاد صديقتهم بوسط يوم العمل الرسمي بقاعة الإجتماعات، ليتفاجئوا به يفتح الباب على حين غرة بعدما وصلت أصواتهم لمسامعهِ، فـ تجمّد الجميع في أماكنهم، وعيناه ترصدهم فردًا فردًا، حتى تجرأ أحدهم وفتح فمه بالكلام ليقول مبررًا وبنبرة نادمة :

- أحنا آسفين يا بشمهندس، ساعة البريك وكده فـ قولنا نـ......

نظر في ساعتهٍ قبل أن يقاطعه بحزمٍ :

- البريك خلصان من نص ساعة ياأستاذ!.

كانت السكرتارية تقف بجوارهِ ولسانها متجمدًا، حتى ألتفت إليها فبهتت وعيناها تتحاشى النظر إليه، إلى أن رمى بتوجيهه في وجهها :

- بلغي الـ Hr ينفذ جزاء ٣ أيام لكل واحد من الأساتذة، والمرة الجاية فصل نهائي من الشركة.

- تحت أمرك يابشمهندس.

لم يكتفي بذلك، وتابع أوامره العقابية آمرًا :

- والأكل والتورت والهيصة دي تتلم فورًا محدش يطفح منها حاجه.. أديها لعمال البوفيه.

أومأت رأسها بتفهم ومازالت عيناها بعيدة عن النظر إليه :

- حاضر.. حالًا.

ترك "هاشم" المكان وغادر، فسمع صوت أرجلهم وهم يركضون نحو مكاتبهم، بعدما تلقوا جميعًا عقاب شديد القسوة، لم يمكنهم من الإستمتاع بالعمولات السخيّة التي أوصى بها "هاشم" لهم بعدما أبلى كلٍ منهم بلاءًا حسنًا في تنفيذ خطة البيع للعقارات السياحية الجديدة؛ لكنه صارمًا في تنفيذ العقوبات على موظفيه في التوقيت المناسب، منعًا لإنتشار الفوضى والإستهتار بقوانين العمل التي وضعها بنفسهِ لتنظيم العمل بداخل مقر الشركة.

انتقل "هاشم" تلقائيًا لمكتب "مراد"، لإستقبال الضيفة التي أمر بحضورها هنا صباحًا، فأتى بها سائقهِ لتنتظرهُ عدة ساعات متتالية، حتى تكرّم بحضورهِ الآن وقد تجاوزت الساعة الواحدة والنصف ظهرًا. لم تتحرك "كاميليا" من جلستها مع رؤية دخولهِ، بل تجاهلت النظر إليه حتى لا يرى في عيناها كم باتت تكرههُ، فيستمر استبدادهِ الغير منتهي في حقها، مبررًا ذلك بأحقيتهِ في التحكم بحياتها، بما إنها الأم البيولوچية لإبنته الوحيدة التي تمثل قطعة من قلبهِ.

انسحب "مراد" بصمت من الغرفة، تاركًا المجال للعراك والمشادات لئلا يكون عائقًا أو يتدخل فيتسبب لإزعاج "هاشم" أكثر. جلس قبالتها، وهو يرى ذلك الشحوب الذي غطى طبقات جلدها، فـ مطّ شفتيه ليقول بشئ من السخرية :

- انتي بطلتي حقن البوتكس ولا إيه يا دكتورة؟.

لم تهتم لتعليقاتهِ السخيفة، وسألته مباشرة :

- بنتي فين؟.. عايزة أشوفها.

وضع ساقًا على أخرى وهو يجيب برتابةٍ مثيرة للأعصاب :

- ليلى مع أبوها متقلقيش عليها، وهخليكي تشوفيها.. أنا مقدرش أحرم بنت من أمها.. بس بشروطي.

أطاحت بكوب المياة الرابض أمامها على الطاولة وهي تهبّ واقفة من مكانها وقد نفذ صبرها عن آخره :

- شـروط إيــه ؟؟.. البنت حضانتها معايا واللي بتعمله ده منافي للقانون.

- أثبتي للقانون إنها معايا وبعدين نتكلم يا دكتورة.. وبعدين الأسلوب ده نتيجته مش هتكون في صالحك أبدًا. 

هي تعلم أن يدهِ طائلة، وإنه قد يتحايل على القانون أيضًا في سبيل تحقيق مبتغاه، وإنه لن يرى ظلمه لها أو يعتبر لتهديداتها اعتبارًا، لذلك خفت صوتها مرة أخرى وهي تستجديه :

- أنا قولتلك هعملك اللي انت عايزه.. خلاص مش هتجوز وهعيش عشانها، بس رجعهالي. 

عيناه گالصقر، وهو يرنو إليها بنظرة حملت شيئًا من الإحتقار :

- مش من طبعي أدي الأمان لحد مرتين.. هي مرة واحدة وبس، وأدينا شوفنا وصلتينا لأيه. 

ارتمت بجسدها على المقعد الجلدي وهي تدافع عن نفسها الآثمه في عينيه :

- والله العظيم ما عملت حاجه غلط، والله ما غلطت في حقك، أنا طلبت أبسط حقوقي لما لقيتني مش مرتاحة معاك!.. بس. 

قطب جبينه بإستنكار، وقد تذكر كل تقصيرها في حقه، والذي تغافل عنه مرارًا لأجل صغيرتهِ "ليلى".. من أجل أن تشبّ بين أبوين طبيعيين؛ لكنها قابلت ذلك بكل أنانية، و ضحّت براحة واستقرار الصغيرة لأجل سعادتها الشخصية، الأمر الذي تستصعبه كثير من الأمهات :

- وانا أمتى كنت مرتاح معاكي؟.. أمتى كنت مبسوط؟.. ولا أمتى أصلًا فكرتي فيا؟!.

سالت الدموع من عيناها وهي تذكر لياليها الفارغة منه، وهي تنام أغلب الأمسيات وحيدة في فراشها التعيس :

- وانت أمتى كنت موجود عشان تطلب الحق ده؟؟.. أنا كنت بنام أنا وليلى بالأسابيع منعرفش عنك حاجه!.. عمرك ما فكرت فيا ولا في مشاعري ولا احتياجاتي، أنا أغلب الوقت مكنتش بحس إني متجوزة أصلًا!.. انت بتلومـني عـلـى إيه ؟ على واجبات كانت دورك وانت مقومتش بيها؟.. على رد الفعل لفعل أساسًا مش موجود!.

غلت الدماء في عروقهِ، وبدا كأنه سيبطش بها بطشًا عديم الرحمة، لولا إنه تماسك بأقصى درجة :

- أوعي تفكـري في لعـبة قلب الترابيـزة يا دكتورة.. ولو عايزة تعرفي مين الغلطان الحقيقي أرجعي لأيام الخطوبة، أرجعي لشهر العسل ولحد ما ليلى جت الدنيا!.. أنا كنت الزوج المثالي اللي بتحلفي بيه قدام كل صحابك، ولا نسيتي؟!.

صرخت في وجهه وهي تعيد ذكريات السنوات التي لم تشفع له في قلبها :

- لحد موت أونكل.. بعدها بقيت راجل تاني كل همه يجري ورا الشركة والعقارات والمشاريع، واحنا بقينا خارج الخطة!.. صح ولا لأ يا بشمهندس!.

لم يتحمل أكثر من ذلك، الطبيعي إنه إنسان غير صبور بالمرة، لكن الرصيد القديم وابنتهم "ليلى" كانت السبب الوحيد الذي دفع به لذلك الصبر :

- انتي مش بس أنانية!.. انتي طلعتي و×××× ة كمان!.. هي دي وقفتك جمب جوزك أبو بنتك؟.

ثم رمقها بإحتقار وهو يتابع :

- انتي مش بس تستحقي تتحرمي من نعمة ليلى!.. انتي تستحقي الرجـم.. ولو أمرك لسه في إيدي كنت دفنتك هنا.

تشبثت بذراعهِ قبل أن ينصرف مغادرًا حديثها الحقير في وجهة نظرهِ، والذي تجاهلت فيه مشاعره بعد موت "رضوان"، والذي أثر بشكل كبير على حياته گكل :

- ليلى فين ياهاشم؟.

دفع يدها التي أمسكت ذراعهِ بكل وحشية :

- هتشوفيها عشان سبب واحد بس.. إني وعدتها إنك جايه النهاردة، لكن قبل ما تشوفيها هتسمعي الكلمتين دول وتحطيهم حلقة في ودنك، وإلا تنسي حاجه أسمها ليلى بقية عمرك كله.

- حاضر والله.. بس أشوفها.

**************************************

كان لابد من تنفيذ وعده لـ "ليلى"، كي لا تفقد الثقة فيه أو تتمرد على معيشتها معه، حتى وإن أغرقها دلالًا وأشبع رغباتها واحتياجاتها كافة؛ هي بحاجه لإمها الحقيقية، لا سيما أن العلاقة بينهما كانت وثيقة للغاية قبل أن يأخذها "هاشم"، وهذه ستكون معضلة في إجبارها تدريجيًا على الإستغناء عنها.

جلس "هاشم" برفقة إبن عمهِ على طاولة قريبة منهم بداخل النادي، تاركًا لهم مساحة من الحرية، بينما ترك "حِراء" برفقتهم گكبسولة أمان. يراقب عن كثب كيف تغيرت تعابير "كاميليا" وكيف أشرق وجهها بعدما رأت "ليلى" وجلست معها، فهي نقطة الضعف الأقوى التي استخدمها "هاشم" للحفاظ على حقوقهِ گأب منزوع التفاهم فيما يخص صغيرتهِ.

ترك "مراد" فنجان القهوة بعدما أنهاه، ثم نظر إليه وهو يراقبهم من خلف نظارتهِ السوداء، وسأله متعجبًا:

- أول مرة تفطر في البيت!.. إيه اللي غيّر تفكيرك؟.

ابتسم "هاشم" بشئ من المرارة، وهو يكشف عن السبب المخجل وراء ذلك :

- هو انا لقيت حد يفطرني وقولت لأ يامراد ؟!.. أنا كنت بصحى آلاقي الهانم نزلت شغلها والشغالة محضرة باتيه بالزعتر وميني كرواسون بالزبدة وحليب ساخن مُحلى بعسل النحل!.. هو ده فطار بني آدمين ؟!.

ثم نزع عنه نظارته كي يرى "مراد" نظرات الأشتياق في عيني "هاشم" لأصولهِ الصعيدية التي يحن إليها كل حين وآخر :

- وحشني فطار زمان بتاع الحجة الله يرحمها.. وريحة العيش المخبوز الساعة ٩ الصبح مع صوت طشة البطاطس المحمرة في الزيت المغلي.. وطعم الفول المحوج وشكل السمسم على الطعمية المحشية!.. أنا كنت نسيت حاجات كتير أوي.. النهاردة بس بدأت افتكر.

كان الأمر محلّ ذهول "مراد"، فـ "هاشم" ليس من أولئك الرجال الذين تحركهم معدتهم؛ ولكنه رغم ذلك عاش ما يفتقده في لفتة "رحيل" الظريفة بتجهيز إفطار شرقي يحمل عراقة التقاليد الأصيلة التي مازال يحملها معظم المصريين، فلم ينكر "مراد" إعجابه بتصرفها الذي غيّر من عادات "هاشم" - بدون أن تدري - :

- والله كويس.. على كده خلاص هرجع أفطر لوحدي؟.

- والله لو كل يوم هتعملي سفرة بالمنظر ده فـ أنا مضطر أسيبك تفطر لوحدك.

عاد يرتدي نظارتهِ وهو ينظر بإتجاه "كاميليا"، حيث كانت تختلس النظر إليه بين حينٍ وآخر، ثم جمع مفاتيح سيارتهِ وهاتفه ليقول :

- كفاية عليها كده.. يلا ورانا سفر.

استوقفه سؤال "مراد" :

- هي وافقت تتنازل عن الحضانة؟.

ذمّ "هاشم" شفتيه متضايقًا من تعثر الأمر :

- لسه.. بس هتوافق، مفيش قدامها غير إنها تقبل باللي انا عايزه، بدل ما تخسر كل حاجـه.

***************************************

تجاوزت الساعة الحادية عشر والنصف مساءًا، وما زال "هاشم" غير موجود. لا تستطيع مكالمتهِ أو الوصول إليه، منذ أن أعاد "حراء" و "ليلى" الصغيرة للمنزل وانصرف على الفور لم تعلم عنه شيئًا، حتى إنه تجاهل التواصل معها أو الدخول للمنزل، وكأنها ليست عروسًا عُقد قرانها بالأمس فقط.

تأففت "رحيل" وهي تنظر للطاولة التي وضعت عليا طعام العشا وقد تجمد من الهواء، ثم نهضت لتغطيهِ حتى يأتي على الأقل، فقد أعادت تسخنيهِ مرتين متتاليتين على أمل أن يأتي يتناول معها الطعام؛ لكنه لم يأتي.

وقفت أمام المرآة تنظر لحالتها الحسناء، كانت ترتدي قميصًا ورديًا طويلًا أظهر لون بشرتها الفاتحة، والروب الحريري بأكمام شفافة طويلة تنسدل على ساقيها، مطرزًا بفصوص ماسية صغيرة. مشطت شعرها الذي تناثر على جانبي وجهها، فتمكنت من رؤية الأثر المحمر الذي تركهُ على عنقها بالأمس. تحسستهُ بإبتسامه مستحية، وهي تسترجع في ذهنها كيف كان حنونًا رقيقًا معها، حتى في أوج إنفعالهِ العاطفي مارس الرفق مع جسدها الرقيق، متجاوزًا مراحل الشبق التي تتحكم في عنف الرجال مع النساء في مرحلة من مراحل العلاقة الحميمية، فـ حبذت حنانهِ الذي روى ظمأ أنوثتها المندثرة ليُحييها من جديد، وحلّقت معه لمشاعر لم تختبرها من قبل بهذا الشكل الرومانسي العميق. تنهدت وهي تجلس على المقعد الضخم المريح، ثم نظرت للسماء التي تظهر من خلف زجاج الشرفة لتهمس بتحيرٍ :

- ياترى انت فين يا هاشم؟!.

**************************************

في الوقت الذي كانت تنتظره فيه زوجتهِ على أحرّ من الجمر؛ كان هو يصيد الفريسة بعدما وقعت أخيرًا في الفخ، فقد انتظر تلك اللحظة طويلًا، وها هي تأتيه على طبق من ذهب. جلس "هاشم" في سيارتهٍ ينتظر اللحظة المناسبة لمدة تزيد عن ساعة وربع الساعة، حتى بدأ يسأم الإنتظار ويحس بالملل. تأفف وهو ينظر لساعة يدهِ للمرة السابعة عشر، ثم أردف بإنزعاجٍ تمكن من نبرة صوتهِ :

- وبعدين بقى!.. كان زمانا مخلصين من ساعة وأكتر!.. تفتكر إيه اللي حصل؟.

فرك "مراد" عينيهِ بقوةٍ وقد أزعجه إنخفاض الإضاءة من حولهم، حيث كان المكان معتمًا إلى حد ما :

- أكيد الرجالة اللي جايين ينفذوا أتأخروا عليهم.

ثم التفت إليه يسأله بفضول :

- هتعمل إيه في موضوع المشتري اللي عند رحيل؟.

- نخلص من اللي احنا فيه ده وبعدين هفكر.. بس الأكيد إني مش هضيع الفرصة دي من أيدي، الأرض دي مش هتروح لحد غيري.. زي ما كان أبويا الله يرحمه عايز بالظبط.

رنّ هاتف "مراد"، فـ اعتدل "يونس" في جلستهِ وهو يهتف بتلهفٍ :

- رد عليه بسرعة.

أجاب "مراد" على هاتفه متشوقًا لسماع الخبر :

- ها طمني.. طب حلو ، أنا داخل عليك أهو.

وبدأ بتشغيل السيارة حينما كان "هاشم" يجري مكالمة بهاتفهِ الإحتياطي :

- أيوة ياباشا.. أنا داخل عليهم أهو، ربنا يخليك لينا، مستنيكوا.

كانت بضعة دقائق تفصل بينه وبين موقع الأرض المملوكة لزوجته "رحيل" بحكم نهائي من المحكمة، وقد وصل على الفور حينما كان "حسين" ينفذ مخططهِ بالحفر أسفل الأرض للكشف عن المقبرة الأثرية الضخمة المتواجدة أسفلها، بواسطة عمال متخصصون في تلك النوعية من الأعمال، وقد كان الأمر يتم في تكتم شديد ووسط أجواء مظلمة تثير الشكوك والشبهات حولها. تفاجأ "حسين" بتلك الأجواء المفاجئة، لا سيما وجود سيارة الشرطة هنا، وقد قام "هاشم" بإستخدام صلاتهِ العديدة ومعارفه الكُثر للإيقاع بـ "حسين" متلبسًا. تجمد "حسين" في مكانهِ، وتوقف العمال عن الحراك أيضًا بعد مداهمة الشرطة للمكان، ووقف يشمل الجميع بنظرات امتزج فيها الذهول بالخوف، حتى ترآى له "هاشم" وهو يدنو منه ملوحًا :

- بتعمل إيـه هنا يا حـسين؟.

صاح ضابط المباحث متسائلًا :

- إيه اللي بيحصل هنا في نص الليل؟؟ والناس دي بتحفر هنا ليه؟.

نظر "هاشم" لصديقهِ من المباحث وهو يقول :

- أسأله ياباشا؟؟.. بيعمل إيه في أرض مراتي نص الليل هو والبلطجية اللي معاه؟.

لم يتحمل "حسين" سماع عبارته التي دسّ فيها الخبر الحصري، وتأججت نيران صدرهِ المهتاج وهو يصرخ في وجههِ :

- إنت بتقـول إيــه ؟!.

تلك الإبتسامة اللزجة التي أشعلت النار في عينيهِ الساخنتين:

- مش تقول مـبروك الأول يا سـحس؟.

عقلهِ يرغب في الإنقضاض عليه؛ لكن جسدهِ گالصخر عاجز عن الحركة، وكأن الصدمة ألجمته بلجام من حديد، حتى انتبه في اللحظات الأخيرة لتفتيش رجال الشرطة للأرض ومحيـطها، فأصبحت الكارثـة كـارثتين.....

الفصل الثامن عشر من هنا

تعليقات



×