رواية فاما اليتيم فلا تقهر الفصل العاشر والاخير
ضغطت ابتسام على يد ابنها بقوة، ونظراتها تتوسّل، تتوسّل الاعتراف، لا لنفسها، بل لتلك الطفلة التي احتضنتها يومًا بين ضلوعها وربّتها كما لو كانت من دمها.
لم تكن تتخيّل أن ينكر زواجه من "روح"، ولا أن يتنصّل منها بهذا البرود المتجمد.
لكنه، أمام ضغطها، لم يملك إلا أن ينهار… قالها، وكأنها لا تعني له شيئًا:
أيوه… دخلت عليها.
ثم ألقى بجملته الأخرى كسيفٍ باردٍ قاطع:
بس دي مش معناه انها بريئة…حتى لو كانت عفيفة!
الهانم كانت مع محسن… ده حافظ كل وشومها!
فاجرة… وميشرفنيش تشيل اسمي.
وياريت تقفلي السيرة دي، أنا مش طايقها… ولا عايز أسمع اسمها تاني.
سقطت كلماته كسهامٍ غادرةٍ فوق قلب أمه، لكن قبل أن تنطق بكلمة، دوّى في البيت صوت ارتطام الباب…
لحظة صمتٍ قاتلة… لحظة خنقت أنفاس ابتسام…
ركضت كمن فقدت روحها، كأن قلبها سبقها يبحث عنها… لكن لا أثر.
بحثت في الأركان، فتشت في زوايا البيت، فتحت الأبواب، نادت بأعلى صوتها:
– روح!!
لكن… "روح" اختفت! كأن الأرض انشقت وابتلعتها.
فص ملح وداب.
خرجت إلى الشارع، تناديها، تتخبط في الطرقات، تسأل كل من تراه… لكن لا جواب. الهواء نفسه هاتف علي ظلمها ولم يُجب. كأن السماء قررت أن تعاقب الظلم بالصمت!
عادت إلى الشقة، وجهها شاحب، قلبها يئن، لا تصدق أن التي خرجت منذ دقائق لم تعد… ولن تعود!
أغلقت الباب خلفها، ووقفت أمام ابنها…
نظرت إليه، ورأت فيه غريبًا لا يشبه قطعة القلب التي ربّتها. وانفجر الحزن في صوتها، ممتزجًا بقسوة الحقيقة:
ربنا ينتقم منك يا ظالم!
صرخت بها… كأنها تثأر لعرضٍ هُتِك، ولبريئةٍ شوهها ظنه.
محسن الكلب الحقير… ده ابن عم صاحبتها "إيمان"!
اللي كانت بتجهزها معايا يوم فرحها! وأنا… أنا اللي قلت لها عن شامة بطنها!
لما شافت شامة في فخذها،قالت لو في بطنها كانت تبقي مغرية اكثر
ضربت صدرها بندمٍ غائر، وانهارت صارخة:
يا ريت كان لساني انقطع ولا نطقت!
المجرمة الحقودة اللي دخلت بيتنا، فضحت سترها… قدام ابن عمها عرفت الواطي عرف وشومها منين!
ثم سقطت دموعها على وجنتيها… لكنها لم تمسحها، تركتها تنهمر كأنها غسلٌ لحزنٍ قديم.
نظرت إليه نظرة من يعرف أن الجرح لن يلتئم، وقالت:
روح يا بهاء ربنا يكسر قلبك زي ما كسرت قلبها …
منك لله يا ابن بطني… قلبي وربي غضبانين عليك ليوم الدين!
ارتجفت شفتا بهاء السفلى، وغمره الندم كفيضان،
شهق شهقة المكلوم، وانهار صوته بانكسارٍ قاسٍ:
– روووووح...
خرج اسمه منها كنزفٍ لا يُوقف…كل حرف كان وجعًا، كل نداء كان طعنًا في قلبه.
ولأول مرة…يشعر بهاء بطعم الخسارة الحقيقي.
خسارة من أحبته وصدّقته…خسارة من كانت أنقى من ظنونه، وأشرف من كل النساء فهي تربية ابواه
*******
خرج بهاء من البيت كالممسوس… لا يدرى إلى أين، ولا كيف… خطواته تحمل وزر جريمة لم تشهدها المحاكم، لكنه يدرك أن حكمها صدر من السماء… "اتقِ الله في اليتيم".
رددها بداخله كالسوط: – (فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ).
قهرها. قهر إنسانة كان كل ذنبها إنها حبت واحد زيّه… واحد ماعرفش الحب غير لما خسره.
مرّ على الطرقات، بحث في المواقف، وسأل الباعة الجائلين، وأهل الحارة، كل من رآه قال: "ماشفناهاش."
حتى لما سأل في المسجد… قال له الإمام:
الوجع في صوتك بيقول إنها كانت رزق… وضاع.
عاد إلى البيت مع الفجر، وجهه شاحب، جسده مائل، وصدره منهار. دخل غرفتها… لم يجدها… لم يجد حتى بقاياها.
اقترب من وسادتها، كانت رائحتها لا تزال هناك. ضمها إليه كأنها هي، وبكى… بكى كما لم يبكِ أحد.
تمتم بكلمات مرتجفة: – روح… سامحيني… مش عايز غير إنك تسامحيني… حتى لو ما شفتكيش تاني.
لكن البيت ظل صامتًا… والوسادة لا تجيب… ورائحتها، شيئًا فشيئًا… بدأت تتلاشى.
****
لم يكن الليل ليلًا تلك الليلة، بل قبرٌ مفتوح ابتلع السعادة والطيبة والامال ، كل صوت يُذكّره بأن لا ثمة حياة بعد هذا الخراب.
جلس بهاء على الأرض كما لم يجلس من قبل… مطأطئ الرأس، منكسر الروح، والخذلان يكسو وجهه، لا خذلان روح فيه… بل خذلان نفسه لنفسه، خذلان الرجولة للحب، وخذلان القلب للعهد.
كل شيء بدا جامدًا… الجدران، الأثاث، حتى الهواء تجمد في صدره، يحاول التنفس فلا يستطيع… يتنهد فيصرخ صدره ألمًا… ليس من فِراقها فقط، بل من فكرة أنه هو من أشعل نار هذا الفراق، وسكب الزيت عليه، ثم جلس يشاهد النيران تأكل كل شيء، وهي تبتسم في وجهه آخر ابتسامة، ولا تعلم أنها تبتسم لجلادها.
عيناه جافتان، ليس لندرة الدموع، بل لكثرتها… جففتها نيران الندم.
تذكر صوتها وهي تقول له يومًا وهي تحضر له كوب الشاي:
أنا بحبك قوي… انت كل دنياي. وروح روح يا بهاء:
ضحك حينها باستهزاء، وقال لها:
دنياكي؟ ما بلاش الاحلام، خليكي عايشة وخلاص."
كانت تموت فيه حبًّا، وهو يعيش مع حبها غربة.
الآن… أين ذهبت تلك الضحكة؟ أين ذهبت روح؟ أين ذهب هو؟
سمع خطوات والدته من بعيد، كانت تتهادى على الأرض كأنها تمشي على شظايا قلبها. دخلت عليه، فنظر إليها بعينين حمرواين كمن خرج للتو من معركة، لكنه لم ينتصر… ولم ينجُ.
قالت له بصوتٍ مخنوق:
ارتحت يا بهاء… طلقتها وطفشتها، مبسوط كده، عارف أنت مش بني آدم؟! قلبك ده إيه؟ من حديد؟!
أراد أن يرد، لكن الكلمات خانته، والدموع فضحته.
اقتربت منه، رفعت وجهه بكفٍّ كانت حنونة، لكنها الآن ترتجف من الغضب:
أنت ظلمتها… ظلمت بنت صغيرة، كل حياتها كانت انت، ياما كنت بسمعها بتدعي ليك مع كل صلاة وبتخاف عليك من الهوا الطير رغم أن كنت دائما بتجرحها، كانت بتلمك وانت بتكسرها… يا خسارة!
شهق بهاء شهقة الذنب الكبير، شهقة من لم يعد يرى وجهه في المرآة لأنه لا يستحق حتى صورته.
ماما… ماما أنا كنت خايف، ايجي يوم وتعمل زي امها ، او تحس إني مش كفاية ليها… للاسف روح كانت ملاك، وأنا… أنا فعلا مستهلش الملاك.
ردت والدته عليها بوجع:
وهي ذنبها إيه إنها حبتك؟ هو الملاك لازم تدوس عليه علشان تصدق إنه مش بيطير؟ كنت جوزها ومسؤول عنها يا بهاء، مش جلادها.
رفع رأسه، لأول مرة يرى الحقيقة، واضحة، بلا حُجُب هز راسها مؤيدًا وصرخ نادمًا :
خلاص يا ماما روح ضاعت أنا ضيعتها… بإيديا يا ماما… ضعت وخدت روحي معاها
********
مرّت الأيام، وظلّ بهاء يبحث عن "روح" بلا هوادة.
كأنها سراب، يلوح له في الأفق، ثم يختفي كلما اقترب.كان يلهث وراء أملٍ يتبدد، وذنبٍ ينهش صدره كل ليلة.
حتى جاء ذاك الصباح...
طرق عنيف على باب الشقة أيقظه من غفوته، هرع إلى الباب بقلبٍ يخفق بقلقٍ غير مبرر.
فتح الباب، فرأى رجلًا أربعينيًّا، تقطّعت به السُبل، لكن عينيه تبرقان برجاءٍ حيّ.
ده بيت مدام ابتسام السعداوي؟
قالها الرجل بصوت متلهف.
أومأ بهاء بقلق:
أيوه… حضرتك مين و عايزها ليه؟
ثم أردف بسرعة:
وانت مين؟ أنا ابنها.
تنفس الغريب بارتياحٍ واضح، كأن قلبه عاد ينبض: أحمدك يا رب! أنا… ونيس.ا! جوز هوايدا… سبعتاشر سنة بدوّر عليها… وأخيرًا وصلت لوالدتك، صاحبتها ورفيقة عمرها.
تجمّدت ملامح بهاء، وقال بتوترٍ فطري:
– جوزها؟ يعني طنط هوايدا كانت متجوزة بجد؟ ولا ده كلام بتقوله بس؟ أصل…
لكن ونيس لم يُمهله، جذبه إلى حضنه فجأة، كمن ضمّ عمرًا كاملًا من الغياب، وقال بابتسامة مليئة بالشوق:
آه والله، مراتي…يبقي كده هوايدا هنا،
ودي قسيمة الجواز، أهي، قدّامك!
فينها؟ قول لها جوزك رجع… وابني؟ ابني فين؟ أنا بدوّر عليهم من سنين… وكنت فاقد الأمل!
خرجت ابتسام من غرفتها على وقع الأصوات، وما إن وقع بصرها عليه حتى شهقت:
– ونيس! مش ممكن! انت كنت فين؟ طمني يا خويا
هوايدا كانت معاك بعد ما هربت من أهلها؟
أومأ ونيس بثقة وراحة أخيرًا وجدهما:
أيوه، اتجوزتها بعد هربت. بس لما حسّت إن أهلها بيطاردونا، خافت عليّ…
هربت مني علشان ما تضرّنيش في شغلي… أنا مكنتش أعرف راحت فين… بس دلوقتي… أنا جاهز آخدها وابني في حضني، أكمل بيهم عمري.
لكن صوت ابتسام انكسر، نكست رأسها، وهمست بحسرة تشقّ القلب:
بس هوايدا ماتت يا ونيس…ماتت وهي بتولد بنتك.
بنتك اللي سميتها "روح". واللي… هربت من جوزها من سنة تقريبا.
بدت الصدمة على وجهه كأنما صعقته السماء.
حدّق فيها بذعر، عيناه تغرقان في الدموع:
هوايدا ماتت؟ مستحيل… وروح؟ هربت ليه؟
إزاي… إزاي جوّزتوها وهي لسه صغيرة كده؟ ليه؟!
ثم انهار… ركع على الأرض كأن الجبل هوى على كتفيه، وصرخ بمرارة:
خلاص؟ كده اتحرمت من مراتي؟… وكمان بنتي؟!
يا الله… رحمتك، يا رحيم.
اقترب بهاء بخطوات ثابتة، انحنى بجانبه، وضع يده على كتفه يواسيه، وقال بصوتٍ ناعمٍ رغم ألمه:
اهدى يا عمي… بإذن الله هنلاقيها… انا جوزها، اتجوزتها صغيرة علشان ماما خافت عليها من لسان الناس.بس حصل بينا مشكله صغيرة خلاها تهرب…
.
ثم شد على كفه وقال بإصرار:
أنا وانت هندوّر عليها ليل ونهار، لحد ما نرجّعها لحياتنا… ونقولها إن ليها أب بيحبها، وجوز ندمان علي كل لحظة فراق كان السبب فيها.
ظلّ والدها يصرخ بألمٍ تقطّعت له نياط القلب، حتى خارت أنفاسه، ومال برأسه قائلًا بيأسٍ ممزوج بالرجاء:
أنا مش هقدر أعترض… مدام ربتوها، يبقى ليكم فيها حق زيكم زيا… بس أرجوكم، ساعدوني… ساعدوني أشوفها وارجعها لحضني.
ومنذ ذلك اليوم، توحّد الثلاثة في البحث عنها.
نشر والدها صورتها في الجرائد والمجلات، مدفوعًا بالأمل والندم والحنين، بينما لم يتوقف بهاء ووالدته عن التمشيط في كل الأماكن الممكنة، وكأنها قطرة ماء سقطت في بحر.
حتى جاءهم الخبر الصادم…
كانت صورةً في صحيفة، تحتها كلماتٌ قصيرة غيّرت مجرى الأحداث كلها:
يُعقد اليوم قران الآنسة روح ونيس على المهندس خالد السباعي، ويقام حفل الزفاف بعد يومين.
ذهل بهاء، تسمر أمام الصورة، التقط الجريدة بيدٍ مرتجفة، وهرع بها إلى والدته ووالد روح.
انطلقوا الثلاثة في اتجاه العنوان المكتوب، قلوبهم تسبقهم، ومزيج من الأمل والخوف يعصف بصدورهم.
وما إن وقعت عينا الأب عليها، حتى انفجر بالبكاء وهو يركض نحوها ويضمها إلى صدره:
بنتي! حبيبتي! أحمدك يارب… أحمدك أني عشت لليوم ده وشوفتك! سبحان الله… كلك أمك! ربنا يرحمها يا روح.
لم تصدق روح أذنيها، ولا حضنه الدافئ الذي لم تحلم به يومًا…أطلقت شهقة طويلة، وألقت بنفسها بين ذراعيه، تبكي كطفلة عادت إلى مهدها:
بابا؟!… أيوه، انت بابا؟! يا حبيبي… ربنا ما يحرمني منك أبدًا. بس سؤال… علاقتك بماما كانت إيه؟
ضمها إليه، وقبّل جبهتها قائلًا بفخر:
كانت زوجتي على سنة الله ورسوله… ولازالت…
وبإذن الله، ربنا يجمعنا بيها في الآخرة.
تهلّلت ملامحها، أمسكت يده، واصطحبته إلى خطيبها، وقالت بعينين تبرقان بالحب:
بابا، أحب أقدملك عوض ربنا…الإنسان اللي حبني بكل عيوبي، وساندني، وطلب يتجوزني رغم إني بدون نسب أو أصل…لكنه بيتشرف بيا.
مد خالد يده مصافحًا، وقال بصوتٍ واثق:
يشرفنا يا عمي…تحط إيدك في إيدي وتجازيني بشرف إني أكون جوز بنتك الجوهرة الغالية… روح.
لكن الأب نظر إلى ابنته، ثم إلى بهاء، وسأله بحيرة مريرة:
طيب وبهاء يا روح؟ ابن الست اللي ربتك؟ ده يبقي جزاءهم؟ تهربي منه وتتجوزي غيره؟ وانتي لسه على ذمته؟
وهنا، وقعت عيناها على بهاء، وقد اقترب منها بلهفة، صوته مكسور، وعيناه محمّلتان بالذنب:
روح….أنا عارف إني غلطت… وأذنبت في حقك… بس ندمت. أرجوكي… اديني فرصة… وغلاوة ماما عندك، سامحيني أوعدك… أعوّضك عن كل اللي فات.
حدقت فيه روح بجمود، لم تعد تلك النظرة القديمة تسكن عينيها، وقالت بسخرية ممزوجة بالقهر:
ماما ابتسام غالية عليا… علي عيني وراسي خاطرها
لكن إنت؟ مخلّيتش بينا حاجة أبكي عليها… ولا حاجة تشفعلك عندي! انساني يا بهاء… وابعد عني!
العوضي لقيته مع خالد… مش عايزاه منك.
في لحظة طيش، أمسك يدها بعنف، وقال بحدة:
يبقى خليكِ كده متعلقه لا طايله سما ولا ارض! لاني مش هطلقك… وشوفي هتعرفي تتجوزي غيري إزاي!
إنتي ليا… ومستحيل أقبل تكوني لغيري…فاهمة؟
إنتي ملكي أنا… وبس!
لكن والدها تدخّل، دفعه بعيدًا عنها، وصاح فيه بانفجارٍ من الغضب:
إنت اتجننت؟ إزاي تمد إيدك عليها قدامي؟!
كده فهمت… انتذلّيت بنتي، وكسرت نفسها لحد ما هربت من ظلمك يا حقير…يا ندل… اسمع، من النهاردة، أنا اللي هقفلك… مش هسيبك تأذيها تاني.
ربّت خالد على كتف والد روح، وقال بثقة وهدوء:
متقلقش يا عمي بنتك هتتجوز راجل يعرف يصونها، ويحميها، ويكون ليها عون وسند ودعم حقيقي.
وتهديد بهاء… مالوش قيمة دلوقتي، لأن روح مطلقة منه غيابي من أربع شهور، يعني رسميًا وقانونيًا… ملوش أي صفة عليها.
تهلّلت ملامح الأب، وابتسم وهو يضع يده في يد خالد، قائلاً بطمأنينة:
أنا كده قلبي ارتاح… لاني هسلّم بنتي لراجل بحق ربنا. يلا يا ولاد، اقعدوا نكتب الكتاب ونفرح بيكم.
ثم أشار إلى بهاء بإصبعه محذرًا، وصوته مليء بالصرامة:
وأما إنت…لو فكّرت تِقرب منها تاني… أو تمسّها بأذى، ساعتها… هيكون موتك على إيدي… فاهم؟
في تلك اللحظة، لم يجد بهاء في الدنيا ما يقوله،
انحنت هامته، واغرورقت عيناه بدموع الندم،
فقد خسر جوهرته الثمينة، المرأة الوحيدة التي سكنت قلبه بصدق…ضاع كل شيء، ولم يعد هناك رجوع.
مشى منكس الرأس، محطم الخاطر، مكسور الروح…
تقدّمت منه والدته، ربّتت على كتفه بمواساة ممزوجة بالحزن، وهمست له بيقينٍ مشبع بالإيمان:
ياما قلتلك يا بهاء… هييجي يوم وتخسرها… وتندم ندم العمر، أهو جه اليوم.ربك ما بينساش رب القلوب نصرها وعوّضها، يا ريتك كنت افتكرت كلامي عن عدم ظلم اليتيم،واية الله عز وجل في كتابه الكريم
"فأما اليتيم فلا تقهر"
وللأسف إنت قهرتها… وكسرت نفسها…ووجعتها…
تستاهل تكون النتيجة إنها تتخلى عنك… جزاء أفعالك معاها.
تنهد بهاء، وانهمرت دموعه دون مقاومة،
ثم قال بصوت خافت منكسر، يردّد كلماتها وكأنه يحاكم نفسه:
إنتِ صح يا ماما…أنا اللي غلطت…وخسرت…
واستاهل كل اللي حصل
غادر بهاء المكان منكس الرأس، تتهاوى خطواته كأنما يسير فوق أشواك، ظهره محني، وصدره مثقل بندمٍ ينهش قلبه في كل نبضة…
والحسرة قد ارتسمت على قسمات وجهه، تجلّت في عينيه المطفأتين، وفي كل خلجة من خلجاته المهزومة.
وفي الجهة الأخرى، كانت روح تلتفت نحو والدها، بعينين تلمعان فرحًا، وقالت بنبرةٍ تشع منها كل سعادة الدنيا:
وكلت أبويا يجوزني حبيب قلبي… خالد!
جملة قصيرة… لكنها كانت كخنجر مسموم استقر في صدر بهاء، اخترقته ببطء… ثم فجّر داخله وجعًا لم يعرف له اسمًا.
توقّف في منتصف الطريق، اختنق النفس في صدره،
وصرخ صرخةً ممزّقة، صرخة رجّت الأرض تحت أقدامهم، صرخة أدمت القلوب وخلعتها من أماكنها…
صرخة كانت وداعًا…وكانت اعترافًا…
وكانت انهيارًا كاملًا لإنسانٍ… ظنّ أن الحب يُؤجَّل،
فأدرك بعد فوات الأوان… ان بعض القلوب لا تنتظر.
فابصوت مكلوم، موجوع، خرج من أعماق قلبٍ ينزف على قارعة الخذلان هتف بفزع:
رووووح… لـــــاءءءءءءءءءءء...!!!
انتظرونا في الجزء الثاني