رواية بحر ثائر الجزء الثانى الفصل الرابع بقلم اية العربي
أينتهي الشوق....كيف يكون المرء بلا أشواق...
أينتهي الحب.. أينهيه البعد..
كيف يكون المرء بلا أحباب...
كيف حال قلبك بالغياب...
لو تسأل أنت... لو تسألين أنت..
أنا قلبي في ضباب...
أنا قلبي في رهاب.....
قاسية أشواقي....
ترى هل لو عانقتك خيالا.. تحنو علي..
قاسية أشواقي...
احتليني كيفما شئت وبما شئت
داهميني وأسريني لديك...
فقلبي أغرقه الشوق
قلبي من دونك في خطر
( بقلم فيروزة)
❈-❈-❈
لقد أضحى في فمي ماء
وكُبلت كفوفي عن الإشارة
وتحجرت عيناي طواعيةً وإجبارًا
وتبلدت مشاعري بجليد مهامي
واتخذ جسدي تعليماته لأصبح رجلًٍاصعب المراس يصعب فك شفراته ولكنه أحبك فهل هذا يكفي !
ثائر ذو الفقار ( آية العربي)
حينما يُجمع الخوف والشك في نفسٍ واحدة فإنهما يتحدان ويتكاثران لتنتج عنهما مشاعر سيئة يصعب السيطرة عليها وتصبح مجبرًا على عيشها .
تدرك أنه يكذب ولكن لماذا يكذب ؟ هل هناك مهمة أخرى كُلف بها ؟ هل حياته في خطر ؟
وكيف لم يطلق تلك المارتينا ؟ كيف إلى الآن مازالت زوجته ؟ وماذا حدث بينهما في الأيام السابقة ؟
رفعت رأسها تنظر لهيأتها في المرآة وعجزت عن تفسير ما يحدث ، رأت صورتها فنظرت لها بمؤازرة وتساءلت داخلها :
- أكُتب عليكِ المعاناة دومًا ؟ أكلما شعرتِ بالسعادة والطمأنينة استيقظ وحش الحزن وهجم على حياتك ؟ ماذا سيحدث وكيف ستواجهين كل هذا ؟ هل مجرد تفسيرًا صغيرًا أمرًا شاقًا بالنسبة له ؟ منذ ساعات قليلة كنتِ تخططين لمستقبلٍ رائع كادت الشمس أن تسطع عليه ولكن فجأة حل ظلامٌ غير مبرر ، أنتِ تحتاجين فقط لإجابة تطمئن قلبك .
أجابت صوتها الداخلي بطمأنة تحاول إقناع نفسها فهمست :
- هيقولك يا ديما ، هيصارحك زي ما عملها قبل كدة ، أوعي تخلي الشك يدمر حياتك ، ثائر بيحبك بجد ، صدقي إحساسك دايمًا .
حدثت بها نفسها وأومأت مقتنعة بذلك كأنهما اثنتان واحدة أصابها التشتت وباتت الأرض تميد بها وأخرى تقف على أرضٍ صلبة .
زفرت بقوة وتحركت نحو كابينة الاستحمام لتستحم سريعًا وتخرج ، ستتعامل بشكلٍ عادي ولترى آخره .
وإن كانت تعيش مشاعر سيئة فهو يعيش أضعافها الآن ، حينما وقف على أطراف الشرفة يدخن سيجارته ويفكر بعينين تسافران للبعيد .
ما أصعب أن يكون الرجل مجبرًا على الصمت ، يمتلىء ولا يبوح ، يشبه بالونًا تاه في الفضاء وابتعد عن أحلامه بعدما عجز عن الانفجار .
لا يمكن تحمل هذا الكم من الصرعات إلا مع رجلٍ حقيقي ذو خبرة وثبات وعزيمة والأمر هنا ليس مجرد فضفضة ، إنها مسألة حياة أو موت والهدف هي روحه .
كيف يتقبل فكرة تجنيدها ؟ وإن حدث المستحيل وتقبل تجنيدها فكيف يتقبل فكرة قربها من توماس حتى لو على بعد أمتار ، الجنون أقرب إليه من هذا الأمر .
رفع يده يدلك عقله ويستغفر طالبًا من ربه حلًا لتلك المعضلة ، السنوات التي مرت بالنسبة له كانت أيسر وأهون مما يعيشه الآن ويعلم أنها تعيش مثله ، ومع كل هذه الفوضى داخله يجب عليه ألا يحزنها .
زفر بقوة والتفت حينما فتحت باب الحمام وخرجت منه تطالعه فلمحت الصراع في عينيه لذا نطقت بهدوء لتعطيه القليل من الراحة :
- ادخل يالا يا ثائر خد شاور علشان نخرج لهم ، الساعة دلوقتي داخلة على عشرة .
أومأ لها بهدوء ولم يواجه نظراتها بل انسحب يطفىء سيجارته في المطفأة وأسرع خطاه نحو الحمام يختفي به ، عل تلك المياه الباردة قادرة على امتصاص صراعًا واحدًا منه .
بينما تحركت ديما تلتقط هاتفها وتتحدث إلى داغر كي تخبره بعودتهما وزيارتهما لهم اليوم
❈-❈-❈
كان يجلس على المائدة بينهن ، يتناولون الفطور بهدوء ولكن نظراته تستهدف بسمة التي لم تنظر إليه منذ ما حدث .
يحاول لفت انتباهها بأي شكلٍ كان لذا أردف وهو يشير إلى إبريق الماء :
- كوباية ماية يا بسمة لو سمحتِ .
انتظرها تطالعه ولكن خاب ظنه عندما نهضت دينا مسرعة تحضر هي كوب الماء له وتناوله إياه مبتسمة تقول :
- اتفضل .
التقطه منها بغيظ وارتشف القليل ثم عاد يكمل وجبته لتلاحظ والدته حالته لذا تساءلت بمكر :
- يعني كدة العمال هيبدأوا شغل بكرة يا داغر صح ؟ علشان محتاجين شوية طلبات من السوق تجبهم لنا .
أومأ يردف بترقب :
- اكتبي يا ماما كل اللي انتِ عايزاه وانا هنزل دلوقتي نشتريه أنا وصالح ، ولا تيجي معايا يا بسمة ؟
رفعت نظرها تطالعه للحظة فتذكرت فعلته لذا عادت لخجلها وأردفت سريعًا وهي تعاود النظر إلى طعامها :
- معلش يا داغر عندي شغل كتير ، روح انت وصالح عادي .
شعر بالضيق ولكنه أومأ يلوك لقمته بغيظ قبل أن يصدح هاتفه معلنًا عن اتصال من رقم شقيقته المصري فتعالت الدهشة ملامحه ونطق قبل أن يجيب :
- ديما في مصر .
شهقت منال وتأهب الجميع خصوصًا الصغيران ليردف داغر :
- ديما ! إنتِ رجعتي ؟
تنهدت بعمق وأجابته بتريث :
- أيوا يا داغر ، أنا وثائر رجعنا الفجر وجينا على بيت باباه ، ماعرفتش اكلمكوا بليل قلت أكيد الكل نايم .
نظر لوالدته التي تتساءل بتعجب واستطرد :
- حمدالله على سلامتكوا ، بس ماقولتيش ليه قبلها كنت جيت استقبلتكم ؟
تحمحمت تجيب بمراوغة :
- ثائر كان ناوي نعملها مفاجأة بس الإجراءات اتعطلت شوية وطلعنا من المطار في وقت متأخر وقررنا نروح عند أهله ، إنت عارف إنهم كانوا مشتاقين له جدًا ، أنا بس بعرفك إن ثائر هييجي معايا عندكوا ، قول لماما والأولاد ، هما جنبك ؟
أردف مالك بنبرة حماسية تحمل على متنها القليل من الغيرة بعدما سمعها :
- هتقعدي معانا يا ماما صح ، مش هتسافري تاني ؟
تنفست مطولًا ثم أجابت بتروٍ :
- إن شاء الله يا مالك هنظبط كل أمورنا ، المهم لما أوصل عايزة منك حضن كبـيـــــــــر جدًا لإن انت واختك وحشتوني أوي .
أومأ ينظر لشقيقته التي تهلل بسعادة بينما نطقت منال بعتاب وحنين :
- بقى كدة يا ديما ؟ طب كنتِ رنيتي عليا بليل فرحتيني بوصولك ، نورتي مصر ياحبيبتي .
أجابت والدتها بهدوء وهي تجلس على طرف الفراش :
- معلش يا ماما حقيقي ماعرفتش .
أومأت منال باقتناع حتى لا تضغط عليها بينما نطقت دينا باشتياق :
- وحشتيني يا دومة مع إنك مش بتسألي عني .
ابتسمت ديما وتملكها الحنين لشقيقتها فنطقت دون عتاب حيث أنها دومًا تسأل عنها والأخرى لا تفعلها باستمرار :
- وانتِ كمان يا دودي وحشتيني أوي وبسمة والبيت وحشني ولما آجي لينا كلام كتير مع بعض ، يالا هقفل دلوقتي ونتقابل كمان شوية .
أغلقت فتناول داغر هاتفه يدسه في جيبه ونهض يردف بملامح جادة :
- أنا هنزل اروح لصالح ونروح نشتري الطلبات ، ابعتيلي ع الواتس يا ماما كل اللي البيت محتاجه ، يالا سلام .
غادر بحما س لعودة شقيقته الكبرى ومع ذلك هو حزين من تجاهل بسمة له ، هل تعاقبه على مشاعره نحوها ؟ أليست زوجته ؟
زفر بقوة وتحرك يغلق الباب خلفه ويتجه إلى رفيقه ليخبره بموافقة دينا ويتحدثان أثناء تسوقهما .
❈-❈-❈
على مائدة مرتبة بمهارة وسعادة جلس كلًا من أمجد وعلياء ومعاذ وثائر وديما .
جهزت علياء كل ما تشتهيه الأنفس ليتناوله صغيرها العائد الذي ابتسم وأردف بثناء :
- تسلم إيدك يا ست الكل ، دي وليمة مش فطار ، شكلك كدة يا أمي ناوية تعوضيني ال 13 سنة غربة فعلًا ، أنا كنت في فرنسا بفطر على قهوة وكرواسون وسعات قهوة بس ، بس طبعًا ده قبل جوازي من ديما .
قالها والتفت يلتقط كفها بشكلٍ مفاجيء ويقبله أمامهم فخجلت وابتسمت بهدوء لتجيبه علياء بمحبة صافية :
- لاء خلاص بقى انسى كل ده ، دلوقتي إنت رجعت وبقيت في إيدين أمينة ، من هنا ورايح أنا وديما هنتفق عليك وانت هتسمع الكلام ، وأول حاجة هتعملها هتقلل السجاير والقهوة ، صح يا ديما ؟
أومأت لها تردف مؤكدة بنبرة ودودة :
- أنا معاكي في أي قرار تاخديه يا ماما علياء لإن فعلًا ثائر بيشرب قهوة وسجاير كتير جدًا بس من هنا ورايح مافيش الكلام ده .
هكذا امتلكت قلبها الذي انشرح وتنفست بقوة وحماس ليردف أمجد بانزعاج طفولي عبثي :
- شكلي كدة هتركن ع الرف .
فهمه معاذ فقال بمشاكسة :
- لست وحدك جدي .
ضحكت علياء ومالت قليلًا على أمجد لتراضيه وفعلت ديما بالمثل مع معاذ حيث انحنت عليه تردف بالفرنسية :
- كن واثقًا أنني وضعتك في قلبي ، هذا يعني أنه من الآن وصاعدًا لا مفر لك مني ، أتمنى فقط ألا تمل .
ابتسم معاذ وطالعها بنظرات متعجبة ، منذ أن أتت وهي تعطيه محبةً وحنانًا لم يرَهما إلا مع جدته ، يفتقد هذه المعاملة تمامًا ، يفتقد الاهتمام ولم يطلبه يومًا من والدته لأنه لم يرِده منها ولكنه الآن يحب اهتمام جدته وديما به ويخشى أن تتوقفان عنه ولكنها ربتت على خاطره وقلبه بكلماتها لذا ابتسم بسعادة ومال يقبلها على وجنتها ، قبلة تفاجأت بها بقدر ما تفاجأ الجميع حتى معاذ نفسه ، لم يكن ودودًا هكذا مع أحدهم وبهذه السرعة .
حدث هذا تحت أنظار ثائر الذي قامت ثورة الحب مجددًا في قلبه لهذه الديما ، بأي امرأة علق هو ؟ ألهذه الدرجة يحبه الله وكافئه ؟
تنهد بحرارة ثم أردف بمغزى وهو يدعي انشغاله بالطعام :
- طيب كدة الغدا هيكون ايه بقى ؟ ولا نطلب من برا ؟ علشان مالك ورؤية هيتغدوا معانا .
تفاجأت ديما فأسرعت تلتفت له وتطالعه بدهشة ليغمز لها فعادت سريعًا تنظر في طبقها بحرجٍ بينما أردفت علياء بلوّم ملغم بالفرحة :
- يا أهلًا وسهلًا ينوروا ، وأنا اللي هطبخ طبعًا ، أكل برا إيه ده اللي يبقى زي أكلي .
نطقتها بثقة ليؤكد أمجد بحب :
- مش عارف الواد ده حصله إيه ، إنت اتجننت يا ولد ؟ أكل من برا وأمك موجودة ؟ دا أنا مادوقتش ولا هدوق زي نفَسها .
هكذا فخمها أمامهم فتباهت وضحك ثائر وأومأ يردف وهو يرتشف القليل من الشاي :
- معلش غلطة مش مقصودة ، أنا بس مش عايز اتعب علياء هانم ، لإن أنا وديما هننزل دلوقتي نروحلهم ونرجع على الساعة 3 كدة .
أردف معاذ بترقب وحماس لمجيء الصغيران اللذان ينتظر رؤيتهما :
- هل يتحدثان الفرنسية ؟
مطت ديما شفتيها تجيبه بأسف :
- لا يتقناها للأسف ، ولكن التواصل بينكم سيكون رائعًا أعدك بذلك .
أومأ لها بثقة واستطرد :
- حسنًا إذا لأنهض وأجهز بعض الألعاب لنا ، هل مالك يشجع الريال أم برشلونة ؟
نطق ثائر بمعرفة مسبقة واهتمام بتفاصيل مالك :
- إنه يشجع خاله داغر ، بالنسبة له هو البطل الحقيقي ، سأعرفك عليه ذات يوم .
أومأ معاذ ونهض بعدما انتهى من فطوره يودعهم وتحرك بحماس نحو غرفته ليجهز ما قاله بينما نهض ثائر أيضًا يردف بترقب وهو ينظر نحو المطبخ :
- هعمل قهوة حد يشرب معايا ؟
نهضت ديما توقفه قائلة :
- اقعد إنت يا ثائر وأنا هعمل .
التفت لها بنظرة ثاقبة وأردف بمغزى :
- طب تعالي نعمل سوا .
توردت وجنتاها واتجهت معه نحو المطبخ ووقفا أمام محضر القهوة يحضرانها سويًا ليرنو منها قليلًا ويهمس بعد دقيقة :
- مش بحب أشوفك زعلانة .
تحدثت دون النظر إليه تدعي انشغالها بالقهوة :
- مش زعلانة ، بس ليه ماقولتليش إنك هتجيب الولاد يتغدوا هنا ؟ ماما وداغر عاملين حسابهم إن إحنا اللي نتغدا معاهم .
زفر والتفت ينظر نحو محضر القهوة ويجيبها بنية صادقة :
- الأفضل من هنا ورايح إن الولاد يكونوا معانا يا ديما ، يعني لازم نعودهم على ده واحدة واحدة .
التفتت له تلك المرة تجيبه بتروٍ :
- تمام ، بس مش هنا يا ثائر ، ماينفعش يبقى هنا ، ده بيت أهلك وأنا مش هقبل بحاجة زي دي ، لو سمحت افهمني ، هما هيتغدوا معانا تمام غير كدة لاء ، وده من ضمن الأسباب اللي مخلياني محتاجة منك تفسير .
عادت تواجهه بما لم يستطع عليه حملًا لذا أشار برأسه نحو الفنجانين يردف بتجاهل متعمد لجملتها الأخيرة :
- القهوة خلصت ، يالا علشان مانتأخرش .
حمل الفنجان الخاص به والتفت يتحرك ويغادر نحو الداخل ليشعل سيجارته في الشرفة ويهديء من صراعاته الداخلية التي تخمد وتثور باستمرار .
أما هي فزفرت بقوة ورفعت رأسها تستغفر ربها وتطلب منه العون ثم حملت الفنجان الآخر واتجهت عائدة تمده إلى أمجد قائلة بحبٍ :
- اتفضل قهوتك يا بابا .
ابتسم لها ونطق يبادلها المحبة ويعطيها احتياج الأبوة الذي يدرك أنها تفتقده قائلًا :
- تسلم ايدك يا حبيبتي .
ارتشف رشفة ثم نظر لعلياء واستطرد :
- هتهتمي بابنك وتنسيني بنتي ديما عملتلي ، فنجان قهوة ع الفرازة .
ضحكت علياء تجيبه بتسلط محب :
- دانت بتتلكك بقى .
ابتسمت ديما عليهما ووقفت تطالع علاقتهما بحبٍ وإعجاب كبير فهما على درجة عالية من التفاهم والمودة ، يثيران إعجابها بكل لحظة تراهما فيها ، تتمنى أن تصبح علاقتها بثائر كهذه العلاقة وهذا الحب .
تنهدت وقررت التوجه نحو غرفتها لتراه وتستعد للذهاب لصغيريها فقد أهلكها الاشتياق لهما .
❈-❈-❈
في طريقهما إلى السوق الشعبي الخاص بالمنطقة .
يفكر داغر هل يخبره بموافقة دينا الآن أم ينتظر بعد الانتهاء من زيارة ديما وزوجها ؟
ولكن عبوس صالح وحزنه جعلاه يقرر إخباره لذا زفر وأردف بترقب :
- بقولك يا صالح ، الموضوع اللي كنت كلمتني فيه .
تأهب صالح وتعالت وتيرة أنفاسه وتساءل بشكٍ :
- موضوع إيش ياخو ؟
توقف داغر على أطراف السوق والتفت يقابل صالح وحولهما المارة يتوافدون ويرحلون ليردف بصوتٍ هادئ نسبيًا :
- مش إنت طلبت ايد اختي؟
أومأ صالح وارتسم القلق على ملامحه برغم أنه يدعي الثبات ولكن عن أي ثبات يتحدث وهو بات يشعر أنه وحيدًا في هذا العالم ينتظر قرارًا مصيريًا إما نفيه أو العفو عنه ليسترسل داغر بابتسامة لينة بعدما لاحظ قلقه :
- هتيجي نقرأ الفاتحة امتى ؟
الآن فقط سمع أصوات المارة والصخب الذي يحيط به ، تنفس الصعداء وابتسم بسعادة ليس كمثلها شيء ، هل تفتح له الدنيا ذراعيها وتعانقه حقًا ؟
نجاح مشروعهما وتيسير أمورهما شيئان يفرحانه ولكن فرحته بموافقتها ربتت على قلبه النازف والمفتقد لعائلته وبلده ، هذا الرباط القوي معها سيربط على قلبه وينسيه أحزانه قليلًا .
بادله داغر الابتسامة وربت على كتفه يستطرد :
- ألف مبروك يا صالح ، فكر كدة وحدد معاد وعرفني ، ويالا علشان نشتري حاجتنا .
لم ينبس ببنت شفة بل تحرك معه بسعادة جعلت حركته فوضوية وهو ينتقي الفواكه والخضروات مع داغر .
تبدلت أدوارهما فأصبح داغر أكثر تعقلًا وأصبح هو فوضويًا لا يصدق أنها وافقت عليه ، إذن هي تكن له مشاعر كان يظنها ضربًا من ضروب المستحيل .
❈-❈-❈
بملامح متجهمة حانقة دلف متجره يخطو نحوها وهي تجلس خلف المكتب بتباهٍ وتطالعه وعيناه تطلق شزرًا لذا ابتسمت باستفزاز وأردفت بصياح :
- ياخويا ارمي السلام طيب ع الصبح ، وشك مقلوب كدة ليه ؟
وصل إليها وجلست على المقعد الجانبي يطالعها بتجهم ويردف وأثار النوم على ملامحه :
- بتصحيني ليه يا زينة وانتِ عارفة إني نايم الصبح من عمايلك انتِ وابنك .
شهقت بتبجح واسترسلت بحدة :
- ابن مين يا عينيا ؟ ابني ؟ ده ابنك يا كمولة ، وبعدين فيها إيه مش نمت ساعتين ؟ كفاية أوي عليك قوم بقى علشان تروح تشوف البضاعة اللي جاية النهاردة ولا أنا اللي هروح اشوفها كمان .
مسح على وجهه ينفخ أوداجه بغيظ ، ليلة أمس عاد في الواحدة ليلًا ليجدها تنوي ليلة حميمية ، سعد بذلك كثيرًا وتحمس حماسًا مضاعفًا ولكن انقلب السحر عليه لتنام بعد ذلك وتتركه مع ابنه الذي استيقظ فجرًا يبكي ويتلوى ويظل معه إلى أن عاد لنومه في الثامنة صباحًا .
تساءلت بترقب حينما وجدته صامتًا :
- الواد مع امي ؟ ولا لسة نايم ؟
التفت يحدجها بنظرة متجهمة ثم عاد ينظر أمامه ويردف :
- مع امك .
نادى بنبرة غليظة :
- واد يا حمادة ، روح هات كوباية قهوة وساندوتشين فول وطعمية .
❈-❈-❈
كعادتها تقف عند نافذتها تتطلع على نافذة جارتها يسرا علها تلتقط أي شيء ، لم تعد تفكر بشكلٍ سليم وجُل ما يهمها هو إحداث الفوضى .
زفرت بقوة وانحنت تلتقط هاتفها وتطلب رقمه مجددًا ، منذ عدة دقائق فقط حاولت معه ولكنه لم يجِب .
انتظرت إجابته ببعض الضيق وهي تفرك كفها بتوترٍ لا يوجد ردًا أيضًا لتحاول مرةً أخرى وقد اتخذت قرارًا ألا تتوقف إلا بعدما يجيب .
وبالفعل فتح يجيب بنبرة قاسية :
- أقسم أنني حينما أراكِ لن أرحمكِ أيتها المتطفلة المزعجة ، ماذا تريدين الآن ؟
تجاهلت إهانته وسألته سؤالًا واحدًا بعدما أخبرها أمس بمجيئه :
- متى ستأتي توماس ؟ أنا فقط أريد أن أعرف ، لا داعي للانفعال .
حاول أن يهدأ فهو يحتاج لغبائها هذا لذا زفر مطولًا ثم تحدث :
- قليلًا بعد ، وكُفي عن اتصالاتكِ هذه أنا حينما أنتهي من أعمالي سأحدثكِ لأرى صغيري ، فهمتِ ؟
ابتسمت بسعادة وانتشاء تجيبه باحثة عن حبٍ مظلم :
- حسنًا ولكن لتعلم أنني هذه المرة سأضع شروطًا صارمة وأنت ستنفذها لأجل صغيرنا توماس .
ابتسم ابتسامةً شيطانية حينما أردف مؤكدًا بمغزى :
- كلانا سيتنازل من أجل الصغير رحمة ، لا تقلقي ، فقط لآتي وسنرى .
أغلقت معه وضحكت بتفاخر ثم نظرت لصغيرها الذي ينام في سريره ودنت منه تردف وهي تتحسس وجهه بإصبعها :
- خلاص يا حبيبي هانت ، هصلح غلطة زمان والمرة دي مش هتنازل عن شرطي وهخلي بابي يبقى معانا علطول ، من هنا ورايح كل حاجة هتتغير للأحسن ومش هنعيش لوحدنا تاني .
تنهدت ونهضت تعود للنافذة علها ترى دياب فتلقي عليه الصباح مثلًا .
❈-❈-❈
في طريقهما إلى منزل عائلتها بعدما اشتريا للصغيران الكثير من الأغراض ، صمته هذا يكاد يصيبها بالجنون ، ظنت أنها مسالمة ولكنها تؤكد أن هذا أسوء أنواع التعذيب النفسي ، ليشرح شيئًا واحدًا فقط ، ليهدىء روعها فهي كلما حاولت التوغل في عالم الطمأنينة الخاص به وبأسرته هجمت عليها الأفكار وقلبت عالمها رأسًا على عقب لذا تساءلت بشكلٍ مفاجيء :
- عملت إيه مع مارتينا طول الأيام اللي فاتت دي ؟
شعر بغيرتها ترطم قلبه ولحسن الحظ أن هذا الجزء الوحيد المسموح له التحدث عنه لذا تنهد ونطق بهدوء يغطيه الاستفزاز :
- أبدًا ، كانوا يومين حلوين .
باغتته بنظرة كادت أن تحوله إلى رماد فلم يتمالك نفسه واستطاع أن ينتشل ضحكة صادقة يطبطب بها على نيرانها ليستطرد سريعًا بحبٍ غلف عقله وقلبه :
- كانوا أسوء أيام مرت عليا ، من أول ما ركبتي الطيارة لحد ما اتفتح الباب وشوفتك امبارح أنا ماكنتش عايش .
تصدقه ، خاصةً وأنها تنظر إليه وهو يتحدث على عكس ذلك الحوار الآخر الذي لم تصدق حرفًا منه ، هل إحساسها صائب أم أنها أصيبت بلعنته وبات تأثيره عليها قويًا ؟
عادت تتساءل بهدوء وثبات :
- يعني نفذت وعدك ليا ، صح ؟
بخوفٍ حارق أرادت أن تتأكد من شيء تعلمه برغم أنها ترفض التفكير فيه ولكن غريزتها وطبيعتها وحبها له يحتمون عليها المعرفة حتى لو كان الجواب ... نعم ، من المؤكد سيكون نعم ولو كان عكس ذلك حينها لا تضمن ردة فعلها .
- ماحصلش أي حاجة بيني وبينها يا ديما ، أنا وعدتك وأنا مش بخون وعدي .
قالها وتذكر تلك الليلة وكيف تعاملت معه تلك المارتينا لذا أغمض عيناه سريعًا يخشى أن يؤلمها بخياله ولكنه أعطاها نصف الأمان الذي تبخر منها بعد حديث أمس ، زفرت بارتياح وابتسمت تجيبه بثقة وعيناها على الطريق :
- عارفة .
التفت يحدق بها وتساءل ليزيح هذه الهبوة المزعجة :
- أومال بتسألي ليه ؟
لم تجبه فاسترسل بمغزى ضاغطًا على أحرفه :
- اسمعيني يا ديما كويس ، قللي أسئلة شوية وصدقي إحساسك ، تمام ؟
واجهته بنظراتها وشردت قليلًا لتجده يردف وهو ينظر في جهاز الموقع :
- وصلنا .
نظرت حولها لتجدهما بالفعل وصلا إلى الشارع الرئيسي المؤدي لحارتهما والمتفرع منه عدة شوارع أخرى أولهما الشارع الذي يقطن به كمال لذا نطقت بانزعاج حينما خطر على عقلها فجأة :
- أيوة وصلنا ، بس ماتدخلش من الشارع ده خليك في اللي بعده .
قرأ انزعاجها وتوترها بلمحة سريعة واشتم بأنفٍ مخابراتيٍّ رائحة خبيثة لذا انعطف من الشارع الذي منعته منه ليجدها تطالعه بضيق معاتبة :
- ثائر بقولك بلاش من هنا .
ولكن باتت عيناه وحواسه منشغلتان بالبحث عن هدفه ، يقرأ اللافتات سريعًا حتى لمح لافتة عريضة كُتب عليها اسم ( معرض كمال الوراق للتجارة ) ، يعرفه جيدًا وحفظ ملامحه عن ظهر قلب حينما رآه في التلفاز .
شعرت بأنفاسها تتلاشى بل كأنها فرت هاربة من جسدها خاصةً حينما رأت كمال تجاوره زوجته يقفان على عتبة المعرض وكانت في مرمى رؤيتهما هي ومن معها .
توقفت عقارب الساعة برغم تحرك السيارة وآخر ما كانت تتوقعه أن تراهما لذا لا إراديًا منها حدقت بهما ، كأن نظراتهما نحوها ونحو ثائر قيدت عيناها عن الحركة .
توقفت أنفاسها للحظة وعيناها تعلقت في نظرة الحسرة الواضحة في عيني كمال وحينما أطلق ثائر زامورًا عنيفًا انتفضت ونظرت أمامها سريعًا لتجده ينعطف بغضبٍ وآزرته السيارة الغضب .
غابا عن أنظار كمال الذي نظر نحو زينة وتساءل بملامح جنونية :
- مين ده ؟ مين اللي معاها ده ؟
الحقد تجلى على ملامح ونبرة زينة التي أجابته :
- ماعرفش مين ولا عايزة اعرف ، مالك في إيه ماتتعدل .
باغتها بنظرة استخفافية لأول مرة تراها منه وأسرع يبتعد ويستل هاتفه ويهاتف محسن والد ديما ليسأل عن هوية ذلك الغريب .
توقف ثائر أمام منزل عائلتها والتفت ليجدها شاحبة وشاردة وبالكاد تنبض لذا أردف بغيرة لم يستطع حجبها :
- بلاش ردة الفعل دي علشان واحد كلب زي ده .
التفتت تطالعه بتعجب وتساءلت :
- إنت كنت قاصد ده ؟
- لاء
نطقها ببرود وترجل يستطرد :
- انزلي يالا .
ترجلت معه فالتفت يمسك بيدها والتقط الأغراض وأغلق سيارته واتجها سويًا للداخل والغيرة المتأججة داخله تكاد أن تفجر المكان بأكمله ولكن هو من أشعلها لغرضٍ ما .
❈-❈-❈
اقتحمت مكتبه بشكلٍ مفاجئ حيث كان يباشر عمله .
لمحها بنظرة سريعة لذا زفر بضيق وتركها تتجه وتجلس أمامه ثم بدأت تهز ساقيها بتوتر وانفعال واضح فاستغفر وتساءل بترقب :
- خير يا سها مالك ؟
التفتت تطالعه وأجابته تراوغ في أسبابها :
- البني آدم اللي اسمه جواد اللي إنت مشغله في الحسابات بيقولي أنا ماليش علاقة بشغله علشان بقوله يطلعني على كشف حسابات الشركة آخر 3 شهور ، دي إهانة كبيرة أوي ليا يا أحمد .
مسح على وجهه بضيق فقد أخبره المحاسب منذ ثواني بما فعلته من صياح وإهانة لن يتقبلها لتأتي هي وتشتكي الآن ؟
لم يدارِ انزعاجه حينما أردف بضيق :
- وإنتِ مالك ومال حسابات الشركة يا سها ؟ وبعدين يعني إيه تهيني موظف وتعلي صوتك عليه ؟ التصرف ده مش مقبول .
تأججت نيرانها التي تلفظها حجةً لأسبابٍ واهية لذا نظرت له بتجهم وضيقت عيناها تجيبه بصدمة :
- إنت بتقولي أنا الكلام ده يا أحمد ؟ هو أنا واحدة عادية ؟ أنا مراتك وشريكتك وليا هنا في الصغيرة قبل الكبيرة ، أنا تعبت زيك وأكتر علشان نوصل للمستوى اللي إحنا فيه ده .
نظر لها باستهانة وتكتف يتساءل وهو يجلس بأريحية :
- تعبتي زيي وأكتر إزاي يا سها ؟
أصبحت قريبة من هدفها لذا نظرت في مقلتيه تجيبه وهي تضغط بكفيها على المكتب وتجز على أسنانها مردفة :
- أحمد بلاش تستفزني إنت كمان ، أيوة أنا تعبت معاك ، كفاية إني وافقت أبعد عن أهلي ومافكرتش أبدًا ولا مرة أنزل أزورهم علشانك ، وبعدين إيه اللي حصلك ؟ ليه بقيت تتعامل معايا بالأسلوب ده ؟ ليه بتتجاهلني وبتتجاهل مشاعري بقالك فترة ؟ يعني إنت موافق إن واحد من موظفينك يقولي أنا ماينفعش تطلعي على الحسابات ؟
دست سمها وسط الحديث ليطالعها بشكٍ لذا تساءل بترقب :
- إنتِ عايزة إيه دلوقتي يا سها ؟
أظهرت دموع التماسيح وزمت شفتيها كأنها على وشك البكاء لذا نهضت تطالعه بحزنٍ ماكر قائلة :
- مش عايزة حاجة ، أنا مروحة .
التفتت تغادر وتركته يفكر في أمرها ، لأول مرة تخبره بأنها تركت عائلتها ورغبتها في زيارتهم بل على العكس كلما طلب منها نزول مصر لرؤية العائلة ترفض بشكلٍ قاطع ، إذًا ما معنى هذا ؟
زفر بقوة حينما لم يصل لشيء وقرر استئناف أعماله وليتركها تفعل ما تريد فهو لم يعد يهتم كالسابق .
❈-❈-❈
بعد ساعتان
كان ترحيبًا حارًا أطفأ نيران ثائر من ردة فعل ديما على رؤية كمال ، لم يحب ذلك الخوف الذي هجم عليها حينما رأته برغم أنه يدرك ماهيته .
منذ أن دلفت وهي تعانق صغيراها وهما يسردان لها من كل حكايةٍ قصة .
داغر منشغلٌ بحديثه مع ثائر الذي سأله مستفسرًا عن المشروع الخاص به ، وديما تستمع إلى صغيريها وتدللهما ومنال تجاورها تطفيء اشتياقها لها بجانب بسمة ودينا اللتان تجلسان بالقليل من التحفظ نسبةً لوجود ثائر الذي حاول أن يعطي انطباعًا بالبساطة في التعامل مع الجميع وبالفعل استطاع الحصول على ودهم .
تحدث داغر معترضًا بنبرته الودودة :
- لا تمشوا إيه انتوا معانا طول اليوم ، ماينفعش الكلام ده .
نظرت ديما إلى ثائر تترقب رده فوجدته يردف بنبرة رصينة :
- الأيام جاية كتير يا داغر بس معلش النهاردة أنا وديما حابين ناخد الأولاد معانا يتعرفوا على جدو أمجد وتيتة علياء ومعاذ اللي نفسه يشوفهم جدًا .
نطقها وهو ينظر للصغيران فطالعه مالك بصمتٍ على عكس رؤية المتحمسة التي ضحكت له فبادلها ونظر نحو ديما يسترسل :
- يالا يا ديما ؟
أومأت له ونهضت تمسك بكفي صغيريها ثم نظرت إلى منال وأردفت بخفوت :
- هاجي تاني يا ماما ، أنا ناوية أنام هنا النهاردة علشان مالك ورؤية وحشينني أوي وانتوا كمان .
انشرح فؤاد منال التي أردفت بحرارة وسعادة خاصة بعدما رأت ثائر واستشفت شخصيته على الطبيعة واستشفت أيضًا وةمحبته لابنتها :
- هستناكِ يا حبيبتي ، سلميلي على أهل جوزك كتير .
ودعتهم واتجه داغر معهما ليوصلهما إلى الأسفل ، دقائق واستقلوا السيارة حيث الصغيران في الخلف فنظر لهما ثائر وسلط عيناه على مالك الشارد قليلًا لذا تنفس بعمق وأدار المحرك ليجد يد ديما ارتكزت على يده فالتفت يطالعها فأردفت بترجٍ :
- ثائر لو سمحت ماترجعش من نفس الشارع .
للحظة كاد أن يعاند ليدرك أن نقطة ضعفه أصبحت الغيرة ولكنه استطاع كبحها وأومأ بصمت ثم التفت يتطلع أمامه ويقود منطلقًا إلى وجهته .
❈-❈-❈
صعد داغر إلى المنزل ينوي التحدث مع بسمة .
دلف ليجد والدته في المطبخ ترتبه ودينا ترتب الصالة ولم يجد بسمة لذا تساءل :
- أومال بسمة راحت فين ؟
أجابته ديما وهي تمسك المكنسة الكهربائية :
- دخلت الأوضة بتقول وراها لسة شغل .
أومأ بتفهم وتحرك نحو الغرفة يطرق بابها فسمحت له فدلف يغلق خلفه ويطالعها ليجدها منغمسة تباشر عملها من خلال الحاسوب .
زفر وشعر بالغيرة من هذا الحاسوب ولكنه تحرك يجلس أمامها فرفعت أنظارها تطالعه بهدوء وابتسمت ليردف بتساؤل :
- بتعملي إيه لسة ؟
تحمحمت تجيبه بإرهاق وعادت عيناها للحاسوب :
- بتواصل مع المستثمر اليوناني ، لازم أحاول أقنعه بمزايا الشركة ، للأسف لحد دلوقتي مافيش غير 3 مستثمرين بس هما اللي قدرت أقنعهم ، أنا اكتشفت إن عمي وابنه عاملين بلاوي تانية وواخدين مبالغ ضخمة من مستثمرين تانيين باسم الشركة وطبعًا ده ماحصلش ، أنا هتجنن .
لم ترُقه هذه الحالة ، هو يحب أن تواليه اهتمامها أولًا كما يفعل هو ، ولكن عليه تقبلها والتعامل معها خاصةً وأنه يعلم ولهها بعملها لذا زفر بقوة وتحامل ليردف بهدوء وطمأنينة ظاهرية :
- كله هيتحل إن شاء الله ماتشليش هم .
تقدر دعمه ولكنها الآن في حالة مشتتة قليلًا لذا نطقت بعفوية آلمته :
- أنا عارفة إنك بتحاول تهون عليا بس خلينا واقعيين يا داغر ، شركة الراوي مش زي الشركة اللي إنت وصالح لسة بتعملوها ، الموضوع معايا معقد جدًا ومش سهل ، الشركات الصغيرة والجديدة بتكون مشاكلها بسيطة وسهل التعامل معاها إنما هنا الغلطة بفورة زي ما بيقولوا ، أنا لو مالحقتش أصلح الشروخ الكبيرة دي يبقى فعلًا هتنهار ومالهاش قومة تاني .
ابتسم ليخفي الشعور السيء الذي شعر به وأطرق رأسه يتنفس مطولًا ثم أومأ بتفهم يجيبها وهو يعاود النظر لها :
- أنا فاهم ، بس بردو عايزك تهوني على نفسك ، أهم حاجة احنا مع بعض .
حدقت في مقلتيه اللتان يطالبان بالحب و الاحتواء كما يعطيهما لها ، من قال أنه داخليًا ممتلئًا بهما ؟ هو يفتقد لمشاعر كثيرة ومجبرًا ومسؤولًا على إعطاء مشاعر أكثر لمن حوله ، هو أيضًا تذوق معاناةً لم يبُح بها لأنه اعتاد التظاهر بالقوة ولكنه معها يصبح كطفلٍ يطالب بالاهتمام والحب .
لثوانٍ تفكر كيف يمكنها مبادلته ما يسعى له دون أي تجاوز كما حدث صباحًا وشعرت حينها بالخجل الشديد .
كانت شاردة في عينيه وكادت أن تتحدث ولكنها انتبهت لصوت رسالة من المستثمر الذي يراسلها فزفرت بقوة وأردفت وهي تعود لمراسلته :
- ثواني يا داغر معلش هخلص معاه ونتكلم .
جلس يطالعها وهي تولي تركيزها واهتمامها لما تفعله وشعر بتناقض يتآكله
من جهة تعهد أن يساعدها في إعادة شركتها كما كانت وأن يمدها بالدعم لتنهض من أسفل حطام عائلتها .
ومن جهة أخرى يطالب باهتمام أكثر وحبٍ أكثر له ليجد أنه معها يصبح أنانيًا على غير عادة وهذا لا يبشر بالخير ، عليه أن يسيطر على هذا الشعور لأنه يدرك جيدًا أنها بسمة الراوي سيدة الأعمال .
❈-❈-❈
تفاجأت ديما من استقبال أسرة زوجها لصغيريها ، لقد زينا المنزل كأن اليوم حفلة عيد ميلاد .
وضعا في كل ركنٍ بصمة مميزة أحبها الصغيران كثيرًا ، لم تتوقع هذا منهما ولكنها تشعر بسعادة ليس لها مثيل ، خاصةً حينما أسرع معاذ يعانق مالك كأنه يعرفه واشتاق له وترك رؤية تتدلل من ثائر وأمجد وانسحب هو ورفيقه إلى غرفته كي يلعبا مباراة حماسية .
دخل مالك في صومعة من الذهول خاصة مع لغة معاذ التي لم يفهمها ولكن ديما كانت هي المترجمة لكليهما .
كانت أجواء رائعة تمنت ديما لو أنها تدوم حقًا وألا يحدث مالا يحمد عقباه ، أخبرها أن تصدق إحساسها وهذه المرة تشعر أن أمرًا ما سيحدث يعكر صفوهما .
❈-❈-❈
انقضى اليوم الممتع والذي أسعد الصغار كثيرًا لتقرر ديما الذهاب مع ثائر لإعادة صغيريها إلى عائلتها .
توقف ثائر بسيارته أمام منزل منال فترجلت ديما مع صغيريها وتبعهما ثائر للأعلى .
لم يصل كمال إلى جواب عن هوية ذلك الغريب ، حتى اتصاله بمحسن لم يثمر عن شيء فذلك الأب لا يعلم عن أولاده شيئًا ولا يريد أن يعلم فهو منغمسٌ في حياته فقط بعد تجاهلهم المستمر له .
ظل يتلوى على جمرٍ مشتعل ولم يعُد لمنزله ولزينة التي تتوعد له بل تحرك قاصدًا الشارع التالي ليسأل أحدهم ربما علم شيئًا ولكنه تفاجأ بذات السيارة تصطف أمامه فاشتعلت نيرانه واندفع بعقلٍ هجومي نحو الأعلى بعدما أكدت له شكوكه أن ذلك الغريب يريد أن يتزوج ديما وربما أتى معها من فرنسا ليطلبها .
طرق الباب بحدة فاتجه داغر يفتح له وحينما وجده أمامه أصيب بصدمة غاضبة ونطق :
- إنت إيه اللي جابك هنا ؟
نطق باندفاع أهوج والغضب يسيطر عليه :
- جاي أشوف أم عيالي اللي راجعة من فرنسا مع راجل غريب .
سمعته ديما كما سمعه ثائر الذي نظر إلى دينا وأردف بنبرة آمرة :
- خدي الأولاد على أوضتهم واقفلي الباب .
أومأت له وأسرعت تسحب الصغيران معها نحو غرفتهما ونهض ثائر يتجه نحو الباب ويقف قبالة كمال الذي يطالعه شزرًا ليردف ثائر باستهانة ونظرة متدنية :
- إنت عامل دوشة ليه ؟
جن جنون كمال واندفع للداخل يقف في مواجهته ويصيح بغلظة :
- وانت تطلع مين إن شاء الله .
تأهبت ديما التي تسارعت نبضاتها وتحركت تقف خلف زوجها بينما تحركت منال تجاورها وبسمة تجاور داغر الذي أبعدها عن الجوار ليضع ثائر كفيه في جيبيه بهيمنة ويردف باستفزاز وابتسامة وسيمة :
- ثائر ذو الفقار جوز ديما .
تجمد كمال للحظات استحوذت عليه الصدمة ، زوجها ؟ هل تزوجت بالفعل ؟ هل سمحت لنفسها أن تتزوج برجلٍ غيره ؟
وقف عاجزًا عن الاستيعاب وقبل أن يلف وجهه قاصدًا النظر نحو ديما ليعاتبها وجد يد ثائر ترتفع وتعيد وجهه بعنف مستطردًا بحدة :
- بص لي انا .
نفض كمال يده وكاد أن يهجم عليه فتدخل داغر يقيده وابتعد ثائر خطوة للوراء ساحبًا ديما خلفه ووقف يتطلع نحوه بابتسامة متشفية وهو يتلوى بين يدي داغر ويصيح بجنون لا يستوعب أنها أصبحت تعاشر رجلًا آخر ، لقد ظن أنها لن تفعلها أبدًا :
- ورحمة أمي لاندمك يا ديما ، وعيالي هاخدهم وهحرق قلبك عليهم .
استطاع أن يشغل غضب داغر الذي نفضه بقوة فاصطدم بباب المنزل فتألم ولكنه تابع بانفعال أهوج :
- ورحمة أمي لاوريكوا مين هو كمال الوراق .
أكمل ثائر استفزازه على عكس داغر المتحفز واسترسل ببرود :
- براحة يا داغر مش كدة ده مهما كان ضيف عندنا .
جملة ثائر جعلت داغر يقبض على تلابيب كمال ويردف مهيمنًا :
- تحرق قلب مين ؟ إنت في وعيك ولا شارب حاجة ؟ غور من هنا .
عاد يدفعه ليخرجه فحاول كمال صده ينتفض بعنف ويسترسل بتهديده بصياح :
- هوريكوا ، ورحمة أمي لاتندموا وعيالي هاخدهم غصب عنكوا .
كاد داغر أن يسدد له لكمة ولكن ثائر أوقفه يستطرد بشماتة ومغزى :
- داغر ، قلتلك مايصحش كدة ، وماتضربوش تحت الحزام علشان خاطر المدام .
أعطاه مفتاح النهاية فرفع داغر ركبته ونفذ كلمات ثائر وركله بضربة متوسطة أسفل الحزام جعلته يتلوى وينحني صارخًا ومتوعدًا لهما فأسرعت منال تقف أمام داغر وتردف قبل أن تتأزم الأوضاع أكثر :
- امشي من هنا يا كمال ، روح لمراتك وابنك الله يسهل عليك .
نهض بصعوبة يغادر دون النظر لأحدٍ منهم فقط نال ما يستحقه وخسر معركته مع نفسه ، ضاعت ديما منه إلى الأبد ، ضاعت وتركت له الندم بعدما ظن أنها النادمة الوحيدة في تلك العلاقة ولكنه لن يصمت ولن يخسر وسيستعمل آخر الكروت الرابحة .
التفتت منال تنظر إلى ابنتها التي شحبت من خوفها على صغيريها فاتجهت تعانقها وتطمئنها قائلة تحت أنظارهم :
- أوعي تصدقي كلامه ، ده واحد مجنون ومتخلف مش هيعرف يعمل حاجة .
التفت ثائر على أثر كلمات منال ينظر لها بضيق ، أتخاف من تهديد ذلك الحثالة على حد قوله ؟ ألم تثق به مثقال ذرة في هذه المسألة ؟
حاول أن يتغاضى عن ردة فعلها ويقدر ما تمر به لذا وقف صامتًا يطالعها وهي تتحدث مع والدتها وبسمة ثم اتجهت معهما حيث سحبتاها نحو غرفة صغيريها .
شعر داغر بما يشعر به فوقف قبالته يردف :
- البني أدم ده عيّش أختي أيام صعبة أوي ، كانت عايشة معاه في خوف وقلق وضغط علشان كدة لما بتشوفه بتضايق ، أنا عارف إنك بتحبها وبتقدرها ، خليك كدة علطول .
وقف يفكر قليلًا في هذه الكلمات ثم أومأ ورفع يده ليرى ساعته لذا زفر وأردف بهدوء ظاهري :
- معلش يا داغر نادي عليها يالا علشان نروح .
أومأ داغر وتحرك نحو الغرفة ليناديها ، دقيقة وخرجت تطالعه وتخطو حتى وقفت قبالته ترفع بصرها إليه وتجلى الخوف في عينيها وساعدها في ذلك بنيته القوية ، لأول مرة منذ أن تزوجها يلمح الخوف منه متجسدًا في نظرتها لذا وقف ينتظر كلمة منها فأردفت وهي تفرك كفيها :
- خليني أنام مع الأولاد النهاردة !
تتمنى ألا يرفض فما حدث الآن كثيرًا عليها ولكنه مجبرٌ على الرفض ، عليها أن تظل معه دومًا وتحت نظره لذا زفر وقال بنبرة جاهد ليجعلها لينة :
- مش هينفع .
- لو سمحت .
قالتها بليونة ورجاء ولكنه هز رأسه برفضٍ ونطق بنبرة صارمة يواري بها خوفه :
- مش هينفع ، يالا .