قصة جنية الحى الشعبي كاملة بقلم فهد حسن
القصة كاملة
بيت أم سناء هو البيت الأغرب في شارعنا والأكثر رعبًا، لا حد بيدخله ولا حد بيطلع منه، بيت مكون من دور واحد - لا تعرف هو أرضي ولا علوي - قديم ومتهالك بصورة كبيرة، أقدم بيت في الشارع، بل في العالم من وجهة نظري، رغم إن بيوت شارعنا كلها قديمة، إلا إن بيت أم سناء ليه طابع خاص، لشكل بُناه العجيب، ولوجود أم سناء فيه، الست اللي شعرها أبيض منكوش وجلابيتها السودا المرقعة الرثة القديمة اللي مبتغيرهاش، وقعدتها في البلكونة من نص الليل لقبل الفجر، لا نعرف هي جت منين ولا ليه اسمها أم سناء من الأساس، كل اللي نعرفه عنها حكايات أباءنا وجدودنا، وإنها ست مُعمرة، عمرها عدى ال150 سنة وزيادة ومش مجازًا.. حكايات تبان خزعبلية لينا لما كنا أطفال، الناتج منها تخويفنا عشان نسمع الكلام، زي حكايات أبو رجل مسلوخة، وبياع العسل وبتوع الروبابيكيا والساكسونيا، لكن مكناش بنصدق غير حكاية واحدة بس، حكاية أمنا الغولة أو أم سناء بمعنى أوضح.
مكنش حد بيجرؤ يعدي من قدام بيتها في وقت قعادها في بلكونتها، وأي حد كانت ظروفة بتجبره ينزل أو يرجع متأخر، كان بيلف من أي شارع موازي لشارعنا عشان متلمحهوش، ومفيش حد شاف منها أي حاجة غريبة، لكن الحكايات عنها مكنتش بتنتهي ومنها:
* إنها ساحرة بتسخر الجن لخدمتها وعندها عشيرة كاملة ساكنة معاها في البيت، وهما اللي بيجبولها طلباتها واحتياجتها.. وكنت بتوقف عند الحكاية دي وأنا طفل، وأتمنى لو كان عندي عشيرة تنزل تجيب طلبات البيت مكاني.
* وحكاية إنها اتجوزت شيطان وخلفت منه سناء، وبعد ما خلفت الشيطان خد سناء وراح العالم السفلي فهي اتجننت.
* وحكاية تالتة إن جوزها كان دجال، ومرة حضر شيطان فالشيطان أُعجب بيها فسحرها وجننها وقتل جوزها واختفى.
فضلت أسمع الحكاية دي سنين وسنين، من وأنا عندي 4 سنين لحد ما دخلت أولى جامعة، وفي ليلة أم سناء مخرجتش البلكونة، الناس استغربوا، لكن الأمر عدى ليلتها بس، وبعدها ولمدة أسبوع كامل، أم سناء اختفت تماما.. ده كان غريب جداً على أهل الشارع اللي اتعودوا يشوفوا أم سناء في بلكونتها لأكتر من 50 سنة مثلًا كل ليلة ومن غير انقطاع، ومفيش مرة سمعنا إن ليلة عدت وأم سناء مخرجتش قعدت في بلكونتها.
فات أسبوع كمان لحد ما تمينا شهر كامل، وأم سناء اختفت... بدأوا الناس يتكلموا إنهم يدخلوا البيت يشوفوها راحت فين، وفعلا قرروا، لكن الدنيا كانت ليل والأمر مايسلمش والنهار ليه عنين زي ما بيقولوا، فقرروا يدخلوا البيت بالنهار.
ليلتها سكان الشارع كلهم اتفزعوا من نومهم على صوت صراخ وعويل ست كأنها فقدت حد من عيالها، والصوت طبعًا كان جاي من بيت أم سناء، لكن أم سناء مازالت مختفية، ساعتين تقريباً والصوت مستمر دون انقطاع، لحد ما قرآن الفجر بدأ فالصوت اختفى.
الناس خافوا أكتر وأجلوا موضوع دخول البيت ده، وتاني ليلة صحينا على نفس الصوت في نفس التوقيت، والمرة دي لقينا خيال أسود عملاق بطول عمارة 20 دور طاير فوق البيت، هو خيال لإنسان راجل لكن لا ليه ملامح ولا هيئة أقدر أوصفها، مجرد خيال يخلي قلبك يوقف من الخضة لما تشوفه، كل واحد دخل بيته وقفل على نفسه لحد ما الخيال اختفى.
في الليلة الي بعدها، الناس بقت مترقبة ومستنية، لا حد بينام ولا حد بيرتاح، كل العيون على بيت أم سناء، لكن لا صراخ ولا خيال أسود ظهر... الدنيا كانت هادية هدوء مش طبيعي، هدوء يخوف أكتر من أي صوت.
سكون تحسه متعمد كأن حاجة مستنية اللحظة المناسبة عشان تظهر.. وفعلاً لما الساعة جت عند الساعة بقت 3 الفجر، باب البيت اتفتح لوحده ببطء، كأن حد جوه بيفتحه لكنه مش مستعجل كأنه عايز الناس كلها تبص وتشوف الباب وهو بيتفتح.
أول واحد لاحظ الموضوع كان عم سعيد.. الراجل العجوز اللي قعد عمره كله بيقول إنه مش بيخاف من حاجة. وقف في نص الشارع وبص ناحية الباب بس مكنش عارف يتحرك كأنه متسمر في مكانه.
وبعدين خرجت أم سناء.. بس مش بنفس الشكل اللي الناس كانت متعودة عليه.. الجلابية السودا بقت مشقوقة من أماكن غريبة، كأن حد خربشها بضوافر طويلة، شعرها الأبيض بقى منكوش أكتر، لكن المشكلة كانت في وشها.. ملامحها بقت مش طبيعية وتخوف أكتر.. برغم إنها كانت زي ما هي لكن في نفس الوقت مختلفة.. الوش هو نفس الوش لكن تحس إنه مش وش بني آدم.. كنت واقف في البلكونة لما سمعت صوت الباب وشايف كل حاجة.. عم سعيد فتح بؤقه عشان يقول حاجة أو يصرخ، لكن قبل ما يقدر ينطق بحرف، أم سناء كانت بقت قصاده مباشرة.. وحركت صباعها دخلته في صدره وصباعها غاص لجوه كأنه سكينة بتشق صدره.
الراجل وقع على ركبته وهو بيشهق، والدم نزل من صدره وبؤقه ومناخيره وعينيه.. وقبل ما أي حد يتحرك عشان يساعده، سمعنا الصوت اللي كأن حد بيهمس جوه عقلنا مباشرة:
ـ جبتوا الخراب لبيوتكم.
أم سناء رجعت ودخلت جوا البيت والباب اتقفل وراها لوحده.. بس المرة دي في حاجة جديدة ظهرت.. البيت ابتدى يتحرك.. مش مجرد اهتزاز بسيط.. ده كأنه بيهددنا.. الحيطان بتتمدد وتنكمش وتتشرخ بصورة مرعبة.. وبدأ يطلع من الشروخ دي دخان أسود زي دخان الحرايق.. وسمعنا أصوات صرخات:
ـ أنا لسة هنا.. استنوا اللي جاي لأن محدش هيفلت.
في اللحظة دي محدش كان عارف يصرخ أو يجري أو حتى ياخد خطوة واحدة. اللي حصل كان أكبر من أي خيال، أكبر من أي خوف الناس كانت متعودة عليه.
بس الليلة دي كانت مجرد البداية.
الناس وأنا منهم اتحركنا وشيلنا عم سعيد نقلناه المستشفى، الغريب إن جسمه مكنش فيه أي أثر لطعنة، ولا أثر للدم من مناخيره ولا عنيه ولا بؤقه.. والتشخيص قال إنها أزمة قلبية وممكن تحصل من غير سبب عادي، فسكتنا لأننا لو حكينا هحولونا لمستشفى الأمراض النفسية.. سيبناه تحت الرعاية وكلمنا ولاده ورجعنا المنطقة.. من بعد اللي حصل الناس بقت عايشة في رعب حقيقي، الليلة اللي فاتت سابت الشارع كله في حالة ذهول، بيت أم سناء مش مجرد بيت مهجور ولا هي مجرد ست مجنونة قاعدة لوحدها، الموضوع طلع أكبر من كده بكتير، البيت ده لا يمكن يكون طبيعي أبدًا.. فيه حاجة جوانا بتقول إننا غلطنا لما قررنا ندخل ونشوف هي راحت فين، كأننا كنا بنحاول نفتح باب مقفول بقاله سنين طويلة، باب محدش كان مفروض يفتحه ولا يفكر حتى، والأهم محدش كان مفروض يقف قدامه، اللي شافوه الناس الليلة اللي فاتت مش مجرد سحر ولا خيال، ده كان واقع، واقع مرعب وبيكبر ويتمدد زي الحيطان اللي اتحركت قدام عنينا، واللي حصل مع عم سعيد خلانا نفهم إن اللي كنا فاكرينه مجرد أسطورة طلع حقيقة، أم سناء مش بني آدمة عادية، ولا مجرد ست عجوزة مجنونة، أم سناء حاجة تانية خالص، حاجة مش من عالمنا ده، حاجة محدش فينا عارف يفسرها بس كلنا حسينا بيها وهي بتخترق عقلنا وتهمسلنا جوه دماغنا كأنها بتزرع جملة: جبتوا الخراب لبيوتكم جوانا للأبد.
من بعد الليلة دي الشارع مابقاش زي الأول، الليل بقى أطول كأن الساعة تلاتة الفجر بقت هي الساعة الأبدية ومابقيتش بتعدي، الناس كلها بقت بتقفل على نفسها بعد العشا، كأننا بقينا في حظر تجول، واللي يضطر ينزل متأخر لأي سبب مابيقربش من بيت أم سناء، الشارع اللي كان عادي بقى شارع الرعب والخوف، بيتها بقى نقطة سوداء في المكان، والناس بقت عايشة في الذعر وكل واحد خايف يحصل معاه اللي حصل مع سعيد.
بعد 3 ليالي من اللي حصل، اتفقوا أهل الشارع إن لازم يتحركوا ويعملوا أي حاجة، أو يشوفوا شيخ ولا أي حد ييجي يقرأ قرآن أو حتى أي دجال يفهم إيه اللي بيحصل، المهم إن الوضع ده ميكملش ويخلصوا من اللعنة اللي حلت على الشارع، وفعلاً جابوا شيخ، راجل كبير في السن عينيه مليانة رهبة، حسيت إنه من ساعة ما سمع اللي حصل وهو عارف إن الحكاية مش سهلة، أول ما قرب من البيت وقف وأخد نفس عميق، بص حواليه كأنه مستني حاجة تحصل، وبعدها رفع صوته وبدأ يقرأ آيات من القرآن بصوت قوي، ساعتها اهتزاز البيت زاد، الحيطان بدأ يخرج منها صوت غريب كده زي ما يكون في حاجة محبوسة جوه وبتحاول تطلع والهوا بقى أشد، وكل ما الشيخ يعلي صوته، كل ما البيت يتحرك أكتر، وبعد دقيقة واحدة، صوت صراخ الست اللي سمعناه الليلتين اللي فاتوا رجع، بس المرة دي كان أقرب وأوضح.. الصوت كان جاي من جوه البيت زي ما يكون حاجة جوه البيت بتتوجع أو غضبانة، أو الاتنين مع بعض، وفجأة الباب اتفتح مرة تانية لوحده، بس المرة دي محدش خرج، لا أم سناء ولا أي حد، وفضل صوت الغضب مستمر ومحدش فاهم حاجة.. الشيخ اتراجع خطوة والناس كلها حسيت بيه وهو بدأ يتوتر، وبعدها من جوه البيت طلع كيان أسود، مش ليه شكل محدد، حاجة كأنها دخان أسود بيتحرك لوحده وطلع منه صوت غليظ وقال كلمة واحدة بس:
ـ غلطتوا.
وفي ثانية الشيخ وقع على الأرض، جسمه بقى متشنج وبيترعش وعينيه اتفتحت على آخرها كأنه شاف حاجة أكبر من إنه يستوعبها، وبدأ يصرخ صرخات مش طبيعية ولا صرخات بني آدم خايف.. دي صرخات حد شاف حاجة غيرت كل حاجة جواه، ومن غير أي مقدمات جسمه بقى متصلب ووشه اتجمد، ولما حد قرب منه لقوه ميت، عينيه وبؤقه مفتوحين كأنه اثبت على لحظة رعب أبدية، ومن هنا الناس فهمت إن بيت أم سناء مش بيت مهجور، ولا بيت مسكون، بيت أم سناء مش بيت أصلاً، بيت أم سناء هو بوابة، بوابة لحاجة أقدم بكتير من الشارع ومن العالم اللي إحنا فاكرينه، بوابة لحاجة اتفتحت من جديد ومحدش عارف يقفلها.
من بعد اللي حصل للشيخ، الشارع كله دخل في حالة من الرعب الحقيقي، مش رعب العيال الصغيرة اللي بتخاف من الضلمة أو الحكايات اللي بتتقال قبل النوم، لا ده كان خوف بجد، خوف بيقعد يخليك تحس إنك حتى جوه بيتك مش آمن، الناس بقت بتكلم نفسها بصوت واطي كأنهم خايفين أم سناء تسمعهم فتموتهم، بيسألوا بعض بصوت مرتعش: هنعمل إيه ونتصرف إزاي؟ بس مفيش أي إجابة، لأن مفيش حاجة تتعمل، الباب مفتوح والكيان الأسود اللي خرج منه رجع جواه، لكنه سايب أثره في كل حتة، من بعد الليلة دي ماحدش سمع أي صوت طالع من البيت، مفيش صراخ، مفيش وشوشات، مفيش حركة، كأن البيت بعد كل ده رجع مهجور، بس كلنا كنا عارفين إن ده مش حقيقي، كنا عارفين إن اللي جوه مش ساكت ومستني حاجة جديدة تحصل.. أما الشيخ فنقلناه زي عم سعيد على المستشفى، لكنه كان مات بسكته قلبية في ساعتها، وكإن الخوف اتحول لقاتل حقيقي محدش يقدر يدينه لأن مبيسبش وراه أي دليل نهائي.. وإحنا مهما اتكلمنا محدش هيصدقنا، ولو حد صدقنا؛ هيقبضوا على مين؟! على شيطان أو كائن من عالم سفلي ساكن البيت؟ أما عم سعيد فكان لسه تحت الملاحظة لكنه في حالة خطيرة.
لكن بعد كل ده، كانت الناس لسه رغم الخوف عايزين يلاقوا حل، وأول واحد فقد أعصابه كان عم محمود، من يوم ما الشيخ مات وهو مش قادر يستوعب اللي حصل، كان ماشي في الشارع بعصبيته المعهودة بيزعق ويقول:
ـ مش هينفع نسيب الموضوع ده كده من غير حل.. البيت ده لازم يتقفل، لازم نهدّه، لازم ننهي اللي فيه بأي طريقة
كلنا كنا سامعينه، وكلنا كنا فاهمين وعارفين إن عنده حق، بس ماحدش كان عنده الشجاعة إنه حتى يرد عليه، وليلتها عم محمود قرر إنه مايستناش مساعدة حد، جاب بلطة كبيرة، زي فاس كده وقرر يدخل البيت بنفسه، والناس ماحاولتش تمنعه، يمكن لأنهم كانوا مستنيين حد يعمل كده، يمكن لأنهم كانوا عايزين يشوفوا إيه اللي هيحصل من غير ما يكونوا هما اللي جوه، وقف قدام الباب المفتوح، أخد نفس عميق، ورفع الفاس وهو داخل، وبمجرد ما رجله عدت العتبة، الباب اتقفل وراه بقوة، بقوة خلت البيت كله يترج وساعتها بدأنا نسمع الصوت. صوت مرعب كان طالع من جوه البيت، مش صراخ ولا عويل، كان صوت تكسير، صوت حديد بيتخبط في حاجة، وبعدها صوت عم محمود وهو بيزعق، بس زعيقه كان مختلف، مش صوت راجل بيحارب حاجة، كان صوت حد بيتعذب، صوت حد بيتقطع ببطء، كلنا حسينا إنه آخر مرة هنسمعه، وبعدها رجع السكون وماحدش قدر إنه يتحرك من مكانه ولا حتى حاول يفتح الباب، كأننا كلنا فهمنا الدرس، البيت مش هيسيب حد يخرج منه.
عدت الليلة والنهار طلع، بس مفيش أثر لعم محمود، ولما الناس قررت تفتح باب بيت أم سناء عشان تدور عليه لقوه مفتوح، بس البيت كان فاضي، مش مجرد فاضي كان كأنه مافيهوش أي حاجة تدل إنه بيت عاش فيه حد قبل كده، مفيش أثاث، مفيش سجاد، مفيش غير التراب.. الحيطان كأنها مرسومة، وكأن البيت ده مش موجود أصلاً، وكأن أم سناء وعم محمود، وكل حاجة كانت جواه مجرد وهم.
الليلة اللي بعدها ابتدت حاجات تانية تحصل، مش في بيت أم سناء المرة دي.. ده في باقي البيوت، كل بيت في الشارع بدأ يحصل أصوات جواه وهمسات بكلمات مش مفهومة، ناس بتقول إنها شافت خيالات ماشية في طرقات بيوتها، أطفال كانوا بيصحوا بالليل وهما بيعيطوا ويقولوا إنهم شافوا حد واقف عند باب أوضتهم، بس لما الأهل يجروا على الأوضة مايلاقوش حاجة، واحد من الجيران اسمه الحاج عبد الله كان قاعد على سريره بيحاول ينام بعد يوم طويل من الرعب، لكنه سمع صوت أنفاس تقيلة قربت من ودنه، ولما لف بسرعة لقى وش أم سناء على بعد سنتيمترات من وشه، وشها اللي شافوه من أيام، بس بملامح أشد، بعينين سودا زي الفحم.. ولما عم عبد الله فتح بؤقه يصرخ الصوت ماطلعش، كأن حد قافل على حباله الصوتية، وفجأة تلاشت أم سناء كأنها دخان، بس من وقتها الحاج عبد الله ماعرفش يتكلم تاني، قعد بقية حياته صامت وعيونه مليانة خوف كأنه سمع حاجة أو فهم سر مكنش المفروض يسمعه أو يفهمه، وأصبح مجرد جسد قاعد في شقته مستني النهاية.. عرفنا من أهله ده لما كتبلهم على ورقة اللي حصله وأنا حكيته ده، بس مقالش أكتر من كده.
الشارع كله بقى في حالة ذعر جماعي، الناس بدأت تمشي.. البيوت بدأت تتباع بأسعار التراب بس ماحدش كان بيرضى يشتري، كأن لعنة البيت امتدت لكل حتة، لحد ما في يوم اختفى بيت أم سناء، آه، مش اتهد ولا وقع لا ده اختفى حرفيًا ومابقاش موجود، ومكانه بقى أرض فضاء بس التراب اللي فيها كان أسود، وريحته زي ريحة الجدران القديمة اللي مر عليها آلاف السنين، والناس اللي لسه في الشارع وأنا منهم، فضلوا يتكلموا عنه لسنين بعد كده، بس ماحدش قدر يفسر اللي حصل، بس كل واحد كان عارف إن اللي حصل مش نهاية القصة، بل مجرد صفحة منها، وإن أم سناء أو الحاجة اللي كانت مستخبية في البيت، لسه موجودة في مكان ما مستنية، مستنية اللي يفتح بابها تاني.
أما الناس اللي كانوا لسه فاضلين في الشارع بقت حياتهم أشبه بالكابوس اللي مافيش منه مفر، كل واحد فيهم بقى عايش وهو حاسس إن في عين بتراقبه، إن في أنفاس معاه في نفس الأوضة، وإن البيوت اللي كانوا فاكرينها أمان بقت مجرد صناديق فاضية ساكنها حاجات مش من عالمنا ده، ومع مرور الأيام، لما بيت أم سناء اختفى، الناس افتكرت للحظة إن اللعنة دي ممكن تكون انتهت، بس الحقيقة كانت عكس كده، لأن اللي حصل كان مجرد تحول، كأن البيت مااختفاش، كأن البيت بقى هو كل الشارع، أم سناء بقت موجود بين كل طوبة وطوبة، وورا كل حيط وفي كل نفس حد بيتنفسه في الشارع كله.. وكأن أي حد فضل عايش هنا بقى جزء من اللعبة اللي محدش فاهم قواعدها، وفي وسط كل ده بدأت سلسلة من الحوادث اللي اغرب من كل اللي فات، أطفال بيتكلموا مع حد مش موجود، ستات بتشوف رجالة واقفين عند البيبان وبمجرد ماترمش تلاقيهم اختفوا، رجالة شايفين ستات ماشية في الشارع وبعدها يكتشفوا إنهم شافوا نفس الست في كذا مكان في نفس الوقت، وكل يوم حد جديد يختفي، الوولاد الصغيرين اللي كانوا بيلعبوا في الشارع واحد منهم اختفى، اسمه وليد، كان عنده تسع سنين، كان بيلعب مع أصحابه قبل المغرب، وبعدها قاللهم إنه رايح بيته يشرب ماية ويرجع، وماحدش شافه بعدها، أهله قعدوا يصرخوا ويجروا في الشارع زي المجانين، الناس حاولت تهديهم وتطمنهم، قالوا يمكن ضاع في شارع تاني، يمكن راح عند حد من أصحابه ونسي يبلغ أهله، لكن الحقيقة كانت واضحة في عيون كل واحد، الولد ده ماتهش ولا ضاع، الولد راح، راح زي عم محمود، راح زي بيت أم سناء، راح لمكان ماحدش يقدر يوصله، ولما الليل جه، أم وليد فضلت قاعدة على باب بيتها عينيها محمرة وورامة من كتر العياط.. ووشها باين عليه إنها خلاص مابقاش فيها عقل، وإن جواها حاجة أعمق وأكبر من الحزن، حاجة شبه الاستسلام، وفجأة في نص الليل قامت مشيت في الشارع بخطوات ثابتة، وكأنها رايحة في مكان معين، الناس بصوا عليها من البلكونات ومحدش قدر يمنعها، كأن في قوة أكبر بتسحبها، وكأنها سامعة صوت محدش غيرها قادر يسمعه، ولما وصلت للأرض اللي كان فيها بيت أم سناء وقفت ومدت إيديها قدامها، وبدأت تهمس بكلام مش مفهوم، وكأنها بتتكلم مع حد هي بس اللي قادرة تشوفه.. وكل اللي شافوا المشهد ده ومنهم أنا حلفوا بعدها إن الأرض ساعتها اتحركت، مش زلزال لا، الأرض نفسها بتتمدد وتنكمش تحت رجليها، وقبل ما حد يلحق ينزل أو يحاول يمنعها، الأرض ابتلعتها، وكل اللي فضل بعدها كان الهدوء وسكوت الناس وصدمتهم، الهدوء اللي يخليك تعرف إن الحكاية دي لسه ماخلصتش، وإن كل واحد فاضل في الشارع مهما حاول أو مهما استخبى أو حاوا يهرب، مصيره في الآخر واحد.
الليل كان هادي هدوء غريب كأنه الهدوء اللي بييجي قبل العاصفة، الشارع فاضي، البيوت مقفولة، واللي لسه موجودين فيه قاعدين جوه بيوتهم مش بيتكلموا ولا بيتحركوا كأنهم خايفين حتى من صوت أنفاسهم، خايفين يلفوا وشهم بالغلط ويبصوا في المرايات، خايفين يسمعوا صوت ينادي عليهم من الشباك ومايعرفوش يميزوا إذا كان الصوت حقيقي ولا مجرد صدى لحاجة أقدم من خوفهم، الضلمة في الشارع بقى ليها إحساس غريب زي ما يكون الشارع انعزل عن الدنيا.. ضلمة بتبلع النور، كأنها دليل على حضور شيء تاني كان مستني اللحظة دي من زمان، شيء كان محبوس في البيت ده أو متصل بيه أو جزء منه، ودلوقتي بعد ما البيت راح، هو لسه موجود لكنه مابقاش متقيد، وبقى موجود في كل مكان وجوه كل واحد من سكان الشارع حتى أنا.. وكأن اختفاء البيت كان مجرد تحرر والشارع كله بقى هو السجن، لكن الحقيقة بدأت تتكشف.. وده خلاني أبحث كتير على النت، لأني فضلت خايف أنزل وأروح الشغل لأني برجع من شغلي بليل والمفروض أعدي من قدام الأرض اللي بلعت البيت.. وبعد أيام من البحث لقيت مقال غريب جدًا بيقول:
إن من سنين طويلة قبل ما الناس اللي هنا يعيشوا في الشارع وقبل ما يبقى في شارع والبيوت تتبني، كان المكان ده حاجة تانية، أرض ميتة مهجورة صحراء مش زي أي صحراء، أرضها سودا ريحتها غريبة، وكل اللي يقرب منها كان يحس بشيء بيتحرك تحتها.. ولما جه أول واحد وبنى أول بيت مكنش عارف إنه بيحط حجر الأساس لبداية النهاية، مكنش عارف إنه بيصحّي الرعب اللي نايم، وبعد ما الشارع بقى شارع، والبيوت اتملت بالناس، كان في بيت واحد مختلف، بيت أم سناء، البيت اللي اتبنى في نفس المكان اللي الأرض كانت بتتحرك فيه وبلعت أم وليد، البيت اللي من يومه الأول كان مش طبيعي، الحيطان كانت بتمتص الصوت، الهوا فيه كان بارد حتى في عز الصيف، والخطوات اللي جوه مكنتش بتنتمي للي عايشين فيه، وكان في البداية مجرد بيت، لحد ما أم سناء جات، ولحد ما بدأت الحكاية الحقيقية.
محدش يعرف أم سناء ظهرت إزاي، محدش يعرف هي كانت مين قبل ما تبقى أم سناء.. بس اللي معروف إنها لما سكنت البيت كل حاجة اتغيرت، هي ماجبتش سناء، سناء جت لوحدها، أو بالأصح ظهرت، بنت صغيرة عيونها سودا بالكامل، بتبص للناس كأنها فاهمة حاجات هما نفسهم مايعرفوهاش عن نفسهم، وكانت أمها، أم سناء، بتعاملها كأنها شيء مقدس، كأنها سر مخفي وكانت البنت كل يوم بتقعد في البلكونة مع أمها، بس كل ما تكبر كان في حاجة غريبة بتحصل، الناس بقوا يحسوا إن سناء مش بتكبر زي البشر العاديين، كأنها مجرد صورة ثابتة والزمن مش بيعدي عليها، ولما وصلت سناء لسن معين فجأة اختفت، أم سناء بقت تصرخ في الليل، بقت تطلع البلكونة وتقعد بالساعات، مستنية حاجة مش هترجع، ووقتها بدأ الشارع يحس بالتغيير، بدأ يسمع الأصوات، بدأ يشوف الخيالات، وكأن اللي كان موجود في البيت بقى مربوط بيه، وكأن أم سناء، بعد ما فقدت سناء بقت هي الحارس أو السجينة أو جزء من اللعنة نفسها.
المقال بيقول إن في سحرة بيقولوا إن في أماكن في الأرض مش لينا كبشر، أماكن مش المفروض حد يقرب منها، لأن اللي ساكن فيها مش من عالمنا، مش بشر ومش جن حتى، بل شيء أقدم شيء كان هنا قبل أي حياة، وبيت أم سناء كان واحد من الأماكن دي، مكان مش مفروض يكون مسكون بالبشر ومش مفروض يكون بيت ولا حواليه بيوت، ولما سناء اختفت مكنش لأنها ماتت أو هربت، بل لأنها رجعت لمكانها الحقيقي، كانت مجرد وسيط أو بوابة، نصها هنا في عالمنا ونصها في مكان تاني، ولما نصها التاني ناداها راحتله وسابت أمها اللي أكيد هي مش أمها إنما سناء أوهمتها بكده وسيطرت على عقلها الباطن وسابت الباب مفتوح، وأم سناء فضلت مستنية طول الفترة دي كأن الزمن مكنش بيعدي عليها وفضلت أسيرة ومربوطة بالبيت، ولما قررنا نفهم أم سناء دورها انتهى واختفت مع اختفاء البيت نهائي.. والشيء اللي كان مسيطر عليها بقى حر، وبقى موجود في كل حتة ومسيطر وطعلى أي حد لسه موجود في الشارع، أي حد ماقدرش يمشي قبل فوات الأوان بقى جزء من اللعنة، جزء من اللعبة اللي مالهاش نهاية، لأن اللي اتحرر مش حاجة ممكن تقدر تهرب منها بسهولة إلا لو القدر أسعفك زي اللي مشيوا وهجروا بيوتهم، بس اللي زيي مالوش مكان تاني يروحه.
بعد ما خلصت قراية المقال الغريب ده.. حسيت إن الدنيا بقت ساكنة بشكل مرعب، ومش السكون العادي اللي بيجي في آخر الليل اللي يخليك تسترخي وتحس بالأمان، نوع تاني.. نوع يخليك تحس إنك مستني النهاية والموت.. وإنك حتى لو حاولت تسمع أي صوت مش هتلاقي غير الصمت، صمت كأنه سكون مقصود، وإن الخوف محاوطك من كل اتجاه، ساكم في قلبك، في عضمك، في عقلك وكأنك بقيت جزء منه، وكأن اللي كان محبوس في بيت أم سناء طول السنين اللي فاتت بقى متصل بكل واحد في الشارع، لعنة مش مسيطرة على المكان بس، دي سيطرت على الناس كمان وبقت جزء منهم وجواهم وبتتغذى على شعورهم واحساسهم وبتغيرهم من غير ما يحسوا، ولما الليل دخل بدأنا نحس بيها بوضوح، والخيالات اللي كنا بنشوفها وتختفي بقت مش مجرد خيالات، بقت أوضح وأقرب وبتتحرك وسطنا، وكل واحد كان مستني لحظة النهاية، لكن مفيش نهاية، لأن اللي بدأ مش حاجة ممكن تتوقف، ده شيء بيزيد قوة بخوفنا، شيء كل ما افتكرنا إنه وصل لأقصى حدوده يبان إنه لسه في البداية.
ليلتها الحاج سعيد بعد ما رجع من المستشفى بكام يوم بقى كويس جدًا.. قرر إنه مش هيسيب الحكاية تنتهي كده، كان فاهم وعارف حاجة إحنا مكناش فاهمينها ولا عارفينها، كان عارف إن اللي بيحصل ده مش مجرد لعنة، ولا مجرد شيء بيقتل الناس ويختفي، دخ شيء بياكل المكان وبيبلع الناس جوه وبيحولهم لكيانات شيطانية مرعبة يمكن زي ما المقال قال، أخطر بكتير من الشياطين.. وكأن كل واحد اختفى مكنش مجرد ضحية، بل جزء من الشيء نفسه، جزء من كيان أكبر، وكأن اللي اختفوا بقوا فيه، بقوا موجودين بطريقة إحنا مانقدرش نستوعبها، وأكتر حاجة كانت بتخوف إنهم ممكن يكونوا لسه عايشين زلسه حاسين ولسه موجودين، لكن في مكان تاني مش قادرين يوصلولنا، ولا حد فينا يقدر ينقذهم.. الحاج سعيد دخل بيته وطلع صندوق خشب قديم كان مترب وشكله غريب كأنه بقاله سنين طويلة منسي، فتحه ببطء وإحنا واقفين حواليه مش فاهمين هو بيعمل إيه، لكن عنينا كانت ثابتة عليه، كلنا بقينا زي الأطفال اللي مستنيين كبير العيلة يحكي لهم سر خطير، لكن لما فتحه كلنا اتجمدنا، جوه الصندوق كان في قطعة قماش قديمة ملفوفة بعناية، فتحها بحرص وطلع منها حاجة شبه الحجر، بس مش حجر، حاجة سودا ملمسها ناعم بس مش طبيعي، وكأنها مش مادة نعرفها، وكأنها شيء من عالم تاني، ووقتها بص لينا وقال بصوت واطي لكنه واضح:
ـ الحكاية دي بدأت هنا، واللي بدأها لازم ينهيها، اللي كان محبوس في بيت أم سناء مش مجرد كيان شيطاني، ولا مجرد لعنة، ده شيء كان بيتغذى على وجودنا، وكل واحد فضل هنا بقى جزء منه، مفيش حاجة بترجع ومفيش مفقود هنلاقيه، لأنهم مش مفقودين، دول اتحولوا لعالم تاني وبقوا هو، والشيء الوحيد اللي ممكن نعمله إننا نقفل الباب اللي اتفتح ونحبسه تاني.
كان بيتكلم بثقة لكن عينيه كانت مليانة خوف، خوف عمره ما ظهر عليه قبل كده، وكأنه عارف إن اللي بيقوله صح، لكنه برضو عارف إن مجرد المحاولة ممكن تبقى أسوأ من إننا نسيب الأمور تمشي زي ما هي لكنه مااستناش.. لف القماشة على الحجر تاني وبدأ يمشي وإحنا وراه، رجليه كانت بتاخده ناحية الأرض الفاضية اللي كان فيها بيت أم سناء، والهوا حوالينا كان بيتغير كأن اللي مسيطر على المكان حاسس بينا ومتأكد وعارف إننا راحينله، وكأن اللي كان مستني اللحظة دي بدأ يتحرك، الأرض اللي كنا فاكرينها ساكنة بدأت تتهز. لكن الحاج سعيد فضل ماشي لحد ما وصل لنص الأرض بالظبط ووقف، حط الصندوق قدامه وبدأ يهمس بكلام غريب، كلام مكنش مفهوم لكنه كان قوي، قوي لدرجة إن الهوا حواليه بقى متحرك بقوة، وكأن كل حاجة حواليه كانت بتحاول تمنعه، كان بيترنح، كان بيترج، لكن صوته كان أقوى كأن الكلمات اللي بيقولها كانت أقوى من الشيء اللي بيتحداه وبيتحدانا، وفجأة الأرض فتحت، فتحت كأنها بؤق وحش عملاق، وبدأت تبلع كل اللي حواليها، الرياح بقت زوبعة، الضلمة بقت سواد مطلق، لكن الحاج سعيد كان ثابت ورمى الحجر في الفتحة، وفي اللحظة دي كل حاجة سكنت، الأرض اللي كانت بتتحرك وقفت، الضلمة اللي كانت بتتمدد انكمشت، والرياح اللي كانت بتصرخ اختفت، وكأن الزمن وقف، وكأن العالم نفسه استعاد توازنه للحظة، وبعد ما الأرض قفلت كل حاجة رجعت هادية لكن المرة دي الإحساس جوايا ناحية الهدوء مكنش زي كل مرة، ده كان إحساس إن ده هدوء النهاية، وكأن الشيء القديم اللي كان موجود قبلنا كلنا رجع لمكانه، رجع لسُباته اللي كان لازم مايتكسرش من البداية، لكن الحاج سعيد كان واقف عينه مفتوحة ومبرقة وجسمه ثابت ومكنش بيتحرك، قطع الصوت والنفس وكأنه اتحجر في مكانه، وكأن اللحظة اللي حبست الشيء ده حبسته هو كمان، وكأن الثمن كان لازم يتدفع وعم سعيد ضحى بنفسه، والليلة دي انتهت الحكاية.. لكن أنا مش عارف ممكن حاجة تحصل تاني ولا لا.. وعشان كده كتبت حكايتي دي عشان الناس تسمعها، يمكن متصدقونيش، بس لو حد عايز يجي يشوف تمثال عم سعيد يقول.. وأنا هرجع أقولكم العنوان بالتفصيل، بس هقولكم نبذة بسيطة، المكان ده في حي شعبي اسمه روض الفرج، مش هقول أكتر من كده.. ولو اطلب مني العنوان هقولكم وتيجوا تشوفوا بنفسكم.. بس كل واحد يبقى مسؤول عن النتيجة لأني مش ضامن اللي ممكن يحصل بعد كده.
تمت
انتهت احداث الرواية نتمني أن تكون نالت اعجابكم وبانتظار آراءكم في التعليقات شكرا لزيارتكم عالم روايات سكير هوم