![]() |
رواية سدفة ج2 (عن تراض) الفصل الرابع والثلاثون بقلم أيه شاكر
لا تجعل الحسد والسحر أو العين شماعة سقوطك، فالذنب وحده يكفي ليُطفئ النور، ويهدم العمر...
حين تتعثر خطاك وتسقط، التفتْ خلفك، فربما هناك ذنب يسحبك ويأبى إلا وأن يقيد روحك...
فأرجوك لا تتطلع أمامك قبل أن تتوب عنه، لتُشفى.
🍀🍀🍀🍀🍀🍀🍀🍀
وليس كلُّ ضيقٍ بفعلِ عينٍ...
ولا لكلِّ أرقٍ الحسدُ مُتَّهَمٌ...
التفتْ خلفَكَ...
فرُبَّما ذنبٌ...
أثقلَ روحَكَ وسقاكَ همٌ.
🍀🍀🍀🍀🍀🍀🍀🍀
#كتابات_آيه_شاكر
"في إيه يا رحمة؟! متخوّفنيش عليكي!"
قالتها «رغدة» وهي تقترب من «رحمة» والإضطراب يتجلى على ملامحها...
لم تنبس «رحمة» ببنت شفه، كانت دموعها تنفلت واحدة تلو الأخرى، كأنها استسلمت تمامًا، مدّت يدها تقدم الهاتف لرغدة بصمت ودون أن ترفع عينيها...
فأخذته «رغدة» ببطء، حدقت في الشاشة، وعيناها تتسعان تدريجيًا كأنهما تنهاران في هوة لا قرار لها.
ابتلعت ريقها بعسر، وحاولت أن تتحكم في نبرتها المرتعشة، فتكلّمت بكلمات واهنة، أشبه ما تكون بمحاولة يائسة للطمأنة:
-و... ولا يهمك يا حبيبتي، عادي... الفيسبوك ده كله إشاعات... هندخل نرد على البوست ونقول إنه كذب.
انهارت «رحمة» تمامًا، غطت وجهها بكفيها المرتجفتين، وأخذت تهز رأسها كأنها ترفض كل شيء...
خرج صوتها مكسورًا وهي تهمس بين شهقاتها:
-أنا مش هعرف أخرج من البيت تاني يا رغدة... الناس كلها شافت... الناس كلها عرفت.
اقتربت منها «رغدة» بسرعة، أمسكت كتفيها برفق، ونظرت في عينيها الخائفتين نابسة بانفعال:
-محدش عرف حاجه، مفيش حاجه أصلًا! دي ممثلة طلعت مثلت دور بحرفيه و... وباين إنه كذب... آآ... أصلاً مفيش حد هيصدقها!
لم تتوقف «رحمه» عن البكاء، بل زاد نشيجها، فشعرت «رغدة» بثقل الموقف على قلب أختها، عضّت على شفتها السفلى بقــوة، كأنها تحاول حبس انفعالها، ثم ضغطت بإصبعها على الهشتاج.
وفاجأها الكمّ الهائل من التفاعل...
منشورات كثيرة، صور، تعليقات تنهش السمعة...
إحداها؛ صورة لرحمة وهي تستند على كتف نادر، بالطبع صورة زائفة، أُرفقت بعبارة "حبيبته الصغيرة الدلوعة" والتعليقات تنهال، ما بين سخرية واتهامات وإدانه.
ثم ظهر فيديو، كانت «سارا» فيه تجلس في برنامج تلفزيوني، تتحدث بثقة وابتسامة مصطنعة:
"اللي مصدق إن نادر العميد تاب عن التمثيل يبقى مش فاهم، هو بس فشل، فحاول يشتهر بطريقة تانية... وفشل برده."
تغيرت نبرتها، واتسعت عيناها بشجن تمثيلي، ثم قالت بانكسار:
"أنا النهارده هقول حاجه لأول مرة... أنا ونادر كنا مرتبطين... بس هو خذلني... وراح ارتبط ببنت تقريبًا في إعدادي! كانوا بيتقابلوا في شقته، ولما شوفتهم متلبسين بعدت عنه وسبته..."
نظرت إليها المذيعة بدهشة صامتة، وقالت باستنكار:
"في إعدادي؟!"
أومأت «سارا»، وعيونها تلمع بالدموع، ثم انفــجرت في بكاء بدا كأنه خُطط له، قائلة بحشرجة:
"أيوه... ارتبط ببنت صغيرة... اسمها رحمة صالح... أنا عمري ما هسامحه إنه كسر قلبي كده!"
ثم تبع الفيديو طوفان من المنشورات، والتعليقات، والافتراءات، وكلها تصب على رأس «رحمة» التي كانت تسمع الصوت وتنهار في الوقت ذاته.
ألقت «رغدة» الهاتف جانبًا، وجلست جوار أختها على الأريكة تحتضنها بقــوة، تربت على قلبها، هامسة:
-اهدي... اهدي يا قلبي... الناس كل شويه بيطلعوا يتكلموا في حاجه وبعدين بينسوا.
كانت «رحمة» تبكي بحرقة، قالت بخوف:
-لو بابا أو ماما شافوا ده... هيـ...
قاطعتها «رغدة» بحدّة وهي تُبعدها قليلًا لتنظر في عينيها:
-ولا حد هيعمل حاجه! بلا بابا بلا ماما... لو ده اللي مخوّفك، فمتخافيش.
هدأت «رحمة» للحظة، أخذت نفسًا عميقًا وهي تمسح دموعها بأطراف أصابعها المرتجفة، ثم نهضت ببطء كأنها تحمل العالم على كتفيها، وهمست بصوت خافت:
-أنا عايزه أشوف نادر... شوفته من شويه داخل بيت جدو دياب... هروح أقوله.
رفعت «رغدة» حاجبيها باستغراب، وقالت بانفعال:
-هتقوليله إيه؟! هيعملك إيه نادر دلوقتي أصلًا؟!
نظرت إليها «رحمة»، بعينين حائرتين، ثم همست بصدق موجع:
-معرفش... بس أنا هروح... حتى أقول لعمرو وعامر... لو مش عايزه تيجي متجيش... تيته وجدو قالوا هيصلوا العشا في الجامع ويروحوا على هناك... أنا هروح...
صمتت «رغدة» هنيهة ثم تنهدت بعمق، وسحبت حجابها لتضعه على رأسها وقالت:
-هاجي... أنا أصلًا كنت عايزة أعتذر لعامر... وأفهم إيه اللي مخليه مهتم بالكتاب ده كده.
ثم خلعت «رغدة» نظارتها ووضعت عدسات طبية لاصقة فظهر لون عينيها الخضراء الصافية، وأخيرًا أشارت لرحمة وخرجتا من المنزل...
استغفروا 🌸
★★★★★★
وعلى سطح منزل عائلة «دياب»، تحت ضوء القمر المكتمل، وقف «ضياء» جوار أخيه «دياب».
كانا يحدّقان في السماء بصمتٍ ثقيل...
فقبل قليل كان «ضياء» يستمع لما يحكية «دياب» لكن عقله يرفض أن يستوعب ما قيل؛ كتابٌ قديم، وسحرٌ، وخطف! وأحداث تتراكم كالكوابيس، يستحيل على القلب المثقل بالحزن أن يترجمها دفعةً واحدة...
لم يمضِ وقت طويل على فاجعة ألمّت به، وها هو دياب يأتيه بهذه الروايات التي لا تشبه شيئًا مما يعرف.
قطع «ضياء» الصمت وهو يقطّب جبينه ويركّز نظره على عيني أخيه:
-دياب! هو إنت فعلًا مصدق اللي بتحكيه؟
أجابه «دياب» وهو يزفر، ونظره لا يزال معلّقًا بالقمر:
-أكدب عليك لو قلت مصدق... أنا بحكيلك عشان نفكّر مع بعض، يمكن نلاقي تفسير.
ساد صمت جديد، تذكر «ضياء»السحر الذي كان هو سببًا فيه فعُمي رائد، ثم السحر الذي صنعته أخته «داليا» فأُصيب عامر بالعمى! وخزه ضميره وكاد يفصح ويخبر «دياب» ولكن... أخته ماتت، وأُغلق كتابها، وهو تاب ورجع وقد يكون ما يقوله دياب صحيح لذا لن ينبش في الماضي...
لمح ظلّين في شرفة مقابلة...
فقطع الصمت سائلًا بتردّد:
-أنا شايف إن شاهين، أبو يونس، قاعد مع الحاج البدري... ومن امبارح وهو عنده، في حاجه ولا إيه؟
مسح «دياب» وجهه بيديه كمن يحاول أن يمسح تعب الأيام...
قال وعيناه تلمعان ببريق الإنهاك:
-والله ما أعرف... أو تقدر تقول، معنديش طاقة أسأل عن أي حاجة بتحصل حواليّا.
سكت «ضياء» قليلًا، ثم قال بصوت خافت وكأنّه يخشى من الإجابة:
-وناوي تعمل إيه مع عامر؟
وقبل أن ينطق «دياب» بحرف، اخترق صمت الليل صراخٌ مفاجئ من داخل المنزل...
تبادلت أعين الأخوين نظرة سريعة، فيها توجس وفزع، ثم اندفعا معًا نحو السلم، يركضان دون أن ينطقا بكلمة... وهناك شيء ما ينكسر في هذا الليل.
★★★★★★★
🍃🍃🍃🍃🍃🍃
«سامحتني؟! ولكن...
قد يشفى السماح جراح قلبي ولكنه...
لن يمحو الندوب؟»
🍃🍃🍃🍃🍃🍃
على الجهة الأخرى
جلس «البدري» قبالة ابنه، يتأمله في صمتٍ مفعم بحنوّ لا يُوصف...
كانت عيناه تلمعان بمزيجٍ من الفرح والدهشة، وكأنه أراد أن ينسلخ عن كل ما حوله، عن صخَب الواقع وثقل الأسئلة، ليعيش لحظة خالصة، نقية، مع ابنه فقط.
يعلم أن في الأمر أنانية، لكنه أنانـي ليومٍ واحد فقط… فقط هذا اليوم.
كان «شاهين» يصبّ الشاي بهدوء، وحين رفع رأسه واصطدمت نظراته بنظرات «البدري»، ابتسم بطرافة وقال:
-إيه يابويا؟ بتبصلي كده ليه؟
هز «البدري» رأسه ببطء، وخرج صوته هامسًا، مشحونًا بالعاطفة:
-بحاول أصدق... وأتأكد إني مش بحلم.
ضحك «شاهين» بخفة، وقال وهو يرفع كوب الشاي نحوه:
-صدق يا حبيبي... أنا هنا أهو.
ساد صمتٌ دافئ للحظة، قبل أن يقطعه «البدري» بصوت أقرب للرجاء:
-احكيلي والدتك كانت عايشه ازاي ولا عملتوا ايه السنين دي كلها! وحاولت تدور عليا ولا لأ؟
أخذ «شاهين» رشفة من الشاي وقال:
-أمي اتجوزت علطول من راجل طيب كان اسمه عبد الوهاب برده... رباني وعلمني وكان راجل حنين عليا وعلى أختي...
صمت هنيهة ثم استرسل:
-كنت فاكر إنه أبويا بس لما كبرت أمي قالتلي الحقيقة وكانت دايما تدعيلك بالهدايه... عمرها ما زرعت فيا كُره تجاهك حتى إني حاولت ابحث عنك كتير بس معرفتش أوصلك.
أومأ «البدري» وهو يزم شفتيه بألم ونبس:
-سامحني الدنيا كانت شغلاني... طلقت أمك واديتلها فلوس كتــــيـــــــر عشان أريح ضميري... واتشغلت حتى مكلفتش نفسي وقتها أسأل أبويا عن أسمائكم... مكنتش فاضي إلا لجمع الفلوس و...
كاد يفصح عن شيء دفنه، لكن لم يأن الآوان، ازدرد لعابه وأكمل مراوغًا:
-محستش بعمري ومرت السنــــيـــــن واتجوزت تاني وأبويا توفى... وفجأة حسيت إني كبرت و... وافتكرتكوا...
صمت لبرهة، برقت عيناه بالدموع، وأضاف بنبرة متحشرجة:
-لو تعرف يابني الندم كان بينهش في قلبي ازاي!! كنت بعيط بالدموع... الله يسامحني... الله يسامحني.
أخذ يكرر أخر كلمتين وهو يمسح الدموع التي فرت من عينيه، فنهض شاهين وانحنى يقبل كتف والده ورأسه، ونطق يطمئنه:
-خلاص يابويا... استغفر ربنا... وأمي سامحتك وإحنا كمان سامحناك.
فقد كان «شاهين» يراه رجلٌ هرم قد يفارق الحياة في أي وقت لذا قاوم مشاعر الغضب والغصة التي تتلوى بحلقه وأظهر السماح والتسامح فقط...
ربت «البدري» على يد ابنه ثم أطلق تنهيدة طويلة وطالع بيت دياب وهو يقول:
-عاوزين نقول لأختك شيرين... يا ترى رد فعلها هيكون إيه لما تعرف؟ يارب تسامحني هي كمان.
عاد شاهين يجلس قبالة البدري، أشار لكوب الشاي وقال:
-ان شاء الله... اشرب بس الشاي...
ساد عليهما الصمت ارتشف البدري رشفة من الكوب وهو يفكر ثم نبس:
-اسمع يابني متقولهاش حاجه دلوقتي استنى لما الفترة دي تعدي... أختك بتمر بأزمة صعبه جدًا مش عايزين نضغط عليها... بس اوعدني يابني لو حصلي حاجه قبل ما أقولها... إوعدني إنك تخليها تسامحني.
شرق «شاهين» بعدما أخذ رشفة من الشاي فسعل، ثم ازدرد لعابه وقال بصوت متهدج:
-ربنا يطول عمرك ويحسن عملك يابويا... أنا ماصدقت لقيتك... متقولش كده.
وقبل أن يعلق «البدري» تناهى لسمعهما صوت صرخات يخرج من بين دياب فنهض «شاهين» وهو يسند البدري.
وصلا لبيت دياب تزامنًا مع وصول رغدة ورحمة وبعد تبادل التحية دخلوا جميعًا...
★★★★★★
وبعد دخولهم مباشرة
وصلت سعيدة قبالة البيت، سألت بفضول سيدة تمر من الجيران:
-سمعتي صوت صريخ؟
هزت السيدة رأسها نافية ومرت، لكن سعيدة لم تمر بل وقفت تسأل من حولها نفس السؤال وحين سألت صاحب المكتبة هدر بها:
-سيبي الناس في حالها يا حاجه سعيدة، عندهم حالة وفاة عايزاهم يزغردوا؟!
ثم تنهد وأضاف:
-امشي يا ستي ارجعي بيتك ربنا يهديك... الناس دول طول عمرهم في حالهم لا بيحبوا حد يتدخل في حياتهم ولا بيتدخلوا في حياة حد...
-يا عم أنا بشوف لو عايزين مساعده!
-هما لو عايزين مساعده هيقولوا... ارجعي بيتك الله يهديكي...
قالها الرجل بنفاذ صبر، فرمقت سعيدة البيت بنظرة سريعة ثم اتجهت لبيتها وهي تلتفت بين حين وأخر تُطالع البيت بترقب...
صلوا على خير الأنام🌸
★★★★★★
في الداخل
كان «عامر» يتلوّى على الأرض كجسد يئن تحت وطأة عذاب لا يُرى؛ عيناه جاحظتان، وصرخاته تشق الهواء كأنها صادرة من قاع جحيم.
ارتبك «يحيى»، فأغلق الباب بعنــف كي لا يدخل أحد، ثم انحنى ناحية «عامر» وبدأ يرتل آيات من القرآن، بصوت مرتجف رغم محاولاته أن يثبّت صوته، بينما كان« عامر» يصرخ ويتخبط كمن يحترق بنار لا يشعر بها ولا يراها سواه.
كان «رائد» و«عمرو» و«نادر» يحيطون به، وجوههم شاحبة، وأنفاسهم سريعة متوترة، لا يدرون ماذا يفعلون.
أما «آدم»، فكان واقفًا متجمدًا، عاقدًا ذراعيه خلف ظهره يخفي آلة حادة يلمع طرفها من بين أصابعه، وعيناه تراقبان بجمود.
إلى جواره وقف «بدر»، مشدوهًا، عيناه تتنقلان بينهم وقلبه يختلج.
*********
وخارج الغرفة
كانت «فاطمة» في مؤخرة الردهة، واقفة ويداها ترتجفان، بينما زاغت نظراتها بين الباب المغلق ووجوه الحاضرين الهلعة...
فقد كانت «شيرين» تصرخ بهيستيريا، تنادي أبناءها بأسمائهم، كأن صراخها قادر على إخراجهم مما هم فيه... بينما النساء من حولها يطرقن الباب بأيدٍ مرتعشة، وأصواتهن تتداخل وتتصاعد.
نداء تنادي زوجها ووئام وهيام تناديان أخواتهما...
سرعان ما وصل «دياب» و«ضياء»، يلهثان، وعيناهما تبحثان في الأرجاء عن إجابات لما يجري!
ثم دوّى جرس الباب من جديد، فتحت «ريم» فدخلت «رغده» و«رحمه» يتبعهما «البدري» و«شاهين»، كانت وجوههم مشدودة، يعلوها الذعر واللهفة يسألون عما يحدث، وما من إجابة شافية!
ودون أن تدير «فاطمة» وجهها، جذبت ذراعي «رغدة» و«رحمة» بقــوة، نبست بصوت مرتجف:
-إنتوا جايين ليه؟
نظرت «رغدة» إليها بقلق شديد، ونبست بنبرة مرتعشة:
-هو فيه إيه يا تيته؟
مطّت «فاطمة» شفتيها بصمت، وهزت رأسها نافية أنها تعرف! لم تُجب وكأن الكلام خانها، وظلت نظرتها غارقة في اللاشيء...
وفجأة، انطلقت صرخة مدوية من داخل الغرفة بصوت «رائد»، ترددت في جدران المنزل كالعويل، ثم صراخ «بدر» باسم «آدم» يحثه أن يتوقف... أن يهدأ...
بينما باقي العائلة بالخارج لا يفهمون شيء، يصرخون ويطرقون الباب فحسب...
***********
ومن جهة أخرى في الداخل
كان «آدم» يتنفس كوحش لاهث، صدره يعلو ويهبط، ويداه ترتجفان.
اتسعت عيناه بجنون وهو يخطو نحو «عامر»، الذي يصرخ ويتلوى...
رفع «آدم» السكين ببطء... لكن قبل أن يغرسها في جسد «عامر»، انقض عليه «رائد» في محاولة بائسة لإيقافه...
وبعد عدة محاولات غاص نصل السكين في ذراع «رائد»، وسحبه «آدم» مرة أخرى بقـــوة، فتعالى صراخ «رائد» حتى شق الأذهان، وسقط على الأرض ويده تقطر دمًا، وملامحه مشوهة بالألم.
هرع إليه «بدر» و«عمرو»، يحاولان السيطرة على النزيف، بينما واصل «يحيى» تلاوته بصوتٍ يرتجف، يصب صوته في أذن عامر الذي لا يكف عن الصراخ.
رفع «آدم» رأسه فجأة، ونظر إليهم نظرة تائهة... ثم التفت نحو الباب، وبدأ يمشي، وقطرات الدم تتساقط من السكـ.ـين على السجادة، نقطة تلو الأخرى، كأنها تعد الوقت المتبقي.
اتجه إليه «نادر» ليوقفه لكنه دفعه دفعةً قــوية فارتطم رأس «نادر» بحافة الطاولة، تشوشت رؤيته ودار المكان من حوله لبعض الوقت...
بينما فتح «آدم» الباب وخرج... لكنه لم يكن آدم...
بدل نظراته بين الواقفين أمامه وصاح صيحة صاخبة بصوت غليظ غريب لا يشبه صوته إطلاقًا، كأن كيانًا آخر قد تلبسه...
صرخت النساء، تراجعن في ذعر، وانكمش الرجال خلف بعضهم...
بينما انقض «بدر» عليه من الخلف محاولًا سحب السكـ.ـين، لكن «آدم» استدار كالإعصار، ودفعه بعنــف فارتطم «بدر» بالارض، وأنينه يخترق الصدور، وقبل أن يعتدل هجم عليه «آدم» كوحش وأطبق بيديه على عنقه، وأسنانه تكاد تظهر من فرط الشراسة.
هرع إليه «دياب» و«شاهين» و«ضياء»، لكن «آدم» بدفعة واحدة أوقعهم أرضًا، كأن جسده امتلك قوة مفاجئة ومخيفة.
ظل يضغط على عنق «بدر»، الذي اتسعت حدقتاه، وفمه يفتح ويغلق بلا صوت... كأنه يودع الحياة...
تسارعت أنفاس «رغدة» والتفتت حولها تبحث عن أي وسيلة لإنقاذه، وبشجاعة كبيرة ركضت والتقطت مطرقة خشبية ثقيلة كانت ملقاة إلى جانب الباب، واندفعت نحو آدم بعينين تتقدان بالرهبة.
ضــربته بقــوة على معصميه، فخرج صرخة مدوية من فمه، وانفلتت يداه من عنق «بدر» الذي سقط أرضًا يلهث، يتخبط في محاولة يائسة لسحب الهواء إلى رئتيه، يسعل بعـــنف كأن صدره يحترق.
استدار «آدم» ببطء نحوها...
ونهض ليتجه إليها وعيناه كجمرتين متوهجتين، كان يكز على فكيه حتى بدت عضلات وجهه مشدودة بشكل مرعب.
تراجعت «رغدة» خطوة للخلف، وأفلتت يدها المرتجفة المطرقة فسقطت على الأرض مصدرة صوت مكتوم....
ازدردت ريقها وهي تحدّق فيه كمن يرى مصيره يُساق نحوه.
ودون وعي، تحركت «رحمة» من خلفها بخطوة حاسمة، ووقفت أمامها، وجسدها النحيل يرتجف، لكنها لم تتزحزح.
وفي لحظة أخرى، انزلقت «فاطمة» لتقف أمامهما، تنفّست ببطء ورفعت ذراعها كما لو كانت تُقسم على الحماية.
ثم انطلق «ضياء» من الأرض، كان يزحف من موقعه وسرعان ما وقف أمام النساء، بينما كانت عينا «آدم» ما تزالان ترشقان «رغدة» بنظرة موحشة.
وقبل أن يتحرك «آدم» خطوة أخرى، اندفعت «مريم» ووقفت أمامه ونادته باسمه فلم يستجب، ورغم صراخ والدتها أن تبتعد عن طريقه إلا أنها نطقت بثبات:
-﴿ما جئتم به السحر إن الله سيبطله إن الله لا يصلح عمل المفسدين ويحق الله الحق بكلماته ولو كره المجرمون﴾.
أخذت تردد وتكرر الآية متشبثة بكل ذرة إيمان فيها، تصرخ بها وكأنها سلاحها الأخير.
نادى «نادر» للجميع أن يرددوا، فبدأت الأصوات تتعالى من حوله، متقطعة أولًا، ثم ثابتة، متماسكة، كجوقة نور وسط العتمة.
توقف «آدم» مكانه وكل كلمة كانت تطرق في رأسه كالسهام... ارتجف جسده كله، وانهارت قدماه تحت ثقل شيء غامض...
جثا على ركبتيه، وارتفع أنينه، ثم خرج صوته بنبرة متكسّرة، ضعيفة، تشبه بكاء طفل مهزوم:
-كفاية... كفاية... ارحموني...
ثم ارتخى جسده كمن انقطع عنه الخيط الأخير... وسقط مغشيًا عليه...
فهرع إليه الرجال يحاولون إفاقته، وعند رأسه جلست «وئام» في صمت ثقيل، لا تعرف إن كانت تنظر فيه أم من خلاله...
إلى جوارها كانت مريم تبكي بصوت مكتوم، تهمس باسمه بين شهقات متقطعة.
هدرت بها وئام:
-قومي يا مريم اطلعي فوق عند باقي أخواتك... مينفعش تبقي هنا.
هزت مريم رأسها نافية وهي تقول بحشرجة:
-لأ... لما أطمن على آدم يا ماما...
فضمتها وئام ونظرت لأعلى برجاء...
**********
وعلى الجانب الآخر
في ذات اللحظة كان «عامر» قد فقد الوعي هو الآخر، ورأسه مستقر في حضن «يحيى»، الذي ظل يقرأ الآيات بصوت خافت، بينما كان «عمرو» جاثيًا إلى جوار «رائد»، يكبح الدماء المتدفقة من ذراعه بثيابه المرتبكة.
وعندما رأت «نداء» المشهد، صرخت صرخة مجلجلة وهرعت إلى «رائد»، تسابقها شيرين التي كانت تصرخ بأسماء أبنائها، وصوتها يختلط بالأصوات المرتجفة في الأرجاء.
وحين رأت نداء عمق جرح زوجها قالت بفزع:
-قوم لازم نروح مستشفى...
قال رائد وملامحه تنكمش بألم:
-أيوه... دا مؤلم جدًا.
وسرعان ما خرجوا مع بدر ونادر...
بينما وقفت رغدة جوار رحمه في الشرفة تتابعانهم يستقلون السيارة...
**********
وعلى نحوٍ أخر
كان «البدري» واقفًا وحده، يحدق في السماء التي اكتمل قمرها... وكل خلية في جسده ترتجف...
رفع رأسه وقال بصوت خفيض كأنما يخاطب نفسه:
-قمر ١٤... والطقوس بتتعمل... ولازم حد يقدم قربان في قمر ١٥... وإلا كلهم هيتدمروا... كلهم...
نظر إليه الجميع بذهول، لم يفهم أحد ما يقصد، سأله دياب:
"يعني إيه؟"
وضياء:
"قربان لمين؟"
وشاهين:
"فهمنا قصدك يا أبويا."
ورغم هول الموقف اخترقت كلمته الأخيرة صدر شيرين لكنه لم يكن وقت لأي شيء أخر سوى أبنائها!
وظل «البدري» يكرر الجملة نفسها دون أن يضيف حرفًا وعَيْناه كانتا معلقتين بالقمر، كأنهما تنتظران الإشارة.
استغفروا🌸
★★★★★
كان «عامر» يبكي ويأن، مقيدًا بسلاسل شفافة تتلوى حول جسده كأنها خيوط من سحابٍ ثقيل، تنبعث منها طاقة باردة تُجمّد الروح.
إلى جواره، كان «آدم» مُلقىً هو الآخر، مكبلًا بالسلاسل نفسها، ساكن الملامح...
تقدّمت «تُقى» نحوهما بخطوات مترددة، وكل حركة منها كانت تُثقل صدرها أكثر...
حاولت أن تلمس القيود، أن تُحررهما، لكن يديها عبرت من خلالها كما تمرّ عبر هواء ساكن...
تجمدت في مكانها، ثم صرخت بصوت يملؤه الرعب:
-إيه اللي بيحصل؟!
رفع «عامر» رأسه بصعوبة، ودموعه تنحدر في خيوط لامعة على وجهه المعتم، وقال بصوت مخنوق، متشظٍّ بالندم:
-مش عايز أسيبك يا تُقى... سامحيني، أنا غلطت... كنت جاهل وفاكر نفسي عالم! قومي يا تُقى صلّي وادعيلي... بالله عليكي، ما تبطليش دعاء... أنا مش عايز أسيبك!
ارتجف جسدها، وقبل أن تنبس بكلمة، انتفضت «تُقى» من نومها فجأة، كمن قُذف من بحرٍ هائج إلى هواء خانق.
شهقت، وأنفاسها تتلاحق كمن كان يغرق ونجا للتو. كانت مبللة بالعرق، وصوت «عامر» لا يزال يتردد في أذنيها كصدى بعيد لا يُمحى.
نظرت حولها، تحاول التقاط أنفاس الواقع، فرأت «سراب» نائمة بجوارها، لكن وجهها لم يكن مطمئنًا...
كانت تهذي بكلمات مشوشة:
-أنا بنتك... أنا بنتك...
مدّت «تُقى» يدها تتحسس جبين «سراب»، فوجدته معتدل الحرارة...
ربّتت على كتفها برفق ثم نهضت، متوجسة من شيء لا تفهمه...
في تلك اللحظة، ومضت شاشة هاتفها باسم «رامي» أسرعت بالإجابة...
-إيه يا تُقى؟ محدش بيرد عليّا من البيت ليه؟
قالها رامي بلهفة، فردّت تُقى بسرعة، والكلمات تتقطع من حلقها:
-هو بابا كويس؟
-أيوه، عمي كارم فاق بس مانعين الزيارة أو الكلام معاه لحد ما يطمنوا عليه.
تمتمت بالحمد، وتنفست بعمق، لكن صوت رامي القلق، دق طبلة أذنها:
-أنا برن من بدري على الجماعة ومحدش بيرد! معقولة كلكم نمتوا؟
ردّت تُقى، وصوتها لا يزال يتهدج من آثار الحلم:
-أنا كنت نايمة... هقوم أنزل دلوقتي أشوف... وأطمنك
-بالله عليكي طمنيني، أنا كنت خلاص جاي.
-حاضر... هصلي بس وأنزل.
انتهت المكالمة، لكن قلب تُقى لم ينتهِ من الخفقان... شيء ما يرتجف بداخلها.
نهضت من الفراش في سرعة توضات وصلت فريضة العشاء ثم نزلت للأسفل وهي تتمتم بالدعاء.
******************
وداخل البيت كان الصمت سائدًا، بينما القلوب ترتجف، الأنفاس محبوسة، والأمل معلق بين السماء والأرض.
فتحت لها «فاطمة» فسألتها «تقى» بنبرة مرتجفة:
-هو عامر فين؟
أشارت «فاطمة» نحو الغرفة فدخلت «تقى» وهي تجر قدميها وتزدرد ريقها في خوف بليغ...
جالت نظراتها بالغرفة وبمن فيها...
كان الصمت مطبقًا لا يكسره إلا صوت أنفاسٍ واهنة ومتقطعة، تكاد لا تُسمع، تشير بيأس إلى أن «آدم» و«عامر» لا يزالان على قيد الحياة...
استلقى «آدم» على الفراش، وجهه شاحب كأن روحه تغادره رويدًا رويدًا، بينما كان «عامر» على السرير المقابل، ممدد كجسد بلا وزن، كأن شيئًا ما ثبّت روحه في منتصف الطريق بين الحياة والموت.
اجتمع الجميع حولهما، وعيونهم تتبادل الحيرة، بعدما فشلوا في إعادتهما للواقع، والخوف يسكن كل حركة وسكون...
لم يكن أحد يعرف ما الذي أصابهما، ولا ماذا يجب أن يُفعل.
لم يجدوا أمامهم إلا ملاذًا واحدًا؛ الدعاء والتضرع، بكل جوارحهم، وبكل ضعفهم الإنساني.
هرعت «تقى» نحو عامر، تمسك يده وتسألهم بلهفة:
-ماله؟ عامر ماله؟
في البداية لم تسمع إجابة إلا البكاء، ودمعة رأتها تخرج من زاوية عين عامر، فصرخت ونهضت ترتد للخلف بظهرها وهي تردد:
-لأ... لأ يا عامر... إياك تعملها وتسيبني.
ثم صرخت تسألهم بانهيار:
-في ايه؟ حد يرد عليا...
اقترب منها دياب وقال:
-هحكيلك كل حاجه... تعالي.
أخذ يحكي لها كل شيء يعرفه...
توارد لذهنها صوت «عامر» في منامها وهو يطلب منها الدعاء، فلم تعقب على حديث دياب وركضت للأعلى لتصلي وتدعو دون أن تسأل شيء أخر...
فقط ظلت تتوسل لله أن ينجد زوجها...
سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم 🌸
*********
وفي ركن منعزل جلست «مريم» أرضًا، عيناها مغرورقتان بالدموع، وصوتها المرتجف يقرأ آيات من القرآن، علّها تفتح بابًا للرحمة أو توقظ روحًا غارقة في الغيبوبة، فجذبتها ريم من ذراعها لتصعد عند بقية أطفالهم...
جلست وئام، تحدّق بعينيها الحمراوين في وجه «عامر»، كأنها تحاول أن تنتزع منه رمشة أو تنهيدة تؤكد أنه ما زال هنا.
رفض «البدري» رفضًا قاطعًا نقل الشابين إلى المستشفى، وصوته كان حاسمًا حزينًا، مشوبًا بيقينٍ غريب أنه بلا جدوى.
سأله «دياب» بصوت مرتعش، يوشك أن ينكسر:
-هنعمل إيه يا حاج؟ العيال دول هيفوقوا إمتى من النوم ده؟
أغمض «البدري» عينيه، وارتسمت على وجهه سكينة مؤلمة، وقال بصوت خفيض:
-لو ربنا أراد...
ثم تلا بخشوع، وصوته يتهدج بخشية:
﴿اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا، فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَىٰ عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَىٰ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى، إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾.
لم يحتمل «يحيى» الجلوس مكتوف الأيدي، نهض بسرعة، ويده ترتعش وهو يتصل بشيخ روحاني معروف في علاج السحر والمسّ، طلب حضوره فورًا.
حكى له كل شيء؛ عن الكتاب، عن ما جرى لآدم وعامر، عن تلك الليلة الغريبة التي تغيّر فيها كل شيء.
لم يتأخر الشيخ، وصل على عجل، كان وجهه جاد، وعيناه تقرآن ما لا يُرى...
فُرغت الغرفة، وبدأ الشيخ يتلو آيات من القرآن، صوته جهير مزلزل، يرددها بثقة ونبرة من اختبر الظلام كثيرًا.
مسح بيديه على وجهي الشابين بالماء المقروء عليه والزيت، يضغط بلطف، كأنه يحاول أن يعيد الحياة إلى أجسادٍ شبه ميتة... لكن دون جدوى.
مرت الساعات ثقيلة كأنها دهور، حتى دقّت الساعة الثانية بعد منتصف الليل...
ولا يزال البيت يعبق بتلاوة القرآن، تتردد الآيات في الزوايا، وعلى الجدران، وبين الأنفاس المختنقة.
الخوف لم يعد في العيون فقط، بل صار طيفًا يمرّ بين الموجودين، يلامس أرواحهم، ويهمس لهم بأن القادم... ربما أعظم لكنه خير...
★★★★★★★
مرت الليلة ثقيلة، مشبعة بالتوتر، كأن الزمن يرفض أن يمضي....
ومع انبلاج الفجر، تنفس الصباح ببطء، وأشرقت الشمس، لكن الحال ظل ساكنًا، متجمّدًا كأن شيئًا لم يتغير.
وبالغرفة سأل يحيى الشيخ بصوت متهدّج وهو يبدل نظره بين آدم وعامر:
-لسه مفيش أي تطور، يا شيخ؟ أنا قلقان.
أومأ الشيخ بحذر وقال:
-لازم نقلق...
ثم تنهد الشيخ وأردف:
-إحنا لازم نكمل قراءة القرآن، ونحاول نفتح تواصل مع الجن اللي بيحضر على آدم... بس المشكلة إنه مش بيستجيب خالص... واضح إنه مع الناس اللي معاهم الكتاب، وغالبًا مضطرين نصبر لـ الليل...
مر النهار والشيخ يجرب طريقة ثم أخرى
والعائلة ما بين بكاء وصمت ثقيل وقراءة القرآن...
كأنهم مكتوفي الأيدي، عاجزين عن أي شيء...
*********
حل الليل، وبعد صلاة العشاء، انتبهت «سراب» أخيرًا لما حولها...
كانت مستلقية في شقتها، ممددة على الفراش كأن جسدها قد هجره الوعي لساعات...
اعتدلت ببطء، وارتجف جسدها المتعب من الألم، فيما تسلّلت إلى ذاكرتها بقايا ما فعله بها «حسين»...
تفصيلات موجعة ومبعثرة، كالطعنات التي لم تلتئم بعد وقد لا تلتئم أبدًا...
تحاملت على نفسها ونهضت، قدماها بالكاد تحملانها، ويدها ترتجف وهي تمسك بمقبض الباب...
طافت في ذهنها كلمات «عمرو»، صوته وهو يعتذر، نظراته التي امتلأت بالندم وهو يدخل ليطمئن عليها مرارًا.
وما إن فتحت باب غرفتها، حتى رأت عمرو، راكع ثم سجد وبكى... لم يكن بكاءً صاخبًا، بل بكاءً خافتًا متصلاً، كأن شيئًا في أعماقه ينهار بهدوء. ظنّت للحظة أنه يبكي لأجلها، فحمحمت بصوت خافت لتلفت انتباهه أنها بخير.
سرعان ما رفع عمرو من السجود، وتمتم بالتشهد ثم سلّم، ونهض مسرعًا نحوها، وعلى وجهه ارتسمت نظرة قلق مشوبة بحنان.
سألها بصوت دافئ:
-إيه يا حبيبتي؟ محتاجة حاجة؟
ارتجف صوتها وهي تهمس بابتسامة خافتة رسمها الألم على شفتيها:
-كنت رايحة الحمام... إنت كويس؟
-إنتي كويسة؟
أومأت بصمت، فارتسمت على وجهه ابتسامة صغيرة، وقال برقة:
-يبقى أنا كمان كويس.
لكن عينيه ظلّتا معلّقتين بها، تسألان دون صوت، فاستجمع شجاعته وسأل:
-احكيلي... إيه اللي حصلك يا سراب؟
اتسعت عيناها قليلًا، ثم سرحت بنظراتها إلى زوايا الردهة المعتمة، تنفّست بعمق، وكأنها تغوص داخلاً لتختار الكلمات الأقل وجعًا.
نطقت أخيرًا:
-مش مهم... مش مهم يا عمرو... الأهم إني لسه عايشة... الحمد لله على كل حال.
ثم التفتت إليه ونظرت في عينيه، سألته:
-طمّني... جدو كارم فاق؟
أومأ برأسه بسرعة، وقال:
-أيوه... رامي ومحمد قاعدين معاه من امبارح... بيقولوا اتحسن، ونقلوه أوضة عادية... واحتمال كمان يخرج بكرة.
أغمضت عينيها وتنهدت بارتياح، كأن حملًا ثقيلاً أزيح عن صدرها:
-الحمد لله... الحمد لله يا رب.
ثم أردفت بصوت فيه رجاء:
-عارف يا عمرو... أنا حاسة إن حياتنا كلها هتتعدل، ونرجع زي زمان... نعيش حياة مستقرة، من غير خوف... من غير وجع.
اقترب «عمرو» منها بخطوة، مدّ يده بهدوء ليربّت على كتفها، لكن جسدها انتفض فجأة، وتراجعت للخلف وكأن النار لامستها...
اتسعت عيناه دهشة، لكنه لم يقل شيئًا... فقط ابتسم بخفوتٍ، وأخفى قلقه خلف صوته الهادئ:
-طيب... يلا، ادخلي الحمام، عشان تاكلي وتاخدي علاجك يا حبيبتي.
أومأت بخجل، وأسرعت إلى المرحاض وقلبها كان يخفق بعـ.ـنف، كأن ضلوعها تضيق عليه.
أغلقت الباب خلفها، ونظرت لنفسها في المرآة كانت الكدمات واضحة على ملامحها....
رفعت أناملها تتحسس كدمة حول فمها، شعرت وكأن شيئًا في قلبها لم يعد كما كان...
بلعت ريقها بصعوبة، وتذكّرت كيف انتفضت حين لمس عمرو كتفها...
كيف كانت ترتجف حين رأت وجه «حسين» يتسلّل إلى ذاكرتها.
فتحت الماء وغسلت وجهها، تحاول أن تفيق من تلك الدوّامة، لكن السؤال ظلّ معلقًا في ذهنها، يهمس لها من داخل أعماقها؛ هل صارت تحتاج لمعالجة نفسية؟
★★★★★
وقبل منتصف الليل بساعتين...
ظهرت سيارةٍ تشقّ طريقها بسرعة في قلب الصحراء، وأمامها سيارة أخرى ومن خلفها سيارة...
كان «نافع» يقود بجواره «حسين»، بينما جلس «صالح» في المقعد الخلفي، مقيّد الأطراف، يهتز جسده تحت وطأة كيان آخر...
كان صوته قد تغيّر، مبحوحًا مشحونًا بنبرة غير بشرية.
صرخ فجأة:
-كهف الجارة... إلى كهف الجارة!
ثم انفـ.ـجر ضاحكًا، ضحكة مجنونة طويلة، التفت له «حسين» بحدة وقال بضجر:
-اسكت بقى شوية... أنا صدعت.
رفع «صالح» رأسه بصعوبة، وقال بصوت مشوّه:
-ومتى... سيفك وثاقي؟
رد «حسين» بلا مبالاة:
-لما تجيب لنا حتة الأثار.
فانطلقت الضحكة مرة أخرى، أعمق وأوحش من سابقتها، وهو يردد:
-كهف الجارة... إلى كهف الجارة... كهف الجارة...
وبعد فترة وجيزة
كانت الساعة تقترب من منتصف الليل، حين توقفت السيارة الرباعية العجلات على بُعد أمتار من سفح الجبل...
أُطفئت الأنوار، وبقي القمر وحده شاهدًا على الحركة التي تدب في تلك البقعة.
كان القمر يلقي بضوئه الباهت على الصخور والوجوه المترقبة، والهواء لا يزال دافئًا، لكن نسيمًا خفيفًا بدأ يتسلل مع حلول منتصف الليل، كأن الصحراء تنفّست الصعداء بعد نهار لاهب.
مسح «نافع» جبينه الذي تفصد عرقًا، رغم برودة النسيم، وغمغم:
-الجو ده مش طبيعي… زي ما تكون الصحراء مش مرتاحة الليلة.
وعلى نحوٍ أخر فتح أحد الرجال باب السيارة فخرج صالح من المقعد الخلفي، لا يزال مقيّدًا، لكنه لم يقاوم وعيناه الزائغتان تتأملان الفراغ، بينما كان يضحك بين الحين والآخر ضحكة مجنونة، تتردد أصداؤها بين الصخور.
وقف «راجي» جوار «نافع» الذي اشار للحراس وقال محذرًا:
-خلّوا بالكم... الموضوع مفيهوش هزار النهاردة...
ثم تقدموا جميعًا نحو مدخل الكهف....
كان مدخل الكهف يلوح كفمٍ أسود مفتوح، ينتظر فريسته.
وداخل الكهف، أُشعلت دوائر من الشموع الصغيرة، تحيط بنقوش محفورة على الأرض، بعضها بدا ككتابات قديمة، وبعضها كرموز طلاسمية.
وقف أربعة رجال بملامح غامضة، يرتدون عباءات سوداء، ووجوههم مغطاة بأقنعة طينية مشقّقة...
وفي يد أحدهم الكتاب، وعلى صدر الآخر قلادة نحاسية تتدلّى منها عين حمراء كبيرة.
عندما رآها صالح، شهق فجأة، وسقط على ركبتيه، ثم بدأ يهمهم بصوت عميق ليس صوته.
قال أحد المقنّعين وهو ينظر بالكتاب بيده:
-بدأ يحضر... البوابة اتفتحت.
بدأت الطقوس، تراتيل بلغة غريبة، دخان كثيف ينبعث من مبخرة تحتوي على مزيج من العظام المحروقة والأعشاب النادرة، وصوت طبل حجري يُضرب ببطء، كنبضات قلب عملاق تحت الأرض.
انتفض جسد صالح فجأة، ثم تكلم بصوت مبحوح مجروح:
-لست بمفردي... هناك من يقترب...
سادت لحظة صمت مخيفة...
ثم، من أعماق الكهف، انبعث صوت... أشبه بصدى زئير حيوان لم يُسمع من قبل... زئير لم يكن بشريًا...
كان صالح جاثيًا في قلب دائرة رُسمت على الأرض، جسده يتشنج، ووجهه مغطى بالعرق، أطلق زفرة طويلة، ثم رفع رأسه ببطء وعينيه كانتا سوداوتين تمامًا، لا أثر للبياض.
مد يده المرتجفة داخل حفرة أمامه وأخرج شيئًا صغيرًا ملفوفًا في قطعة قماش قديمة...
ما إن فُتحت، حتى ظهر جزء أثري نادر، كانت قطعة أثرية غريبة، منقوش عليه رمز غير مفهوم، يشبه عينًا تنظر نحو السماء.
قال «صالح» بصوت أجش، مزدوج النبرة:
-القربان... قدموا القربان... بسرعة...
ثم انكفأ جسده للخلف، وخرج منه زفير كأنه ريحٌ مرّت عبر الكهف، وسكن جسده فجأة.
حدقوا في بعضهم البعض، قال راجي وهو يلهث:
-ينفع صالح؟!
هدر حسين:
-صالح ايه! لأ طالما حضر على جسمه وكان موافق يبقا مينفعش...
حذرهم الرجل المقنع:
-لو القربان متقبلش حياتنا كلنا هتبقى في خطر!
نظروا لبعضهم البعض وكأنهم يبحثون عن أحد بينهم يُضحون به ولكن كل شخص هنا كان مهم لشخص أخر...
انتشلهم من عمق اللحظة، صوت نافع:
-أنا جايب قطه...
ثم كشف الغطاء الأسود عن صندوق به قطة...
فقال المقنع:
-أنا مش عارف هينفع دم القطه ويتقبل ولا اي!
-وإيه اللي مش هيخليه يتقبل! هما عاوزين روح والقطه روح.
قالها حسين بنبرة واثقة، ثم أحضروا القطة التي نزلت قطرة ماء من أنفها وهي تموء بخوف...
ثم وسط التراتيل، نُحرت، وارتفع مواؤها في أرجاء الكهف كصرخة مروعة، كأنها استغاثة تمزق السماء.
وما إن سكن الصوت، حتى شعر الجميع بهدوء عميق... ثم اهتزّت الأرض تحت أقدامهم فجأة...
تبعها صوت لا يُحتمل، صوت فيل يزمجر من أعماق الأرض، ثم تبعه طنين هائل كخلايا نحل تضرب الهواء، وبدأت جدران الكهف تومض بضوء أزرق بارد، ينبض كقلب كائن عملاق.
صرخ الرجل المقنع:
-اخرجوا! الكهف بينهار! القربان شكله متقبلش.
وركضوا جميعًا في هستيريا، تاركين صالح الذي عاد يهمس بكلمات غير مفهومة قبل أن يعود لوعيه فيرى الكهف يهتز به فاخترق صراخه أرجاء المكان.
أما البقية فما أن خطوا خارج الكهف، حتى انشقت السماء فوقهم كقطعة قماش محترقة، وسقط شيء ضخم كشهاب جهنمي، على مدخل الكهف تمامًا.
تلاه هزّة عنيفة طرحتهم أرضًا، ثم لهبٌ أبيض أضاء المكان للحظة، ثم حلّ ظلام دامس، وصوت الصفير في آذانهم لم يتوقف.
حين رفعوا رؤوسهم، ظهرت حفرة سوداء عند مدخل الكهف، تخرج منها رائحة دخان.
رفع الملثم رأسه، وابتسم وهو يلهث:
-نجحنا... نجحنا!
ولكن فجاة من قلب الحفرة التي خلفها الانفـ ـجار، بدأ يتصاعد ضباب أسود كثيف، لا يُشبه دخان الحريق... كان أثقل، حيًّا كأنما يتنفس.
وفجأة اختنق صوت راجي، وشخُصت عيناه، وجحظت، ثم صرخ وهو يمسك حلقه، وكأنه يُختنق من الداخل.
بدأ جلده يتشقق كأرضٍ عطشى، وخرجت من شقوقه قطرات سوداء ثم سقط على ركبتيه يصرخ، قبل أن ينفجر وجهه فجأة، وتتناثر عظام جمجمته في الهواء.
وما أن رأى البقية المشهد هرعوا نحو السيارة متعثرين لكن بدأوا يتساقطون واحد تلو الأخر ولم يتبقى إلا حسين ونافع.
توقف حسين، ثم شهق بقوة، وبدأت عيناه تذوبان أمام نافع، ثم خرجت من أذنيه ديدان سوداء صغيرة، كأن عقله نفسه يُزحف خارجه...
ثم سقط يضرب الأرض برجليه كطفل يصرخ من الألم، ثم سكن تمامًا.
أما نافع، فبقي واقفًا، يرتعش، ويحاول أن يتذكر آيات القرآن لكن عقله تحول لصفحة بيضاء ثم بدأ يسمع همسات...
صوت يشبه مواء القطّة التي أحضرها بنفسه، وكأن المواء يلعنه، يسخر منه، يدعوه ليُذبح هو الآخر.
ثم فجأة، شُقّت الأرض من تحته وخرج منها ذيل طويل مغطى بالأشواك، التفّ حول عنقه، وخنقه ببطء، حتى اختنق، ولسانه متدلٍ، وجهه مزرق، والدم يسيل من عينيه.
أما صالح... فكان داخل الكهف ينادي ويصرخ، شيء ما كان يزحف داخل جلده شيء لا يُرى، فقط يُسمع صوته... يُطحن، ويقضم، ويضحك.
صرخ صالح بأعلى صوته:
-أنا معملتش حاجه... معملتش حاجه.
لكن لم يُجبه أحد، فقط الضباب كان يلتف حوله ببطء، ويجره نحو الحفرة، التي صدر منها ضحكات، وبدت كفمٍ جائع ينتظره.
★★★★★★
في بيت دياب...
كانت الأنفاس تتلاحق في الغرفة، ثقيلة مشبعة بالخوف والترقب...
تبادل الشيخ مع يحيى نظرات قلقة متوجسه بينما كان آدم، مغمض العينين، وملامحه مشدودة كمن يصارع شبحًا لا يُرى، كام يهذي بكلمات غير مفهومة ثم فجأة أخذ يتلو ويكرر بصوت مرتجف، لكنه مفعم بالإيمان:
-﴿الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت، فقاتلوا أولياء الشيطان، إن كيد الشيطان كان ضعيفًا﴾
كان صوته يعلو ويهبط كأن شيئًا بداخله يُقاوم، كأن كل حرف يتلوه سيف في معركة غير مرئية.
وفجأة...
شهق عامر شهقة عميقة، عنيفة، كأن الهواء انفجر في رئتيه بعد اختناق طويل...
فتح عينيه بجنون، حدق في السقف بعينين مذعورتين، ثم أخذ يلهث بشدة، كأن روحه كانت على شفا الرحيل وعادت في اللحظة الأخيرة.
في اللحظة التالية، انتفض آدم، وكأن جسده أُعيد إليه دفعة واحدة. مدّ يديه يتحسس صدره، وجهه، أصابعه، كمن يتحقق أنه لا يزال حيًا...
ثم هتف بصوت متهدّج:
-الحمد لله... الحمد لله يا رب...
نهض عن الفراش، ثم خرّ ساجدًا على الأرض، ودموعه تغسل وجهه.
كان جسده يرتجف، وصوته المبحوح يردد الأدعية بين شهقات بكاء مكتوم.
لحظة خالصة، مزيج من النجاة والرهبة والامتنان... وكأنه لمس يد الموت ثم تركها لتوه.
★★★★★
أسفر الصبح، وغمر الضوء الذهبي أطراف الصحراء...
وصلت قافلة سياحية في موعدها المعتاد، باحثين عن المغامرة واستكشاف الكهف الأثري المعروف بفرادته وغموضه.
لكن ما إن اقتربوا من المدخل، حتى توقفوا فجأة... تجمدت الأقدام في أماكنها، واتسعت العيون هلعًا، وتعالت الصرخات؛ كانت هناك جثث... جثث بلا رؤوس، ملقاة على الرمال المحترقة، كأنها سُحبت من الجحيم نفسه.
أجساد متيبسة، وبعضها متفحم من الأطراف، تحيط بها آثار أقدام مشوشة، وعلامات جرّ كأن شيئًا ضخمًا زحف فوقهم.
وفي المنتصف، قماشة ممزقة، باهتة الألوان، كانت فيما يبدو تلف شيئًا ثمينًا... لكنها الآن خاوية.
قطعة الأثر اختفت.
أحد السائحين، رغم رعبه، رفع هاتفه وبدأ التصوير، وراح يبث مباشرًا على الإنترنت.
خلال ساعة، تقاطرت عربات الشرطة، والصحافة، والمحققون، واحتشد الفضوليون خلف الحواجز...
وامتلأ المكان بالضجيج... وبالهمسات.
وبداخل الكهف، بقيت الآثار شاهدة على ما جرى؛ دوائر مرسومة بالفحم، طلاسم منحوتة في الصخور، بقايا دماء، وشمعٍ ذائب.
تسلل الخبر بين الناس كالنار في هشيمٍ عطِش، يلتهم كل ما أمامه بلا هوادة...
«مجموعة من عبدة الشيطان حاولوا تنفيذ طقس محرّم... وقُتلوا جميعًا بطريقة مروّعة!»
انتشر العنوان كطوفان، تصدر كل منصة، وتداولته الأصابع المرتجفة بفضول مرعب، حتى غطّى على فيديو الممثلة اللامعة سارا، الذي كان يُتوقع له أن يكون "ضربة الموسم".
★★★★★★★
حلَّ المساء تلاشى الضوء البرتقالي المتبقي من غروب الشمس شيئًا فشيئًا، تاركًا السماء بين زُرقة باهتة وسوادٍ خفيف يزحف بهدوء.
وفي شقتها الواسعة التي تفيض بالرفاهية، كانت «سارا» تصرخ بعصبية، تتنقل بين الأريكة والنافذة...
فشلت خطتها من جديد سنوات من المراوغة والمكائد لجذب نادر... وكل مرة تنتهي بنفس النتيجة؛ سقوطها في عينه قبل قلبه.
رفعت شعرها بعــنف وكأنها تمزق خيوط الهزيمة من رأسها، ثم التفتت فجأة لتطالع إسلام الجالس في هدوء، كتلة من الصبر، عينيه لا تفضحان أي غضب، بل شيء أقرب إلى الأسى.
جلست أمامه، متعبة، منهكة، وقالت فجأة دون تمهيد:
-إنت لسه... عايز تتجوزني؟
رفع عينيه نحوها، وابتسم، ابتسامة رجل اختار أن يظل منتظرًا رغم كل الإهانات:
-أكيد... ومستعد أستناكي طول العمر.
أضاء وجهها قليلًا، كأنها تمسكت بخشبة نجاة وسط غرقها، وقالت:
-وأنا موافقة...
أنا مش هلاقي حد أحسن منك، أكتر شخص وقف جنبي وساعدني...
قال وهو يقترب منها بنبرة دافئة:
-وإنتي أكتر واحدة حبيتها يا سارا... رغم كل خوفي من تصرفاتك، بس قلبي دايمًا كان معاكي.
نهضت، استجمعت حماسًا مؤقتًا، كأنها تُعلن بداية جديدة أمام ذاتها قبل غيرها:
-يبقى نتجوز الأسبوع الجاي... وبكرة تيجي تتقدملّي رسمي.
قررت أنسى نادر وأنسى كل اللي فات... وأبدأ معاك.
مدّ يده نحوها، أمسك يدها بحنانٍ شغوف وقال:
-ده أحسن قرار أخدتيه في حياتك...
ابتسمت بسعادة، ثم لمعت عيناها بنشوة غريبة وقالت بخفة:
-جوازنا ده هيطلعنا ترند!
فجأة، تجمدت ملامحه، انطفأت ابتسامته، وسحب يده من يدها بعنف مكبوت:
-هو إنتي... هتتجوزيني عشان الترند يا سارا؟
يا شيخة... أنا افتكرتك اتغيرتي بجد...
نهض غاضبًا، خطواته تهدر في الصالة، وقلبه يختنق. توجه إلى باب الشقة، وفي اللحظة نفسها، انفتح الباب ودخلت والدة سارا بثياب ضيقة تفوح منها رائحة عطرٍ ثقيل.
قالت بابتسامة مصطنعة:
-أهلاً إسلام...
لكنه لم يرد، فقط رمقها بنظرة ضجرة، وغادر دون أن ينطق حرفًا.
اقتربت الأم من سارا، وخلعت حذاءها وهي تجلس قائلة:
-مالُه؟
-سيبك منه... هيرجع لوحده.
أشاحت سارا بنظرها إلى شاشة هاتفها وقالت ببرود:
-المهم... إحكيلي، أخبار النادي إيه؟ أنا من زمان مروحتش.
-كله تمام، كلهم بيسألوا عنك يا روحي.
نهضت الأم، وألقت قبلة في الهواء باتجاهها، ثم اختفت داخل الغرفة.
أما سارا، فجلست وحدها، والفراغ ينهش صدرها. رفعت الهاتف واتصلت بـ«إسلام» مرارًا، حتى أجاب أخيرًا، مترددًا.
قالت بصوت متصنع، بنعومة مدروسة ودلال زائف:
-ترند إيه يا سولوم؟ أنا بحبك ياعم والله... لف وإرجع لازم نتكلم وبعدين قرر عايز تكمل معايا ولا تسيبني وأنا مش هضغط عليك...
-ماشي يا سارا... راجعلك.
وما هي إلا دقائق حتى قُرع جرس الباب، فنهضت تفتح بابتسامة واسعة، لكنه لم يكن إسلام بل نادر يحدجها بعينين تشعان غضبًا وغيظًا.
★★★★★
وأمام بيت دياب، كان السكون يعم الأرجاء...
تحركت أغصان الشجرة برفقٍ مع النسيم، وكأنها تتنفس بعمق، تشهق وتزفر ببطء، كما لو كانت قد عاشت لحظة ألم، وها هي الآن تتعافى، بينما صوت ورقة تسقط هنا، وآخرى تنزلق على الأسفلت هناك، كأنها رسائل صامتة من الطبيعة، لا يفهمها إلا من يصغي جيدًا.
وفي الخلفية كان نباح كلب بعيد، وصفير قطار يتردد خافتًا عبر المسافات، لكنهما لا يفسدان السكون، بل يضفيان عليه شعورًا بامتداد الحياة خارج هذا السكون...
كل شيء بدا كأنه توقف قليلًا ليمنح هذا المساء لحظةَ تأمل.
لحظة تشبه ما بعد البكاء... حين تهدأ الروح، وتهبط الأنفاس الثقيلة، ويبدأ الصمت في علاج الجرح.
وبالداخل
اجتمعت عائلة دياب حول طاولة الطعام...
كانت الأنفاس متقطعة، والعيون تتجنب بعضها، كأنهم يأكلون الصمت أكثر مما يذوقون الطعام...
جلس «عامر» إلى جوار «تقى»، وعيناه مُطفأتان كفتيل احترق طويلاً، وكانت تقى تتابعه بطرف خفي، فبعد ما عرفته عن السحر وعما فعله أشفقت عليه وقلقت عليه، أمقتت ما فعل لكنها لم تمقته أبدًا...
ومن ناحية أخرى كان «عمرو» بجانب «سراب»، يتابعها بطرف عينه في صمت، رفعت رأسها نحوه تلاقت نظراتهما فابتسما لبعضهما...
جلس رائد وسط ابنه وابنته، يقابل نداء التي كانت ترفع نقابها بيد وتأكل بالأخرى لكن عينيها عالقتان على رائد...
وإلى جوارها جلست ريم، يقابلها أبناءها الثلاث...
وعلى رأس الطاولة، جلس دياب، بوقارٍ أنهكته السنون، تقابله زوجته التي كانت تمسح على المائدة بيدها كأنها تبحث عن شيء فقدته.
بلع «دياب» ما في فمه، ثم رفع رأسه وقال بنبرة تجمع بين الحنان والحسم:
-رامي لسه مكلمني من شوية... وجاي مع كارم للبيت، يا تقى... كلي كده وروقي.
رفعت «تقى» عينيها إليه وابتسمت ابتسامة باهتة، كأنها تحاول أن تشكر القدر على خبر بسيط يضيء ظلمة أيامها، قالت:
-حاضر يا عمو...
ثم استدار دياب نحو عامر، تطلّع إليه وسأل:
-مبتاكلش ليه يا عامر؟
لم يستطع عامر أن يرفع عينيه إليه، خرج صوته خافتًا، هشًا كجناح طائر مبلول:
-هاكل أهوه... يا بابا...
وضع دياب الملعقة برفق، وسحب نفسًا عميقًا قبل أن يقول بنبرة أبوية غلب عليها التعب:
-أنا عارف إننا مرينا بفترة صعبة جدًا... ومش هنتعافى منها بين يوم وليلة... بس دي الحياة يا ولاد... لازم نغلط ونقع... ونتمسك بحبل ربنا عشان نقوم تاني... كلوا... كلوا عشان تقدروا تواجهوا الحياة ومفاجآتها اللي ما بتخلصش.
ساد الصمت بعدها، صمتٌ ثقيل لكنه لم يكن موحشًا، بل أشبه باستراحة روح مرهقة.
كانت الملعقة تصطدم بالصحن برفق، والملاعق تُرفَع بخجل وكأن الجميع يأكلون حياءً لا شهاءً.
وفجأة... اخترق صوت الجرس هذا الهدوء الهش، فاهتز عمرو ونهض ليفتح الباب...
وحين فتحه، ظهرت «رغدة» تتبعها «رحمة»، أنفاسهما متقطعة، ملامحهما مذعورة.
سأل «عمرو» وهو يعقد حاجبيه:
-مالكم! في إيه؟
قالت «رغدة» بصوت مرتعش:
-سمعت عن اللي حصل في كهف الجارة؟!
-إيه؟؟؟
رفعت شاشة هاتفها نحوه، وصوتها بالكاد يخرج وهي تقول:
-دي هدوم بابا... يا عمرو... هدومه...
★★★★★★★
وفي شقة «بدر»، كان «البدري» يجلس إلى جوار حفيده بدر، بينما شاهين يقف قبالتهم.
أُفرغت الحقيقة كاملة على الطاولة بين ثلاثتهم، حكى البدري كل شيء ثم قال وهو يطرق عصاه على الأرض، ونظره شارد في البعيد:
-ودلوقتي بعد ما عرفتوا كل حاجه... آن الأوان يا ابني... شيرين لازم تعرف إني أبوها... وبعدين أحكيلهم كل المستخبي.
قال شاهين بتوتر، وجبينه يتفصد بالعرق رغم نسيم الليل:
-بس يا بويا... أنا شايف إننا نستنى لما كارم يرجع من المستشفى... الدنيا لسه مش مستقرة.
نهض البدري واقفًا، وعيناه تقدحان بالعزم رغم رعشة جسده:
-لأ... أنا مش ضامن عمري... عايز أطلب منها تسامحني... عايز أقولها كلمة ما ينفعش أدفنها معايا... يلا يا شاهين... يلا دلوقتي.
أطرق شاهين برأسه لثوانٍ، كأنه يفتش في داخله عن إجابة، ثم تنهد بعمق ونهض واقفًا...