رواية شذرات الاماني الفصل الخامس 5 والاخير بقلم ساره عبد المنعم



 رواية شذرات الاماني الفصل الخامس بقلم ساره عبد المنعم

 

انتهت امتحانات الثانوية العامة على خير, فقد أبليت فيها أماني جيدًا, وكذلك سهى التي ما لبثت أن عادت إلى بيتها بمجرد الاطمئنان على صديقتها, وجاء اليوم المنتظر, الذي تلهف إلى قدومه الحبيبان بشوق, حضر حمزة مع والديه, وارتفعت الزغاريد في كل اتجاه, أراد حمزة أن يتقدم إليها قبل ظهور النتيجة, فهو يُريد أن يكون جوارها, ويتقبلها أيا كانت نتيجتها, فالمجموع ليس هو نهاية الحياة, وليس بالمقياس الوحيد على النجاح, استأذن حمزة من عمه إبراهيم كي يتحدث معها على انفراد, فوافق على الفور, وسمح له, لتكسو الحمرة وجنتيها, وهو يقول:

ـ الآن يا أماني.. الآن يا حبيبتي سأفي بالوعود, أسأل الله ألا يجمعني بكِ على خير.

علقت أماني نظرها بالأرض, ليرفع حمزة وجهها ببنانه, ثم ثبتها على مرمى بصره, لتتوه في بحر عينيه, وينعكس ذلك الشعور الذي اشتاقه, وتوشي بها, فهي تهيم به عشقًا, ولا يقل حاله عنها, فرددت في ارتباك:

ـ أنا خائفة يا حمزة.. خائفة للغاية, وأخشى أن أخسرك ثانية.

ربت حمزة على يديها, وهو يُطمأنها بنبرة واثقة:

ـ أقسم لكِ يا أماني بأن ذلك الأمر لن يحدث أبدًا, ولن يُفرق بيننا شيء سوى الموت, فلا حرمني الله من وجودكِ.

ـ حتى وإن لم أُصبح طبيبةً و..

هزت رأسه في إيجاب, وهو يُقاطعها:

ـ يكفي بأن حضورك كالبلسم الشافي على قلبي, لا تعلمين والله كم تعذبت في غيابك عني, وبلغ حجم المعاناة في قلبي مبلغًا عظيمًا, فلم أحتمل الحياة من دونك.

سألته في خجل:

ـ أ لهذه الدرجة يا حمزة أنت تُحبني؟

ـ بل وأكثر من ذلك, أنتِ السلام الوحيد الذي يعرفه قلبي, تهدأ ثورته وانفعاله.

طرق خفيف على الباب يقطع عليهما تلك اللحظات الجميلة, هتفت صاحبته في فرح حين سمحوا لها:

ـ أعلم بأنكم الآن ترونني عزولًا, إلا أنني جئت لإحضار الشربات لكم.

ضحكوا من قولها ثم أطلقت زغرودة, دلفت العائلة للداخل عند سماع صوتها, واحتضنت السيدة سعاد أماني بحب, وهي   

تهمس في أذنها:

ـ الآن شاء القدر يا ابنتي أن تعودي إلى أحضاني ثانية, وأقسم هذه المرة بأنني سأتشبث بكِ ولن أفلتك أبدًا يا زوجة ابني.

كان وقع كلماتها كالطرب على أذانها, تشدو فرحًا, ولا تُصدق بأن السعادة في طريقها بعد ما يأست من الحياة كلية, وشارفت

على الرحيل, لم يكن يفصلها عن الموت سوى خروج الروح, أما جسدها فقد كان منتهيًا, نظرت إلى السماء في تأمل, 

وخرجت منها الكلمات في تعجب, لا تُصدق كل ما حدث, وكأنها كانت تشهد كابوسًا مفزعًا:

ـ اللهم لك الحمد يا ربي, لا أعرف حقًا كيف أشكرك؟ غيرت لأجلي المشهد في ثانية واحدة, استجبت دعائي, ولم تردني

 خائبة, ثم جمعتني بحاجتي, تلك الأمنية التي لطالما لهج لساني بها, والآن بقي حلم واحد, وأرجو الله أن تُحققه.

انتصف القمر وجه السماء, وسلب بطلته البهية كل الأنظار, وكان الحبيبان يتأملان المشهد ذاته, وإن اختلفت أماكنهما إلا 

أن القلوب كانت متصلة ببعضها, فقد عاد حمزة إلى البيت مع والديه, وقد اطمأن لبه بعد قراءة الفاتحة, عليه الآن أن يبذل كل 

ما بوسعه كي يبني العش الهانئ الذي سيتخذه وطنًا له مع حبيبته, أما هي خلدها كان مشغولًا بأمنية والديها, وتحدثت مع 

النجوم في رجاء:

ـ لقد سمعت الكثير من الأقاويل عن النجوم, وأنها الأشخاص الذي أحبوننا حين يرحلوا إلى السماء, يُصبحوا نجومًا تُنير لنا 

الطريق في كبد السماء, وتُرافق خطوتنا أينما ذهبنا بكل اتجاه, فهل أنتِ إحداها يا أمي؟ في كثير من الأحيان أشعر بأنكِ قريبة 

مني, فكم أشتاقك, ولا أتخيل حقًا كيف يكون لقائي بك عند الله؟ وماذا كان شعوري ليُصبح وأنا أراكِ حية أمامي؟ لم تُغادرينا.

غفت أماني للحظات, وتغشتها السكينة, وشهدت حلمًا جميلًا حيث تجسدت أمامها والدتها, دار بهما المكان, وتغير الزمان, 

وكأنما عاد بهما إلى الماضي, ورأت كيف كانت جميلة؟ يتجلى النور من إطلالتها الحسناء, تُطل السكينة من بين ملامحها, 

وعينيها تشع بالأمل مع هيئتها الملائكية, ترتدي الملابس الفضفاضة التي اتخذت اللون الأبيض عنوانًا لها, قبلة حانية طبعتها 

على خديها, تُحدثها والابتسامة تعلو ثغرها:

ـ تفائلي خيرًا يا أماني, أسعدك الله يا حبيبتي, غدًا تأتيك البشرى وهي تطير من أجلكِ.

ضمتها والدتها إلى أحضانها, فاستكانت أماني بين ذراعها, ترتشف من عطائها, وتنهال من حنانها, خسرت الكثير برحيلها, 

على الرغم من أنها لم تشعر باليتم في صغرها, وعوضتها خالتها, إلا أن الأمر اختلف كثيرًا عند معرفتها الحقيقة, كان وقعها 

قاسيًا, تمنت أماني ألا تستيقظ, وأن يكون ذلك هو واقعها, ولكن باغتها ما قد قُدر, فنادتها في رجاء:

ـ أمي أين أنتِ؟ أرجوكِ لا تذهبي.

هطلت العبرات من عينيها دون توقف, وشعرت بالاختناق, فما أقساه من شعور حين تلتقي بامرء, وحين تستيقظ لا تجد له 

وجود من حولك, توجهت نحو المرحاض كي تتوضأ, تُبخر المياة بعض من أحزانها, رفعت تكبيرة الإحرام, وأخذت تُفضي 

بشكواها بين يديه حتى غفاها النوم, جاءها رحمة في مكانها, حتى جاءها الصباح, واستيقظت على رنين هاتفها.

ـ مَن؟

أجابت أماني بخفوت, لتصرخ بها المتصلة:

ـ غير معقول, هل ما زلتِ نائمة؟ كيف طاوعك قلبك لتفعلي ذلك يوم نتيجتك؟

انتفضت أماني من مكانها, واعتدلت في هيئتها, وهي تُجيب بخوف:

ـ هل ظهرت النتيجة؟ لا تقولي لي بأنكِ أحضرتها.

ضحكت سهى منها, ومزحت معها:

ـ لن أُخبرك حتى تقولين لي ماذا ستعطينني؟

أماني في استسلام:

ـ أي شيء تطلبينه سأحضره لكِ, ولكن أخبريني أرجوكِ.

أخذت سهى تتلاعب بأعصابها حتى صرخت بها أماني:

ـ حرام عليكِ يا سهى, لم أعد أطيق صبرًا.

فصاحت سهى في فرح:

ـ مبروك يا أماني, هنيئًا لنا بدكتورة مثلكِ يا أختي العزيزة.

انفجرت أماني في البكاء, لا يسعها التصديق, فخرت لله سُجدًا, وأخذت تشكره ثم نظرت إلى السماء في امتنان, وأخذت تُلوح بيديها إلى النجمات التي توارت خلف السحاب, لم يئن بعد ظهورها, وكأنها تُريد أن تتحدث مع أمها, فجاء والدها عند سماع الصوت, نقلت إليه سهى الخبر السعيد عبر الهاتف, انسلت العبرات من عينيه واحدة تلو الأخرى, وارتمى في أحضان ابنته كالطفل الصغير, يشعر بسعادة غامرة, وقد أحضرت له أمه اللعبة التي يُفضلها, أوفت بوعدها له, عبر عن امتنانه:

ـ بارك الله فيكِ يا ابنتي, كم أسعدتِ قلبي حتى شعرت اليوم بأن الأحلام حقيقة, ويمكن للمرء الوصول إليها, الحمد لله الذي أكرمنا بذلك الفضل, أسأل الله أن يُديم جمعنا, ويقر عيني برؤيتك عروسًا, وقد صرت طبيبةً, فيطير قلبي شعادةٌ.

ـ الحمد لله يا أبي, أنا أيضًا سعيدة للغاية, صدقت الرؤى, فقد زارتني أمي بالأمس في المنام.

شرد والدها قليلًا, وهو يسألها في لهفة:

ـ هل حقًا رأيتها؟ أخبريني يا أماني أرجوكِ كيف كانت؟ وما الذي قالته لكِ؟ 

ـ كانت ملاكًا يا أبي, الآن أفهم عليكِ سبب ولعك بها منذ اللحظة الأولى التي جمعتك بها.

أثرت فيه كلماتها, وعزفت الألحان على أوتار قلبه, فسألها:

ـ هل سألتك عني أو تحدثت بأمري في شيء؟

هزت رأسها في إيجاب, وهي تسمعه ما يتلهف له:

ـ هي لا تنساك يا أبي, تعرف النجمات التي نراها قريبة منا في السماء, تجلس أمي في واحدة منهن, فلا تكف عن مراقبتنا ومتابعة شئوننا من بعيد, ومن يدري لعلها تقوم بحراستنا ضد المخاطر والأهوال.

جاءت الجدة فتحية تسأل في استغراب عن سبب الزغاريد, فزف إليها ابنها الخبر السعيد, ولحق بها سعيد في تردد, ووجدته أماني يربت على كتفها في سعادة, وهو يُهنأها:

ـ ألف مبروك يا أماني, مبارك عليكِ يا أختي تحقيق الحلم, أسأل الله أن يُبلغك كل ما تتمنين.

ردت أماني, ونظرات الفرح تنعكس في عينها, لأول مرة تراه مهتمًا بها بذلك الشكل: 

ـ شكرًا لك يا أخي, أرجو الله أن يجعل لك من السعادة نصيبًا.

ـ آمين يا رب, ولكِ بالمثل يا أختي.

طوقهم الأب بذراعيه من الخلف, ثم ضمهم إلى أحضانه, يُريد أن يُقرب بين الأخ وأخته, لقد فرقتهما الظروف منذ الصغر, وفي تلك اللحظة تذكر أخيه محمد, الذي تاه من والدته في طنطا, ودعا الله جهرًا أن يجمعه به, تلك الدعوة التي ما زال لسانه يلهج بها كلما رأى والدته, قلبها يُدمي حزنًا على فراق صغيرها رغم مرور كل تلك السنوات, إلا أن هناك مشاعر لا تتغير تظل تنبض بداخلنا حتى تفيض الروح الطاهرة إلى بارئها, فدار بخلده هاجس, وهتف بهم:

ـ لقد نذرت لله نذرًا, والآن قد حان وقت الوفاء به, غدًا إن شاء الله سنذهب إلى طنطا لزيارة السيد البدوي.

انهارت والدته في البكاء عند سماع اسم المكان, فضمها الحاج إبراهيم إلى صدره, وقبل رأسها, يُبشرها:

ـ مَن يدري يا أمي؟ لعل اللقاء بات قريبًا, أسأل الله أن يرد لكِ ضيعتك, ويجمعك بحاجتك عن قريب, فو الله لم يلبث لساني يلهج بها حتى وقتنا هذا.

نظرت له في امتنان, واستبشرت بقوله, حيث نفذ الأمل إلى قلبه, وذهبت إليه كعادتها كلما احتارت في أمرها, قريب مُجيب ويسمع ندائها, توضأت وتوجهت نحو القبلة, وأفضت إليه بشكواها, حررت كل ما بداخلها بين يديه, فهو يعلم كل شيء, ولا يُخفي عليه حاجتها, طال الليل في مروره, هكذا يكون الحال عند انتظار النهار, وما أن لاح الفجر, كانت العائلة على أتم استعداد للسفر, وحضر حسين بالعربة التي استأجرها لهم, يُناديهم في سعادة غامرة:

ـ هيا يا كرام أقبلوا, لا أريد أن نتأخر على مشوارنا, فأمامنا سفرٌ طويل.

ما بين طرفة عين وانتباهتها توجهت بهم السيارة إلى المكان المنشود, فقد صعدوا على عجل, وشغل لهم السائق سورة يوسف, فتمنت الحاجة فتحية أن يقر الله عينيها بابنها محمد كما قر عين سيدنا يعقوب بيوسف عليهما السلام, وأخذت تُردد معه الآيات التي تحفظها عن ظهر قلب, ويُراقبها الحاج إبراهيم, وكله يقين بعطاء الله وكرمه, كل شيء يكون بإرادته, وإن شاء الله سيُعودون, وقد جبر الله خواطرهم, وجمعهم بما يتمنون.

بعد مرور ساعات..

عبرت السيارة اللائحة المكتوب عليها اسم البلد, التي ارتاعت قلوبهم داخلها في أحد الأيام, ولعلها تشهد اليوم عكس الشعور, ازداد وجيف قلب الحاجة فتحية, فقد استبشرت خيرًا بقرب اللقاء, وما أن خطت بقدميها المسجد, خارت لله سُجدًا, وانهارت في البكاء, أرادت أماني أن تُخفف عنها, ولكن سهى أشارت إليها بأن تتركها في خلوتها مع الله, فقد ذهبت معهم, وأخبرتها بأن الله وحده القادر على التهوين عليها, يُبدل حزنها فرحًا, وبعد مرور لحظات لم تشعر أماني بنفسها, وانهارت هي الأخرى في سجودها, لقد تركت فيها المحنة جرحًا بليغًا وذكرى أليمة تخشى أن تظل داخلها, فقد أصبح الخوف رفيقًا لها, ولم تعد تثق في أي مخلوق بعد ما عانته بفعل السحر, مشروب, مأكول, مرشوش أينا كان, ترتعد مفاصلها عند ذكر اسمه, وتدعو على صانعيه, لا أذاقهم الله راحةً قط في الدنيا ولا الآخرة.

يطوف الحاج إبراهيم الأرجاء, يبحث عنه في كل اتجاه, ولم يترك شخصًا إلا ويسأله, فردد حسين في خوف:

ـ أخشى ألا نعود خائبين يا حاج إبراهيم.

ـ لا تقل ذلك يا حسين, ظني بالله والله لا يخيب.

بينما كانت الحاجة فتحية تدعو بخشوع في سجودها:

ـ أمانة يا رب تجمعني بمحمد, أتمنى أن أراه ولو لمرة واحدة قبل موتي, بلغ الكبر مني مبلغه يا الله, وأشعر باقتراب الأجل, وحدك تعلم متى تحين ساعتي؟ إلا أنني أشتاق والله لفقيدي يا الله, فاقبل دعائي ولا تحجب مسألتي, فليس لي سواك ألتجئ إليه.

أمنت أماني الدعاء من خلفها, فقد استطعت سماعها:

ـ يا رب يا رب اللهم آمين, اجمع تيته بولدها الضائع, واجعل حمزة خير سندًا لي يا رب, اجمعني به زوجةً صالحةً, يتق الله بي وكذلك أنا أحافظ عليه, وفقنا يا الله لأحلامنا, نحن عبادك الضعفاء نرجوك, وما لنا أمل سواك.

غابت الشمس كي تسمح بقدوم الليل, رفع المؤذن آذان المغرب, فزفر الحاج إبراهيم في ضيق, وقد بلغ منه التعب مبلغه, ولاحت معالم الاستياء على وجهه, فطلب من السائق التوقف عند أول مسجد يُقابلهم, رأى البعض يدلفون من خلال شارع صغير, فلحق بهم سيرًا على قدميه, بعد ما ترجل من السيارة, ولحقوا به, وقد ركنها السائق جانبًا, اجتمع المصلون وأقبلوا من كل حدب وصوب, ووقف الحاج إبراهيم وحسين خلف الإمام, صوته شجي, حرك القلوب من مكانها, وجعل الخشوع يتجلى حاضرًا, أسرهم كلية, فلم يعد يشعرون بشيء سوى وقع كلماته, فتعالت الأصوات بعد انتهائه, وردد أحدهم من بين الصفوف:

ـ بارك الله فيك يا شيخ محمد, سبحان الله قصته عجيبة, وكأن الله قد قدر له التيه هنا كي يصبح المسجد له موطنًا, يكبر في كنفه بعد فراقه عن أهله, كان الله في عونهم, وحده الله يعلم حالهم الآن, فابن كالشيخ محمد لا شبيه له ولا مثيل.

هطلت الدموع كالأمطار من عيني الحاج إبراهيم, وسيطرت الدهشة على صديقه حسين مما سمعه, لم يتوقفوا عن البحث منذ مجيئهم, طافوا في كل اتجاه, وما أن سمعوا الآذان لبوا النداء إلى مسجد في الزاوية, لا يسهل للناظر الوصول إليه, ليس بالكبير ولا يقع في شارع رئيسي, ليقترب منه الحاج إبراهيم في غير تصديق, أخذ يُقدم قدمًا ويؤخر الأخرى حتى وصل إليه, ظن الشيخ محمد بأنه حدث معه مكروهًا أو شيء سيئ, فالتفت إليه باهتمام, وسأله في هدوء:

ـ ما بكِ يا أستاذ؟ هل أنت بخير؟

التقف الحاج إبراهيم يديه, وكأنه يبحث فيهما عن أمر ما حتى شهق, وهو غير قادر على الاستيعاب:

ـ محمد .. أخي.. يعلم الله كم تألمنا لفراقك, ولم نترك شبرًا واحدًا لم نبحث فيه عنك.

بدت ملامحه مألوفة بالنسبة إليه, وخاصة حين تفرس فيها, فانسلت العبرات من عينيه, يبدو بأن الله استجاب دعوته, فارتمى في أحضانه, وهو يقول من بين دموعه:

ـ أنت أخي الأكبر إبراهيم صحيح.. لطالما تمنيت أن أكبر تحت ناظريك يا أخي, ولكن شاء القدر لي أمرًا آخر.

كان اللقاء حميمًا بينهم, وتشبث الأخ بأخيه, يخشى أن يضيع منه, أو تحرمه الحياة منه مرة ثانية, وما لبث أن سأله عنها, أول ما يخطر على بال الابن حين يجد عائلته, فأجابه في ألم:

ـ ما زالت تنتظرك يا أخي, ودموعها لا تجف على أمل أن يجمعك الله بها, وإن شاء الله يكون الآن, فهيا بنا لأخذك إليها.

ذهب الإخوة معًا, وتوجها إلى المسجد, وفي توجس خطا محمد المسجد الذي تاه فيه منذ الصغر, وجدها كالملاك نائمة بعد ما استبد بها التعب, وأنهكها البكاء, فجاءها النوم رحمة, غفاها النعاس حتى تهدأ قليلًا, وتسكن أركانها, ناداها في صوت خفيض يحمله الشوق, خشية من إفزاعها, إلا أنها فتحت عينيها على عجل, واتسعت حدقتهما, وهي تضم وجهه بكفوفها في غير تصديق, ولا تجد من الكلمات ما يُعبر عن وضعها, ويصف مقدار سعادتها, حتى قال تلك الكلمة التي افتقدت سماعها منه:

ـ أمي..

ضمته بقوة إلى صدرها, وهي تبكي:

ـ محمد ابني .. نور عيني وملاذ روحي.. كم اشتقت إليك يا حبيبي, فكم كنت أتمزق في غيابك, ولم أغفر لنفسي كونني أضعتك, وقد حدث ذلك والله دون قصد مني.

يمسح محمد عن وجهها العبرات, وهو يُهدأها, ويختار الكلمات المناسبة ليربت على قلبها:

ـ لا ذنب لكِ والله يا أمي, لقد كان ذلك قضاء الله, ولو رأيتِ والله الخير الذي أنا فيه لسعدت لأجلي, وأدركتِ حكمة الله.

تستمع إليه الحاجة فتحية باهتمام, والشوق يبلغ ذروته, كبر الصغير وأصبح لديه زوجةً وأبناء, له شأن عظيم رغم كل الصعاب التي ألمت به منذ نعومة أظافرها, صنعته العناية الإلهية, وحفظته لها كل الدعوات, ليعود إليها في النهاية, ويجعلها تتعجب من قدرة الله, سبحانه قادر على تغيير كل شيء, ويُسخر لأجلك الكون بأكمله.

ـ هذه زوجتي أمينة يا أمي.. هدى .. أميرة, تعالوا إلى هنا.

قبلت زوجته يد أمه, وما أن أقبلت الفتيات, عرفها عليهم قائلًا:

ـ هؤلاء بناتي يا أمي.. وهذه هي جدتكم, التي لطالما حدثتكم عنها.

هللت الفتيات, ورحبن بها بحبور, بينما كانت أماني مشدوهة من تغير الأحداث, من يدري بأنها كل تلك المفاجأت كانت بانتظارهم, وخبئت لأجل الجدة, يعوضها الله خيرًا على صبرها, وقررت البقاء معهم حتى يُرتب محمد أموره, وينتقل مع عائلته إلى حيث موطنه, ويكون قريبًا من أخوته, وينال نصيبه الذي يستحقه.

في الطريق إلى المنزل, همست سهى لأماني:

ـ سبحان الله يا أماني, كم أن الله عظيم ذو الجلال والإكرام حقًا, والله لو تأملتِ في كل ما حدث حولكِ, لأدركت كم نحن لا شيء دونه, لقد فقدتِ والدتك منذ الصغر, فوضع الله الحنان في قلب خالتك, لتقوم بدورها معكِ كما فعلت مع والدتك من قبل, تولت رعايتك, وساعدها في ذلك حمزة, الذي أحبك وما أن كبرتِ قرر إبعادكِ عنه كي تعودي إلى بيت أبيكِ, وتستجاب دعوته ثم بعد ذلك مكرت بكِ زوجة عمك كي لا تصلين إلى حلمك, وتُصبح الثروة من نصيبها هي وابنتها, التي ادعت على أخيكِ بالباطل, ثم معرفة جدتك للحقيقة بعد ما هداها الله لما تصنعه تلك الساحرة, فانفكت العقد وزال السحر عنكِ في الوقت المناسب, وضياع عمك في صغره, ورغم حجم الصعاب بالخارج, والحرام الذي أصبح سهلًا, وتفشى كالسرطان بكل مكان, إلا أن الله حماه, وأصبح إمامًا للمسجد, قدوة حسنة والكثير من الشباب يهتدي به, تعلمين كل ذلك يُذكرني بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم عنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ كُنْتُ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ يَوْمًا فَقَالَ:

«يَا غُلَامُ إِنِّي أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ احْفَظْ اللَّهَ يَحْفَظْكَ احْفَظْ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلْ اللَّهَ وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَاعْلَمْ أَنَّ الْأُمَّةَ لَوْ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ وَلَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ رُفِعَتْ الْأَقْلَامُ وَجَفَّتْ الصُّحُفُ. رواه الترمذي 

تبسمت لها أماني, وهي تقول:

ـ وكذلك قول الله تعالى في الآية الكريمة: 

(وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يمسسك بخير فهو على كل شيء قدير) الأنعام (17)

ـ الحمد لله يا أماني, الحمد لله أننا مسلمون, ونشهد أن لا إله إلا الله, وأن محمدًا رسول الله, فالله هو العون والسند الذي نتقوى به, فيهون كل عسير, وتنفرج الصعاب مستسلمة أمام عظمة الله وقدرته و..

ـ ولا تنسى نعمة الدعاء يا سهى, فكل الأحلام قابلة للتحقيق ولنا ربٌ ندعوه, وتجتمع الأماني في حبور, الله دومًا يعلم أين يكمن لنا الخير, ويختار ما يُناسبنا, فاللهم يا رب ارزقنا الرضا.

قبلت سهى رأسها, تشعر بالفخر الشديد بها, وقد تغيرت نظرتها, لم تعد خائفة, تستقبل الحياة بنفس راضية, وقلب مفعم بالأمل, ستبذل أقصى جهدها كي تصير ناجحة في مجالها, وتُعين حمزة في الطريق, فالحياة محطات, وكلما وصلنا إلى محطة ظهرت أمامنا صعاب جديدة, والناجحون هم الذين يتأقلمون مع الظروف, بل يُغيرونها كي تليق بهم, يصطبروا على مشاق الدنيا, فهي ليست بدائمة.


تمت

لمتابعه روايات سكيرهوم زورو موقعنا علي التلجرام من هنا

تعليقات



×