رواية اشتد قيد الهوي الفصل السابع بقلم دهب عطية
في ردهة المشفى العامة تقف نهاد بين زملائها عيناها تلمعان بالتركيز... شغوفتان بكل ما يحدث حولها.
هذه أولى زياراتها الميدانية كطالبة في السنة الثانية من كلية الطب.
قد ارتدت معطفها الأبيض وأسدلت سماعتها الطبية حول عنقها وبرغم من أنه لم يَحِن أوان استخدامها بعد إلا أنها كانت هدية أيوب لها بعد أن نجحت بامتياز في السنة الأولى كطالبة متفوقة طوال سنة الدراسة بشهادة أساتذة الجامعة...
اليوم هناك شيءٌ تغير في هذه الزيارة
القصيرة....
لم تكن مجرد طالبة تحفظ التشخيصات والأدوية من الكتب بل أصبحت ترى الطب بعيون مختلفة...
اخرجت دفترها وراحت تدون ملاحظاتها عن بعض الحالات التي تراها وتعليقات الطبية من استاذها الوقور......
بدأت تسير في الممر بين زملائها ورائحة المطهرات الممزوجة بالأدوية تزكم أنفها وتضفي شعورًا غريبًا بين الفرحة والرهبة من مستقبل ينتظرها هنا... في علم تعشق تفاصيله وشغوفة بمعرفة المزيد عنه.
توقفت نهاد فجأة متسعة العينين وقد تابع زملاؤها والطبيب المشرف عليهم السير.
عادَت أبرار التي توقفت عندما لاحظت
وقوف صديقتها تقدمت منها أبرار تسألها بقلق..
"في إيه يانـهـاد؟....وقفتي ليه؟...."
نظرت نهاد الى غرفة الطوارئ المفتوحة صفوف الأسرّة مصطفة بعضها مشغول بمرضى تخطوا مرحلة الخطر بينما هناك القليل في حالة طارئة يعانون من الجروح والنزيف. وهو... هو واحد منهم مصاب بطعنة في جانبه الأيسر... قميصه ملطخ بالدماء... يئن متألمًا مستنجدًا بأي أحد يوقف نزيفه ويسكن
ألمه....
انطلقت نحوه دون تردد يقودها قلبها الخافق بالوجع بعد رؤيته بهذا الشكل جريحًا متألمًا ملابسه مليئة بدماء
"سلامة.."
توقف عن التأوه وهو يدرك وجودها أمامه في أشد وأصعب اللحظات ألمًا وضعفًا طلت عليه
بهية الطلة حسنة الشكل بمعطفها الأبيض الهفهاف وسماعتها الطبية حول عنقها ووشاح رأسها الملتف بأناقة يضفي سحرًا خاصًا عليها
"مين عمل فيك كده؟...وفين الدكتور؟.."
تساءلت نهاد وهي تجلس على حافة الفراش بجواره ثم مدت يدها تفتح أزرار قميصه بتركيز شديد.
توقفت أنفاس سلامة متوجسًا ومحرجًا وهو يراها تتعامل مع الأمر بسلاسة كطبيبة أمام حالة طارئة. هي طبيبة بالفعل، لكنها ما زالت في مرحلة الدراسة ولم تحصل على القب
بشكلا رسمي لكنها مسألة وقت وصبر.
ومن غيرها يستحق أن يكون؟
صاحت أبرار توقفها عما تفعله بعدم رضا.
"نهاد بتعملي إيه....غلط كده....لو حد من الدكاترة شافك هتحصل مشكلة...."
أخرجت نهاد علبة الإسعافات الصغيرة من حقيبتها وهي تقول بملامح جامدة رغم أن النظرة في عينيها مرتعبة عليه لكنها تقاوم تقاوم مشاعرها بجهاد مع قلبٍ ملتاع في حضرة من يهوى !...
"هوقف النزيف بس.....أصلا الجرح محتاج
خياطه....."
رفعت عينيها عليه تسأله بحنق شديد كأم
توبخ ابنها.....
"مين عمل فيك كده؟....إمتى هتبطل عمايلك
دي....حرام عليك بجد نفسك....."
لم يرد عليها بل ظل يحدق بها ببلاهة ورغم الألم الذي يطعن جانبه الأيسر بقسوة أسفل قطنة يدها كان يشعر أن الجروح تستكين وعيناها عليه كانتا كـمسكن يخفف من وطأة الضعف...
"مين المتوحش اللي عمل فيك كده ؟!..."
سالته فامتنع عن الإجابة فقالت بشراسة
أنثى......"لازم نبلغ....."
حينها رفض سلامة بالقول....
"مش مستاهلة انا كويس....."
وقبل أن ترد عليه بتقريع لاذع يعيد إليه عقله الغائب أتى صوت طبيب الطوارئ الذي صاح مستهجنًا...
"بتعملي إيه عندك يا آنسه؟....."
توقفت نهاد عما تفعل ونهضت من مكانها تبتلع ريقها بارتباك من عواقب تسرعها....
قالت بتبرير......
"انا كنت بحاول اوقف نزيف الجرح...."
تحدث الطبيب بصرامة....
"ومين سمح لحضرتك تعملي كده...انتي
شغاله هنا؟...."
هزت رأسها نفيًا فدقق النظر بها ثم قال
"طالبة مش كده؟....."
أومأت برأسها مؤكدة فقالت أبرار مساندة لصديقتها....
"معلش يادكتور....اصل مـ......."
قاطع سلامة الحديث بصوتٍ خافت متألم قليلا...
"انا اللي طلبت انها تساعدني....صعبت عليها فعملت كده....انا اسف يا آنسه لو سببتلك مشكلة..."
نظرت له نهاد بغضب فقال الطبيب بقلة
صبر...
"ياريت تتفضلوا انتوا الاتنين تلحقوا زمايلكم والدكتور اللي بيشرف عليكم...."
أومأت أبرار بالموافقة دون اعتراض وتحركت قبل صديقتها بينما اقتربت نهاد من سلامة وعلى مرأى عينَي الطبيب المراقب باستهجان.
مالت على سلامة تقول بجرأة لطالما انهزم أمامها وكأنه لم يلهو يومًا مع جنسها....
لكنها نهاد ويكفي أن يكون أمامها كطفل شقي كتلميذ مشاغب، كشاب مرتبك ، كرجل خجول أمام النساء.. غريب الأطوار في حضرتها !....
"هجيلك تاني......ساعة بظبط وهتلاقيني عندك....."
ابتعدت بعدها ومعها هاجرت خفقات قلبه وجفّت الدماء من وجهه وبقي جافلًا في
مكانه كزرع يابس...
...........................
بعد ساعتين تقريبًا كانت تطل عليه بابتسامة جميلة وعينين رغم صفائهما إلا أن العتاب فيهما بحر يبتلعه.
جلست بالقرب منه على المقعد اخرجت علبة من العصير وقدمتها له قائلة...
"أشرب ده عشان الدم اللي نزل منك...الدكتور طمني عنك...."
ثم برمت شفتيها مستنكرة....
"بس طول ما انت ماشي في السكة دي انا عمري ما هطمن...."
ظل يحدق بها دون تعليق فقالت بعدم
رضا.....
"مش ناوي تقولي مين عمل فيك كده؟..."
رد عليها بنبرة متوعدة.....
"واحد حمار....مطمرش فيه العيش والملح
بس مصيري هردها ليه...وبالقوي....."
قالت بصوتٍ اختلط فيه العتاب بخيبة
الأمل...
"وانت بقا اللي طمر فيك العيش والملح؟..."
أخرج زفرة ثقيلة من صدره وهو يبعد عيناه
عنها قائلاً بعذاب...
"متزوديش عليا يادكتورة...انا عارف غلطي
وقريت بيه...."
قالت بقسوة....
"وهيفيد بي إيه بعد اللي حصل...."
تاففت بحنق وهي تشير على العلبة التي بين
يده....
"أشرب العصير....."
رفض وهو ينظر الى العلبة التي كان يمسكها
"مش عايز...."
نظرت نهاد إليه بحنق وعيناها تتفحصان جذعه الملفوف بالشاش وجسده الضعيف المنهك الراقد على فراش المشفى بلا
حول ولا قوة...
"متعندش ياسلامة انا بنصحك لمصلحتك...
لنفسك مش ليا...."
صاح سلامة واجمًا....
"كانت غلطه....غلطه وعمرها ما هتكرر..."
توسعت عيناها وهي تساله بشك...
"بجد....يعني مش هتمشي في السكه دي
تاني...."
قال سلامة بعينين تترجيان السماح منها ومن قلبها الملام عليه....
"توبت.... والله العظيم توبت...بعد اللي حصل لأيوب بسببي حلفت يمين بالله عمري ما هرجع للسكة دي تاني مهما حصلي....صفحة وقفلتها...وربنا يسامحني ويرضى عني...."
قالت نهاد بابتسامة حانية....
"هيسامحك لو بجد هتتغير....زي ما بتقول.."
اوما براسه بحرارة......
"هتغير يادكتورة.....المهم تصدقيني...."
خفق قلبها بين أضلعها خفقةً تختلف عن خفقات الحب في حضرة الحبيب !...
بلّلت شفتيها تسأل بنظرة قلقة من الإجابة
رغم لهفتها لسماعها... أو حتى التلميح بها...
"وليه المهم اصدقك؟...."
ارتبك أكثر منها وهو يدرك انه تسرع
في ردة فعله. فقال بتلعثم....
"علشان....علشان انتي....انتي مهمة اوي
عندي....زي....زي أيوب....نفس غلاوته
عندي....."
رفعت حاجبها معقبة بغموض......
"نفس غلاوة أيوب !..."
أومأ براسه وهو يغير مجرى الحديث
ببراعة قائلا.....
"تفتكري هيسامحني بعد اللي حصل ده كله....."
قالت بتفاؤل بعد تنهيدة طويلة.....
"بيقوله تبات نار تصبح رماد....مصيره يصفى من ناحيتك هو بيعزك وكان شايفك أخ ليه.."
"اديكي بتقولي كان....."
قالت بنظرة جادة....
"آه.... والموضوع متوقف عليك هنا...."
سألها بعدم فهم...."مش فاهم...."
قالت بصبرٍ كمعلمة تبسط المعلومة لتلميذها
"يعني لو أثبت فعلا انك اتغيرت....أكيد هيرجع
الود بينكم....."
"وانتي....."
سألها والنظرة في عينيه متأججة بالمشاعر
الحارة....
ادعت الحيرة بالسؤال..... "انا ايه ؟!...."
بلهفة طرح السؤال وصدره يموج بالكثير....
"هيرجع الود ؟......"
رفعت حاجبيها بدهشة من كلمات خرجت
منه دون تفكير تاركه اثرًا غامضًا بينهما !....
"قصدي هتصدقي اني اتغيرت؟...."
سحبت نفسًا مرتجفًا تهدئ اضطرابها ثم ردّت بعقلانية...
"بالافعال مش بالكلام أكيد هصدق...."
قالت وهي تشير على العلبة مرة أخرى....
"اشرب بقا العصير..... وكفاية رغي عايزين
فعل يا أستاذ بس بعد ما تقوم بسلامة
ان شاء الله...."
حدقت به لوهلة ثم قالت بحزم واضح كأم تحذر ابنها من أن يسيء التصرف مرة أخرى
"وياريت ياريت أول حاجة تعملها تشيل
من دماغك انك ترد على اللي عمل فيك
كده بنفس أسلوبه ابعد عن السكة دي بقا وعن كل الناس اللي منها...."
عيناها تراقبان ملامحه بحثًا عن أي رد فعل قد يكشف ما يدور في رأسه... لكنه ظل صامتًا محتفظًا بجموده لا يمنحها إجابة مريحة...
..............................................................
وضع كوب الشاي جانبًا ثم نظر إلى بضاعته المفروشة في السوق المزدحم والتي عُلِّق بعضها أمام الزبائن.
هناك من يدخل يُلقي نظرة يسأل عن السعر
ثم يخرج وهناك من يبدأ وصلة الفِصال التي تُشبه حربًا كلامية بينه وبين الزبون...
الناس تمر من أمامه منهم من يُلقي نظرة عابرة باردة وآخرون بوجوه مهمومة قانطة.
الجميع في حلقات مغلقة، يَدورون داخلها مُرغمين، مُكبَّلين... تفترسهم الكآبة وتُثقِلهم الهموم بوجوه مُجهَدة... وقلوب مُرهَقة.
شرد الذهن فيما حدث معه منذ يومين عندما أتى (كمال الموجي) إلى عقر داره يسأله عن ابنته بنظرات قلقة لا تخلو من الاتهام.
(فين بنتي يا أيوب ؟....)
(موجوده اتفضل.....)ابتعد ايوب عن الباب يشير له بالدخول....
بالفعل دلف كمال الموجي إلى الداخل على الكرسي المتحرك الكهربائي ثم أشار للسائق
أن ينتظره بالخارج
(تحب تشرب إيه....)
رفض كمال بوجهٍ مكفهر....
(مش عايز حاجة انا عايز اشوف نغم...نغم
بنتي...هي فين بظبط؟.....)
وقبل ان ينطق ايوب بحرف ظهرت نغم بوجهٍ
مصدوم من وجود أبيها هنا....
(بابا.....)
بلهفة نادى عليها بعينيه القلقتين ويده تدعوها للاقتراب. ففعلت، ووجهها مذهول، وعيناها تسألان أيوب عما يحدث هنا
ضمها والدها إلى صدره ثم قبلها فوق خصلات شعرها هامسًا بحشرجة...
(الحمدلله انك بخير.....الحمدلله انك محصلكيش حاجة إزاي تخرجي من غير
حرس....هو ده اللي اتفقنا عليه من اخر
مرة ؟....)
سألها بنبرة لا تخلو من العتاب فاحمر وجهها على إثره بحرج وابتعدت عنه معتذرة...
(انا كويسة يابابا.....)
امتقع وجه والدها موبخًا.....
(ازاي كويسه أيوب أتصل بيا وحكالي على
كل حاجة....)
(أيوب؟!.....أتصل بيك....)
إدارة راسها اليه مشدوهة توجه له نظرة غاضبة بعتب.....
تابع والدها بضيق بالغ.....
(مكنش المفروض تخرجي يانغم إزاي تستهتري بحياتك....انتي مش عارفه انا
كان هيجرالي إيه في الساعتين اللي عدوا دول....انا كنت هموت من الخوف عليكي
يابنتي...)
عادت بعينيها الرماديتين إلى والدها تقول بحنو...
(بعد الشر عليك يابابا انا كويسه والحمدلله
محصلش حاجة....)
(دا ستر من ربنا...وللمرة التانيه يكون
أيوب السبب....)
أشار كمال إلى أيوب بنظرة تقدير وامتنان حقيقي لهذا الشاب الذي ظهر في حياتهما من العدم، وحافظ على حياة ابنته مرتين على التوالي.
(انا مش عارف اقولك ايه يا أيوب بس انت انقذت حياتي انا مرتين مش هي....لأن من الواضح ان بنتي عايزة تنتحر بس بطريقة
غير مباشرة.....)
ألقى نظرة معاتبة عليها مما جعلها تنكمش
على نفسها وهي تقف قائلة بحزم...
(بابا ارجوك.. نتكلم في البيت وعاتبني زي
ما انت عايز....)
علق والدها بنظرة ثاقبة...
(وقت العتاب انتهى يانغم....انا هنفذ اللي بفكر فيه وجيت عشانه.....)
سألته بريبة.....(يعني إيه؟.....)
شعر أيوب بعدم الارتياح لوجوده هنا بينهما فقال منسحبًا بلباقة...
(طب اسيبكم تاخدوا راحتكم في الكلام على ما اجيب انا حاجة تشربوها....)
رفض والدها بأمر....
(خليك يا أيوب انا عايزك....)
(خير ياكمال بيه....)جلس أيوب على الأريكة بالقرب منه وجلست نغم على الطرف الآخر من الأريكة متأهبة للقادم بعدم ارتياح...
فـتلك النظرة في عيني والدها تعرفها جيدًا. سيستخدم السلطة والمال كبطاقة رابحة للوصول إلى مبتغاه...
وما مبتغاه إذًا...
(انت شغال إيه يا أيوب حاليا ؟....)
سؤال غريب ولم تفهم بعض المغزى منه، سمعت أيوب يجيب بسلاسة...
(ببيع هدوم في سوق (...).....فارش على الرصيف وكده....خير؟....)
لمعة عينا والدها بظفر فالاجابة سهلة
الكثير عليه.....
(انا عايزك تشتغل معايا....وبالمرتب اللي تطلبه...حط الاصفار اللي انت عايزها وانا موافق عليها )
اتسعت عينا أيوب بصدمة سائلا....
(اشتغل إيه بظبط...انا اخري في الهدوم ابعها مبعرفش اخيط ولا اصمم.....)
نظرت له نغم بصدمة، لماذا ينكر الأمر بهذه السرعة دون أدنى تردد؟ أخبرتها نهاد أنه كان يتعلم هذا المجال خصوصًا تصاميم والدها !
(لا مش في الشركة...تشتغل مع نغم....تكون الحارس الشخصي بتعها.....)
قفزت من مكانها تصيح بدهشة.....
(إيه ؟!!!....مين ده؟.....باااااابااااا.....)
اشار والدها اليها بالسكوت بينما تجاهل ايوب
استنكرها وهو يقول.....
(بس انا مبفهمش في الحاجات دي ومش اي حد ينفع يبقا بودي جارد.....)
وضح والدها الأمر من منظورة....
(مش هتكون بودي جارد بالمعنى الحرفي للكلمة لان كده كدا هي عندها حراسه شخصية ودول لا غنى عنهم بس انا عايز شخص موثق
فيه يبقا معاها طول الوقت زي ضلها...حد عنده ضمير يفديها برقبته لو وصلت لكده
ميترددش لحظة....وانا مش لاقي حاليا
حد مناسب للمهمة دي غيرك....)
صاحت نغم برفض القاطع.....
(بابا انت بتقول إيه... مستحيل....)
هتف والدها بنبرة حازمة جادة.....
(المستحيل اني اسيبك تكرري غلطتك تاني
ساعتها التمن هيكون عمرك.... وانا مش
متنازل عنك....)
ارتاب أيوب من كلاهما فسأل مستفسرًا...
(مش فاهم بظبط.... مين الناس اللي بتجري
وراها دي؟ وعايزة منها إيه؟....)
هتف والدها بكلمات تحمل عرضًا مغريًا....
(من حقك تفهم....بس قبل ما ترفض...فكر فيها
زي ما قولتلك المرتب اللي تطلبه...صاحبك قال قبل كده ان كان حلمكم السفر برا والشغل هناك...لو أشتغلت معايا هتاخد ضعف المرتب أربع مرات ومعنديش مشكلة اقبضك بالدولار....)
لم يعقب أيوب بل ظل يراقب حديثه محاولًا فك شفرات المغزى من هذا العرض السخي.
تحدث والدها بمنتهى البساطة والصراحة بينما هي تقف بينهما تتابع ما يحدث بوجه خالٍ من التعبير.
(اسمع يا أيوب بنتي اتورطت في شبهة جنائية...في واحد كان معجب بيها من أيام
الجامعة وهي اتعملت معاه كزميل مش أكتر
لكن كان مُصر على الارتباط بيها...
رفضته اكتر من مرة لمدة تمان سنين في الاخر من كام شهر اكتشفنا انه مات منتحر وكتب في الرسالة انها كانت سبب انتحاره....
النيابة حققت حولين الموضوع ومزالت القضية مفتوحة وشكين انها ممكن تكون جريمة قتل واللي عملها حد عايز يخلص
من نغم....زي ما خلص من أسر العزبي.....)
(مش عايز ادخلك في تفاصيل أكتر بس اللي أقدر أقوله ان اسر العزبي بشهادة كل الناس اللي تعرفه وبالتذكرة اللي اشتراها مع صحابة لحفلة كان ناوي يحضرها في نفس ليلة
وفاته كلها ادلة تثبت انها قضية قتل مش انتحار عشان كده القضية لسه مفتوحه...نغم
معلهاش مُسألة قانونية...لكن المجنون
ابو الولد مصمم انها سبب موته فعلا
عشان كده بقالنا شهور في الوضع ده...)
علق أيوب وهو ينظر نحو نغم.....
(يعني عايز يقتلها ؟...)
التوى فك نغم متشنجًا فهذه هي الحقيقة التي قلبت حياتها رأسًا على عقب....
رد والدها بنيابة عنها قائلا بوجه تغير
لونه الى الغضب والضيق....
(شكري العزبي مش غبي عشان يلبس نفسه
في الحيط لان لو ده حصل فعلا هو المتهم الوحيد قدامهم....لأننا عملين اكتر من محضر بسبب جنانه ده....دا غير ان القضية لسه مفتوحة وفيه جاني....لكن هو مقتنع ان الجاني هي بنتي عشان كده ماشي في
طريق الابتزاز والترهيب....)
قالت نغم دون مقدمات بنبرة خالية من الحياة والتعبير....
(لحد ما العين تبعد عنه....ساعتها مش هيتردد
ياخد بتار ابنه...)
صاح والدها رافضًا وهو يقول....
(مش هيحصل.... القضية تخلص وهتسفري
وهتبعدي عن هنا خالص...انا رتبت كل
حاجة..)
ثم عاد الى أيوب شارد الفكر عنهما....
(انا عايزك تشتغل معايا يا أيوب لحد بس ما القضية تتقفل.... عايزك تكون السواق والحارس الشخصي لـ نغم... وهيبقا
معاك حراسة تحت إيدك كمان...عايزك
تكون زي ضلها.....الفترة دي بس وبالمرتب
اللي تطلبه....)
رفض أيوب بقلق واضح......
(الموضوع في دم ياباشا....وانا ماشي جمب الحيط....ومليش غير امي واخواتي البنات...)
اخرج كمال زفرة استياء وهو يقول
باقناع.....
(شكري العزبي ميهموش غير بنتي.....وجودك جمبها مش هيأثر عليك بالعكس دا شغل زي اي شغل....وزي ما فهمتك العزبي صعب يرفع
سلاحة على اي حد لا من بعيد ولا من قريب....)
ترجاه بعيني أب قد تجرد من النفوذ الذي
كان يتباهى بها منذ بداية الجلسة...
(دي مسالة وقت يا أيوب على ما القضية تخلص....)
لم يرد عليه أيوب فهو يشعر أنه يقف على حبل رفيع والنار من الأسفل كألسنة من لهب. لا يعرف أي القرار الصحيح يسلك...
هل يحصل على أموال طائلة من مهمة لن تطول مدتها، أم يكتفي بحياته البسيطة وعائلته ولا يجازف بكليهما؟
عيل صبر نغم فاقتربت من مقعد والدها تنهي الأمر بصوتٍ محتد...
(أرجوك يابابا كفاية كده.... خلينا نروح
البيت و نتكلم....)
تجاهل كمال ابنته وهو يقول لأيوب
بنبرة ذات معنى.....
(خد وقتك يا أيوب في التفكير انا مش مستعجل على الرد دلوقتي.... بس افتكر انها فرصة العمر....فرصة مش هتكرر تاني....)
........................................................
ترجلت من سيارتها وحدها كالعادة خرجت دون علم والدها...
اخترقت القوانين قوانين وُضعت حديثًا
لتكبل حريتها وتربط سيرها ومشاويرها
برجال مفتولي العضلات يتبعونها أينما ذهبت...
لا تلوم والدها فما يفعله بدافع الحب والحفاظ على حياتها لكنه سئمت هذه الحياة. لا الموت يأتيها وينهي الأمر ولا طوق النجاة يجدها...
الأمر معقد والأكثر تعقيدًا دخول أيوب عبد العظيم في عالمها... لماذا هو؟ ولماذا يصر والدها عليه؟ وما هذه الثقة المزعومة التي يضعها في رجل غريب؟
غريب؟! حقًا أصبح نطق هذه الكلمة هو الأغرب يا نغم.
متى وكيف تسلل إليها بهذه السرعة؟!
سارت في السوق المزدحم والذي يعج بالناس والبائعين. لأول مرة تدلف إلى سوق شعبي... وفعلتها.
رأت أن البعض يتابعها بعينيه، فحدّقت في ملابسها تتأكد أنها ارتدت طاقمًا أنيقًا وساترًا لتفاصيل جسدها...
ليست من عادتها ارتداء هذه الملابس، فهي نغم الموجي، ابنة مصمم الأزياء المعروف. عاشت حياتها تنتقي الثياب العصرية، ولم تفرق معها سوى القصّات والشكل، لكنها تعلمت أيضًا أن لكل مكان ملابسه الخاصة، وأن المرأة قادرة على التنوّع شكلًا وطلة في كل مكان تدلف إليه...
لذلك اختارت ملابس مناسبة لهذا السوق الشعبي، وتركت شعرها منسابًا على ظهرها، وأخفت ملامحها بنظارة شمسية بنية باهظة، واكتفت بمرطب شفاه.
لكن يبدو أنها لفتت الانتباه، وهالة الثراء تشعّ منها مهما حاولت إخفاءها !.....
عادت عيناها تدور حول السوق مجددًا تتأمل تفاصيلة....
إن المكان نابض بالحياة، والناس في كل مكان حولها...
مُحاط بمباني قديمة من زمن ولى مع أصحابه
كذلك يحمل عبقًا مختلفًا للزائر، من توابل تفوح منها روائح زكية، إلى أقمشة ملوّنة تتلألأ تحت أشعة الشمس، تُغري الناظر... عطر الأشياء الجديدة مع رائحة البخور الآتية
من مكان لا تعلمه بعد.
وملابس هنا وهناك مختلفة الشكل والتفاصيل،
وكل محل مخصص لفئة معينة.
كذلك أصحاب المحلات ينادون على الزبائن في الشارع...
"تعالى شوف عندي حته حلوة هتعجبك...."
"تعالى اتفرج ولا انت عايزة....."
وهناك من يصيح وهو يقف على أعلى الطاولة وخلفه ملابس معروضة للبيع وقد كُتب عليها
سعر رمزي بالنسبة لها...
"اوكزيون ياهانم اوكزيون يابيه مش هتلاقي
غير هنا....قربي وشوفي يامدام..."
انتفضت مستدير الى من كان يصيح بالقرب
منها...
"اي كوتشي بمية وخمسين جني عروض محصلتش قرب وشوف....."
عادت عيناها إلى رجلٍ يمشي بين المحلات، يحمل مبخرةً نحاسية تفوح منها رائحة العود والمسك، في خيوط دخانٍ كثيفة تتصاعد منها...حرّك المبخرة قليلًا فملأ المكان برائحة البخور..
"صلي على اللي هيشفع فيك......يارب....."
صاح بها الرجل وهو يدلف إلى محلٍ مجاور لمكان وقوفها فقال صاحب المحل بوجهٍ بشوش..
"عليه افضل الصلاة والسلام... بخر حلو يارجل ياطيب خلي البركة والرزق يهلوا علينا......"
زمجر رجلا على فرش آخر وهو يضرب صبي
في عمر الثانية عشر على مؤخرة عنقه...
"اصطبحنا وصبح الملك لله مش قولتلك متسبش الفرش لوحده......"
شاب اخر هدر بغضب في وجه زبونة ثرثارة.....
"أختيي انتي هتشتري ولا هتتعبينا معاكي
ما قولنا مفيش فصال....."
رأت شابة تقاربها عمرًا تمر من جوارها تخفي جسدها بعباءة سوداء ووشاح رأس مماثل
تضع أكواب الشاي أمام رجلين.
"الشاي يابهوات....."
شكرها احدهم قائلا بملاطفة....
"تسلم ايدك ياست البنات....احلى واحده
تعمل شاي....."
ومن خلفها نادى عليها بائع الأحذية...
"عزة..... عايز فنجان قهوة سادة....."
اومأت برأسها رغم الإجهاد الظاهر في زوايا عينيها إلا أن الابتسامة لم تفارق وجهها...
"من عنيا...."
ما هذا العالم وكيف يعيشون داخل طحونة الحياة مبتسمون راضيون....وكأنهم اعتادوا على هذه الحياة والسعي خلف القليل....القليل فقط....
كيف تسمي مشكلتها مشكلة كبرى وعظمة وهي هنا ترى وتسمع كيف يسعى الإنسان
فقط للعيش وليس للترفية !....
امتلات رئتاها برائحة البخور فبدأت تسعل بقوة محمرة الوجه.....
"اتشهدي ياحبيبتي....خدي بوء ماية....."
نفس الشابة التي تخفي جسدها بالسواد اقتربت منها وهي تحمل كوب الماء...رفضت نغم تناول الماء وهي تسعل بشدة.
"لا شكرًا مش عايزة...."
قالت عزة بسرعة.....
"مغسول والله وزي الفُل خدي بوء ماية....تلاقي زورك حرقك من ريحة المبخرة تعالي بعيد عنها اقفي في الهوا....."
اخذت نغم رشفة من الكوب ثم تركته....بينما سالتها عزة بفضول.....
"بالف هنا....شكلك جديدة هنا....انا اول مرة المحك ؟..."
انعقد حاجبي نغم بتساؤل....
"وانتي تعرفي كل اللي بيجوا هنا؟..."
اجابتها عزة بنبرة عادية.....
"الكدب خيبة.... السوق كبير وبيجوا زباين من كل حته بس زباين عن زباين تفرق.....يعني انتي مختلفة شويتين فـعشان كده سألتك....."
"جاية تشتري تُحف....ولا صيغة؟....."
وقبل ان ترد نغم قالت عزة بنباهة....
"تكونيش بدوري على شارع الصاوي واللي
وصفلك وصف غلط......"
قالت نغم بعد تنهيدة صبر.....
"انا متوهش عن شارع الصاوي....ماما الله يرحمها كانت زبونة هناك....وانا من بعضها....
بس انا بدور على حد شغال في سوق هنا...."
"مين؟....."
"أيوب....أيوب عبد العظيم تعرفيه بيقول
انه بيبيع هدوم هنا...."
قالتها وعيناها تبحثان في أرجاء السوق وكأنه طفل تائه منها.. أو ربما هي التي تاهت منه... الوضع غريب.... غريب جدًا بينهما !..
"سي أيوب...طبعا عرفاه مين يتوه عنه....تعالي
معايا ياحبيبتي نوصلوكي لحد عنده...."
قالتها عزة وهي تشير إليها نحو أحد الاتجاهات ثم تقدمت أمامها بينما تابعتها مترقبة رؤيته ومكان عمله..
وصلت نغم أمام زاوية معينة يعرض فيها الملابس بسعر منخفض معروضة بشكل مرتب عكس غيرها كما أنها مختارة بعناية من حيث الشكل والألوان وتنسيق بعض الأطقم...
في هذا المكان شيء مختلف عن الجميع هنا...
وكأن صاحب البضائع على دراية بقيمة كل قطعة، ويضع لمسة سحرية تشد انتباه الزبائن !...
انتبهت إلى اسم اللافتة البسيطة (أوكزيون) واسم (أيوب عبد العظيم) أعلى الكلمة.
"اهوه ده سي أيوب....."
أشارت عليه عزة لتراه، نغم يقف في آخر تلك الزاوية من الداخل بين بضاعته المعلقة يقف جانبًا ولم يرَها بعد. كان يتحدث مع الزبونة يناغشها بالكلمات والنظرات العابثة... ليس عابثًا لكن عيناه في اللهو تلمع بالفطرة وابتسامته الرجولية تشع جاذبية...مـ.... مستفزة !....
سالته الزبونة مبتسمة...
"طب انت اي رأيك.... انهو لون هيليق عليا..."
قال أيوب مقترحًا بعد ان نظر الى لون
بشرتها....
"انا من رايي الألوان الدافية هي اللي هتليق
عليكي اكتر....."
سالتها بحاجب مرفوع.....
"زي إيه الالوان الدافية؟...."
مد أيوب يده واختار واحدة من بين السترات الملوّنة أمامهم ثم نظر إلى لونها المميّز وقال
بهدوء...
"زي ده مثلا جربي كده...."
ارتدت الزبونة السترة فوق ملابسها ثم التفتت
نحو المرآة المجاورة تتأمل انعكاسها. متفحصة اللون والخامة كيف تبدو عليها ثم ابتسمت برضا تام بعد لحظات من التأمل لتقول....
"يجنن بجد... يلهوي عليك عرفت إزاي...."
ابتسم أيوب بظفر قائلا بغرور......
"لا دا سر الصانعة... انا دارس برا وجوا
خدي بالك.."
ضحكت ضحكة رقيعة وهي تقول باعجاب...
"دمك خفيف... وذوقك يجنن.... يارب كل البايعين اللي في السوق يكونوا زيك كده خليني أكمل حاجتي....هاخده عجبني...."
قالتها وهي تخلع السترة أخذها منها أيوب ووضعها في الكيس البلاستيكي قائلاً...
"مبروك عليكي...."
أخذ ثمن القطة ثم رحلت الزبونة وظل هو منشغلًا بين قطع الملابس يرتبها ويتفحصها كأنها أحد صغاره !....
"سي أيوب في ناس عايزينك....."
استدار أيوب إليها بتساؤل.....
"مين يـاعـزة ؟...."
اتسعت عيناه وهو يراها ماثلة أمامه... عيناها الشتويتان... شتاء يأتي في كل الفصول تخفيهما أسفل نظارة بنية أنيقة... شعرها مسترسل على ظهرها بخصلات متناغمة بين البني والأشقر... ترتدي طاقمًا أنيقًا ملائمًا للمكان من حولهما...
ابنة الذوات... كل ما بها يدل على ذلك دون مجهود يذكر !...
لكن لماذا أتت إلى هنا؟ ما هو الأمر العاجل الذي يجعلها تطأ بقدميها هنا ؟
"نــغــم ؟!...."
توترت نغم من نظراته المدققة عليها فلم ترد
وهي تنظر إلى عزة التي تراقب ما يحدث بتطفل...
تنحنحت عزة بعد نظرات نغم وقالت قبل أن ترحل...
"هروح انا اشوف نصبة الشاي....فوتكم بعافية..."
تبادلت نغم معه النظرات بصمت مبهم وعيناها تنتقلان بينه وبين المكان من حوله لتسمع صوت المذياع من محل مجاور يبيع الأنتيكات والتحف القديمة...
(في يوم وليلة...في يوم وليلة خذنا حلاوة الحب كله في يوم وليلة أنا وحبيبي... أنا وحبيبي دوبنا عمر الحب كله في يوم وليلة)..
خفق قلب نغم فجأة كجرس إنذار. بلعت ريقها متوجسة وهو يقترب منها بخطوات هادئة بينما كانت أذناها تلتقط كلمات الأغنية بتركيز
رغمًا عنها. كانت عيناها عليه وكلمات الأغنية
تضرب على الوتر...
وتر لا تعرف مكانه بالضبط لكنه عند موضع القلب، لذلك شعرت بخفقاته تعلو بشكل غريب... ومريب...
(عمري ما شوفته ولا قابلته وياما... ياما شاغلني طيفه وفي يوم لقيته... لقيته هو هو اللي كنت بتمنى أشوفه...نسيت الدنيا وجريت عليه سبقني هو وفتح إيديه...)
عندما وقف أمامها مدَّ يده مرحبًا بها... فرفرفت بأهدابها ببلاهة وهي تضع يدها في يده بأطراف باردة وكأنها أصابتها حالة من اللاوعي...
(سبقني هو وفتح إيديه... لقينا روحنا على بحر شوق نزلنا نشرب ودبنا فيه ومين يصدق يجرى ده كله في يوم وليلة.......)
أشار لها أيوب بالجلوس على أحد المقاعد ففعلت وجلس هو في المقعد المقابل لها منتظرًا دون أن يسألها بكلماته. عينيه فعلت ذلك ببساطة.
رتبت نغم الكلمات بعناية في عقلها ثم قالت بهدوء...
"انا جيت عشان اللي حصل اخر مرة....
عن شغلك معايا.. "
رد أيوب بنظرة مشتعلة.....
"انا لسه مدتش كلمة في الموضوع ده...هو
انتي جايه لوحدك ؟...."
اكتفت بايماءة مؤكدة فقال باهتياج....
"اه إزاي انتي مبتسمعيش الكلام مش خايفه حاجة تحصلك....وازاي ابوكي يسيبك تخرجي كده..."
ردت ببرود..... "هو ميعرفش...."
ارتفع حاجباه معًا تزامنًا مع استهجانة....
"يعني عملتيها من وراه تاني...عنده حق يدور
على حد تاني طالما الحراسة مش مالية عينك...."
توسعت عيناها الرماديتان بدهشة ثم انتفخ أنفها غضبًا كاظمة غيظها وهي ترفع أنفها بغرورٍ أنثويٍّ راقٍ مجيبةً بتعالٍ يليق بها...
"اولا مبحبش الأسلوب ده في الكلام وبعدين انا مش صغيرة.....ثانيًا انت أو غيرك محدش يقدر يفرض نفسه عليا.....طالما عايزة اخرج
لوحدي من غير حرس هعمل كده مش هستأذن يعني...."
قارعها ايوب باعتداد......
"لو انا معاكي هتستأذني....وبرضو مش هتخرجي غير معايا..."
التوت البسمة على فمها ساخرة.....
"في أحلامك......انت متعرفش مين هي نغم الموجي؟...."
(واحده مناخيرها مرفوعة في السما...مصيبة
واتحدفت عليا....)
قال انطباعة عنها دون النطق به إليها ثم
اجابها بعجرفة.....
"انتي كمان متعرفيش....أيوب عبد العظيم..."
نزعت النظارة عن عينيها وهي تقول
بصلف.....
"مش عايزة أعرفه...انا جيت لحد هنا عشان
أعرض عليك عرض...."
ضاقت عيناه المشتعلتان بنفاد الصبر...
"عروضكم كترت ياعيلة الموجي...اي هو العرض الجديد ياهانم؟....."
سحبت نفسًا مرتجف الى رئتيها ثم نظرت
الى عيناه وقالت بحزم.....
"ترفض الشغل معايا وهديك المبلغ اللي تطلبه...بس ده يبقا بيني وبينك بابا ميعرفش
حاجة....الرفض يجي من عندك...."
مط فمه سائلا بخبث.....
"وليه ميجيش من عندك انتي ؟!...."
امتقع وجهها بالحنق سائلة بغيظ....
"هو انت ناوي تقبل بجد؟!....انت مش فاهم
انت داخل على إيه....بلاش تجازف بحياتك عشان الفلوس....انا هديهملك...بس
أرجوك أرفض...."
حرك كتفيه بعدم اكتراث قائلا....
"كلامك محسسني اني داخل على حرب..
اهي شغلانه زي اي شغلانه...."
"بالبساطة دي ؟....."
اوما بتاكيد ببسمة مستفزة....
"اه انا موافق مبدائيا طالما هقبض بالدولار..."
هتفت بانفعال..... "انت مادي بقا ؟!..."
عاد يهز راسه مستمتعًا باستفزارها.....
"اوي وما بصدق كمان......راشق في اي مصلحة...هنبدأ إمتى؟.. "
ضربت على ذراع المقعد بعصبية مزمجرة...
"مش هنبدأ انا مش موافقه نهائي.."
علق بسخرية سوداء......
"وليه تقطعي بعيشي.....يرضيكي...دا كمال بيه بنفسه ماكدلي اني ممكن ابيع روحي بالدولار
وانتي لسه مأكدالي اني ممكن اخلع بـ..."
توقف سائلا ببرود....
"متفقناش هاخد الفلوس بعملة إيه؟....."
كان الغضب يغلي في عينيه رغم أن وجهه جامد التعبير وصوته بارد غير مبالي إلا أن عينيه تشي بالكثير مما يخفيه..
لذلك لفظت اسمه بترفق بصوتٍ انثوي
ناعم كالناي....
"أيوب...."
صاح فجأة محتدًا عليها.....
"انتي خليتي فيها أيوب....امشي يا نـغـم..."
وقف يشير إليها بالخروج فبقيت واقفة أمامه لم تتحرك خطوة واحدة..... تابع هو بنبرة مستهجنة...
"انتي وابوكي عمالين تشتروا وتبيعوا فيا
مستغلين الفقر والحوجه....ابوكي الأول
وانتي دلوقتي...."
ابعد عيناه عنها قائلا بسخط.....
"بدفع تمن جدعنتي قلة قيمة من الكل...انا
مبحرمش....واستاهل....."
اقتربت منه خطوة واحده... "ممكن تهدى...."
عاد اليها بنظرة حادة سائلا بخشونة.....
"انتي عايزة إيه بظبط جيتي هنا ليه..."
قالت بجسارة تجادله....
"عشان مش عايزاك توافق....مش عايزة اورطك معايا في حياتي ومشاكلي.."
اشتد الجدال بينهما عندما قال....
"مش لسه هتورطيني انا متورط معاكي
من أول يوم شوفتك فيه.."
سالته متوجسة..... "يعني إيه ؟!..."
"يعني يلا عشان اوصلك مش هسيبك تمشي لوحدك....."
اشار لها بالخروج فقالت دون ان تتحرك
خطوة.....
"انا مش فاهمة حاجة...انت موافق تشتغل
معايا ؟..."
التوى فكه بتشنج ملحوط وهو يقول
باستقباح....
"اشتغل عندك بقا.....مانا هبقا سواق وبودي جارد الهانم....زي ما كمال بيه ما قال...."
رفضت بعناد..... "انا مش موافقة...."
عقدت ذراعيها تبدي رفضًا قاطع.....
اجابها ببرود اقرب للصقيع....
"ارفضي من ناحيتك...وانا مش ممانع بس
من ناحيتي انا هبلغه بموافقتي...."
جمدها الرد فقالت باستنكار....
"كل ده عشان الفلوس ؟!..."
لم تثير حفيظته وهو يؤكد بفتور....
"اكيد مش عشان عيونك....انتي عارفه الدولار
بقا بكام دلوقتي؟....."
استقلت سيارتها وجلست في مقعد القيادة بينما هي بجواره بوجه مكفهر. طوال طريق
السير في السوق كانت ترفض اصطحابه
لها بالسيارة وهو لم يرد مكتفيًا بالصمت والتجاهل.
لم تُعامل نغم الموجي يومًا بهذا الأسلوب الفظ.. خصوصًا من الرجال الذين كانوا يعاملونها كملكة متوجة... ما تريده مقبول
وما لا تريده مقبول أيضًا دون نقاش.
كيف يجرؤ على التصرف معها بهذا الشكل؟
"لو مجتش بكرة الساعة تسعة الصبح اعرفي اني رجعت لعقلي ورفضت..."
قالها أيوب وهو يدير محرك السيارة ويخرج
بها من زحام السوق.. سألت على مضض...
"ولو جيت؟...."
"مش محتاجة كلام هبقى موافق على الإعارة...طالما هقبض بالاخضر....."
عندما وصلا أمام الفيلا خرج هو من السيارة الفارهة وأشار لها أن تتابع الدخول بسيارتها بعد أن انفتحت الأبواب لها...
فقالت نغم بوجوم...
"هتندم... افتكر إني نصحتك... وأنت الفلوس عامتك."
رد عليها بعدم اكتراث قبل أن يرحل و
يتركها...
"مانا بقولك..... راشق في أي مصلحة... ودي فرصة العمر.... على رأي الوالد."
.............................................................
جلس على مقعده في مكانه
❤️❤️❤️
جلس على مقعده في مكانه المفضل أمام النافذة التي يرفرف الهواء ستائرها برفق وصوت الجيتار يداعب الصمت. أحيانًا، يضرب على الأوتار بأنامل مترددة، فيخرج منها أنين خافت، كشكوى مكتومة، حروفها متلاشية، سطورها منسية، كلماتها متفككة. وأحيانًا أخرى، يضرب بعنف، فتندفع النغمات كصرخة تخترق السكون، كالرمح يشق الصمت... والروح... والقلب.
عقله دار في زوبعات الماضي مجددًا تذكّر حين عاش وحيدًا مع والده حينها لم يجد رفيقًا أفضل منها يشاركه جزءًا من وجيعة القلب... والطفولة المسلوبة.
طفولة لم يعشها سوى خطفًا مع صغيرةٍ بعيونٍ سوداوان براقتين كمجرةِ الليل... وشعرٍ أملسَ أسودٍ طويلٍ يتدلّل على ظهرها كفرسٍ عربيٍّ أصيل... شقيّة، حنونة، لطيفة، وجميلة.
أبرار صالح الشافعي...
ابنة العم... والصديقة المقرّبة... والحبّـ... يبدو أن قيد الهوى اختار قلبي دون سواه أم أنتِ فنجوتِ من الهوى؟ حرةٌ أنتِ، طليقة، أما أنا... فالقيد اشتدّ، ويصعب الفكاك منه.
(شكلك بتعيط؟.....)
سألته الصغيرة أبرار حينها لم تكن قد تجاوزت السادسة من عمرها... رفعت عينيها إليه ببراءة تنتظر جوابًا....
أجابها بعناد وهو يجلس فوق الأرجوحة يدفعها بقدميه بخفة وعيناه شاردتان في السماء الصافية. كانا حينها فوق سطح البيت
حيث اعتادا قضاء معظم أوقاتهما معًا
(مش بعيط ليه هعيط؟....)
قالت أبرار بتردد....
(عشان مامتك.....قالوا انها اتجوزت تاني....)
انكمشت ملامحه بتشنج واضح ثم أنكر
بكراهية....
(عادي...انا مش متهم خليها تجوز...انا بكرها)
زمت أبرار فمها ببراءة وهي تسأله عن مخاوفها......
(ياسين هو انت ممكن تروح تعيش معاها
وتسبني؟....)
صاح مستنكرًا.....
(ازاي هعيش معاها بقولك بكرها...)
قالت بعفوية....
(بس دي مامتك..... حرام.....)
حدثها باهتياج....
(الحرام انها تسبني..... تسبني انا وبابا وتمشي...)
ربتت أبرار على كتفه تواسيه بصفاء.....
(متزعلش يا ياسين انا معاك انا وماما....ماما
بتحبك أوي والله.....)
(مين جايب سيرتي انا باجي على السيرة..)
رنّ الصوت الحنون على بُعد خطوات لامرأة صافية القلب جميلة الطلّة والروح، كاسمها تمامًا...(جميلة) والدة أبرار بثوبها الأزرق الطويل كلون السماء الممتدة فوقهما
وحجابها الملتفّ حول وجهها البهيّ.
كانت كنسمة ناعمة تحمل عبق الدفء والحنان وعطف الأمومة يفيض بالفطرة من حولها...
(ماما.....)
نادت عليها أبرار بوجهٍ مبتسم مشتاق !...
كانت هي وأمها كيانًا واحدًا تشبهها إلى حد كبير، وتقلّدها في كل شيء لتصبح نسخة عنها، شكلًا ومضمونًا. وكانت والدتها متعلّقة بها تعلقًا شديدًا حتى إن صالح كان أحيانًا يشعر بالغيرة من قوة الرابط بينهما !...
اقتربت منهم جميلة مبتسمة تحمل بين يديها كوبين من العصير الأحمر....
(جبتلكم عصير الرمان.....فرطه بايدي واحده واحده عشان عارفه ياسين بيحب يشربه
من ايدي....مش كده ياسينو....)
ناولت أحدهما لابنتها والآخر لياسين ثم جلست بينهما على الأرجوحة الكبيرة...
ارتشف ياسين من الكوب ثم قال بلطف....
(تسلم إيدك يامرات عمي.......)
مررت يدها على شعره بمحبة....
(بالف هنا ياحبيبي.....)
فقالت أبرار بملاحظة....
(بس كان عايز سكر ياماما.....)
ضاقت عينا جميلة وهي تقول بمشاكسة...
(نسيت ان السُكر بتاعي بيحب الحاجة عسل
نحل.....)
دغدغتها أمها فضحكت أبرار بينما ظل ياسين
يشرب دون ان ينطق بكلمة .....
وعندما رأته هكذا أعطته كل تركيزها وهي تقول بنبرة حنونة متفهمة....
(انا مش عيزاك تزعل نفسك ياسين وانسى اي حاجة سمعتها تحت.....احنا كلنا معاك وبنحبك
باباك وتيته أبرار وعمك صالح...وانا وبرتي
القمورة كلنا جمبك....وبنحبك اوي أوي كمان...)
اوما ياسين برأسه وهو يقول بشجاعة
بريئة....
(انا عارف يامرات عمي ومش زعلان....اللي زعلان بيعيط وانا مش بعيط حتى شوفي..)
فتح عينيه بقوة يريها شجاعته وقوة تحمله فارتجف قلبها بالوجع عليه وهي ترى ما سُطر في عيناه من أنين مكتوم ودموع متخفية بين جفونه تنتظر تصريح الخروج من سجن مشدد كُتب عليها مبكرًا....
قالت جميلة بنشيج حزين.....
(انت شجاع وقوي....وشاطر جدًا كمان بس...
بس عارف مفهاش حاجة لو عيط....أوقات بيكون العياط وسيلة نخفف بيها عن وجعنا..
فهمني ياسينو....)
(مش فاهم؟.....)
(تعالى في حضني وانت هتفهم....)
ضمّته إلى صدرها برفق فارتاح بين ذراعيها لثوانٍ ثم بدأت الدموع تتجمع في عينيه وتهطل وصوت بكائه يتعالى وشعوره يتضاعف كلما شعر بيدها تربّت على ظهره...
لماذا يبكي؟ هو لا يريد أن يبكي... لماذا يتألم؟ قد اعتاد على هذا الألم، فلماذا يشعر بأنه كالسوط يضربه بلا رحمة...
نزلت دموع أبرار تزامنًا مع بكائه فاقتربت منه، ترمي نفسها على ظهره باكية تشاركه الوجع. رغم أنها تجهل كل ما يحدث من حولها، لكنها تتألم معه... تتألم بشدة ولا تعرف سوى سبب واحد أنها تحبه كأخٍ لم تلده أمها وكصديقٍ أهدته لها الحياة..فلماذا لا تبكي حزنًا عليه؟!
بعد دقائق من البكاء وإفراغ ما يعتمل في صدره في أحضان زوجة عمه، انتبه إلى
صوتها وهي تسأله بصدمة وقلق...
(اي اللي عور أيدك كده؟....)
ابتعدت أبرار عنه ومسحت دموعها وهي
تشي عليه....
(كان بيعلب بكيس الملاكمة ياماما....)
نظرت إلى يديه المصابتين بالجروح ثم إلى عينيه وقالت بعتاب...
(ليه كده ياسين تأذي نفسك؟...)
اخبرها بحرج وهو يمسح دموعه....
(لم ببقا مضايق بروح إلعب ملاكمة....فبرتاح...)
قالت جميلة بعد تفكير...
(ممكن نخرج الغضب بطريقة تانية نمارس رياضة مختلفة غير الملاكمة المؤذية دي....)
رفض بملامح عابسة....
(انا مش بحب الرياضة ولا حتى السباحة ولا بحب أروح النادي...)
سألته جميلة برفق....
(طب قولي إيه اكتر حاجة بتحبها؟...)
ردت أبرار بقفزة حماس.....(الموسيقى.....)
اوما ياسين مؤكدًا فقالت جميلة مقترحة...
(طب كويس أوي ليه مثلا منستعملش الطاقة السلبية اللي جوانا دي في العزف مثلا على آلة معينة تختارها بنفسك...)
(ممكن؟....)
اكدت مبتسمة بتشجيع ومساندة....
(ممكن جدًا وتبدع فيها كمان.....انا هكلم باباك وهقنعه يجبلك الاله اللي تحب تتعلم عليها..
اي رأيك...)
اعطاها قبلة على خدها وهو يقول بامتنان.....
(موافق طبعًا..... شكرًا يامرات عمي...)
تعلقا أبرار في رقبتها قائلة بفخر.....
(ماما أحسن أم في الدنيا.....)
قبلتها أمها قائلة بجذل....
(عشان انتي احسن بنت في الدنيا....)
قال ياسين ببسمة يتيم محروم من هذه
المشاعر الجميلة والنادرة......
(أبرار عندها حق....انتي احسن ام في الدنيا..)
(عشان انتوا ولادي بس....)ثم قالت وهي تنهض من مكانها.....
(استنى هجيب علبة الاسعافات....نعالج الجروح دي..ومتقربش من كيس الملاكمة
تاني اتفقنا....)
أومأ برأسه مبتسمًا وعيناه تتابعان خُطاها وكأن قلبه المتعلّق يخاف أن يفقد أثرها كما فعلت أمه معه... لكن زوجة عمه حنونة وتحبّهما... ولن تتركهما أبدًا...
(بتعملي إيه يا أبرار....)
سألها ياسين متوجسًا وهو يراها تمسك كف يده وتقربه من فمها الصغير...
قالت أبرار بنظرة جميلة نقية تفيض بالحنان كأمها تمامًا...
(ماما لما بتشوفني متعورة بتعمل كده...بتنفخ
تلات نفخات وتبوس التعويرة تلات بوسات..
وهتخف علطول.....دا سحر...)
قالتها باقتناع شديد إن الجروح ستلتئم طالما نفخت بها وقبلتها بالقبل السحرية...
وهو اقتنع بحديثها حتى كبرت الصغيرة ونَسِيَت القبلات السحرية وعلاج الجروح بها فكان شعور الفقد قد اقتحم حياتها بوحشية وأخذ منها الغالية ورحلت.
والدتها جميلة رحلت.. وكانت أبرار حينها في عمر التاسعة بينما هو قد بلغ الخامسة عشر من عمره. يتذكر هذا اليوم جيدًا، كان كئيبًا، خيم عليه الحزن والوجع، والنساء متشحات بالسواد وعيونهن لا تجف...
رحلت الغالية (جميلة)، نسمة البيت، الجارة الودودة الكريمة، وزوجة الابن المطيعة الصبورة، الزوجة المخلصة المحبة، والأم الحنونة بعطاء دائم...
(راحه فين يا أبرار....)
إشارت على باب الغرفة بنشيج....
(راحه لماما..... ماما هنا...... خدوها هنا.... ماما
مش ميته دول بيكدبوا.. بيكدبوا يا ياسين..)
حاول ياسين منعها من الوصول للطابق
الارضي والذي أصبح على بُعد خطوات
منهم....
(أبرار خلينا نطلع... عمي صالح هيزعقلي انا
لو شافك هنا هو منبه عليا منزلكيش من فوق...خلينا نطلع بالله عليكي....)
رفضت وهي تترجاه بالدموع....
(بالله عليك انت خليني اشوفها.... ماما عايشه..)
قال ياسين وهو يبتلع ريقه بألم كمن يبتلع
شفرة حادة.....
(مش عايشة...هي راحت عند ربنا...ادعيلها
لو بتحبيها ادعيلها.....)
صرخت بغضب مستنكرة....
(انت ليه مش بتفهم بقولك ماما عايشة...انتوا كلكم بقيتوا كدابين كده ليه.....ماما عايشه..انا عايزة اشوفها....)
(خليني اشوفها يا ياسين عشان خاطري...بالله عليك....لو بتحبني....)
ظلت تترجاه لدقائق وهي تمسك بكلتا ذراعيه متشبثة به كأنه الأمل الأخير لها...
(خليني اشوفها اخر مرة..اخر مرة يا ياسين...)
أومأ لها برأسه وخرجا من الباب الخلفي حيث نافذة المطبخ في الطابق الأرضي والذي كان يُوضع فيها جثمان أمها بعيدًا عنهما بأوامر من عمه صالح الذي نبهه بعدم النزول للأسفل وإلهاء أبرار عن الأمر حتى يتم الصلاة عليها ودفنها بعدها.
لكن أبرار كانت أعند من الانصياع لحديث أحد طالما أن الأمر يخص والدتها الحبيبة فقد تسللت من غرفتها إلى الأسفل حيث الشقة القابعة في الطابق الأرضي وهو لحِق بها قبل أن تدلف للشقة والآن هو من يساعدها للدخول لتراها دون أن يراهم أحد...
قفزا من نافذة المطبخ ليكونا في قلب الشقة مباشرة. مسكت أبرار ذراعه وأصبحت خلفه في حمايته، بينما هو أمامها يسير ببطء وحرص شديد، يفتش بعينيه في أرجاء الشقة حتى وصل إلى الغرفة المغلقة على جثمان أمها.
وبالفعل رآها فدخل وهي معه ثم أغلق الباب بخفة وعندما رفع عينيه...
رأى أبرار وقفت مكانها متجمدة الأطراف وعيناها تحدّقان في الجثمان المغطّى بالأبيض.
وجه أمها الشاحب... فتحات أنفها مغلقة بالقطن، وكذلك أذناها.مغمضة العينين
جسد جامد بلا حراك...
هل... ماتت بالفعل؟!
هل تركتها امها ورحلت.....
بلعت ريقها بصعوبة وتقلصت رئتاها من شدّة الوجع وزاد نشيج صدرها ألمًا. قلبها يتسارع يلتوي على جمار الفقد، وقد أدركت الحقيقة المفجعة..... الموت.
أتى الموت وأخذ أمّها دون مقدمات رحلت دون وداع... وعدتها بالبقاء فضمِنت وجودها
فأتى حكم الله ليُعلِمها أنّه لا ضامن سواه...
خطت أبرار خطوة إلى الأمام... ثم نادت عليها
بصوتٍ ضعيفٍ مبحوح، يكاد لا يُسمع...
"ماما؟"
لم تجبها لم تتحرك ولم تفتح عينيها مبتسمة كما كانت تفعل دائمًا حين تناديها...
امتلأت عيناها بالدموع ثم ركضت نحوها وقد أصبحت على يقين أنه اللقاء الأخير...
(ماما.....ماما ردي عليا...ماما هتسبيني لمين
طيب.....ماما انتي وعدتيني انك هتفضلي
معايا....ماما إزاي تسبيني وتمشي...طب خديني
معاكي...خديني معاكي متسبنيش هنا...اصحي
ياماما.....اصحي عشان خاطري....)
حاول ياسين أن يبعدها وشعور الذنب يلتف حول حلقه بعدما طاوعها وأتى بها إلى هنا.
(كفاية يا أبرار.....بالله عليكي كفاية....)
قالت أبرار والدموع تغرق وجهها الصغير....
(ماما ماتت ياسين....ماتت وسبتني لوحدي..)
رفعت يدها لتري امها جرحًا حديثًا.....
(ماما ايدي اتعورت.....ماما قومي....قومي..
قومي ياماما...عشان خاطري متسبنيش
ياماااااامااااااا......)
نزلت دموعها بغزارة وهي تنفخ في جرح يدها وتقبله هامسةً بوهن مرير...
(ننفخ تلات نفخات....وتلات بوسات...)
رفعت جرح يدها النابض بالوجع إلى وجه أمها الساكن ككل ما بها وقالت بخفوت وآهٍ، وهي تنقل عينيها بين أمها وياسين الواقف خلفها عاجزًا عن منعها وعاجزًا عن الاقتراب مثلها...
(مش بتخف....مش بتخف يا ياسين....عشان ماما ماتت خلاص.....ماما....ماتـ.....)
وقعت مغشيًا عليها على جثمان أمّها فصرخ ياسين مفجوعًا ينادي عليها بصدمة وذعر.
(أبرار....أبرار.....)
دلف في تلك الأوقات عمه صالح فتفاجأ بوجودهم وبوقوع ابنته على جثمان زوجته.
هوى قلبه بهلع وهو يقترب منها مسرعًا حاملاً ابنته بين ذراعيه محاولًا إفاقتها وعيناه تنتقلان بينها وبين ابن أخيه ثم صرخ
بغضب مشتعل باللوم.....
(اي اللي حصل؟....واي اللي نزلكم هنا...دخلتوا إزاي... هو انا مش قولتلك متنزلهاش تحت.....)
رد ياسين بقلق عليها......
(هي كانت عايزة تشوفها....معرفتش اعمل إيه.....)
(معرفتش تعمل إيه ؟!....أبعد عن وشي...أبعد
بقولك...)
لفظ صالح كلماته الأخيرة بنفاد صبر ثم دفعه بعنف نحو الحائط وخرج بابنته مسرعًا إلى أقرب مشفى...
حينها علم أنها تعرضت لصدمة عصبية شديدة جعلتها تلتزم الصمت التام.. واستمر صمتها لعامين كاملين تزامنًا مع علاج نفسي مكثّف خضعت له.
في ذلك الوقت ظلّ عمه يُحمّله مسؤولية ما حدث وكان هذا الحدث المفجع أول صدع في علاقتهما... ومن هنا بدأت العلاقة تتصدع وتزداد تعقيدًا...
...............................................................
وحسبَ قواعدِ الحبّ فإنّ الشخصَ العازف
عن الهوى هو الأكثر عُرضةً للسقوط في
الهوى بنسبةِ مائةٍ في المائة !...
صدحَ جرسُ الباب تزامنًا مع خروجِ صالح من
بابِ غرفتِه...
"افتح الباب يا صالح.....الله يخليك...."
قالتها والدته وهي في المطبخ تُنهي إعداد الطعام...
فتح صالح الباب وارتفع حاجباه قليلًا في دهشة من وجودها هنا...
خفق قلب شروق بتوتر بعد رؤية ابن الخالة أبرار الابن الأكبر... الشيخ صاحب عطر العود القوي...
عدّلت من وضع حجابها الذي تضعه بعشوائية فوق رأسها ثم ألقت لمحة خاطفة على عباءتها السوداء التي تُغطي قدّها الملتف فارع الطول...
عادت إلى عينيه الخضراوين ثم قالت ببحة خافتة...
"السلام عليكم......"
أجاب بهدوء وهو يغض بصره عنها.....
"وعليكم السلام ورحمة الله وبركته....."
"هي خالتي أبرار جوا ؟....."
أتت عليهم والدته مسرعة الخطى تُبعِده عن الباب بخفّة بينما تسحب شروق مرحّبةً بها بحفاوة...
"تعالي ياشروق ياحبيبتي.....عرفتي المكان
اهوه مش قولتلك عنوانا ميتوهش...."
"ادخلي.....ادخلي واقفه كده ليه....."ثم ضمتها
الى صدرها وقالت بحرارة.....
"عاملة إيه...وبنتك عاملة إيه مجبتهاش معاكي ليه...."
نظرت شروق بطرف عينيها إلى من يقف بجوار الباب يقارنه طولًا بينما يفرض حضوره المهيب كعطره تمامًا...أجابت السيدة بخَفَر...
"الحمدلله....هي لسه في المدرسة دلوقتي....."
قالت والدته بمحبة وحنو.....
"هتطلع امتى انا عاملة حسابي انك هتتغدي معانا انتي وهي....."
رفضت شروق بحياء وهي تجلس على الاريكة
وبجوارها السيدة أبرار......
"كتر خيرك ياخالتي....يجعله عامر....انا بس...."
نظرت إليه في لمحة سريعة ثم عادت تُحدّق في الأرض فتنحنح صالح بتفهُّم قائلا
بهدوء...
"انا هروح اعملكم حاجة تشربوها....."
انتفضت شروق في جلستها رافضه....
"لا ميصحش شكرًا مش عايزة...."
ببشاشة نظر لها قائلا بترفق....
"خليكي مكانك يأم ملك.....انتي ضيفه عندنا...."
ربتت عليها والدته قائلة.....
"هو سبنا عشان تكلمي براحتك....مش عايز يحرجك......"
في لمحة تقدير واعجاب قالت شروق....
"ماشاءالله ربنا يباركلك فيه ياخالتي....هو ابنك الوحيد ؟....."
لمعة عيون السيدة بالحزن وهي تقول
ببوح....
"كان فيه فاروق البكري ابو ياسين....بس الله يرحمه مات من خمس سنين....ومفضلش غير صالح ربنا يحفظه ويخليه لينا....راجل البيت وسندنا من بعد أبوه واخوه......"
سألتها ونبتة الفضول تتعطش لمعرفة المزيد عن صاحب العطر القوي...
"هو متجوز صح....قولتي قبل كده لامي انه عنده بنت إسمها أبرار سماها على أسمك....."
اومات والدته وهي تقول باستفاضة..
"اه كان متجوز بنت حلال كانت سكنه قدمنا إسمها جميلة.....بس الله يرحمها ماتت من عشر سنين وسابت أبرار وهي يدوب تسع سنين فربتها مع ياسين......
"اصل فاروق طلق مراته وياسين صغير وكره
الجواز والستات وقتها... وانا اللي تكفلت برعاية ياسين انا وجميلة مرات صالح....
لحد ماهي كمان سبتني وبقيت أم للاتنين....."
أنهت والدته الحديث بتنهيدة حزن بينما حاولت شروق مواساتها بكلمات طيبة.
"الحمل عليكي تقيل اوي ياخالتي ربنا يجعله في ميزان حسناتك....."
قالت والدته بتأثر....
"الحمدلله يابنتي هنعمل إيه....اهي سُنة الحياة....تعرفي نفسي في ايه ياشروق؟...."
تبسمت شروق قائلة....
"نفسك تفرحي باحفادك أكيد....."
هزت والدته راسها نفيًا وقالت بتمني....
"قبل احفادي نفسي افرح باللي العمر بيعدي حوليه وهو ولا سأل.....وواجع قلبي ومش مكفيه العشر سنين اللي ضاعوا من عمره....."
تكسرت البسمة على وجه شروق وهي
تقول بمراعاة.....
"يمكن لسه بيحبها ياخالتي....."
اكدت والدته دون ادنى تردد...
"مش يمكن هو روحه فيها....تحسي انها خدت
قلبه معاها......"
علت أمارات الدهشة وجه شروق ونبتة الفضول يابسة لم ترتوي كفاية عنه...
كيف يكون الحب مع شخصية كشيخ
(صالح الشافعي) بعيدًا عن عطره الذي يأخذ الحيز الأكبر عند حضوره؟!
ولا هيئته المربكة ولا عينيه الخضراوين الحادتين بعيدًا عن أنه لا ينظر إلى المرء لدقيقة كاملة؟ بعيدًا عن الأشياء الغريبة التي لم تراها في رجل يومًا؟ كيف يكون الحب مع رجل مثله؟
محظوظة تلك الزوجة التي حصلت على حب شيخ بشخصية فريدة من نوعها ووفاء أرمل بعد موتها... عزف عن النساء والهوى في غيابها.
فماذا كان معها يا ترى ؟!
علقت شروق بعد لحظات من الصمت
مشدوهة...
"لدرجادي كان بيحبها....."
قالت السيدة بلوعة أم.....
"واكتر.....هقولك إيه بس دا انا عملت محاولات العشر سنين اللي فاتوا دول عشان يفكر بس في الجواز وهو ولا هنا كاني بكلم نفسي...."
قالت شروق ببسمة مطمئنة.....
"ساعة النصيب ما يجي ياخالتي....مفيش حد هيقدر يعترض.....ولا حتى هو......"
"على رأيك....ربنا يعجل بالفرح.....وشوفه مرتاح في بيته مع بنت الحلال....."
ثم استأنفت الحديث قائلة....
"الكلام خدنا.....كنتي عايزة تقولي حاجة وصالح واقف خير ياحبيبتي....محتاجة فلوس....."
قالت شروق بحرج....
"لا ياخالتي مستورة والحمدلله....."
"يابت متكسفيش قولي عايزة إيه....."
بللت شروق شفتيها بحرج اكبر وهي
تقول بتردد....
"بصراحة ياخالتي انا لما الدنيا ضاقت بيا ملقتش غيرك اخبط على بابه...."
امتقع وجه والدته بقلق....
"وغوشتي قلبي ياشروق.....في إيه يابنتي...."
قالت شروق بإسهاب موضحة الأمر الذي جعلها تأتي إلى هنا بعد أن حصلت على العنوان من الجدة أبرار للوصول...
"صاحب البيت اللي قعده فيه عايز يخرجني من السكن عشان ابنه هيتجوز فيه....وانا.....
"انا مش عارفة الاقي شقة إيجار بسرعة دي إزاي انتي عارفة.... مفيش حاجة حولينا.... ولو روحت مكان بعيد هضطر انقل ملك في مدرسة قريبة وده صعب دلوقتي.....
"ولو مش كده يبقا هتبهدل في الموصلات الصبح وبصراحة ملك كل يوم بتروح لوحدها عشان شغلي الصبح بدري فمش معقول هسيبها تركب موصلات لوحدها كمان......فانا طلبه منك تشوفي ليا حد بيأجر قريب من المنطقة اللي انا فيها او الشيخ صالح يشوف حد لو يعرف يبقا كتر خيركم...."
ربتت السيدة على كتفها وقالت بـمؤازرة..
"على إيه دا كله هاتي عفشك وتعالي اسكني
في الشقة اللي تحت..... وهي هتبقا قريبة
من مدرسة بنتك برضو مش بعيدة...موصلة
صغيرة توصلها للمدرسة......"
اتسعت عينا شروق وهي ترفض سريعًا...
"لا ياخالتي اجي اسكن عندك؟..... لا أزاي؟!....."
ضربتها على كتفها صائحة بتوبيخ...
"اي المشكلة يابت ما الشقة فاضية تحت محدش قاعد فيها......كانت شقتي زمان بس بعد طلاق فاروق من مراته طلعت قعدت معاه هو وابنه ارعاهم وقفلت الشقة اللي تحت من ساعتها...."
رفضت شروق بضيق وحيرة أكبر....
"برضو ياخالتي قعد معاكم بصفتي إيه...الناس
تقول إيه.....مش هينفع....."
صمتت والدته لبرهة ثم قالت باقناع...
"هنقول انك ماجراها مننا.....وان احنا زهقنا من قفلتها كده فقولنا نستثمر فيها....ليها تصريفه يعني ملكيش دعوة بالناس....."
عضت شروق على شفتيها بعجز وحرج...
"بس يا خالتي....."
رفعت عنها الحرج متابعة بمساندة
الام....
"مش بس تعالي قعدي معايا هنا واهوه تبقي تحت عيني انتي وبنتك وابقى مطمنه عليكم أكتر...."
قالت شروق برفض....
"لا.... لا مش هينفع ياخالتي....."
"يالهوي على نشفيت دماغك....."زمت والدته فمها بنفاد صبر ثم قالت بتوضيح....
"طب بصي خليها مؤقتا....لحد ما ربنا يفرجها
يعني وتلاقي سكن قريب منك....."
نظرت لها شروق قليلا ثم قالت....
"بشرط......"
زجرتها والدته بالقول....
"بتشرطي عليا يابت......"
قالت شروق معتذرة....
"لا عشت ولا كنت ياخالتي بس ونبي وافقي
عليه..."
ضاقت عينيها منتظرة بصبرٍ.....
"لما اسمعه الأول......"
قالت شروق بكبرياء.....
"طالما الناس كلها هتعرف اني مأجره الشقة اللي تحت يبقا تاخدي ايجارها ونمضي عقد وادفع مقدمة كمان......"
قالت باستنكار معاتبه.....
"اخص عليكي ياشروق هيبقا بينا عقود واوراق.....بقا كده......"
قالت شروق برجاء....
"معلش ياخالتي انا مش هرتاح غير لو عملنا
كده..الله يخليك...."
"ماشي عقد من غير فلوس....."
قالت شروق بتصميم....
"الفلوس قبل العقد ياخالتي دا حقك....."
ارتفع حاجبها ثم قالت على مضض....
"حقي ؟!....ماشي ياشروق انا هقدر ان نِفسك عزيزة عليكي زيك زي امك الله يرحمها.....بس انا مش هاخد مقدمة هعملك عقد ايجار وابقي ادفعي الإيجار لما يجي اخر الشهر....."
"بس....."
"كلمة تانية وهتبقا بزعله كبيرة....."رفعت والدته سبابتها امام وجهها تنهي النقاش بحزم....
بعد لحظات اغلقت والدته الباب خلف
شروق ثم عادت تجلس على الاريكة
وحدها...
"اي اللي عملتي ده ياحاجة؟...."
نظرت الى وجه ابنها الغاضب الواقف أمامها
متأهب لنقاش حاد بينهما......
"إيه اللي عملته ياصالح...."
وضح الأمر بصبرٍ وبهدوء يفتقده الان....
"شقة ايه اللي تاجريها..... احنا من إمتى بنسكن شققنا لحد....."
ارجعت راسها للخلف متذكره.....
"عشان كده حطيت العصير قدمنا وانت قالب
وشك.... ومقعدتش....."
انكمشت ملامحه العابسة بعدم رضا أكبر
وهو يجلس بالقرب منها على المقعد....
"وانا من امتى بقعد مع ضيوفك..الحريم...."
قالت والدته بدفاع غريب....
"شروق مش ضيفه شروق بعتبرها زي بنتي..."
هتف صالح برفضٍ قاطع....
"متغيريش الموضوع يا امي.... انا مش موافق
على انها تأجر الشقة.... مش عايز حد غريب
في بيتي...."
رمقته بحدة لتقول....
"مش بيتك لوحدك ياصالح.... دا بيتي انا كمان..."
تافف صالح مستغفرًا ثم قال بوجوم...
"مقصدش بس احنا مش محتاجين ندخل واحده غريبة علينا.... تعرفيها منين دي... لا عشرتيها ولا تعرفي حاجة عنها...."
"يكفي ان أمها صاحبتي... وانا عارفه تربيتها
لعيالها عامله إزاي....أطمن... "
زمجر صالح بنبرة خشنة.....
"مش هطمن...ومش موافق....مفكرتيش في كلام الناس اللي حولينا...لما يلقونا اجرنا
شقتنا لوحده مطلقة....."
انفعلت والدته وهي تنهض من مكانها
قائلة باهتياح.....
"مطلقة ومعاها عيله صغيره بتشقى عليها...مطلقة بس بمية راجل....مطلقة
عشان حظها قليل....
"معقول تكون حاجج بيت الله وحافظ المصحف ومش بتفوتك صلاة والسبحه مبتفرقش إيدك وتشكك في اخلاق واحده
بس عشان مطلقة دا كلام..."
جز صالح على اسنانه قائلا باحتقان...
"استغفر الله العظيم...انا مالي ومال اخلاقها...انا بتكلم على العموم.....وانا
مش عايز حد غريب يدخل هنا...."
حدقت امه فيه بصدمة متسائلة..
"يعني ايه هتكسر كلامي...بعد ما اديت كلمة ليها وكلها يومين وتيجي بعفشها هنا...ايه اطردها في الشارع وقولها معلش اصل ابني مش عايز يأجر لمطلقة....."
هتف صالح باستياء وبغض......
"لا حول ولا قوة إلا بالله... لا مطلقة ولا ومتزوجة..... انا مش عايز أأجار أصلا يا
أمي...الله يرضا عليكي اتصرفي وصلحي
اللي عملتيه....."
ابتعدت والدته عنه منهي الأمر بأسلوب
ذكي.....
"مش مصلحه حاجة لما تيجي هي بعزلها ابقى اقفل الباب في وشها هي وبنتها.... وقولها مش بنأجر لحد....وابقى قولها الحاجة أبرار....ملهاش كلمة علينا والبيت بيتنا وهي حيالة امنا..قولها كده ياصالح..."
"لا إله الا الله.....يا امي....."
اقترب منها ينوي إرضاءها والتفاهم معها
حول الأمر لكنها رفضت وألقت عليه نظرة
لوم ثم أغلقت باب الغرفة في وجهه قائلة بغضب الأم...
"لسانك ما يخطبش لساني... اعمل اللي تعمله ما انت كبرت خلاص... هتكبر لامك ليه بقى..."
طرق صالح على الباب بصبرٍ ، يناديها
"لا إله إلا الله... يا أمي افتحي نتكلم طيب..."
قالت بنشيج حزين رافضة
"ابعد عني لا تكلمني ولا أكلمك... يا شيخ
يا اللي عارف ربنا..."
تافف صالح بغضب وكراهية تجاه تلك المرأة التي صنعت نزاعًا بينه وبين أمه في أول زيارة لها للبيت....ماذا لو عاشت هنا بينهما ؟!
لن يرضخ لأمرها حتى وإن غضبت قليلاً عليه سترضى يومًا... ففي النهاية هذه المرأة هي الدخيلة بينهما...
..............................................................
قماش السترة يحتضن قوامها بانضباط والسروال ينسدل بانسيابية لا تخلو من
الأناقة.
جمعت شعرها إلى الخلف في تسريحة مشدودة...ثم لفت حول عنقها وشاحًا حريريًا لمسة من الموضة والأنوثة منها كما اعتادت منذ صغرها...
ربما لم تحبذ مجال التصاميم والخياطة مثل والدها لكنها كانت وما تزال أمام الجميع أيقونة في انتقاء ملابسها ومصوغاتها ومستحضرات تجميلها وكل ما يخص الجمال والمرأة كانت على دراية واسعة به وخبرة عميقة.
أعطت لنفسها نظرة أخيرة في المرآة ثم جلست على حافة الفراش ترتدي حذاءها وعينيها تراقبان عقارب الساعة. إنها التاسعة والنصف هل عاد الى عقله فعلاً ورفض العرض...
تنهدت بارتياح فهذا ما كانت تتمناه فهي بغنى عن إفساد حياة شخص آخر يكفي ما يحدث لها في الآونة الأخيرة.
ما زالت تتساءل عن سر عرض والدها لعمل أيوب لديها كسائق وحارس شخصي عملاً يفتقر إلى مؤهلاته.... خصوصًا كحارس.
ابتسمت باستياء من تدرج الصدف بينهما لتصبح بهذا الشكل...
"الحمد لله... أنه رجع اخيرًا لعقله..."
قالتها وهي تخرج من غرفتها حيث الدرج الممتد للأسفل.
هبطت على السلالم بهدوء ورشاقة خطوات خفيفة تكاد لا تُسمع لكن حضورها طاغٍ كعطرها الأنثوي الفخم الذي ملأ المكان فور ظهورها من الأعلى.
"متأخرة نص ساعة...اتفقنا على تسعة...."
توقفت نغم فجأة شاهقة دون صوت وهي تراه ماثلًا أمامها في البهو الكبير، ينتظرها هناك. اتسعت عيناها في دهشة لم تستطع إخفاءها...
كان متأنقًا في حلة سوداء زادت سيمات الوسامة لديه أصبح كالنجم السينمائي المتألق. صفف شعره الغزير للخلف وشذا عطره الزهيد يتوغل إلى رئتيها دون توقف مضيفًا انطباعًا غـ.... غريبًا داخلها.
لم تعد تعرف كيف تتابع نزولها ولا ما ينبغي قوله. الآن لفظت اسمه مجددًا بنغمة خاصة...
"أيوب؟!... "
فالاسم هو الكلمة المنطلقة على لسانها عكس
الجمل المتعثرة داخل حلقها لا تجد طريق
الخروج ...
لها نصيب من اسمها فهي نغم يسحر المستمع والناظر...
ثم اكتشفت بعد ثلاثة وثلاثون عامًا أن اسمي يحمل ترنيمة خاصة تنطق على لسانكِ أنتِ فقط !.....
فأي ورطة جمعتنا يا ابنة الذوات؟!....