رواية لطيفها عاشق الفصل الثانى بقلم سميه راشد
"وجع.. كلمة من ثلاث حروف قادرة على وصف انتفاضات القلب وارتعاشاته، شاهدة على كل ما هو مميت ومضني، فحين الفقد تجدها شاهدة حين تُهشم الخواطر، وقتما تحل الأسقام حتى عندما تُزلزل المشاعر تجدها شامخة تطالعك من علو وكأن كل ما مرَّ أمامها لم يقلل من كبريائها شي"
تململ على فراشه بجسد يتوسل النوم ليسكنه من فرط إجهاده، ولكن كيف لجسده الأناني أن يلوذ بالنوم بينما قلبه الهزيل يتدحرج كالكرة على درج القلق.
الليلة هي ليلة الجمعة، تلك الليلة التي يقضيها كل أسبوع بهذه الطريقة، كيف لقلبه أن يهدأ بها وهو يعلم أن صغيرته ينفرد بها ذكور فاقدي الوعي والرجولة، لا يعلم ماذا بإمكانه أن يفعل كي يخلصها مما يحدث لها، لقد حدَّث والده بل ترجاه العديد من المرات بأن يجعلها تبيت هذه الليلة برفقة بنات عمهما الأصغر ولكن والدها الذي هو أبعد ما يكون عن الأبوة يأبى ذلك بل يمطرها بوابل من الشتائم والركلات ظنًا منه أنها اشتكت إلى عمها، تقلَّب إلى الجهة الأخرى من الفراش متذكرًا تلك الليلة التي طرقت على باب منزلهم فيها بالساعة الثانية بعد منتصف الألم وسبقت طرقاتها صراخها المتألم، أخبرتهم مرتعبة بأنَّ والدها رفع السكين الذي مرره على النيران أمام وجهها وهرول مصرَّا على إحراق يدها لأنها تجرأت ورفضت الخروج إلى أصحابه السكارى خوفًا من مناظرهم، والله لقد كاد أن يتهور وقتها ويجذب السكين من والدها ويفعل به ما يريح فؤاده فقد كانت تلك الدقائق التي رأى بها هلعها أشبه بشعورٍ جمع أوجاع العالم أجمع، حاول انتزاعها من ذاكرته ولكنَّها الحمقاء تتشبث بعقله وكأنَّه وليدها الذي تأبى مفارقته فيضيع بدونها، لن ينسى كيف عزم ليلتها على الاتصال بالشرطة وإخبارهم بما يحدث في منزل عمه الذي فشلت جميع العائلة في ردعه ولكن تذكر كيف أغلق الاتصال في الثانية الأخيرة بعدما خطرت هي على باله، فإن تناسى أن سمعة العائلة ستتضرر إن أتت الشرطة إلى منزلهم لأخذ عمه ورفاقه بموادهم المخدرة فلن يمكنه عقله من تناسي أنه سيدعس على سمعتها وكرامتها بفعلته.
تمتم مستغفرًا بعدما استمع قرآن الفجر الذي صدح بمسجد البلدة عازمًا على قضاء فرضه السادس إلى أن يحين موعد الفجر علَّ الصلاة تضمد بعض آلامه كما تفعل دائمًا، توضأ بعقل مشغول بحالها الآن ولكن حاول طمأنة قلبه بأنه لم يتبقَ سوى القليل وستكون تحت حمايته وينعم فؤاده بالراحة ناسيًا بأنَّ الأقدار ربما تخالف هوانا فتجعل الواقع أشدُّ قسوة من أحلامنا التي نخرس بها ضجيج القلوب!!
**********
بوهن نهضت من فراشها لتجيب ذاك الذي يطرق على باب المنزل بقوة مزعجة، كل جزء من جسدها يؤلمها ولكن ماذا ستفعل؟ فوالدها من المحال أن يستيقظ مبكرًا بعد سهرته التي أثقلت رأسه بالأمس، فتحت باب المنزل دون أن تنتبه لتلك العلامات الزرقاء التي ملئت وجهها وسرعان ما رفعت كفيها الرقيق منتفضة على وجها بعدما استمعت إلى شهقة زوجة عمها المرتبعة، ضغطت على قبضة يدها من الخجل الذي لاتدري أمصدره وجهها الذي لا يليق ما فُعل فيه بآدمي أم من والدها الذي لا يليق عقله بالأفعال الآدمية، تساقطت أولى دمعاتها وهي تشعر بيد زوجة عمها التي أبعدت كفها بقوة ومررت أناملها على وجهها ولسانها يردد بكلمات مثل
" حسبنا الله ونعم الوكيل في أبوكي"
"ربنا ينتقم منه"
"يا حبيبتي يا بنتي"
"حقك عليا أنا يا روحي إحنا اللي غلطانين والله احنا اللي غلطانين"
لم تستطع السيطرة على قلبها أمام نبرتها الحانية أكثر من ذلك فانفجرت باكية بكل قوتها دون أن تعبأ بوالدها، فعلى كل حال لن يوقظه صوتها مع كل تلك السموم التي تسكن بعقله، كانت بحالة لا تسمع لها بإدراك شيء حتى زوجة عمها من فرط غضبها لم تنتبه لنفسها وهي تسحبها إلى منزلهم بالاسفل دون أن تضع حجابها على رأسها وأخذتها بملابس النوم.
دفعت زوجة عمها"عفاف" باب منزلها بقوة بعدما جذبت دنيا إلى الداخل ولسانها مازال يردد تلك الكلمات الناقمة على أخ زوجها بحرقة لما فعله بابنته، انتقلت نظراتها إلى زوجها الذي خرج من غرفته قلقًا من صياح زوجته وبكاء ابنة أخيه الذي شق أذنيه، شعر بنيران الغضب تسري بعروقه فور أن أيقن عقله بأن شقيقه هو من سبب هذا الدمار بوجهها، فمن غيره ليفعل كل هذا، اقترب من دنيا وجذبها بين أحضانه مربتًا على ظهرها بحنان عازمًا على أن هذه المرة لن تكون كالمرات السابقة فأخيه زاد عن حده ويلزمه من يعيد عقله إليه فإن كان صبر عليه في السنوات السابقة كي لا يؤذي ابنته فالأذية تتحقق على كل حال، وأي أذي أكبر مما يرى أمام عينيه؟!
أومأ رأسه مؤيدًا حينما استمع إلى زوجته تهتف بغضب
- دنيا مش هتطلع تعيش مع المفتري دا تاني... دنيا هتبات في حضني هنا.
نظرت إلى دنيا لترى رأيها بما تفوهت به فوجدتها ساكنة دون أي تعابير وكأنها بعالم آخر فالتفتت إلى زوجها الذي تابع
- مش هسيبها تطلع عنده تاني تفضل هنا أو تبات مع بنات عمها لكن على جثتي تعيش مع أبوها في شقة واحدة بعد منظرها دا.
هزت عفاف رأسها بقوة صائحة باعتراض
- ولا حتى مع بنات عمها.. هيعمل زي المرة اللي فاتت ويروح ياخدها منهم بالعافية، بيتشطر على مرات أخوك عشان جوزها ميت ومحدش وقف له.. دنيا بنتي هتفضل في حضني هنا.. وإن كان على عبدالرحمن نجيب له سرير ودولاب ويطلع يبات في الشقة بتاعته ومش هيقول حاجة
وكأن ذكرها لاسمه أيقظ عقله من تلك الأفكار الانتقامية التي سيطرت عليه بمجرد سماعه لما يحدث في الخارج واستنتاجه لما حدث، بدى له من حديث والدته أن والدها اعتدي عليها اعتداءً وحشيًا فكور قبضته وضرب بها على قلبه الذي يحترق بداخله بينما روحه بالخارج تترجاه ليتخلى على الذرة الأخيرة من عقله ويخرج من غرفته التي تضيق أنفاسه ليرى ما أصاب روحه.
صدح قرآن الجمعة في أرجاء البلدة لينهض على وقعه ذاك الذي لم يطرق النوم له بابًا سوى في العاشرة صباحًا، نهض من فراشه بقلب عليل وأخرج جلبابه الأبيض من خزانته ثم وقف خلف الباب وطرق عدة مرات منبهًا لتلك التي يتعطش قلبها لمن يرعى وجودها.
- تعالى يا عبدالرحمن دنيا لابسة.
لم تكد تنتهي والدته من جملتها إلا وقلبه خذله وهرول غاصبًا قدميه هي الأخرى على الخروج بينما عقله القلق لم يجد سوى تتبعهم.
دارت عيناه بأنحاء البيت إلى أن شعر بها تستقرّ على إحدى الآرائك مجاورة لوالدته، أراد أن يوجه أنظاره عليها بل يعانقها بنظراته لعله يستطيع ارتشاف الألم منها ولكن كيف له أن يفعل وينكث ميثاقه الذي واثق ربه به بأن لا يتعمد النظر إلى الفتيات حتى ولو كانت هي، مالكة الروح والفؤاد.
دلف إلى المرحاض سريعًا كي يقضي على أي أمل تُمنِى وقفته به فؤاده الذي يُحرِّضه على الهرولة إليها ومعانقتها حتى تبرأ أسقامها التي تنزف في قلبه، تطلعت إلى أثره بعقلٍ شارد يتملكها الحرج، الحرج منه لعدم قدرته على التجول في منزله براحة، من والدها الذي وضعها في هذا الموقف، وعمها وزوجة عمها التي تنعي حظها بجانبها.
لم تمضِ عدة دقائق إلا وكان عبدالرحمن خارجًا من بيتهم بوجه عابس كعادته كل جمعة على عكس طبيعته لوجهه البشوش، تراوده أفكار انتقامية تقتله لدرجة الألم، يريد أن يفعل كل ما يمكنه أن يفعله لأجلها ولكن كيف وبأي طريقة دون أن يمس كرامة قلبها لا يعلم؟! عرج بقدميه إلى الصيدلية التي تقع بجوار منزلهم وما لبث أن خرج محملًا بكيس أبيض يحتوى على العديد من علب الدواء بداخله.
دخل البيت بعدما طرقه عدة مرات ثم اقترب من والدته التي تجلس بجوارها وقلبه يتساقط بين الحين والآخر كلما اقترب منهما خطوة إلى أن التقطت والدته ما بيده فهتف قائلًا بقلة حيلة
- دا علاج ممكن تحتاجوه فيه مسكنات وكريمات ممكن تحتاجوها ولا نروح المستشفى أحسن؟
سأل وقلبه يتمنى أن تجيب هي لعل صوتها ينزل كالصقيع على آلام قلبه الملتهبة فيُطيب قليلًا من أوجاعها الغير محتملة ليأتيه ردها المرتعب على الفور
- لأ مستشفى لأ.. مش عايزة أنا كويسة.
كذبت بكلماتها والجميع يعلم، ليعبس بوجهه ويزم شفتيه بغير رضا قبل أن يلتفت ذاهبًا إلى المسجد لقضاء الجمعة ولكن لم يستطع أن يتركها هكذا دون أن يطمئن على بدنها الذي ربما يعاني من بعض الرضوض أو الكسور فهاتف صديقًا له يعمل طبيب عيون ليجيبه الآخر سريعًا فقال دون مقدمات
- هلال.. عايز دكتورة عظام لو تقدر تشوف لي واحدة من المستشفى اللي شغال فيها معلش.
لم يستطع هلال أمام نبرة صديقه الجامدة سوى أن أجاب
- تمام.. في دكتورة مناوبة معانا في المستشفى النهاردة هشوفها وأعرفك
ليقول عبدالرحمن برجاء
- متتأخرش بالله عليك
طمأنه الآخر فدلف إلى المسجد الذي قد بدأت الخطبة فيه منذ عدة دقائق وأذناه توزع تركيزها بين كلمات الخطبة وهاتفه الذي ينتظر مكالمة منه.
استمع إلى إشعار يصل على هاتفه ليراه سريعًا فوجد هلال كتب إليه
- الدكتورة هاجر نص ساعة وتكون عندك يا عبدالرحمن
زفر براحة ثم ترك هاتفه وصبَّ كل تركيزه مع كلمات الإمام إلى أن انتهى من كلماته وأقام الصلاة.
************
جلس هلال على أحد المقاعد ملتقطًا أنفاسه بغضب استعمر أركانه من تلك التي لا تبارح حديث بينهما إلا وترفع آماله لتجعلها تعانق القمر ثم تقذفها أرضًا بجحود وقسوة، تلك الطبيبة.. طليقته هاجر.. ومن غيرها سيسمح لها بمحادثته من طرف أنفها بكل غرور وكأنها ملكة على أهل الأرض.
هو بالكاد استطاع السيطرة على مشاعره السوداء تجاهها بعدما أهانته في مجلس الرجال وأضحى صغيرًا أمامهم عقب سردها لأسبابها التي جعلتها تتشبث بعباءة الطلاق وتأبى ارتداء غيرها من أي عباءات الصلح التي عرضوها عليها بل وزينوها بجميع عبارات الإرضاء. بالحقيقة هو ليس مقتنعًا بأسبابها ويرى ما تجافيه لأجله ليس سوى واجبه الذي أرادت منه التخلي عنه، ولكن ماذا يفعل بعقول النساء! وماذا يفعل بقلبه الذي يهفو إليها ويشتاق قربها حد الموت؟!
انتفض خارجًا من الغرفة بعدما دلفت إليها إحدى الممرضات والتي شهدت منذ قليل مصرع كرامته على يدي تلك التي ما أن شاهدت وقوفه على باب مكتبها إلا وعلا صوتها تهددة بالشكوى إلى مدير المشفى إن تعرض لها ثانية ليخبرها باقتضاب عن قريبة صديقه المريضة ويترك لها رقم هاتفه ثم يعود إلى مكتبه مرة أخرى محاولًا في طريقه لملمة نثرات كرامته التي بعثرتها دون وجه حق.
استمع عبدالرحمن إلى رنين هاتفه المحمول ليجد المتصل رقمًا غير مسجًلا فأجاب سريعًا متيقنًا من أنها تلك الطبيبة التي ينتظرها.
أنصت إليها ليصله صوتها الذي اشتم فيه رائحتي التردد والارتباك رغم محاولاتها لإصباغه بالعملية
-الدكتورة هاجر مع حضرتك يا أستاذ عبدالرحمن ممكن العنوان بالتفصيل
رددت عليه ذاك الاسم الذي دونه هلال أسفل رقم الهاتف ليجيبها عبدالرحمن بعدما فطن من اسمها أنها طليقة هلال
-قرية "ابن السبيل" منزل الحاج رفيق الحريري جنب المدرسة الثانوية.
-دقائق وأكون عند حضرتك.
تنهد بقوة وجلس في انتظارها بجوار المدرسة ولم تمضِ عدة دقائق إلا وصدقت حديثها ليجدها تقف أمام منزل أبيه بحياء.
اقترب منها لتعلم هويته فور رؤيتها له فتقدم في سيره أمامها دون أن ينطق سوى بعبارة ترحيب واحدة.
بعد دقائق كانت أصوات بكاء دنيا تتصاعد من غرفة الكشف ليرق قلبه على تلك الصغيرة التي ترتعب من الحقن، أحيانًا ما يراوده الاندهاش من خوفها هذا.. فكيف لم تتحمل لكمات أبيها دون أن يستمعون لصرخة واحدة تبثقها شفتاها أن ترهب مجرد إبرة علاجية؟
مهد الطريق للطبيبة التي طمأنته على رفيقة روحه ثم عاد يجلس في غرفته تاركًا بابها مفتوحًا على مصراعيه لعله يستقي من همهماتهم بعض الكلمات التي تروي قلق قلبه المتعطش لزيرٍ من الاطمئنان.
********************
بعد مرور عدة أيام
في مطار إحدى المدن الأوروبية
استقل أحمد أحد مقاعد الطائرة وعيناه لا تكف عن النظر إلى كل ما يقع أمامها بجفاء، فكلما نظر أحد الأشخاص إليه
اعتقد أنه كفيف لعدم تفاعله مع من حوله، حتى تلك الصغيرة ذات العام والنصف التي يصطحبها معه يضع زجاجة الحليب الصناعي في فمها بآلية وكأنه يصطحب دُمية مصنعة. فما مر به في الأسبوع المنصرم ليس بهين.. أن يكتشف خيانة زوجته التي كان يظنها ملاكًا يسير على الأرض وياليت هذا فحسب؛ بل اكتشافه لعدم انتساب ابنته الأولى المعلق قلبه بها إليه.
فإن نسى خيانة والدتها فكيف ينسى من تعلم الأبوة من كتاب قلبها، كيف ينسى نظراتها وذعرها حينما أتى إليه ذاك الأشقر هائجًا قبل يومان برفقة الشرطة ومعه الأوراق التي تثبت أنها ابنته لينتزعها نزعًا من بين يدية اللتان كانت تتشبث فيهما بشدة، نظراتها المرتعبة.. تشبثها به.. استغاثتها بمن حسبته أبيها، كل هذا سيظل يدق فؤاده دقًا، فهو كان قد عزم على أخذها معه إلى الوطن وتناسي انتسابها لغيره ولكن مجيء ذاك الرجل قلب كل موازينه وها هو يعود منفردًا بابنته فقط إلى عائلته التي اشترى الخائنة وباعهم بثمن بخسٍ دراهم معدودة.
***************
"دنيا لبست نقاب.. دنيا لبست نقاب"
عبارة من ثلاث كلمات كانت تتردد بين الطالبات الجالسات أمامه والوافدات من الخارج ليخفق قلبه بشدة أثر ذكر اسمها منتظرًا قدومها هو الآخر، لكمة قوية أصابت قلبه بشدة لعلمه بالسبب الرئيسي الذي ارتدت النقاب لأجله، فتلك الندبات التي خلفها أبيها في وجهها كانت أقوى من وجهها الرقيق الذي لم يستطع التخلص من كل تلك الندبات التي ظلت تصارعه إلى أن فازت بآخر الأمر واستقرت فوقه لتخلف ندوبًا أخرى بقلبها كلما تحسست وجهها أو نظرت إلى تشوهه في المرآه، فهو يعلم أن دنيا لم ترتدِ النقاب لأجل غاية النقاب فهي ليست بتلك الدرجة العالية من التدين التي تجعلها تفعل، ولكن لابتلاءات القدر رأي آخر.
فاق من شروده حينما شعر بهالة سوداء تهلّ من ناحية باب الغرفة المتواجد بالمركز، أراد لو رفع رأسه تجاهها ليروي قلبه الذي سئم الجفاف ولكن خوفه من الله تغلب غلى مل صراعته فردع قلبه العليل وبدأ في السيطرة على حركة الطالبات وأصواتهم التي تعالت ثم ركن حزنه جانبًا وبدأ في مباشرة عمله.
كاد الدرس أن ينتهي فلم يتبقَ سوى حل التدريبات التي ينهي بها الحصة إلا أن رنين هاتفه أبى التوقف فاعتذر من الطالبات ليجيب أبيه الذي لم يستطع أن يهمل اتصاله.
أنصت إليه قليلًا ليقول بعد قليل بدهشة
- طيب أنا جاي حالًا
أنصت مرة ثانية إلى الطرف الآخر ليقول ناهيًا المحادثة
- حاضر هي هنا هعرفها السلام عليكم.
-
كانت الطالبات تطالعنه بفضول من حالته المذهولة التي تبدل حاله إليها مرة واحدة ولم يدم فضولهم طويلًا وهو يقول سريعًا
- التدريبات هنحلها الحصة الجاية إن شاء الله عندي ظروف طارئة ولازم أمشي حالاً
حالة من التوتر أصابت دنيا وريهام اللتان خافتا أن يكون هناك مكروهًا أصاب أحد أفراد عائلتهما لتنهضان سريعًا في محاولة منهما لتخطي الصفوف وتابعته
- يا مستر! مستر!
التفت سريعًا إلى نداء ريهام وهو يعلم حيدًا تلك التي حرضتها لمناداته ولم يدعها تسأله لينهي الموقف قائلًا
- أحمد ابن عمي جه من السفر فجأة وأبي طلب مني الحضور بسرعة وقالي أعرف دنيا متتأخروش.
قال جملته الأخيرة وهو يتركهم ويهم بامتطاء دراجته البخارية ليصل إلى البيت بأسرع وقت.
تعالت نبضات قلب دنيا بقوة فور علمها بعودة أخيها الغائب، ذاك الذي تخبطت مشاعرها فور علمها بعودته، فلا تعلم أتفرح بمجيئه أم تنقم عليه أكثر من ذي قبل لتركه لها وهربه من براثن والده الذي يعلم جيدًا كيف يتعامل معها!
تبعت ريهام في صمت دون قدرة منها على البوح بأي مما يختلج صدرها، لتلتفت الأخرى إليها وتحثها على الإسراع، فبطريقة سيرهم هذا لن تتمكنان من الوصول إلى البيت سوى بعد مرور نصف ساعة على الأقل وهي تريد الوصول بأقرب وقت تلهفًا لرؤية قريب لا تتذكر منه سوى القليل.
كانت رقية جالسة على فراشها وبيدها قماشة بيضاء وألوان مختلفة من الخيوط الرفيعة نسجت بعض منها فوق القماشة ليبدو وكأنه "منديل"عقد قران، فهي تعمل في الأعمال اليدوية والتطريز منذ ثلاث سنوان وباتت مميزة في عملها للغاية حتى غدت مشهورة بين بنات القرية بروعة أعمالها. رفعت عنقها بإرهاق تنظر إلى باب الغرفة بتساؤل بعدما استمعت إلى طرقات علمت أنها لإحدى إخوتها، لم تنتظر شقيقتها إجابتها لتدلف سريعًا تفوه بما لم تتوقعه الأخرى في أجمل أحلامها.
-أحمد رجع يا رقية.. رجع من السفر وقاعد تحت في بيت العيلة تعالي بسرعة شوفيه.
صعقت مما استمعت إليه، بل تكاد تجزم أنها شعرت بدقات قلبها تتوقف وكأنها ضلَّت طريقها ولم تعد تعلم كيفية العمل مرة أخرى، مشاعر عديدة تراودها ما بين اللهفة، الاشتياق، الغضب والجمود، كانت تعتقد أنها ستهرول إليه مشتاقة عندما تعلم بقدومه بل كثيرًا ما راودتها هذه اللحظة بأحلامها ولكن.. لما الحقيقة قاسية إلى هذه الدرجة! ولما يتجبر قلبها عليها ويعلن غضبه حزنًا على ما أصابه من إنهاك في السنوات السابقة! كانت تعتقد أن قلبها سيفعل وسيفعل بل وسيضعها في موقف محرج أمام الجميع ولكن لما خيَّب ظنها ووقف باردًا هكذا وكأن من قيل أنه بالأسفل ليس من لا يفارقه في صحوته وغفلته!
شعرت شقيقتها "مريم" بالاندهاش من سكونها هذا، فجميع من بالبيت يعلم بعشق رقية لأحمد لتسألها
- رقية قاعدة ليه بقولك أحمد تحت أحمد يا رقية
ليتمرد عليها لسانها قائلًا ببرود أدهشها
- وأنا هعمل له إيه؟
شعرت بأن شفتي مريم ستلتصقان بالأرض من فرط صدمتها لتتبع
- لو عايزة تنزلي أنتِ انزلي.. لكن أنا عندي شغل وقت ما أفضى هبقى أتحمد سلامته وخلاص
أولتها مريم ظهرها ثم خرجت من الغرفة بعينان جاحظتان من وقع الصدمة عليها، فهي من تعاركت مع شقيقتها الصغرى"رحمة" رغبة في رؤية لهفة رقية عندما تعلم بقدومه لتفاجئها الأخيرة برد فعلها الأشبه بالجليد هذا!!
**************
نظرات مشتاقة وأخرى عاتبة، عيون تكاد تجحظ من مكانها اندهاشًا من ذاك القريب الغريب الذي يجلس وابنته برفقتهم، النظرة إليه سابقًا كانت تبعث للقلوب بهجة ولكن هذا الذي يجلس بنظراته الخاوية أبعد ما يكون عن الآخر.
دلف والده بعدما علم بقدومه ليصبح بتهكم مصبوغ بالسخرية
- إيه اللي جابك دلوقتي؟ لسة فاكر إن عندك أهل
تهرب بنظراته من أبيه الذي لم يكلف نفسه عناء الاقتراب منه ومعانقته كما فعل الآخرون ليتابع الآخر وعيناه تسقط على الصغيرة المتوسطة لقدم أبيها بخوف من الوجوه الغريبة الجالسة أمامها
- وإيه المصيبة اللي جايبها لنا معاك دي؟ مش كانت أكبر من كدا. وفين أمها؟
-ماتت
تلك هي الكلمة الوحيدة التي نطق بها منذ عودته، فلم يكن يجيب فضولهم سوى بإيماءات بسيطة لا تغنى من جوع.
ساد الصمت والسكون قليلًا إلى أن استمعوا إلى صوت عبدالرحمن الذي دلف معانقًا له بلهفة متمتمًا بالعديد من عبارات الترحيب. ليلتفتوا بعد ذلك إلى والدته التي اقتربت من أحمد تقول
-هات يا حبيبي البنت دي أشوف محتاجة إيه أكيد زهقت من السفر
لم يصدر عنه أي اعتراض وهي تسحبها من بين يديه لتدلف بها إلى إحدى الغرف بينما عبدالرحمن جلس مجاورًا معه مثرثرًا بالكثير من الأمور وهو في وادٍ آخر لم يستمع من حديثه شيء.
توقفت الحروف بحلقه وكأنه نسي كيف يصوغ بها حديثًا حينما دلفت الأخرى بخطوات متعثرة وعيناها تدوران بفضول بين الجالسين إلى أن استقرت فوق بدن أخيها.
شعر الجميع بارتباكها وتابعوا خطواتها إلى أن اقتربت منه لتصافحه بكلمات باردة وكأنهما لم يلفظهما رحم واحد،عند ظهورها استفاق أحمد قليلًا متفحصًا إياها بترقب شديد، فهي الوحيدة التي كانت ترهق عقله بغربته ويتآكله قلبه لأجلها ولكن بماذا تجدي المشاعر نفعًا إن لم تصل لمن نبادلها له؟ أشارك قلقه عليها في رفع يدي والدهما عنها؟ أم حاول شعوره نفض عقول أصدقائه المتحرشون عن بدنها الهزيل؟!
كاد أن ينطق بثاني كلماته لأجلها هي إلا أن صوت والدهما المقيت ارتفع زاجرًا إياها بغيظ من مكوثها بشقة عمَّها رغمًا عنه
- كفاية بقا الدلع دا مش شوفتي أخوكي غوري اجري جهزي له حاجة ياكلها.
سحبت نفسًا عميقًا ثم لفظته بعنف قبل أن توليهم ظهرهًا وتتجه إلى الداخل ناقمة على ذاك الذي استكثر عليها استقبال شقيقها بينما صدح صوت عبدالرحمن الذي لم يستطع الصمود أكثر من ذلك فقال متحديًا والدها ناظرًا لعينيه وهو ينهض واقفًا
- تعالي اقعدي جنب أخوكي.. الدكتورة منعت عنها الحركة الكتير عشان تعبانة وأظن أنت عارف السبب.
ليشيح الآخر عيناه بضيق من ذاك الذي يقف له بالمرصاد دائمًا حتى بات يشعر أحيانًا أنه يخافه في الأونة الأخيرة.