![]() |
رواية سدفة ج2 (عن تراض) الفصل الواحد والثلاثون بقلم أيه شاكر
"نزّلني في أي مكان هنا يا أستاذ محمد، وأنا هاخد أي مواصلة للمستشفى."
قالها «نادر» بنبرة مضطربة وهو يشير إلى الطريق أمامه، وكأنّه أراد أن يفرّ من «رحمة»؛ تلك التي تذكره بماضي يؤرقه.
تشبث «محمد» بعجلة القيادة وقال بثبات دون أن يحوّل نظره عن الطريق:
-اصبر يا نادر... خرجنا سوا يبقا هنروح سوا... وهما في طريقنا أصلًا.
في المقعد الخلفي
تبادلت «فاطمة» و«رحمة» نظرة سريعة، تحمل تساؤلات صامتة، وقلقًا خفيًا مشوبًا بشيءٍ من الحذر.
قطعت «فاطمة» الصمت بنبرة خفيفة، تجمع بين الفضول والحذر:
-هو فيه حاجة ولا إيه؟ رايحين المستشفى ليه؟
عدل «محمد» المرآة الأمامية ليلتقط انعكاسها، ألقى عليها نظرة ثم أجاب:
-فيه حكاية كبيرة يا طنط... عمي كارم ظهر فجأة، وتعب، ودخل في غيبوبة... من ساعتها والدنيا مقلوبة.
رمقت «فاطمة» «رحمة» بدهشة قصيرة، ثم عادت بنظرها إلى المرآة، وقالت بنبرة مغلفة بالإستنكار:
-هو عمك دياب اللي غلطان... يروح يجوز ولاده من بنات مالهمش لا أصل ولا فصل.
أثارت جملتها حفيظة «نادر» فاستدار فجأة وكأن جملتها صفعته، وقال بملامح مشدودة:
-تقى وسراب محترمين... بغض النظر عن اللي بيحصل حواليهم.
مطّت «فاطمة» شفتيها باستهانة وهزّت كتفيها كأنها تبرئ نفسها من التهمة:
-وهو أنا قلت حاجة؟!
وللحظة قصيرة تلاقت نظرات «نادر» و«رحمة»، فارتبك واعتدل جالسًا وهو يتنفس بعمق، بينما خفضت «رحمة» عينيها، وبدأت تفرك أصابعها بتوتر.
ران عليهم صمت مطبق، قطعه «محمد»، موجهًا كلامه إلى «فاطمة» بابتسامة خفيفة حاول من خلالها كسر الجمود:
-وإنتوا بقى يا طنط، رايحين عند رغدة ليه دلوقتي؟ حاسس كده إنكم قلقانين.
أجابت «فاطمة»، وقد شدت نبرتها بحبلٍ من قلق:
-أيوه... مش بترد على موبايلها من امبارح، وعمتك داليا كمان ما بتردش... وإحنا قلبنا مش مرتاح.
هزّ «محمد» رأسه بخفة وقال في محاولة لزرع بعض الطمأنينة:
-إن شاء الله مفيش حاجة... يمكن نايمين، أو مشغولين بحاجة.
تمتمت «فاطمة»:
-يا رب... بس قلبي مش مطمئن.
حوّلت «رحمه» نظرها إلى النافذة، وعقلها يجتر ما فعله «نادر» معها، تساءلت لمَ لازالت تُكن له مشاعر حتى الآن رغم أنه ترك في قلبها ندبة لم ولن تزول.
وظل «نادر» هو الأخر مرتبكًا يتمنى أن تطوى الأرض سريعًا ليرتجل من السيارة، فنظرات «رحمة» تشع بالعتاب الذي يوقظ شيء في نفسه ليرهقه ويؤرقه.
وأثناء الطريق...
تبادل «محمد» الحديث مع «فاطمة» في مواضيع شتى، وبحديثه البسيط وروحه الخفيفة، لانت ملامح فاطمة شيئًا فشيئًا، وعلى إثر دعاباته ابتسمت...
ابتسامتها تلك باغتت نفسها، وبدأ شيء ما في داخلها يتحدث بإعجاب، ما أبهاه! الرجل ليس كما تصورت!!
ففي قلبه حنية لم تألفها منذ زمن، وروحه الخفيفة تسللت إلى قلبها بلا مقدمات...
لأول مرة منذ وقت طويل، تفكر أن تمنح أحدًا فرصة، أن تفتح نافذة صغيرة في جدار وحدتها...
ربما... يكون عوضًا عن قــسوة الأيام وقــسوة الأبناء.
قطع حبل أفكارها وقوف السيارة أمام بيت «داليا» ففتحت الباب وخرجت، بينما تبعهما «محمد» دون أن ينتظر دعوة بل واتجه بخطى سريعة نحو البيت، ومد يده ليفتح البوابة لها ولرحمة.
قالت «فاطمة» بسرعة، محاولة أن تمنعه بلطف:
-رايح فين يابني؟ روح إنت، متعطلش نفسك.
لكنه التفت مبتسمًا، ونظر إليها نظرة فيها شيء من الطمأنينة الصادقة وقال:
-أطمن بس الأول يا طنط على رغده وعمتي وبعدين أمشي علطول.
طالعته «فاطمة»، وعيناها تراقب خطواته، وعلى شفتيها تسللت ابتسامة خفيفة... خجولة...
ثم تمتمت دعاءً صادقًا في سرّها، ولحقت به إلى الداخل، وقلبها يخطو خطوة صغيرة نحوه، دون أن تدري...
استغفروا🌸
★★★★★
"مريم! يا مريم افتحي، تلاقيه بابا."
نادتها «وئام» من داخل غرفتها، وهي تكدّس الملابس فوق السرير بيد وتضبط وضعها باليد الأخرى، بينما كان جرس الباب يرنّ بإلحاح مزعج، كأنه يدقّ على أعصاب البيت لا بابه.
أجابت مريم بسرعة وهي تهرول:
-حاضر... جاية!
ارتطمت خطواتها بأرضية المنزل، ويدها امتدت نحو الباب دون تفكير.
وحين فتحت الباب، توقفت فجأة... وكأنها تجمّدت بينما عيناها تتنقلان بين الرجلين أمامها، كانا طويلين بشكل مبالغ فيه، عريضي المنكبين، ووجهيهما يحملان قســــوة الحجر.
قالت بصوت مرتجف، لم تكد تسمعه:
-نعم؟
تقدّم أحدهما خطوة، وكان صوته ميتًا، لا يحمل سوى الجفاف:
-إنتِ مريم؟
أومأت رأسها ببطء، وقد اتسعت عيناها بريبة وخوف، وقلبها يختلج خلف أضلعها...
ثم وبلا مقدمات، دفعها الرجل الآخر بقــوة إلى الداخل، فارتدت للخلف بصدمة، قبل أن يُغلق الثاني الباب خلفه بحركة سريعة فدوى صوت ارتطام الباب في أذنها كصفعة باغتتها.
خاطبها الأول بصوت غليظ:
-فين الكتاب؟
تجمّد الدم في عروقها، اختنق صوتها، شحب وجهها، ولم يخرج منها سوى صرخة واحدة:
-مـــــامـــــا!
أشار أحد الرجلين بسـ ـلاحٍ سحبه من جيبه بسرعة، ورفعه في وجهها كتهديد صامت، فأمسكت أنفاسها وارتجف جسدها.
خرجت «وئام» من الغرفة مهرولة، وملامح الرعب على وجهها، ثم وقفت في منتصف الردهة بذهول وهي تقول بصوت مرتعش:
-في إيه؟... إنتو مين؟
ركضت «مريم» نحوها والتصقت خلفها كأنها تبحث عن ملجأ، فصاح أحدهما مشيرًا بسبابته بحدة:
-من غير دوشة ولا صريخ... هاتي الكتاب، ومش هيحصل لحد حاجة.
نظرت «وئام» للرجل في ارتباك، وقلبها يضـــرب صدرها بجنون، وسألت بصوت متقطع:
-كتاب إيه ده؟
رمقها الرجل بنظرة خاطفة، ثم عاد بعينيه إلى «مريم» وقال بجمود مرعب:
-بنتك عارفة كويس... فين الكتاب؟
نظرت «وئام» إلى «مريم»، فرأت في عينيها المرتعشتين شيئًا يُخفي أكثر مما يُظهر...
اقتربت منها وهمست بقلق:
-كتاب إيه يا مريم؟
هزّت «مريم» رأسها في ذعر، وصوت «رغدة» المريب عاد يتردّد في ذهنها، وفجأة أدركت حجم المصيبة التي تطرق بابهم... لم تتكلم... فقط انحدرت دموعها بصمت.
لكن صوت الرجل قطع الصمت حين زمجر بقسوة حطّمت ما تبقى من ثبات:
-فـــيــن الكتـــــــاب؟!
تشبثت «وئام» بذراع ابنتها، ونظرت في عينيها برجاء مخنوق:
-ادّيهم اللي هما عايزينه يا مريم... أرجوكي.
همست «مريم»، بصوت بالكاد تسمعه:
-إنت عايز... كتاب رغدة؟! مش معايا... والله العظيم مش معايا.
قالتها وهي تهز رأسها في يأس، بينما شفتيها ترتعشان، وعيناها تغرَقان في بحر من خوف.
لوّح الرجل بسلاحه في وجهها وصرخ:
-أوامري... يا آخد الكتاب، يا آخدك معايا.. ومن غير صوت... وإلا...
التفت حوله ثم مدّ يده والتقط «عبد الله» من الأرض، الطفل الذي لم يحتمل المشهد فانفجـــــر باكيًا ينادي «وئام».
هدرت «وئام» بمريم:
-إديلهم اللي عايزينه يا مريم! خلّصي!
ارتجفت «مريم» وتلعثمت، لم تخرج من بين شفتيها سوى:
-بابا... بابا...
ولخوفها على والدها «يحيى» أخذت قرارها بألا تخبرهما عن مكان الكتاب، أطبقت يدها على فمها، تحاول كتم شهقاتها، وانسحبت من الواقع...
لم تشعر بنفسها إلا وهي تُسحب قــسرًا نحو الباب، كانت تمشي أمام الرجل كأن الأرض لا تحتمل قدميها.
همس الرجل في أذنها ببرود:
-لو سمعت صوتك، هنخلّص على أمك وإخواتك.
شهقت «وئام» وتمسكت بأمل أخير، نادت برجاء مكسور:
-خدني أنا! خدني أنا وسيبها!
لكن الآخر نطق بنبرة جافة:
-مش عايز نفس.
ثم رفع سلاحه نحوها... ونحو الصغيرين «عبد الله» و«عبد الرحمن».
شعرت «وئام» بالعجز ينهش صدرها، تاهت نظراتها بين ابنتها «مريم» والسلاح الموجه إلى رأسها، وبين ولديها والرجل الآخر يشهر سلاحه نحوهما.
ثبّتت قدميها كأنها تبحث عن قرار، لكن الأرض تحتها بدت تميد، وكل شيء من حولها اهتز، اشتدت خفقات قلبها فزعًا، وعيناها تتوسلان النجاة دون جدوى.
لحظة واحدة كانت كافية لينطفئ كل شيء.
هوى جسدها فجأة، وكأنما انقطعت خيوط الروح، وارتطم بالأرض ارتطامًا مكتومًا، فصرخ الطفلان في هلع، يجريان نحوها:
-مــــامـــــا.
بينما خرج الرجل الأخر يتبع صاحبه...
صلوا على خير الأنام🌸
********
في شقة آدم...
قال «يحيى» وهو يطالع الكتاب بعينين متوجستين:
-هنعمل إيه دلوقتي؟
أجابه «آدم» دون أن يرفع عينيه عن غلاف الكتاب:
-الكتاب ده لازم يتسلّم للشرطة... لأنه خطر جدًا.
جلس «يحيى» على طرف الأريكة، زفر بعمق محاولًا كبح قلقه المتصاعد، قال:
-طب ما نحرقه ونخلّص؟
هزّ «آدم» رأسه وقال محذرًا:
-منصحكش... لأنه عليه حارس، ولو حرّقته، ممكن يئذيك أو يؤذي عيلتك.
تنهد «يحيى» بضيق، وقال:
-يبقى نرميه في البحر ونرتاح!
أجابه «آدم» بحسم:
-نرميه فين؟! ده عليه تعويذة بتخفيه عن عيون السحرة... لو اتغسل بمية البحر، التعويذة هتروح... وساعتها هيوصلوله بسهولة.
نهض «يحيى» وهو يزفر بغيظ، واتجه نحو الشرفة محاولًا الهروب من وطأة الحديث.
استنشق الهواء العليل، يحاول تهدئة أعصابه، لكنه تجمّد فجأة، واتسعت عيناه هلعًا حين وقعت عليها...
كانت مريم... تخرج من باب بيتها بصحبة رجل غريب يتبعه أخر ركضًا.
صرخ «يحيى» بصوت مرتجف، مرتبك:
-مــــــريم! رايحة فين؟!
هرول «آدم» يطالع مريم التي رفعت رأسها ببطء، وابتلعت ريقها...
لم تتكلم، فقط دموعها كانت تنحدر بصمت على وجنتيها، كأنها تستغيث بلا صوت.
-مريم!!
قالها «آدم» بنبرة مرتعشة ونظرة تشي بالكثير...
وقبل أن يتكلم «يحيى» مرة أخرى... رأى السلاح بيد الرجل.
شهق وهمس وكأنه تلقى طعنة:
-مريم! بنتي...
سقط الكتاب من يده، وركض نحو الدرج، يتبعه «آدم» بعد أن التقط الكتاب ووضعه على سطح الطاولة.
وعلى نحوٍ أخر
استقل الرجلان السيارة وانطلقت بسرعة، بينما كانت «وئام» تفترش الآرض بلا حول ولا قوة.
*****
تجمّد «يحيى» أمام باب شقته، مصدومًا، لا يدري أيهرع خلف ابنته أم يبقى ليرى ما أصاب زوجته!
قال «آدم» وهو يهبط الدرج مسرعًا:
-شوف إنت أبله وئام، أنا هروح وراهم... وابقى حصلني.
اقترب «يحيى» من زوجته يتفحّصها، صفع خدها برفق، ثم أحضر زجاجة عطر وقرّبها من أنفها، فسرعان ما فتحت عينيها.
وما إن عاد وعيها، حتى أخذت تصرخ وهي تحدّق في وجهه:
-مريم...! الحقنا يا يحيى! كتاب! كتاب إيه اللي عايزينه؟! أخدوا بنتي... يا مـــــريـــــــــم!
ثم أطلقت صرخة هزّت أركان البيت، بينما وقف «يحيى» مذهولًا، يتمتم بصوت مخنوق:
-الكتاب...!
وفي تلك اللحظة، وصل «آدم» وفي عينيه نظرة تشي بفقدانه لأثرهم، فانتفض قلب يحيى ووئام.
اقترب «آدم» من الطفلين «عبد الرحمن» و«عبد الله»، يحتضنهما وأخذ يطمئنهما بينما أخرج «يحيى» هاتفه بيد مرتعشة، اتصل بـ«عامر». وما إن أجاب، حتى انفجر «يحيى» غاضبًا:
-إنت السبب! شايل كتاب مسحور ليه؟! بتعمل بيه إيه يا عامر؟!
ثم تحشرج صوته، وانهمرت دموعه:
-منك لله... خطفوا بنتي.
كانت «وئام» تبكي وتصرخ، تردد بسؤال متلاحق:
-في إيه؟! مين دول؟! عايزين إيه؟!
أخذ «آدم» الهاتف من «يحيى» بصعوبة، وبدأ يشرح لـ«عامر» ما حدث، وصوته يرتعش وفي أخر الأمر أخبره أن الكتاب في حوزته الآن، وأغلق المكالمة...
وفي قلبه سؤال لا يكفّ عن الطرق:
ماذا سنفعل الآن؟
استغفروا 🌸
*********
وعلى الجهة الأخرى...
فتح «عامر» مكبّر الصوت، فدوّى صوت «يحيى»، سمعه الجميع؛ رامي، وعمرو، وسراب، وتقى، والبدري، ودياب، وضياء الذي وصل لتوه.
تبادلوا النظرات في صمت ثقيل، بينما جثا «عامر» على ركبتيه، منهارًا بالبكاء...
وداخل رأسه صوت يتردد وهمسات تتعالى، لا تتوقف، بل تزداد... وكأن هناك شيء ما يقترب.
سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم 🌸
★★★★★
وعند رغدة
دويّ جرس الباب شقّ السكون، كأنه شعاع ضوء اخترق عتمتها.
ارتعشت دموعها على وجنتيها، ثم صرخت بيأس:
-الحقوني!
كانت تتخبط في ظلامها، تتبع صوت الجرس والطرقات المتلاحقة، كأنها تتشبث بطوق نجاة.
وحين سمعت صوت «رحمة»، وصوت جدتها «فاطمة»، تجدد فيها الأمل.
ورغم تعثرها وسقوطها مرات، كانت تنهض وتكافح، تسابق ضعفها لتصل إلى الباب.
وحين وصلت أخيرًا، أخذت تتحسّس المقبض بيدين مرتعشتين، ثم فتحته وهي تبكي.
وما إن رأوها، حتى تداخلت أصواتهم في هلع يسألونها عمّا جرى.
فأجابت بحشرجة خافتة:
-بابا... جه... وحبس تيته... كانت بتصرخ وتنادي عليّا، وبعدين سكتت... المفتاح كان هنا... وقع مني...
-اهدي يا رغدة، بس يا حبيبتي.
قالها «محمد» وهو يضمها، ثم نظر لفاطمة وهو يقول:
-لبسيها حاجه يا طنط عشان هنمشي... على ما أشوف عمتي فين!
قالها وهو يندفع للداخل، يبحث عن المفتاح بعينين مسعورتين حتى عثر عليه بينما نفذت فاطمة ما قاله ويداها ترتعشان.
تبعت «رحمه» «محمد» الذي راح يفتح الأبواب واحدًا تلو الآخر وهو ينادي:
-عمتي داليا!
وأخيرًا، انفتح أحد الأبواب، فانكشفت داليا مطروحة على الأرض، رأسها يستند إلى طرف السرير...
-عمتي!!
-تيته!!!
صرخ بهما محمد ورحمة في آن واحد، وانحنى «محمد» يتحسس نبضها وتنفسها.
دخلت «فاطمة» خلفهما، وما إن وقع بصرها على وجه «داليا» الشاحب، حتى شهقت بصوت مفجوع.
لم يفكر «محمد» كثيرًا، حملها بسرعة بين ذراعيه وقال هو يلهث:
-يلا يا طنط! هاتي رغدة ورحمة بسرعة... مش هسيبكوا هنا...
حين لمحهم «نادر» يقتربون، ترجل بسرعة من السيارة وفتح الباب الخلفي لمحمد الذي جلس يحتضن داليا، تجاوره فاطمة...
بينما ركبت «رحمه» و«رغدة» في الأمام، وقد شحب وجههما ودموعهما تهمي دون توقف، وهما تهتفان باسم داليا.
قاد «نادر» السيارة، وهو يتلفت كل لحظة إلى رحمه ورغده ويتمتم بالدعاء بصوت خافت.
أما «فاطمة»، فكانت تمسح على وجه داليا بيدها المرتجفة، تنادي عليها برجاء يائس:
-فوقي يا داليا... بالله عليكي فوقي...
بينما همست رغدة، بصوت ملهوف مرتجف:
-بابا... هو اللي عمل كده في تيته؟
هزّت رأسها سريعًا، وأضافت وكأنها تفرّ من الحقيقة:
-مش عارفة... لا أنا معرفش، مشوفتش حاجة.
وكانت كلما حاولت رفع جفونها لم تستطع، وكأن ذلك الدهان الذي وضعته عليها صمغ يطبق أهدابها.
صلوا على خير الأنام🌸
★★★★★
لم يعد «دياب» ولا «ضياء» إلى البيت بعد علمهما ما حدث مع أختهما «داليا» بينما قضى البقية ليلتهم مجتمعين في بيت دياب، يقتاتون على أمل أن يتواصل معهم أحد بشأن «مريم».
مضى الليل على «سراب» دون أن يُغمض لها جفن، تجوب الغرفة ذهابًا وإيابًا، وهي تحاول الاتصال بحسين، لكنه لم يجب إلا برسالة نصية مقتضبة:
"مريم بخير... ما دام الكتاب بخير، وطالما مبلغتوش الشرطة، وهترجع لما تجيلي بنفسك تسلميني الكتاب... واستني رسالة بالزمان والمكان."
وافقت «سراب» دون تفكير، واتفقت مع «يحيى» أن تذهب.
اعترض «عمرو» في البداية، لكن الواقع لم يترك لهم خيارًا.
ظل يتبع «سراب» بعينيه وهي تجلس شاردة مشدوهة، وحين ربت على كتفها انتفضت، فجلس جوارها وحاوط كتفيها بحنو، وهو يقول:
-متخافيش.
أما «عامر»، فقضى ليلته في صراع مع الهمسات التي تعج برأسه، يتراءى له نهيم فيل يقترب منه ببطء...
كان يخرج إلى الشرفة، يحاوط رأسه بكلتا يديه، يتأوه بصمت بعيدًا عن الجميع، حتى لا يثقل كاهلهم أكثر، ويلوم نفسه مرارًا، لأنه السبب في ما حلّ بهم.
في ركنٍ آخر من المنزل، جلس «رامي» قبالة «البدري»، الذي لم ينطق بكلمة منذ دخوله.
كان شاردًا، يحدق في الأرض بصمتٍ مريب، أقلق «رامي»، فطلب منه أن يريح جفنيه قليلًا... لكنه رفض بإصرار.
وعند مدخل البيت كان «آدم» يتواصل مع باحث في علم الأثار، والكتاب قابع على سطح الأريكة ينتظر مصيره.
أشرق الصباح بعد يومٍ ثقيل، ازدحمت خلاله الأحداث وتزاحمت على الأذهان، حتى بات من الصعب على العقل أن يلتقط أنفاسه أو يستوعب كل شيء دفعة واحدة.
ورغم عنف الأمواج وقسوتها على سفينتهم، ظلّوا متشبثين بالأمل، رافضين الغرق في بحر اليأس...
لجؤوا إلى الله، وكان «يحيى» يصلي ويبكي طوال الليل، جواره زوجته «وئام»، يحاولان معًا النجاة بالإيمان وسط العتمة.
غرق «عامر» في النوم على الأريكة وهو جالس، فتوجهت «تقى» للمستشفى مع «نداء»، دون أن توقظه.
******
خرجت «شيرين» من الغرفة التي تجلس فيها «وئام»، جوارها «هيام» فرأت «سراب» تستند على «عمرو» غارقة في النوم.
وقعت عينا «شيرين» على «البدري»، رمقته للحظة، وتذكرت حديث «سعيدة»...
هل يُعقل أن يكون هذا الرجل والدها؟
لكن كيف؟! وقد نشأت في كنف رجل آخر نادته بـ"أبي".
هزّت رأسها لتنفض تلك الخواطر، فالوقت لا يسمح بالتشكيك، ثم همست لنفسها:
-لا لا... سعيده طول عمرها بتقول أي كلام...
أطلقت زفيرًا عميقًا، ورفعت بصرها إلى السماء، تتمتم في يأس:
-يا رب ساعدنا... هنلاحقها منين ولا منين؟ داليا بين الحياة والموت، وكارم في غيبوبة، ومريم... مش عارفين عنها حاجه!
********
من ناحية أخرى
انتفض «عامر» من نومه فجأة صارخًا مذعورًا، ثم نهض وخرج من البيت دون أن ينطق بكلمة، فتبادل «رامي» و«عمرو» نظراتٍ مرتابة...
نهض رامي مسرعًا يتبعه بينما أسند «عمرو» رأس «سراب» على الوسادة وتبعه بعدما استأذن من البدري، الذي اكتفى بإيماءة صامتة، وهو غارق في شروده.
صلوا على خير يارب الأنام 🌸
*******
صعد «عامر» الدرج ببطء، وكأن التعب يسحب قدميه إلى الأرض.
توقف أمام باب شقته، وأخرج المفتاح بيد مرتجفة، وهو يتمتم بصوتٍ مبحوح:
-أنا... فاشل... غبي... فاشل.
وضع «رامي» ذراعه على كتفيه مواسيًا، وقال بحزن:
-إنت كويس؟
همس «عامر»، كمن يُقرّ بخيبة لا يجد لها مبررًا:
-مش ده اللي كنت عايز اوصله...
وعلى نحوٍ أخر
حين سمع «آدم» صوتهم صعد الدرج في سرعة وهو يحمل الكتاب بينما دفع «عامر» الباب ودخل للشقة، ولحق به عمرو ورامي وآدم بصمت.
توجه «عامر» إلى الغرفة، وكشف عن اختراعه، وهو يردد بخيبة أمل:
-مش دا اللي كنت عايزه...
فاقترب «رامي» ووقف قبالته، يحدق في ملامحه المتعبة، ثم عقد حاجبيه وسأل بقلق:
-إنت كنت عايز إيه يا عامر؟
وقف «رامي» يتأمل الإختراع بإعجاب واستغراب، بينما تنهّد «عامر»، ثم بدأ يشرح وعيناه تتنقلان بين «عمرو» و«رامي»:
-كنت عايز اللي وعد بيه كاتب الكتاب يتحقق... الكتاب كان فيه رموز، وطلاسم، وطقوس غريبة... قدرت أفك شوية منها ونفذتها... كنت فاكر إني هقدر أتواصل مع الحراس... مع الكيانات اللي بتحرس أماكن الآثار، كنوز بلدنا اللي أجدادنا دفنوها... لكن فشلت.
صمت «عمرو» هنيهة يفكر بكل كلمة نطق بها «عامر» ثم قال بنبرة متوترة:
-حراس؟ يعني كنت بتستخدم السحر يا عامر؟!
تشتّت «عامر» للحظة حين عادت الهمسات لرأسه ثم اختفت، فازدرد لعابه باضطراب قبل أن يقول، بانفعال دفاعي:
-مش سحر بالمعنى اللي في بالك يا عمرو... دا...
قاطعه «عمرو» بدوره، وارتفع صوته:
-طلاسم وطقوس وحُرّاس! يعني جن! وبتقول مش سحر؟! إنت كنت عايز تتواصل مع الجن يا عامر؟ وتقول مش سحر؟!
-أنا... أنا ما عملتش حاجة غلط! اللي عملته كان عشان الخير، عشان أساعد الدولة، ونلاقي كنوز بلدنا، ونكتشف التاريخ المدفون... ده اسمه "سحر أبيض"، مش أذى ولا شعوذة...! مكتوب في الكتاب كده.
اقترب «عمرو» خطوة، ضــرب الهواء بكفه في انفعال وهدر:
-سحر أبيض؟! يا عامر، مفيش حاجة اسمها كده!
السحر سحر، كله حرام...
تصاعدت نبرته أكثر مسترسلًا:
-دي كبيرة من الكبائر! إنت بتفتح باب مش من حقك تفتحه، بتستعين بالجن! وبتدّعي إنك بتعمل خير؟! يا حبيبي الخير لا يأتي من طريق باطل!
رمق «رامي» شقيقه بعينين متسعتين، وكأنما يتعرف عليه لأول مرة، دنى منه وسأله بصوت خافت:
-عامر... إنت فعلاً عملت كده؟ طقوس؟ طلاسم؟...
بدأ «عامر» يتنفس بصعوبة، وصدره يعلو ويهبط بسرعة، همس، وكأنه يكلم نفسه:
-صدقوني الطريق ده مختلف... إحنا لو وصلنا للأثار المدفونه هـ....
انقطعت كلماته فجأة حين اقتحمت الهمسات رأسه مرة أخرى أولًا كصدى بعيد، ثم بدأت تقترب، وتزداد وضوحًا.
كانت تدور برأسه كلمات مبهمة... ملتوية... لكنها مُوجَّهة له وحده.
تجمد في مكانه... اتسعت عيناه كمن رأى شبحًا لا يراه سواه...
-سمعتوا؟
قالها والتفت حوله في ارتباك، وهو يقول:
-في صوت... في صوت بينادي عليا.
اقترب منه «رامي» بخوف، ومد يده دون أن يلمسه، سائلًا:
-مالك يا عامر؟! إيه اللي بتسمعه؟
لم يُجِب عامر وضع كفيه على رأسه، كأن الصوت ينبض داخل جمجمته، تضخمت الهمسات بل لم تعد همسات... صارت هجوم صوتي، وأصوات تهمس باسمه من كل صوب:
-عامر... عامر...
يخالطها صوت يشبه نهيم الفيل امتزج بـ طنين النحل، يدوّى في أذنيه، وكأن رأسه صار كهف مغلق يمتلئ بالضوضاء!
صرخ وهو يتلفت حوله:
-كفاية... كفاية...
تراجع للخلف وجسده يرتجف، ووجهه يشحب تدريجيًا وخلف أسوار مقلتيه دموعه حبيسة... بكى بصمت ممزق:
-بالله عليكم... كفاية...
جثى على الأرض، ويداه تضغطان على أذنيه، لكن الصوت لم يهدأ، ولم يتوقف.
أخذ «رامي» يردد آيات من القرآن وعمرو يسأل أخيه ممَ يعاني؟
في حين كان «آدم» يتابع بعينين متسعتين، ويزدرد لعابه في خوف وقلق...
كان عامر يراهما ولا يسمع سوى صوت ما يدور براسه، صرخ بكل ما أوتي من عزم:
-كفايــــــــــة!!
ثم شهق شهقة حادة، وارتعش جسده وكأنه يُصرع، و«عمرو» و«رامي» يناديان باسمه في لهفة وهلع...
مرت لحظات من الذعر قبل أن يفقد «عامر» وعيه بالكامل.
جلس «رامي» ووضع رأس أخيه على فخذه، وصوته يرتجف وقلبه يكاد يثب من خلف أضلعه:
-عامر! فوق يا عامر!
ثم التفت إلى «عمرو» الذي كان يحدّق بعينين متسعتين، وسأله باضطراب:
-أخوك مالُه يا عمرو؟ نعمل إيه؟ نعمل إيه؟
لكن «عمرو» ظل واقفًا مذهولًا، بينما كان «آدم» يراقب المشهد في صمت، وشدوه.
استغفروا🌸
★★★★★★
دخلت «تقى» غرفة العناية المركّزة، فاستقبلها سكون مريب، لا يكسره سوى صفير الأجهزة ونبضاتها الرتيبة، كأنها تهمس بأن من هنا يتشبّثون بالحياة بخيطٍ واهنٍ لا يُرى.
خطت خطواتها نحو السرير بتوجّس، وعيناها لا تفارقان وجه والدها الشاحب. اقتربت منه بحذر، ثم جلست إلى جواره وأمسكت بكفه المتصلّب برفق، كما لو كانت تخشى أن يتلاشى بين يديها. غزت الدموع عينيها وهي تهمس بصوت متهدّج:
-بابا حبيبي... أنا واثقة فيك، يا نور قلبي... مستحيل أصدق أي كلمة عليك، إنت ربيتني أنا وسراب على القيم والدين اللي بقى نادر نلاقيهم في الزمن ده... مش ممكن تكون كنت بتمثل... مش ممكن تكون بتكذب...
سحبت نفسًا مرتعشًا، ثم أكملت بصوت يختنق بالبكاء:
-قوم يا بابا، أرجوك... إحنا محتاجينك، قوي... حسين طلب إن سراب تروحله بالكتاب النهاردة... قوم، يا بابا... والله محتاجينلك.
انحنت بجسـدها المثقل بالألم، وأسندت خدّها على كفّه، تُبلل يده بدموعها، وكأنها تحاول بعينيها أن تنقل له الحياة...
بدأت تحدّثه بصوت خافت عن كل ما فاته، تحكي له ما جرى وكأنه يسمع، وكأنها ترفض أن تصدّق أنه قد لا يعود.
لا حول ولا قوة الا بالله 🌸
★★★★★★
ومن ناحية أخرى في المستشفى
ما إن ألقى الطبيب كلماته ورحل، خيّم الصمت على الجميع.
تجمّد الجميع، وكأن عقولهم تحتاج لحظة لتستوعب الخبر، كأن الكلمات سقطت في قلوبهم قبل أن تبلغ آذانهم.
وقفت رحمة، تمدّ يديها إلى الأمام في حركة يائسة، وتمتمت بصدمة:
-لا... تيته داليا مش ممكن تموت! أكيد مش هتسيبنا... مستحيل!
كانت رغدة جالسة على المقعد، جفونها مطبقة منذ ليلة البارحة...
همست بصوت مبحوح، كأن الكلمات تتكسر على شفتيها:
-يعني إيه... خلصت كده؟ طيب... مش هتشوف معايا النتيجة لما أفتح عيني؟
كان بيدها زجاجة مياه أخذت تصب على يدها وتغسل جفونها مرة تلو الأخرى حتى استطاعت فتح عينيها أخيرًا وحركت بؤبؤيها يمنة ويسرة ببطء، تطوف بنظراتها على الوجوه حولها، تمتمت بصوت متحشرج:
-أنا رجعت أشوف...
ثم انهمرت دموعها بصمت، دموع بلا صوت، بلا صرخة، فقط دموع تحكي عن وجع وهو يسيل من عينيها.
اقتربت «فاطمة» منها واحتضنتها بقــوة، وكأنها تحاول أن تسندها بجسدها عن الانهيار، بينما كانت الدموع تملأ عينيها هي الأخرى.
في الجهة المقابلة، اقترب «محمد» من «رحمة» واحتواها بذراعيه، يحاول تهدئتها رغم أن صوته المرتعش فضح ما يحاول إخفاءه... هو نفسه كان ينهار من الداخل.
وعلى الجانب الآخر، جلس ضياء بجوار دياب.
نظرة واحدة تبادلاها كانت كفيلة بأن تهز السدود في عيونهما، لحظة واحدة... ثم انفجرت الدموع.
صرخ دياب كمن اخترق سكين صدره فجأة:
-أختنا ماتت! أختك ماتت يا ضياء!
وأجاب ضياء وهو يبكي بكاء الرجال حين تنكسر ظهورهم:
-وابني... ابني هو السبب!
انحنى برأسه، تغشاه خيبةٌ غائرة، فقد أخذت الشرطة أقوالهم، لكن حذر ضياء رغدة أن تنطق باسم «صالح» يكفيه أن يفقد أخته، لا يريد فقدان ابنه هو الآخر...
تذكر ما قالته رغده عن صالح وكيف أغلق الغرفة على داليا بينما كانت هي تسمع صوت صراخها، ثم جرّها هي الأخرى بالقــوة إلى غرفة أخرى، وسألها عن الكتاب ثم أجبرها تتحدث مع مريم...
********
كان «نادر» يراقب من بعيد، يلتقط بعينيه تفاصيل الوجع المتناثر في المكان، لكنه ظل ثابتًا، لا يتحرك...
ثم اقترب من «محمد»، وصوته يحمل بقايا رجفة حاول أن يخفيها:
-وحدوا الله يا جماعة... البقاء لله.
مرّ بينهم واحدًا تلو الآخر، يربت على كتف ضياء مرة، وعلى دياب مرة، ثم على محمد، كأن يده تحاول بث بعض السكينة في صدورهم.
لكنه ما لبث أن توقف... ووقف صامتًا للحظة، وعينيه معلقتان بالأرض، ثم استدار فجأة، وابتعد خطوات قليلة.
وحين ظن أنه بات بعيدًا عن الأنظار، أطلق العنان لدموعه المكبوتة.
غطى وجهه بكفيه، وبكي ثم راح يمسح دموعه سريعًا، وكأن بإمكانه محو ما يشعر به.
تخيل للحظة أنه هو من فقد والدته، فرأى قلبه ينهار، فبكى وبكى، ثم رفع رأسه للسماء يدعو بحرقة:
-يا رب احفظ أمي وأبويا... يا رب طول في عمرهم...
قطع رنين الهاتف شروده، طالع الشاشة، فرأى اسم والدته يتوهج عليها.
أجاب على الفور، وصوته مختنق، بالكاد يخرج:
-أيوه يا حبيبتي... أخت عمي دياب اتوفت... قولي لبابا... هيطلعوا دلوقتي على بيت عمي دياب.
أنهى المكالمة وألقى بجسده المرهق على أقرب مقعد، وعيناه مثبتتان في الفراغ.
لحظات، ووصلته رسالة...
فتحها... قرأها مرة... ثم أعاد قراءتها، اتسعت حدقتاه، واشتعل وجهه غضبًا.
نهض فجأة، وعيناه تقدحان شررًا ثم انطلق دون أن يودّع أحدًا.
استغفروا 🌸
★★★★★
في غرفة بالمستشفى، في صمت مطبق كان «بدر» يستلقي على سرير للمرضى يحدق بالسقف في شرود.
«ورائد» جواره يغلق عينيه لكن عقله مستيقظ...
فقد أنهكهما الليل الطويل في الحديث وتحليل ما يجري، كأنهما يحاولان سحب خيوط الحقيقة من بين الضباب.
كان الحديث بينهما لا يهدأ، تتقافز فيه الأسئلة وتتشابك فيه الاحتمالات، وما أن تسلل التعب إلى أعينهما أشفق عليهما الطبيب فأدخلهما غرفة للراحة...
قطع رنين الهاتف الصمت الثقيل.
فتح رائد عينيه وأجاب، وما إن سمع الطرف الآخر حتى وثب واقفًا ووجهه ينكمش تدريجيًا، وكأن شيئًا ثقيلًا سقط فوق صدره.
جلس على طرف الكرسي، وملامحه تنكمش، والصدمة تتنقّل بين ملامحه كظل لا يستقر.
طالعه بدر بقلق وسأله بصوت منخفض:
-حصل حاجة؟
رفع رائد عينيه إليه، وصوته يخرج كأنما انتُزع من أعماق قلبه:
-عمتي داليا... توفت.
اتسعت حدقتا بدر، وقد صعقه الخبر، ثم قال بدهشة مشوبة بالحزن:
-جدة رغدة؟
أومأ «رائد» برأسه، بعينين غائمتين، وشفته تتحرك بالكاد:
-حاسس إني في كابوس... مش قادر استوعب كل اللي بيحصل ده.
لا تغفلوا عن الدعاء لإخواننا في فلســ 🌸 ـطين
★★★★★
فتح «عامر» عينيه ببطء...
ليرى ضوء خافت، وصدى بعيد، وبردٌ غريب على جبهته ثم شهق وكأنه كان يغرق وانتشله أحد من تحت سطح الماء...
كان الضوء فوقه باهتًا، مائلاً إلى الاصفرار، والسقف يدور كأنه سماءٌ سائلة.
همس «آدم» بجواره، وصوته يحمل قلقًا ثقيلًا:
-عامر؟ عامر، سامعني يا حبيبي؟
حاول عامر النطق، لكن حلقه كان جافًا كالصحراء.
رفع «رامي» رأسه قليلًا وسقاه بضع قطرات ماء. ارتجف وهو يبتلعها، ثم تمتم:
-فين... أنا فين؟
أجابه «رامي» بلطف مرتبك:
-في أوضتك...
أغمض «عامر» عينيه من جديد، ثم فتحهما فجأة وهو يهمس:
-الأصوات... راحت؟
قال آدم بانفعال مكبوح:
-وهترجع تاني... أنا عملت حاجه عمري ما كنت أتخيل إني هعملها يا عامر.
تبادل عمرو ورامي نظرة سريعة، قبل أن يسأل عمرو بحذر:
-عملت إيه يا آدم؟
فقد أحضر «آدم» مياه قرأ عليها طلسم معين لينتشل «عامر» من بؤرة دخل فيها على جهل من العواقب، وشرب عامر من المياه.
تحرك «عامر» ببطء، وجلس يستند على صدر «رامي» الذي ربت على كتفه بحنو، كان وجهه باهت، وعيناه تائهتان، كمن خرج من حلم مرعب، وكأنه لم يتيقن بعد انه استيقظ بالفعل.
-حد كان بينادي عليا و... وصوت فيل ونحل...
قال آدم بحدة ممزوجة بالشفقة:
-انت لعبت بالنار يا عامر... انت فتحت علينا باب أفاعي مش عارفين هنقفله ازاي!
-دا علم يا آدم.
قالها عامر بصوت شبه هامس وكأنه لم يكن متأكد، فرد «عمرو» بانفعال:
-علم ايه! ده مش علم... ده تهلكة وإنت روحت رميت نفسك فيها.
حدق «عامر» في وجه «عمرو» لبرهة ثم انفجـــر باكيًا، فاعتدل «رامي» في جلسته وهو يبعد «عامر» بلطف ليجلس قبالته ويتأمل وجه «عامر»، وبعينين تلمعان بالقلق، قال:
-اهدى... إن شاء الله وبعونه... هتتحل.
لم يرد عامر بل التفت فجأة يمينه وكأنه يُطالع اختراعه القابع أعلى المكتب، وبهدوء مريب، قال:
-في صوت جاي من هنا بيقولي كمل الباب موارب يا تقفله يا تفتحه.
طالع عمرو وجه أخيه المرهق، وتخللت نبرة صوته جدية مشوبة بقلق صادق:
-يعني ايه؟!
صمت عامر برهة وهو يحدق بعينَي شقيقه، ثم نطق:
-الكتاب! أنا عايز الكتاب يا آدم... الكتاب فيه طلسم مهم عشان أقفل الباب اللي فتحته ده...
حاوط رأسه وتأوه ثم صرخ:
-الهمسات اشتغلت تاني... أنا عايز الكتاب يا عمرو... والله كنت ناوي خير، كنت عايز أساعد و... آاااه.
اقترب «عمرو» أكثر، ونظر لعامر وهو يقول:
-اهدى...
انحنى «آدم» لمستوى عامر وقال:
-هتعمل ايه يا عامر بالكتاب؟
لم يسمعه عامر، إذ كان يحدق بالفراغ، وهناك همسات لا يسمعها سواه تتردد وتتشابك داخل رأسه، تخبره ما الذي يتوجب عليه فعله، فصرخ يخاطب الهمسات:
-براحه اتكلموا واحد واحد مش عارف أركز.
سأله آدم بلهفة:
-إنت عملت النجمه؟ ونطقت طلاسم الحضور؟
كان «عامر» ينظر إليه يحاول فهم ما ينطق به لكنه لم يكن يسمع صوته، سأله بصوت مرتفع:
-مش سامعك... اكتبلي بتقول إيه؟ عشان بيتكلموا في وداني.
وقف آدم يصك أسنانه بغيظ مما فعله عامر، وهدر بانفعال:
-أنا بسألك ليه أصلًا طالما بيتكلموا في ودانك يبقا نطقت طلسم الحضور يا عامر... إنت غبي.
سأله عامر بصوت مرتفع وهو يضع يديه على أذنيه:
-بتقول ايه!! مش سامع.
قُرع جرس الباب فركض رامي يفتحه وكان يحيى
بينما مسح آدم وجهه بانفعال وحدق بالباب للحظة قبل أن يقول:
-روح هاتلنا إزازة مايه يا عمرو.
وما أن خرج عمرو حتى أوصد آدم الباب من الداخل، فطرقه يحيى ورامي وهو يناديه، فقال آدم:
-محدش يخبط على الباب هتوتروني... أنا متوتر لوحدي!
كان عامر يتألم ويحاوط رأسه بكلتا يديه، بحث آدم حوله عن ورقة وقلم وكتب:
-اللي عملته ده فيه ضرر على عيلتك كلها ودلوقتي لازم نجازف أنا وإنت بحياتنا عشان نلحق الكارثة قبل ما تحصل، جاهز؟
قرأها «عامر» وحدق في «آدم» لبرهة وعيناها تجوسان في ذعر، حثه «آدم» على الموافقة فأومأ عامر...
فتح «آدم» الكتاب وكتب لعامر مرة أخرى:
-الكتاب ده مفيش حاجه بتحصل فيه إلا عن تراض من الطرفين، وإنت من لما بدأت وكتبت النقوش اللي برده معناها عن تراض عقدت اتفاق معاهم ومكملتش الطقوس لحضور الحراس والهمسات دي هتفضل تزيد لحد ما تقضي عليك وممكن تنتقل لأهلك.
كتب «عامر» في سرعه:
-إيه الحل؟
كتب آدم آيات من القرآن، وأدعية ثم، كتب:
-هتقرأ دول أول ما أشاورلك وبصوت عالي ومهما حصل إوعى توقف إلا لما أفتح عيني... الأحسن تحفظ الآيات دي بسرعه عشان مش ضامن إنه يسيبلك الورقه... وقاومني لو حاولت أتهجم عليك.
أومأ عامر وحدق بالورقة لفترة بينما أطلق آدم تنهيدة حارة، ثم فتح الكتاب وأخذ يتصفحه في سرعة حتى وقف عند صفحة، وأشار لعامر بالقراءة ثم أغلق عينيه متمتمًا بطلسم.
تفاجأ عامر من توقف الهمسات داخل رأسه فتوقف لبرهة عن قراءة القرآن، اتجه آدم نحوه وهو مغمض العينين وباغته بدفعة للخلف، فصرخ عامر وأخذ يقرأ آيات القرآن بصوت مرتفع ودون توقف، نهض مسرعًا فاقترب منه آدم وأمسكه من تلابيبه ثم نطق كيان ما على لسان آدم لكن بصوت لا يشبه صوته:
-أيها الغبي! لقد أخبرتك بمكان قطعة الأثار التي أحرسها ولم تفي بوعدك لي! سأقبض روحك الآن...
-أخبرتني امته؟ أنا معرفش!! ووعد ايه أنا موعدكش بحاجه.
-كهف الجاره أيها الأحمق.
قالها الشيء الذي يسكن جسد آدم ثم اتجه لعامر يصوب له عدد من الضربات المتتالية.
ركله عامر بقدميه فطُرح آدم أرضًا، لكن سرعان ما نهض، وفي سرعة دفع عامر بقــوة فوقع أرضًا وتأوه بصوت مرتفع...
جثم آدم فوق صدره يلكمه في وجهه، وعامر يحاول صد ضــرباته وهو يقرأ آيات القرآن...
وفجأه أطبق آدم على عنق عامر، الذي كان يحرك لسانه بصعوبه بالغة بآيات القرآن.
ودون وعي كان يخدش وجه آدم يلكمه ويدفعه...
وقبل أن يختنق «عامر» بالكامل استجمع قوته ودفعه جيد آدم عنه وهو لا يتوقف عن ترتيل القرآن لاهثًا...
وفجأة صرخ الكيان داخل جسد آدم، وأخذ يطرق رأس «آدم» بالحائط، وكأنه يهدد بإنهاء حياته!! ليتوقف عامر عن تلاوة القرآن.
لم يتوقف عامر عن التلاوة، وفجأة فتح «آدم» عينيه اللتين اتسعتا لبرهة وشهق شهقة مرتفعة، ثم خر مغشيًا عليه...
بينما راح «عامر» يسعل والزبد الأحمر يتساقط من أنفه وفمه، ثم وقع أرضًا فاقدًا الوعي هو الأخر.
***********
ومن ناحية أخرى، كان «يحيى» يضع أذنه على الباب، هدر:
-إنتوا مش سامعين الصوت دول بيضربوا بعض...
وضع رامي أذنه على الباب وقال:
-سكتوا!!
-زمانهم خلصوا على بعض يا رامي بقالي ساعه بقولك نكســر الباب...
طرق «رامي» الباب، وهو ينادي عليهما، فانفعل يحيى:
-الكتاب لو حصله حاجه وبالتالي حصل لمريم حاجه عمري ما هسامحك يا رامي.
أخذوا ينادون باسم عامر وآدم ثم شرعوا بتحطيم الباب...
وما أن فُتح الباب حتى وقفوا مصدومين ونظراتهم تنتقل بين الإثنان قبل أن يركضوا نحوهما...
سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم 🌸
★★★★
بعد ساعات طويلة منهكة، تم استخراج تصريح الدفن، تلاه لحظات وداع خانقة في الجنازة...
خيمت سحابة كثيفة من الحزن والقلق فوق رؤوس الجميع، وكانت القلوب تئن من وطأة ما حدث وما هو آتٍ.
وكانت «ريناد» و«ريمان» تصرخان في فزع فلم تتخيلا فراق والدتهم هكذا على حين فجاة.
أما أختهما الكبرى فكانت صدمتها أطم فقد كانت خارج مصر مع زوجها.
كانت «رغدة» ترشق «ريناد» والدتها بنظرات تقطر باللوم والعتاب، و«رحمه» كذلك كانت جامدة الملامح وواجمة، حتى حين ضمتها ريناد لم تبادلها بل استدارت وابتعدت.
*********
لم يظهر عامر، فقد كانت الكدمات على وجهه كافية لتُبقيه في الظلال، بعيدًا عن الأنظار.
في تلك الأثناء، اتجه بدر وائد المستشفى حيث كارم، وتقى التي لم تترك والدها منذ الصباح....
بينما كانت سراب تجلس بين السيدات الباكيات، شاحبة باهتة، ترتدي الأسود كأنها تذوب فيه، تعض على شفتيها في قلق صامت، فقد حان وقت تسليم الكتاب لحسين.
ناداها «عمرو» بصوت خافت، وأشار لها، فخرجت معه من المنزل برفقة محمد ويحيى، ومد الأخير يده بحقيبة ظهر تحوي الكتاب، ودون أن تمد يدها لتأخذها طالعت عمرو بعينين تشع رعبًا فأخذ عمرو الحقيبة من يحيى بهدوء، وأومأ برأسه دون كلام، كأن الكلمات أصبحت عبئًا لا يُحتمل.
جلست سراب بجواره في المقعد الخلفي، لا يفصل بينهما سوى ظل الخوف.
كانت عيناها معلقتين بزجاج النافذة، ترقب الحقول المتناثرة على امتداد الطريق، وكلما استرقت النظر إلى عمرو، وجدته يحدّق إليها بنظرة يختبأ خلفها قلبه المرتعش خوفًا عليها، وكأن بين أضلعه طبلًا يدق بقلق لا يعرف التوقف.
توقفت السيارة في مكان معزول، لا يُرى فيه بيت أو مأوى... مجرد أرض زراعية تمتد إلى الأفق.
ترجلت «سراب» أولًا، تبعها «عمرو» وألبسها الحقيبة، ثم وقف أمامها للحظة، مترددًا، يبحث عن الكلمات بين تعثرات الصمت.
تلاقت نظراتهما، تشابكت كأنها تتوسل الوقت أن يتوقف، نطق عمرو بصوت خفيض مرتجف:
-على عيني أسيبك تقابليه لوحدك يا سراب.
نظرت إليه طويلًا، قبل أن تلتفت إلى «محمد» الذي قال وهو يفتح الباب:
-يلا يا سراب... توكلي على الله... وخلي بالك من نفسك.
وقال «يحيى» وهو يرفع يده وكأنه يودعها:
-نستودعكِ الله الذي لا تضيع ودائعه.
ارتعش شفتي «سراب» بابتسامة باهتة، وقالت بصوت خافت:
-ونعم بالله...
ثم عادت بعينيها إلى عمرو، الذي بدا وكأنه يود لو يوقف الزمن.
لاحظ يحيى ومحمد ذلك، فابتعدا قليلاً ليمنحاهما لحظة خاصة.
تقدمت «سراب» نحو «عمرو» وقالت بصوت يرتجف، وعيناها تلمعان بدموع متماسكة:
-أنا آسفة على كل حاجة...
ابتلعت ريقها ونظر بعينيه وهي تقول:
-عمرو لازم تعرف إنك غالي عليا أوي... ولو عليا أنا مش مهم المهم إنت تكون بخير دايمًا و...
ابتلعت بقيّة كلماتها، وأطرقت برأسها صامتة هنيهة، تفرك يديها بتوتر، بينما كانت نظراته تجول في ملامحها: شفاهها الشاحبة، ووجنتاها الباهتتين.
رفعت رأسها أخيرًا، وكأنها تُجاهد دمعةً على وشك السقوط، وقالت بصوت متهدّج:
-لما أرجع، هقولك كلام كتير أوي شايلاه جوايا...
احتضنها «عمرو» فجأة، كأن هذا كل ما تبقى له من العالم، ربت على ظهرها بحنو، وهمس بأنفاس مخنوقة:
-أنا... أنا يا سراب أنا مقدرش أتخيل حياتي من غيرك...
شهقت باكية وهي تتشبث بقميصه كالغريق، وقالت بصوت محشرج:
-وأنا كمان... والله أنا كمان.
أبعدها برفق، وحانت منها التفاتة نحو يحيى ومحمد اللذان رمقاهما ثم دخلا للسيارة دون تعقيب...
عاد بنظره إليها يمسح دموعها بلطف، ثم أمسك وجهها بكفيه كأنما يطبع صورته في ذاكرتها وقال مشجعًا:
-إنتي قوية... اجمدي...
أومأت برأسها، وانتزعت ابتسامة متماسكة من بين دموعها، وقالت:
-هرجعلك... وهنتخانق كتير لسه.
ضحك وهو يمسك يديها بكل ما تبقى له من قــوة:
-دا كده كده.
ضحكت هي الأخرى، ثم سحبت يديها منه ببطء، فشعر وكأن شيئًا من روحه يُتتزع منه.
بدأت تسير، وكل خطوتين تلتفت، تتأكد أنه لا يزال واقفًا هناك، حتى توقفت سيارة بعد مسافة وركبت بها ثم ابتعلها الطريق.
ارتجل «يحيى» من السيارة وتوجه لحيث يقف عمرو متصنمًا في مكانه، ربت على كتفه وهو يقول ساخرًا:
-كان وقت أحضان دلوقتي؟!
-خايف عليها أوي يا شيخ يحيى.
قالها عمرو دون أن تفارق عينيه الطريق، فتنهد يحيى بأسى وقال:
-حاسس بيك وقلبي مـ ـولع نـ ـار على بنتي يا عمرو.
رمقه عمرو ولم يعقب، فقط حدّق في الفراغ بعينين مشبعتين بالدموع، فاحتضنه يحيى، ثم دفعه برفق وربت على كتفه وهو يقول:
-هترجع يا عمرو... صدقني هترجع هي ومريم... خليك واثق في ربك.
ومن الناحية الأخرى، ضغط «محمد» بوق السيارة، فمدّ «يحيى» يده يجذب «عمرو» من ذراعه ليركبا.
لكن التفت عمرو، يطالع الطريق الذي سلكته سراب، وقلبه معلق هناك، وعقله يرفض فكرة الرحيل عن هنا قبل أن تعود إليه...