قصة اختفاء كاملة بقلم فهد حسن
الواد حسين ابن أم وليد أصغر ولادها اختفى.. أمه وإخواته بيقولوا وبيحلفوا إنه دخل الحمام يستحمى بعد مارجع من ماتش كورة ومخرجش.. حسين فضل 6 ساعات كاملة جوا الحمام لدرجة إنهم نسيوه أصلًا وناموا، ولما أمه قامت تصلي الفجر وراحت الحمام عشان تتوضى، لقت الباب مقفول، والواد مش في أوضته، حاولت تفتح باب الحمام بس كان مقفول، فضلت تخبط وبرضو الباب مقفول، صرخت وصوتت فالبيت اتلم على صوتها وكسروا الباب، لقوا هدوم حسين على الأرض محطوطة جوا رسمة غريبة مرسومة بالفحم، عبارة عن راس واحدة، بس كأن عيل صغير اللي راسمها، وريش حمام ودم.. الجنون سيطر على عقولهم، محدش مستوعب هو راح فين، فكروا إنه يمكن يكون خرج من الحمام ونزل الشارع وهما ماحسوش بيه، لكن تليفونه كان زي ما سابه على السفرة في الصالة، ولو حتى نزل، فليه هدومه مرمية على الأرض، وايه الرسمة العجيبة دي؟! الموضوع كان مرعب وغريب، لكن مفيش حل ولا إجابة ؟ وفضل السؤال: حسين راح فين؟ أهله استسلموا بعدها للأمر الواقع واختفاء حسين، واللي أهله اعتبروه في عداد الموتى.
استمر الوضع على كده 4 شهور، وفي ليلة زي الليلة اللي اختفى فيها حسين، أمه صحيت تصلي الفجر، ولما دخلت الحمام، وقفت مذهولة في مكانها لثواني، وبعدها صرخت لما لقت حسين مرمي على الأرض عريان وفاقد الوعي، وجسمه كله أزرق وعليه آثار كدمات.. لما صرخت ولادها صحيوا ونقلوا حسين أوضته، وبما إني ساكن تحتهم، فقومت أجري على شقتهم عشان أشوف الست بتصرخ ليه، ولما شوفت حسين نايم على السرير ووشه كله وارم، قلبي اتقبض فجأة، وحسيت برعشة في جسمي معرفش ليه؟ لكن الأغرب ان حسين اتكلم وده خلانا كلنا نسكت، وقال:
_ أنا معملتش حاجة، متموتنيش، أنا اتجوزتك زي ما أنتي طلبتي، ارحميني، ارحميني..
وليد اخوه طلب من الكل يخرج، وفضلت أمه بس معاه عشان تاخد بالها منه، وعدى بعدها كام يوم، لحد ما عرفت من وليد إنهم جايبينله شيخ، وطلب مني أكون معاه وحكالي بسرعة إن حسين بيحكي إنه اتجوز جنية، وهي خطفته لتحت الأرض، ومن يوم مارجع من بعد اختفاءه وهما بيلمحوا واحدة بتظهر وتختفي، وبما إن الكلام كان بسرعة، مقدرتش أفهم منه أي حاجة أكتر من كده، بلغني بعدها بميعاد زيارة الشيخ، وقاللي إن لينا قاعدة وهيحكيلي بقية الحكاية بعدين، قفلت معاه السكة واستنيت لحد بعد صلاة العشاء لحد ما وليد اتصل بيا وقاللي إن الشيخ وصل، فطلعتله الشقة بتاعته، وقعدت أنا وهو ووالدته والشيخ مع حسين، بدأ الشيخ يرتل القرآن، ويلمس جبين حسين بايده، وكان كل شوية يشيلها وهو باين عليه كأنه بتلسع! وحسين يتنفض ويصرخ، وفجأة جسم حسين اتخشب، وبدأ يقول بصوت مسيطر عليه الخوف:
_ كانت بتظهرلي كل يوم في الحلم، لحد ما في مرة لقيتها قدامي حقيقة، وساعتها طلبت مني أروح معاها واتجوزها، وكانت كل ليلة بتفتني بيها لحد ما ضعفت، ونفذت اللي هي طلبته مني، استحميت في الحمام بدم حمامة، ورسمت رسمة صورة لواحدة ست على الأرض في الحمام بالفحم ، وساعتها محستش بنفسي غير وأنا في مكان غريب، عامل زي الكهف بس مدينة كاملة، كأن المدينة محفورة جوة جبل، وكل الطرق منورة بنور شموع وشعل نار! وناس شكلها مرعب، وشوشهم شاحبة وصفرا، وعنيهم واسعة جدًا ولونها واحد، رمادي زي القطط، ومعندهمش ودان زينا، ودانهم محدبة لتحت كأنها مقطوعة، وقبل ما أسألها قالتلي:
_ دول عشيرتي، وأنت هتبقى واحد منهم، لأنك بقيت جوزي، وبعد المراسم هكون قدمت القربان.
الشيخ رفع إيده بسرعة عن جبين حسين وكأنه اتحرق من لمسه، نظره اتعلق بيه للحظة، وبعدها بص لوليد وأمه بنظرة كلها قلق، حسين كان مرمي على السرير وعينيه مقلوبة، جلده بيعرق بشكل غريب كأنه سخن نار، صوته كان طالع متكسر وبيحاول يتكلم بس مخارج الحروف عنده بقت كلها تهتهة كأن حد ماسك لسانه، الشيخ رجع يقرأ تاني، وساعتها حسين فجأة فتح عينيه وابتسم ابتسامة باردة، الابتسامة دي كان فيها حاجة مرعبة ومش طبيعية، ابتسامة زي ما يكون في حد تاني هو اللي بيضحك بيها، وقال بصوت ناعم بس مرعب:
ـ مش همشي يا شيخ.. مش همشي، هو بتاعي، عايزني أسيبه ليه؟ ده بقى جوزي بدمه وروحه، إنت عارف قربان يعني إيه؟
أمه اتشعلقت في دراع الشيخ، كانت بتترعش ودموعها مغرقاها، ووليد واقف مصدوم، وأنا جسمي كله كان متكتف بالرعب، عارفين الإحساس لما تحس إنك في كابوس بس مش قادر تصحى منه؟ ده اللي كان حاصل، بس ده مش كابوس، ده واقع، واقع سوداوي ومجنون، الشيخ مسك المصحف بإيد ورفع التانية وبدأ يقرأ بصوت أعلى، والدنيا كلها اتشقلبت، الكهربا قطعت لحظة ورجعت تاني، بس في اللحظة اللي الكهربا قطعت فيها، حسيت بحاجة عدت من جنبي، حاجة مش مرئية بس ملموسة، كأن هوا سخن ضرب في وشي، صوت حسين اتحشرج كأنه بيقاوم حاجة، وفجأة قام من نومته قعد على السرير بسرعة رهيبة، جسمه اتحرك بحركة ميكانيكية غريبة، وشه كان مخطوف وعنيه باصة في الفراغ، وبعدها اتنفض ووقع تاني، بس قبل ما يوقع في حاجة طلعت من بؤقه، حاجة سودا زي الدخان اتجمعت في الهوا لحظة واختفت.
حسين غاب عن الوعي، والشيخ قال إن الجنية ماخرجتش، بس ضعفناها شوية، لازم يتعالج على مراحل، بس قبل ما يمشي قال لأمه ووليد يخلوا بالهم منه وقاللي أنا شخصياً:
ـ متسابوش لوحده تحت أي ظرف، وخلي بالك.. أحياناً العهد اللي بيتاخد بالدم مينفعش يتكسر بالساهل.. حد فيكم لازم يدفع التمن.. أو يضحي عشان حسين يرجع.
خرج الشيخ وسابنا واقفين زي التماثيل، حسين كان نايم بس نفسه مضطربة، وكأن روحه بتتصارع جوه جسمه، خرجت من الأوضة وهما ورايا، ولقيت نفسي واقف في الصالة دماغي بتلف، بصيت ناحية الحمام، الباب كان مفتوح.. والرسمة كانت لسه على الأرض مع إن فات فترة طويلة، الفحم كان باهت بس الخطوط لسه واضحة، راس الست المرسومة كان فيها حاجة غريبة، كأن حد عدّل عليها، عنيها اللي كانت نقطتين سودا بقوا فجأة مفتوحين. وبتبصلي.
قبل أي رد فعل مني لقيت أم حسين وقعت من طولها على أقرب كرسي وهي بتعيط بحرقة، كأنها شايفة النهاية قبل ما تحصل، كأنها شافت الكابوس ده قبل كده وعارفة تفاصيله، ووليد كان واقف فوق دماغها وعينيه كلها رعب، وأنا مكنتش قادر أفهم، بس قلبي كان بيدق بسرعة، كأن جسمي فهم الحاجة اللي عقلي مش مستوعبها، عيني جت على أوضة حسين اللي بابها كان مفتوح.. وشوفته لسه نايم على السرير بس كان فيه حاجة مش مظبوطة في وشه، تفاصيله نفسها كانت غريبة، كأن حد لعب فيها، ومش عارف هو نفس حسين اللي نعرفه ولا حد تاني شبهه، ومشيت من عندهم وأنا حاسس إن الليلة دي مش هتعدي بسلام، وفعلاً.. في نص الليل صحيت على صوت خبط جامد جاي من فوق، صوت حاجة تقيلة بتتزق على الأرض، وبعدين سمعت صوت حاجة بتتكسر، وبعدها صوت حاجة أقرب للزحف، قلبي كان بيدق بسرعة، قومت وأنا متردد أطلع ولا لا، لكن مسكت موبايلي وكلمت وليد، فضلت أرن عليه بس مكنش بيرد.. وبعد شوية أخيرًا رد، بس اللي رد مش وليد، كان صوت حسين، وقالي كلمتين بس، صوته كان متغير، كان أجش وخشن ومخنوق كأنه طالع من جوه بير، وقالي:
ـ بطل تدور.
والمكالمة اتقفلت.. وفضلت واقف مكاني مش قادر أتنفس، حسيت إن جسمي سقع فجأة كأن الدم اتجمد فيه.. كنت متأكد إني كلمت وليد، إزاي حسين هو اللي رد؟ وإزاي صوته كان كده؟ طلعت بسرعة السلم وخبطت على الباب، في الأول محدش فتح، لكن بعد ثواني سمعت صوت خطوات جايه ناحيتي، الباب اتفتح ببطء ووليد كان واقف قدامي عينيه كلها دموع ووشه مخطوف، دخلني بسرعة وقفل الباب وهو بيهمسلي بصوت بيترعش وقاللي:
ـ حسين اللي هنا مش حسين.
سألته:
ـ يعني إيه؟
قالي إنه صحي من النوم وهو بيتنفس بطريقة غريبة، كأنه بيخرج منه أصوات أشخاص كتير مع بعض، صوت طفل، صوت راجل عجوز، صوت ست بتضحك، وكلهم بيتكلموا في وقت واحد، وبعدها سكت وفتح عينيه وبص لهم، وبعدها بدأ يكتب حاجة على الحيطة بضوافره، أمهم كانت قاعدة على الأرض مش قادرة تتحرك من الصدمة، ولما بص على الحيطة لقى الكلمة اللي حسين كتبها، كانت كلمة واحدة، اسم تحديدًا، وكان مكتوب بخط متعرج كأن إيده كانت بترتعش وهو بيكتب، والاسم كان "ياسر".
سألت وليد:
ـ مين ياسر ده؟
وفجأة أمه رفعت راسها وبصتلي وعنيها كلها رعب وقالت:
ـ ياسر ده يبقى أخويا.
وسكتت بعدها، ووليد كمل وقال
ـ ياسر ده كان أصغر أخوالي، والموضوع ده حصله زمان بنفس الطريقة، اختفى ورجع بس مرجعش طبيعي، وأول ما رجع أهل البيت بدأوا يموتوا واحد ورا التاني، لحد ما جيه يوم وفتحوا أوضته وملقهوش، لا هو ولا سريره ولا هدومه، كأن الأوضة اتشالت من الوجود، ومن يومها محدش جاب سيرته كأنه عمره ما كان موجود.. حتى حسين مايعرفش حاجة عن الموضوع ده.
أنا كنت واقف بسمع ومش قادر أصدق، ليه كتب اسم ياسر؟ وإزاي فاكر حاجة عمره ما سمع عنها؟ وليه وشه متغير؟ وليه صوته بقى بالشكل ده؟ وفجأة سمعنا صوت جاي من أوضته، صوت كأن حاجة بتتحرك على الأرض، كأن حاجة بتمشي على أربع رجلين وإن في حد بيتنفس بصوت مرعب، وبعدين سمعنا حاجة أشد، صوت ضحكة، ضحكة ناعمة وهادية، ضحكة ست بس مش ضحكة عادية، الضحكة كانت جاية من حسين.. ضحكة زي ما تكون إشارة أو بداية لحاجة لسه هتحصل، ووليد كان واقف جنبي متجمد، عرقه نازل من جبينه وعينه مبرقة، وأنا حسيت بجسمي بيتقل كأن في حاجة تقيلة على صدري وبتضغط عليه.. الجو بقى حر فجأة، كأنك واقف جوه مكان مفيهوش ولا منفذ هوا، وبعدها الصوت اختفى.. وبعد لحظات صوت حسين طلع تاني، بس المرة دي مش بيضحك، كان بينادي بهمس، صوته ضعيف ومخنوق وقال:
ـ ماما.. ولعوا النور.. أنا مش لوحدي.. أنا خايف.
أنا ووليد اتبادلنا نظرات مرعوبة، قلبه كان بيدق بسرعة لدرجة إني سامعه، لكنه اتحرك بخطوات بطيئة ناحية الأوضة وأنا كنت وراه، كل خطوة كأنها بتاخدنا لجهنم، دخلنا الأوضة وكانت ضلمة، حسين كان نايم متكوّر على نفسه في نص السرير، لكن لاحظت إن في حاجة غريبة، حاجة خلت الدم يتجمد في عروقي، حسين كان نايم لكن السرير عليه أثر جسم تاني جنبه، كأن حد كان نايم جمبه وقام، العلامات واضحة في المرتبة، حسين كان لوحده لكن السرير بيقول غير كده.. وليد مد إيده هز حسين، لكنه فضل متكتف مكانه، جسمه ناشف كأنه تمثال، وبعدين ومرة واحدة فتح عينه، بس عينه مكنتش طبيعية، كانت بيضا بالكامل مفيش سواد، مجرد فراغ أبيض، حرك راسه ناحية وليد وبعدها ناحيتي، وبعدين نطق وقال كلمة واحدة، وبصوت مش صوته، كان صوت أعمق وأهدى وقال:
ـ جيتوا متأخر.
وبعدها، الأوضة كلها بردت برودة مش طبيعية.. ورا ضهر حسين على الحيطة ظهر ظل، مش ظل جسم حسين.. ظل كان أطول وأرفع.. ظل ضبابي.. وكأن الحيطة نفسها بقت بوابة لعالم تاني غير عالمنا..
أنا كنت واقف متسمر مكاني وحاسس إني مش قادر أتنفس، كنت حاسس إن اللي بيحصل قدامي مش حقيقي أو إني بحلم أو انجننت.. حسين قعد فجأة، جسمه اتحرك بطريقة غريبة كأنه مكنة أو إنسان آلي مش بني آدم.. بص لوليد وبعدها بصلي وعينيه بدأت تدمع، لكن الدموع كانت سودا زي حبر ناشف وسابت أثر على خده، وقال بصوت حسين الحقيقي المرة دي:
ـ ساعدوني
بمجرد ما قالها النور طفى فجأة، والبيت كله غرق في الضلمة، وأقسم بالله إني سمعت صوت همس بس مش همس حسين ولا وليد، همس جاي من كل حتة، همس كتير، أصوات متداخلة، كأن المكان كله بيتكلم، وأنا حسيت بحاجة بتتحرك جوه الأوضة، وحد يتنفس جنبي، ووقتها قبل ما أقدر حتى أفكر، حسين صرخ بس مش صرخة خوف، كانت صرخة وجع، وجع حقيقي، وكأن في حاجة بتشد روحه من جوه جسمه، وقبل ما أتحرك النور رجع، ولما رجع حسين كان واقع على الأرض جسمه متشنج، والحيطة وراه اللي كان عليها الظل، كانت فاضية مفيهاش أي أثر، لكن كان في حاجة جديدة ظهرت، جملة مكتوبة على الحيطة ومحفورة حفر كان عميق، كأن حد حفر على الحيطة بمشرط، والجملة كانت واضحة:
ـ مش لوحده.
والمكان اتملى بريحة تراب رطب، ريحة مش مفروض تكون في أوضة زي دي، وليد قعد على الأرض جنبه وحضنه وهو بيترعش، وأنا وقفت مكاني مش عارف أقول إيه ولا أعمل إيه.. بس اللي أنا متأكد منه إن حسين اللي رجع مش حسين اللي نعرفه، حسين رجع ومعاه حاجة مستنية لحظة مناسبة عشان تعمل حاجة مفيش حد قادر يتوقعها.
الليل بقى أطول ومش عايز ينتهي.. والبيت كله كان محبوس في حالة من الترقب، حسين جسمه ثابت بطريقة غريبة، حتى صدره مكنش بيعلى وينزل مع النفس بشكل طبيعي، كأنه في حالة بين الحياة والموت، ووليد كان قاعد جنبه ملامحه شاحبة ووشه فيه خوف مكنش قادر يخفيه، وأنا كنت واقف بعيد شوية وعيني على حسين بس وداني سامعة حاجات تانية، حاجات مكنتش واثق هي هي حقيقية ولا أنا اللي بخرف، حاجات زي همس، صوت حاجة بتتحرك في الشقة، حاجة بتتمشى برا الأوضة بهدوء، حاجة بتنفس بصوت هادي، وأمهم كانت قاعدة في ركن الأوضة مسهمة ونازل عليها سهم الله زي ما بيقولوا.. جسمها كله كان متشنج وعنيها متثبتة على حسين وكأنها شايفة فيه حاجة إحنا مش شايفينها، ولما وليد قرّب منها عشان يهديها، أمه رفعت عينيها فيه وقالتله بصوت ضعيف:
ـ ده مش حسين.. لا يمكن يكون حسين ابني
وليد كان بيتنفس بصعوبة وبيحاول يقنعها إن حسين رجع، بس هي هزت راسها إنه لا، وعنيها فضلت سابحة في الفراغ كأنها شايفة حاجة تانية، وقالت:
ـ أنا شوفت ياسر وهو صغير.. شوفته وهو بيتحول لحاجة غير البشر، كان بيرجع كل ليلة من المدرسة بنفس وشه، بنفس صوته، لكن كل يوم بيتغير، مرة ضحكته، مرة طريقته في الكلام، مرة لمعة عنيه، لحد ما في الآخر مابقاش فيه أي حاجة تدل على إنه أخويا الصغير..
وليد سكت، وأنا حسيت برجفة في جسمي، وبعدين حسين اتحرك ببطء، جسمه بدأ يتشنج، وبعدين عينه فتحت، لكن مش كلها، فتحة صغيرة بس وفضل باصص على السقف كأنه شايف حاجة فوقنا، وبعدين بدأ يتحرك أكتر، مش بالحركة العادية، حركة غريبة، إيده بتتلوى بشكل مش طبيعي، وجسمه بينحني بطريقة مش مفروض جسم الإنسان يقدر يعملها، وليد نط بسرعة عشان يوقفه ويمنعه لكنه بنجرد ما لمسه، حسين فتح بؤقه مرة واحدة وخرج منه صوت عميق مجوف، صوت كأن حد بيصرخ جواه وهو مش قادر يخرجه، وبعدين النور انطفى وكل حاجة بقت في ضلمة مطلقة، وسمعنا صوت خطوات حد بيجري على الأرض ومش عارف الصوت ده جاي منين، حد بيجري بسرعة مش طبيعية، وليد صرخ وأنا حسيت بحاجة عدت جنبي بسرعة، حاجة مكنتش قادرة ألمحها لكن وجودها كان واضح، حاجة بتتنفس جمبي، وريحة تراب نشفة ملت المكان، وبعدين النور رجع، ولما رجع حسين كان واقف عند باب الأوضة وضهره لينا، راسه وكتافه مرفوعين لفوق بطريقة مش طبيعية، كأنه مش واقف، كأنه متعلق من حبال في السقف مش باينة، ولما وليد نادى عليه، حسين لف، وبمجرد ما لف، كلنا اتجمدنا في مكاننا، لأنه مش حسين اللي لف، حسين كان لسه واقف مكانه، اللي لف كان حاجة تانية، حاجة جوه جسمه، حاجة بتبص علينا بعينين مليانة سواد مش طبيعي، وابتسامة مش ابتسامة، كانت حاجة أبشع، كانت حاجة بتقول إن حسين مش لوحده.
كل حاجة كانت بتتحرك حوالينا ببطء، حسين كان واقف عند الباب بس حسين مش حسين وعينه بتبرق.. ووليد كان بيهمس باسمه وبيحاول يشوف لو في أي حاجة منه لسه موجودة، لكن حسين مكنش بيرد، كان بيتنفس ببطء.. كل نفس بيطلع منه كان تقيل.. وأنا كنت واقف متخشب مش قادر أتحرك ولا قادر حتى آخد نفسي.. أم حسين كانت قاعدة مكانها زي ما هي مصدومة ومش مصدقة كل اللي بيحصل.. أو كأنها عارفة اللي بيحصل ده بيحصل ليه.. وعارفة كويس إن اللي حصل مش مجرد حاجة عشوائية، كان حاجة متكررة، حاجة بتحصل بقالها سنين، حاجة بدأت قبل حسين بكتير، حاجة بدأت من زمان من قبل ما حد في البيت ده يكون حتى اتولد، ولما سألتها بصوت متردد، سألتها وأنا عارف إني ممكن أندم على السؤال، قالتلي بهمس كأنها مش عايزة الكلام يطلع بصوت عالي، كأنها خايفة إن اللي جوه حسين يسمع، قالت:
ـ البيت ده ملعون، ملعون من زمان، مش بس البيت، الدم، دم العيلة دي، الحاجة اللي حصلت لياسر من سنين واللي حصل لحسين دلوقتي مش صدفة، مش حاجة بتحصل لأي حد، دي حاجة بتحصل لنا إحنا بس.
عينيها فضلت متثبتة على حسين، كانت أنه بيسمعنا، كأنه مستني يسمع باقي القصة، وكأن اللي جواه مستمتع إنه يسمع حقيقته على لسان أمه، وبصتلي وقالت:
ـ كان في واحدة من زمان، من زمن بعيد، واحدة ملهاش اسم، واحدة محدش يعرف أصلها، بس كانت عايشة هنا، هنا في المكان ده، مش في البيت، بس في الأرض اللي اتبنى عليها البيت، كانوا بيقولوا إنها كانت بتظهر كل فترة تاخد حد صغير، حد من العيلة، وتاخده وتخليه جزء منها، ولما بيرجع مش بيكون هو، اللي بيرجع بيكون جواه حاجة تانية، وعلشان محدش يعرف الحقيقة والسر يفضل مدفون، العيلة كلها قررت تفضل ساكتة، وكل مرة حد يختفي ويرجع متغير، كانوا بيحاولوا يقنعوا نفسهم إنه مجرد كابوس، لكن الكابوس عمره ما كان كابوس، الكابوس كان بيحصل بجد، ياسر كان واحد منهم، ودلوقتي دور حسين.
وسكتت.. وليد كان واقف متجمد كأن اللي بيسمعه خارج حدود الواقع، كأنه مش قادر يصدق إن حياته كلها وحياة عيلته بالكامل كانت جزء من لعبة أقدم منه، وأنا كنت واقف مش عارف أتنفس، مش عارف أستوعب إن حسين مش ضحية حادثة، حسين كان جزء من شيء مستمر، شيء كان بيحصل وبيفضل يحصل، شيء عمره ما اتوقف، حسين ما اختفاش، حسين كان قربان، قربان لشيء مكنش مفروض نعرفه، عنيه لما اترفعت عن الأرض وبصتلنا، كان في شيء مرعب في الطريقة اللي بيبص بيها، شيء ساكن وهادئ ومخيف، شيء بيقول إنه فاكر كل كلمة، وإنه موافق ومستعد والمرة دي مش هيختفي، المرة دي هو اللي هيكمل.
حسين فضل واقف في مكانه، صهره لسه مفرود وعينه لسه مليانة بالسواد اللي مفيهوش أي ملامح للحياة، لكن رغم كل حاجة غريبة فيه، رغم إحساس الرعب اللي كان مالي المكان، كان في حاجة تانية بدأت تظهر، حاجة في ملامحه وفي الطريقة اللي بيتنفس بيها، حاجة بتقول إنه مش ثابت زي ما كنا فاكرين، حاجة بتقول إن جوه جسمه كان في معركة بتحصل كأنه كان بيقاوم، كأنه كان بيتحرك بين عالمين، عالم بيحاول يمسك فيه، وعالم تاني بيحاول يسحبه لجوه، وأمه كانت قاعدة مكانها زي ما هي وعنيها لسه متثبتة عليه، بس المرة دي ملامحها كانت بتتغير، ملامحها كانت بتتحول من الخوف للحزن، ومن الحزن ليأس عميق، كأنها عارفة إنه خلاص بقت عارفة وشايفة النهاية قبل ما تحصل.. وليد كان بيقرب ناحيته بحذر وخطواته بطيئة كأنه بيقرب من حيوان مفترس ممكن يهجم عليه في أي لحظة، وأنا كنت واقف مكاني جسمي متيبس ومشلول ومخي مش قادر يلاحق كل اللي بيحصل، كل كلمة قالتها أمه كانت بتدور في دماغي، فكرة إن العيلة دي مش بس ضحية للصدفة، وإنها عيلة ملعونة بلعنة سارية في الدم، لعنة بقالها سنين بتاخد واحد ورا التاني، واحد يختفي ويرجع وهو حاجة تانية، والتاني يموت في ظروف غريبة، لحد لما ميفصلش حد.. لحد ما نسل الدم ده يخلص وينتهي بالكامل.. حسين كان لسه واقف كأنه مستني اللحظة المناسبة، اللحظة اللي هيقرر فيها هيفضل معانا ولا هيمشي، بس حسين مش هو اللي كان بيقرر، كان في حاجة تانية مش مرئية بتعافر جواه، حاجة كنا حاسين بيها في الرعب اللي كان مسيطر ومتحكم فينا وفي المكان حوالينا كله، في الهمس اللي كنا بنسمعه أحيانًا من غير ما نعرف جاي منين، في الحركات البسيطة اللي حسين كان بيعملها كأنه مش هو المتحكم في جسمه وإن في حد تاني بيحركه.. وليد وقف قدامه ورفع إيده ولمس كتفه، بس حسين متحركش، حسين مكنش حتى بيتنفس بالطريقة العادية، صدره كان بيفضل ثابت لفترة طويلة وبعدين ياخد نفس عميق وكأنه بيعوم جوه جسمه، وبعدين مرة واحدة ابتسم ابتسامة صغيرة، وشه كان ثابت وقال جملة بصوت هادي ضعيف لكنه واضح، قال:
ـ مش هتمشي مني.
وليد شال إيده بسرعة ورجع خطوة لورا، وأنا حسيت بحاجة غريبة، حاجة أشد من الرعب، حاجة قريبة للإحساس إنك شايف حد بيتحول قدامك لحاجة عمرك ما شوفتها قبل كده ولا اتخليتها حتى، وأمه همست وهي عنيها بتلمع بالدموع:
ـ حسين لسه موجود لكننا مش شايفينه، موجود وبيحاول وبيعافر وبيقاوم، بس الي مسيطر عليه أقوى.
وليد رجع قرب تاني بس المرة دي بإصرار أكتر، مسك حسين من دراعه وهزه بعنف، قاله بصوت مليان رجاء:
ـ حسين، فوق، قاوم، لو في حتة منك لسه حقيقية ارجع وقاوم.
في اللحظة دي حسين بصله للحظة طويلة، لحظة عينه فيها كانت بتلمع وكأن في جواه حاجة بتصرخ، حاجة بتتقطع نصين، وكأن في صراع لكن قبل ما يحصل أي حاجة وقبل ما حسين يرد وقبل ما حتى يتحرك، النور طفى مرة واحدة، البيت كله بقى ضلمة، إحساس إنك متحاصر في مكان وأنت مش شايف أي حاجة غير الفراغ، وصوت أنفاس تقيلة، أنفاس حسين، أو اللي جوه حسين، أو الحاجة اللي كانت في الأوضة معانا، حاجة كانت بتتنفس، وكأنها أول مرة تتنفس في حياتها، وكأنها أخيرًا خرجت، وكأنها مستعدة تاخد مكانها ومفيش أي طريقة نعرف في اللحظة دي حسين فين أو بيحاول يرجع إزاي.
الضلمة كانت غريبة، مش مجرد نور انطفى، لا، كانت ضلمة بتخنقنا وبتضغط علينا، بتحاصرنا، صوت أنفاس حسين كان تقيل، بس كان فيه حاجة تانية، حاجة مش مفهومة، مش بس أنفاسه، كان فيه زي همس، مش صوت واحد، كأنه صوتين بيتكلموا مع بعض، صوت حسين وصوت تاني جواه، صوت أعمق، صوت مش بشري، وأنا كنت واقف مكاني حاسس برجليا متخشبة، وحاسس بالعرق البارد اللي نازل من كل حتة في جسمي، والمكان كان ساكت بطريقة بتخوف أكتر من أي صراخ، لحظات كانت طويلة بشكل غير طبيعي، وأنا مش عارف حسين واقف فين، مش عارف إذا كان اتحرك ولا لسه في مكانه، مش عارف حتى لو رفعت إيدي هشوف كفي ولا لأ، وفجأة النور رجع، بس مش مرة واحدة.. ده رجع على مراحل، كأنه كان بيحاول يقرر إذا كان هيرجع ولا لا أو متردد يرجع، لما النور رجع، حسين كان لسه واقف عند الباب لكنه كان متغير، وشه كان باهت وملامحه كأنها منحوتة من حجر مش بيتنفس أصلًا، عينه لسه سودة بس السواد كان بيلمع.
ووليد كان واقف جنبه وباصص لحسين أخوه بخوف، وكأن اللي حصل في الضلمة كان أسوأ بكتير من اللي توقعناه، وكأن في حاجة حصلت وإحنا مش فاكرينها، وأمه كانت لسه في مكانه بتبصله بطريقة غريبة، مش نظرات رعب وبس، كان فيه في عنيها نظرات رجاء، رجاء ضعيف جدًا كأنها بتتعلق بآخر أمل، كأنها بتكلم ابنها اللي لسه جوه الكيان اللي واقف قدامها، همست بصوت مرعوب لكنه مليان حنان:
ـ حسين يا ابني، لو لسه سامعني ارجع.
بس حسين ماردش، حسين حتى مظهرش أي علامة إنه سمع وكأنه اتحول لحاجة صلبة أو جماد، حاجة فقدت علاقتها بالحياة، لكن بعد ثواني طويلة ابتسم ابتسامة صغيرة لكن مختلفة عن الابتسامة اللي عملها قبل كده، كانت ابتسامة حسين ومش ابتسامة الكيان اللي كان جواه، كانت ابتسامة ضعيفة لكننا قدرنا نشوفها، كانت مجرد لحظة بس أنا شوفتها ووليد أمهم.. الابتسامة دي اختفت بسرعة وكأن في حاجة منعتها تكمل. حاجة رجعته للعمق اللي كان غرقان فيه، حاجة كانت بتحاول تسيطر عليه بالكامل، بس الفكرة إن حسين كان لسه بيقاوم، كان جوه صراع كأن اللي كان حصل قبل كده مكانش النهاية، كأن النهاية لسه بتتقرر، حسين كان لسه عنده فرصة ووليد فهم ده، قرب منه أكتر ومسكه من كتفه وهزّه بعنف، وقاله بصوت أعلى:
ـ فوق بقى يا حسين.
صوت وليد كان مليان قوة، بس مش القوة اللي تيجي من الشجاعة، القوة اللي بتيجي من الخوف، من الفزع، من الاستسلام لفكرة إنك مفيش حاجة تقدر تعملها غير إنك تحاول، وحسين في اللحظة دي اتحرك، جسمه اتهز للحظة وكأنه عايز يرد، وكأنه عايز يخرج من سجنه اللي موجود جواه.. بس مرة واحدة بدأ جسمه يرجع لورا كأنه حد بيشده، كأنه بيتراجع لورا غصب عنه، ووليد كان ماسكه وبيحاول يشده ناحيته، وأمهم كانت بتقرب وبتحاول تلمسه وهي بتقول يا رب كأنها عايزة تثبت إنه لسه موجود، وأنا كنت بتفرج، بتفرج وأنا حاسس إني متجمد في مكاني، كل حاجة في اللحظة دي كانت بتتحرك ببطء، وبعدين حسين بدأ يصرخ، الصرخة دي مكنتش صرخة عادية، مكنتش صرخة ألم، كانت صرخة حد بيتقطع نصين، حد جوه صراع، حد مش عارف هو مين، وكان فيه حاجات بتحصل في الأوضة، الهوا كان بيتحرك بطريقة مش طبيعية، حاجات كانت بتتغير، الأثاث فضل يتهز.. الحيطان نفسها كان باين عليها كأنها بتنبض، كأن البيت كله بيتفاعل مع اللي بيحصل..
الصرخة فضلت تكبر والصوت بقى متداخل، صوت حسين وصوت الكيان اللي جواه، وكان واضح إن اللي هيكسب المعركة دي هيحدد مصير كل حاجة، ووليد كان مش راضي يسيبه، كان بيحاول بكل قوته يشده وعمال بيصرخ فيه وبيقوله:
ـ مش هسيبك.. مش هسيبك تروح مني.
وحسين كان بيتلوي في إيده، كان بيحاول يتخلص منه، بس مرة واحدة وقف كأنه ميت، مفيش نفس، مفيش حركة، عينيه كانت مفتوحة لكن مفيش أي حياة فيها، ووليد كان بيبصله ويحاول يفهم، والأم كانت باصاله وعينيها مليانة رعب وخوف وحزن، وفجأة حسين ابتسم بس المرة دي كانت ابتسامة كاملة، ابتسامة واسعة، ابتسامة مليانة بشيء مش طبيعي، ووشه بدأ يتغير، ملامحه بقت أغمق، جلده بقى مشدود بطريقة غريبة وإيده اترفعت ومسك دراع وليد بقوة، بقوة مش طبيعية، قوة مش من جسم إنسان، وليد صرخ وقال:
ـ حسين؟
وحسين بصله وقال بصوت مزدوج، صوت فيه حسين وصوت فيه حاجة تانية:
ـ حسين مش هنا خلاص.
وبعدها الدنيا كلها وقفت، البيت كله سكت، وكل حاجة كانت في حالة سكون، وبعد لحظة كل حاجة انهارت، كل النور طفى، كل الأصوات اختفت، كل حاجة بقت عدم، وبعدين مرة واحدة كان في صوت كأنه تفريغ للهواء، زي ما يكون في حاجة اتخلصت واتحررت من قيودها، وبعد لحظات النور رجع، ووليد كان واقع على الأرض، وأمه كانت قاعدة على ركبها وأنا كنت متسمر مكاني، أما حسين فكان واقف بيبصلنا وملامحه رجعت لحسين اللي نعرفه... بس عنيه كانت فاضية، حسين مش هو حسين اللي نعرفه، حسين كان شخص تاني، شخص رجع بس مش لوحده، وأمه كانت بتبصله وقامت بهدوء وخوف وفضلت تلمس ملامحه ووشه وفضلت تردد اسمه.. بس حسين كان ساكت وبيتنفس ببطء، وفضل يبصلها، بعد لحظة طويلة ابتسم، وبهدوء شديد قال بصوت خافت:
ـ أنا هنا.
أمه انهارت وفضلت تعيط، ووليد كان متردد، وأنا حسيت بحاجة مش مفهومة، حسين كان فين ورجع؟ هل فعلاً حسين رجع، ولا الكيان اللي كان جواه وكان بيحاول يسيطر عليه، الكيان اللي حاول ياخده، هل هو فعلا خرج؟ هل فعلا المعركة خلصت؟ ولا حسين دلوقتي مش بس حسين؟ ولا البيت، البيت اللي كان بيسمع وبيشوف، البيت اللي كان جزء من اللعنة، لسه مستني دوره عشان ياخد اللي ليه؟
فات شهور ولسه مالقيتش الإجابة.. حسين موجود لكن في بعض تصرفات ليه مش طبيعية.. ومش عارف أنا شايفها مش طبيعية عشان كل اللي مريت بيه، ولا هي طبيعية وأنا اللي بقى عقلي رابط كل تصرفات حسين بالوقت المريب والمرعب اللي مريت بيه معاه وشاهد عليه؟.
تمت..
انتهت احداث الرواية نتمني ان تكون نالت اعجابكم وبانتظار ارائكم في التعليقات وشكرا لزيارتكم عالم روايات سكيرهوم
للمزيد من الروايات الحصرية زورو قناتنا علي التليجرام من هنا