رواية فراشة في سك العقرب ( حب أعمي ) الجزء الثانى الفصل الحادى عشر بقلم ناهد خالد
"الحب أفعال لا أقوال، الحب ليس مجرد شعور عابر مذبذب، بل هو يقين وثبات، أن تحب شخصًا يعني أنك تحبه.. هكذا فقط.. بلا أي تردد أو تناقض في الأفعال"
ليلاً...
أخيرًا استطاعت أن تنفرد بنفسها بعيد عن ضجيج الجميع..
أخرجت الهاتف الصغير بحرص وحذر وطلبت رقم "مازن" ظلت تطلب رقمه لعدة مرات دون رد، فزفرت أنفاسها باختناق وهي تضع الهاتف جوارها بعد أن فعلت وضع الهزاز احتسابًا لرنينه في أي وقت.. وشردت بعقلها في أحداث اليوم وما سمعته عن حقيقة شدوى، حدثت نفسها تقول:
_هو شاهين ده اهبل ولا إيه؟ ازاي قبل يتجوزها وهي غلطت مع واحد تاني لأ وحملت منه! وليه أفعاله متناقضة كده، ده لو شخص وحش ومعندوش رحمة ولا قلب زي ما بيقولوا عليه وزي ما بيظهر ساعات عمره ما كان اتجوزها وكتب الواد على اسمه، أكيد كان قتلها..! طب معقول من حبه لها مقدرش يقتلها! بس بردو المفروض واحد بشخصيته ميحبش اصلاً ولا يعرف يحب ولو حب ميهزوش الحب ده، هو مش زي بتوع العصابات اللي بنسمع عنهم اللي يقتل مراته عشان خانته واللي يقتل حبيبته عشان هربت منه! ولا هو من بره هالله هالله ومن جوه يعلم الله!! اااااه...
رددت تأوها الأخير بتعب وهي تضع كفها على رأسها من كثرة التفكير، وفجأة ابتسم ثغرها ابتسامة غير مفهومة وهي تتخيل واقع حديثه معها، وطلبه منها أن تصبح زوجته حقيقيةً، زوجته!
كلمة لها وقع غريب على نفسها, تتخيل فقط لو الأمر أصبح حقيقة... ستصبح هي سيدة المنزل الواسع والفخم هذا, ستصبح من سيدات المجتمع الراقي, ستمتلك الكثير من الثياب الباهظة والمجوهرات والخدم والسيارات, أشياء لم تحلم يومًا أن تمتلكها, سوف تستطيع أن تملك كل ما تقع عيناها عليه, إن أرادت شيء سيكون لديها فورًا ولن تحسب له ألف مرة كما تفعل الآن, ولكنها مع كونها ستملك كل هذا... ستصبح مملوكة! مملوكة لشخص مخيف, غريب, والخطأ عنده بعُمر, شخص من المفترض أنه رجُل خطر والبُعد عنه نجاة.
تنهدت بحيرة وهي تتجه بتفكيرها لجانب آخر, شاهين ورغم كل علامات الاستفهام حوله, لكنه بهِ بعض الطِباع الحسنة, ويا للعجب أنها تقول هذا! بصرف النظر عن حديث "نورهان" المسبق عنه, لكنها في كثير من الأحيان تلتمس فيه أمورًا جيدة, وتشعر أنه على عكس الشخصية التي يُظهرها.
زفرت بقوة وهي تقول:
-إيه الهبل ده! أنا بفكر في إيه؟؟!
انتفضت على اهتزاز الهاتف لتجده "مازن" فتحت المكالمة فورًا تردد بصوت منخفض:
-مازن, رنيت عليك كتير مردتش.
أتاها صوته الهادئ يقول:
-كنت مشغول شوية.
شعرت بأن صوته بهِ شيء ما:
-أنتَ كويس؟ صوتك مش طبيعي.
-لا أنا تمام, قوليلي في حاجة ضرورية؟
ورغم تأكدها بأنه ليس بأحسن أحواله لكنها قالت متغاضية عن ما لا يريد الإفصاح عنه:
-في حاجات... شاهين طلق شدوى رسمي.
أتاها صوته المصدوم:
-بتقولي إيه؟ ازاي؟ والعيلة عرفت؟
-جدك هو اللي أمر بكده, ومحدش قدر يتكلم, وكمان قال إن كتب كتابي أنا وشاهين بكره.. بس شاهين مشكورًا يعني كلمني بعدها قدامه وقالي إني اكيد لازم اعرف بابا الأول ولازم يكون حاضر, فمسكت في الحجة دي وتبت... لكن مش عارفة هعمل إيه وهفضل اماطل لأمتى؟ وابويا ده هييجي منين!؟
-إيه ده؟ كتب كتاب إيه؟ هم اتجننوا؟ ولا شاهين عاوز يتأكد إنه هيسبقني بخطوة!
قطبت ما بين حاجبيها باستغراب وهي تقول:
-هو كل اللي فارق معاك إنه هيسبقك بخطوة؟ بعدين أنا في بالي إنك هتتصرف وتهربني من هنا زي ما قولت قبل ما ياخد الخطوة دي.
تردد صوته وظهر بهِ الارتباك وهو يقول:
-مش قصدي أكيد.. بس انا لما فكرت في موضوع هروبك ده لقيت إنه صعب شوية.
-صعب!
رددتها متفاجئة من حديثه فقد بنت أفكارها على تصرفه هو وتهريبه لها من هنا قبل أن تُكشف أو تقع في المحظور.
-هنبقى معملناش حاجة يا فيروز, هيكون خوفك وكل اللي عملتيه الفترة اللي فاتت راح على الأرض, لازم نلاقي دليل على شاهين قبل ما تطلعي من حياته.
-ولو لقيته؟
-هيتسجن طبعًا!
ابتسمت باستخفاف تقول:
-وطبعًا على ما اعرف الاقي على دليل هيكون اتجوزني!
سمعت زفرة حارة منه قبل أن يقول:
-ووقتها هتتحرري منه, متقلقيش عمري ما هسيبك تقعي فيه عمرك كله, وعمري ما هسمحله يلمسك.
-هيكون جوزي!
صرخت بها بنبرة خافتة وقد تجمعت دموعها في عينيها وقالت مكملة بمرار تتذوق طعمه في حلقها:
-ازاي مش هتسمحله يلمسني وهو هيكون جوزي! ازاي قولت إنك بتحبني ودلوقتي معندكش مشكلة اتجوزه المهم مصلحتك تمشي واعرف اجبلك دليل عليه! أنا تخيلت إني اول ما احكيلك هتقولي انا ههربك فورًا من عندك, ردك صدمني ومش قادرة استوعبه.
-اسمعيني بس, دلوقتي حتى لو كتب كتابه عليكي شاهين مش من النوع الرومانسي ولا انتِ فارقة معاه أصلاً, هو بيعمل كده عشان يعلن انتصاره عليا, وبناء عليه هو عمره ما هيقربلك, هو بس هيتجوزك عشان يثبتلي إنه خدك مني, فبالنسبه إنه يقربلك ده مش هيعمله, ولما نمسك عليه دليل هيتحبس, وقتها تقدري ترفعي عليه قضية خلع, وهتخلصي من الموضوع ده خالص بدون أي خساير.
وحقيقًة لا تعرف الآن لِمَ فعلت هذا لكنها لم تخبره عن رغبة "شاهين" الذي أخبرها بها, وأنه يريد الزواج منها ليكون أسرة وأولاد, صمتت, ولا تعرف سبب الصمت الغريب في موقف كهذا, لكنها شعرت بشيء يطبق في عنقها, ويجثم فوق صدرها, شيء لم تستطع إزاحته أو التخلص منه فقالت بغصة مختنقة:
-انتَ شايف كده؟
تنهيدة عميقة خرجت منه قبل أن تسمع صوته:
-فيروز, انا قولتلك إني بحبك... ومينفعش تشككي في كلامي أو شعوري, لأني ببساطة مش مراهق عشان معرفش حقيقة مشاعري ليكي.
تهاوت دموعها وهي تشعر بالحزن والكأبة وقالت معاتبة:
-غريب حبك ده! رغم إني معرفش الحب ولا عمري عيشته, لكن مش طبيعي تكون بتحبني وموافق راجل تاني يتجوزني حتى لو مش هيقرب مني زي ما بتقول رغم إن ده شيء مش مضمون, هتعمل إيه لو بقى جوزي بجد؟ هيبقى الموضوع عادي زي ما عادي اتجوزه!؟
أتاها صوته الغاضب يقول رافضًا:
-لا طبعًا, وانتِ المفروض ماتسمحيش بده! ده لو بتحبيني. أنا اصلاً مسمعتش ردك على اللي قولتهولك في الحفلة, مشاعرك إيه ناحيتي يا فيروز؟
هو يخنقها الآن, فمشاعرها مضطربة, ومشوشة بعد حديثه الغريب عليها وردود أفعاله الأغرب, اتجهت للنافذة تنظر من خلفها للسماء لتجد نفسها تردد بشرود:
-مش عارفة... بس يمكن في مشاعر جوايا ليك.
والحقيقة لو سألها نفس السؤال في أول مكالمته لقالتها صراحًة واعترفت بالحب, ولكنها "فيروز" الفتاة التي تعلمت نصف ما بها من صفات وطِباع من الشارع, من قسوته وسوء معظم من قابلتهم بهِ, لذا فعقلها يطغى على مشاعرها في كثير من الأحيان, أو حين يستدعى الأمر.
والعقل يقول الآن أن تتماسك وألا تتسرع في الاعتراف بمشاعرها.
-رغم إن إجابتك مش مرضية اوي ليا, بس مقدر إنك اكيد في تردد وحيرة وسط اللغبطة اللي بتحصل.
-وليه متأكد إن جوايا مشاعر ليك؟
-تصرفاتك ونظراتك بتفضحك يا فيروز, يمكن مش متأكد إذا كنتي حبتيني ولا لأ, بس متأكد إني مأثر فيكي, وعلى فكرة.. وحشتيني.
اضطربت وانتفض قلبها وهي تستمع لكلمته, وعقلها يستنكر كيف اشتاق لها وقد رأته بالأمس في الحفل! إنه يبالغ! أم يريد أن يحسن الوضع بعدما شعر بتوتره؟
لم تعقب على كلمته فقط قالت متخطية الموضوع:
-المطلوب مني اعمل إيه؟ وابويا ده هنتصرف فيه ازاي؟
-بقولك إيه تعرفي مرسي دراع شاهين اليمين؟
صمتت تحاول إدراك هوية من يذكره فقالت:
-لأ, ماله ده؟
-ده لازم تعرفيه, هبعتلك صورته, الراجل ده لو شوفتيه عند شاهين في مكتبه حاولي على قد ما تقدري بعد ما يمشي على طول تدخلي المكتب وتدوري فيه, مرسي مبيظهرش غير لما يكون هو وشاهين بيرتبوا لعملية, ولو عرفتي تسمعيهم وتعرفي منهم معلومات, أي معلومة حتى لو صغيرة تعرفهالي.
-وهعمل ده ازاي؟ ده في تور واقف على الباب بتاع المكتب مبيخليش حد يقرب منه.
-اتصرفي يا فيروز, شوفي شبابيك المكتب ولا أي مكان تقدري تسمعي منه, مرسي ده هو اللي هيوصلنا لحاجة وإلا هنفضل نلف في دايرة مقفولة.
-هحاول..
قالتها بتنهيدة قوية وهي تشعر أن القادم ليس سهلاً, وسألته:
-ولو قالي إنه عاوز يتواصل مع ابويا؟
-قوليله إنك هتتواصلي معاه عن طريق اكونت الفيسبوك لأن طبعا تليفونك مش معاكي ومتعرفيش غير اكونته, وانا هبعتلك في رسالة اسم اكونت والصورة بتاعته, الراجل ده واحد معرفة موجود في لندن هكلمه افهمه كل حاجه واعرفه لما تتواصلي معاه هيقول إيه.
-واسم الاكونت ده مش هيكون مختلف عن اسم ابويا؟
-اصلاً هو عامل اكونت باسم وهمي فموضوع الاسم مش مهم.
*******
في اليوم التالي...
_الزم أدبك يا سيف، شاهين هو كبير العيلة من بعدي ميصحش تتكلم عليه كده.
_ومين قرر انه كبير العيلة يا جدي! العيلة مش محتاجه كبير من بعدك.
_لا محتاجه، محتاجه عشان اللي في دماغك ده مش هيحصل حتى بموتي، بموتي مش هتقسموا الورث ومتعرفوش بعض بعدها.. انا موصي ان مفيش مليم يطلع من الورث، ومفيش حاجه هتتوزع، وملك عيلة المنشاوي هيفضل زي ماهو واللي مش عاجبه يفارق بس من غير ولا مليم.
_ ايه الجنان ده! انتَ بتقول ايه؟ ده ورثنا وحقنا ناخده.
_متولعش النار يابابا ، انتَ عارف انهم عمرهم ما حبوا بعض في وجودك... عيلة كلها تعابين، هيحبوا بعض بعد موتك!
والجملة أتت من ولده" مختار" الذي دلف للفيلا للتو, نظر له "المنشاوي" وهو يشير ل"سيف" بينما يقول:
-تعالى...تعالى شوف البيه ابنك بيقول إيه, البيه بيعدل عليا أنا وابن عمه, صاحي يقول شكل للبيع، والتعابين اللي تقصدهم يبقوا انت وعيالك، مين في العيلة بيحقد ويغل غيركوا!
قال "سيف" بغضب:
-عشان مش بعد كل السنين اللي شدوى قضتهم معاه تخرج من حياته فجأة كده وترجع تعيش في المنفى, هي من حقها تفضل عايشة هنا, ولو مش في البيت خلاص تعيش معايا أنا ومراتي في بيتنا.
ضرب "المنشاوي" عصاه بالأرض بحدة:
-لأ, مش هيحصل, عشان عارف إن اختك مجنونة وعديمة الكرامة, مش هتسيب شاهين في حاله, وطول ماهي معاه في نفس البلد هترازي فيه هو وخطيبته, وانا عاوز اقطع جدر الموضوع ده خالص.
قال "مختار" بغيظ يكبته:
-اسمع يا حاج, شاهين لازم يرد شدوى لعصمته, اللي عملته امبارح انتَ من غير ما تاخد رأي حد غلط, وغلط كبير.
اقترب "المنشاوي" منه وهو يقول ساخرًا:
-وليه عاوزها ترجعله؟ وموافق ترجعله بس يتجوز عليها؟ ولا هتحجر عليه وتحرمه من حقه وتقول مايتجوزش؟
ورده كما توقعه الجد حين قال:
-لو عاوز يتجوز يتجوز, المهم ميرميش بنت عمه وابنها عشان واحده غريبة و...
قطع "المنشاوي" حديثه يقول بابتسامة مشمئزة:
-مش مصدق إنك بتبيع بنتك وبتمسح بكرامتها الأرض عشان ورث شاهين.
توتر وجه "مختار" وهو يقول برفض:
-ورث إيه؟ انا مش محتاج ورثه أنا...
-لا محتاج... ورثه اللي هو ورث ابوه واللي أصريت اكتبه باسمه عشان لما اموت متاكلوش حقه, ورثه اللي حافظ عليه وبقى 3 اضعاف الأصل.
لم يستطع "سيف" التحكم في نفسه وهو يقول غاضبًا وحانقًا:
-وللآن مش راضي تكتب لأبويا حقه الشرعي في باقي أملاكك, وسايبهم باسمك, عشان لما تموت شاهين يورث تاني!
نظر له "المنشاوي" ناظرة قاتمة, حادة وقال:
-شاهين مش طماع ولا معدوم الضمير زيك, هو عمره ما هياخد جنية تاني, لكن أنا مش هكتبلكوا باقي املاكي عشان امد ايدي ليكوا اطلب المصروف كل شهر ولا لو وقعت في مشكلة استلف منكوا, وانتَ بالذات يا فاشل لو شميت ريحت الفلوس هتضيعها زي كل حاجة ضيعتها قبل كده.
-طبعًا, انا الفاشل وشاهين بيه هو اللي مفيش منه, طول عمرك شايفه بطل رغم إن كل اللي بيعمله عادي.
قالها "سيف" بكره حقيقي, فمن كثرة ما يرى تفضيل الجد ل "شاهين" عليهِ كره "شاهين" والجد نفسه, ليقول الجد:
-اعمل نص اللي بيعمله بعدين ابقى أتكلم, ده انتَ لسه بتاخد مصروفك من ابوك ومعتبره مرتب قال, مرتب إيه وانتَ مبتروحش الشركة مرتين في الأسبوع.
-اديني نص اللي ادتهوله وانا اعمل زي ما عمل.
غضب "المنشاوي" وهو يقول:
-لا هديك حاجة, ولا تحلم لا انتَ ولا ابوك إني اكتبلكوا املاكي, لما أموت ابقوا اورثوني، ومتخلونيش احلف إني اكتب وصية إن بعد موتي املاكي ماتتقسمش واخلي كل حاجه تحت تحكم شاهين عشان تفضلوا طول عمركوا تحت ايده.
-بعد الشر عليك يا بابا, بس بقى يا مختار انتَ وسيف عيب كده, حصل إيه لكل ده؟ وانتَ يا سيف اهدى, انتَ من وقت ما صحيت وانتَ بتقول شكل للبيع ونازل شامم نفسك علينا.
هدرت بها "سهير" خارجة عن صمتها ليقول "سيف" بنفس غضبه:
-عشان امبارح اضطريت اسكت تحت إصرار جدي, لكن انا مش قابل اللي عمله هو فكر في شاهين وبس, مفكرش في اختي.
نزلت "صفاء" على الدرج تقول بوجه شاحب:
-منشاوي بيه انا طلعت ابلغ شدوى هانم تجهز الشنط عشان تمشوا, بس ملقتهاش لا هي ولا تيم, وهدومهم مش فوق.
صُدم الجميع مما قالته, واتسعت عيني "المنشاوي" بغضب وهو يهدر في "سيف":
-اتصل بيها شوفها راحت في أي داهية.
******
اليوم لابد أن يخرج من المستشفى, وللعجب لم يكن يريد الخروج! فقدومها له على مدار اليومين كان يبعث فيهِ راحة غريبة, وكأنه بدأ يفضل المكوث في المستشفى فقط لتأتي وتراه! لِمَ أصبح يراها بشكل مختلف؟ أليست هي نفسها "مستكة" الفتاة التي لا يحب الحديث معها ولا نظراتها له, لا يحب سخافتها وهي لا تنفك عن إظهار مشاعرها أمامه, ولكن الصورة الجديدة التي ظهرت بها أحبها, أو على الأقل تقبلها, الفتاة العاقلة التي تعطيه دفعة للحياة والتي يمتلئ حديثها بالحكم والمواعظ, الفتاة التي جعلته يتقبل وضعه وأشعرته بأنه لم يفقد حياته كما رأى الوضع, بل فقد شيء وعليهِ أن يعوضه بشيء أخر..
نزل من سيارة الأجرة, ليجدها تقف أمام منزلهم تحمل صينية طعام مغطاة بقطعة قماشية كبيرة, اقترب هو ووالده منها ليبدأ "شاكر" في الحديث:
-إيه اللي موقفك كده يا مستكة؟
ابتسمت بخجل وهي تنظر لِمَ تحمله:
-لما كنت في المستشفى الصبح عرفت انكوا هتخرجوا على ميعاد الغدا, قولت اكيد مش هتلحقوا تيجوا تعملوا أكل وهتكونوا جعانين, فعملت حاجة بسيطة كده.
خرج "مجد" عن صمته يقول بحرج مما تفعله معهم:
-بس كده كتير...بعدين معنى كده إنك مشتغلتيش النهاردة كمان! ومعطلة نفسك عشانا.
رفعت نظرها تطالعه بابتسامة ولمعة عيناها قد عادت كما كانت دومًا:
-مش كتير ولا حاجة, وبعدين... انا خدت النهاردة إجازة من شغلي, وبيع الفل كده كده بشتغله في أي وقت.
اقتربت تعطي الصينية ل"شاكر" وقالت:
-حمد الله على السلامة, وإن شاء الله ربنا يتمم شفاه على خير.
تناولها منها "شاكر" بحرج وامتنان:
-تعبناكي معانا اليومين اللي فاتوا, بس مش جديدة عليكي يا مستكة طول عمري شايفك بت جدعة وبنت أصول.
ابتسمت وهي تختلس النظرات ل "مجد":
-الجيران لبعضها يا عم شاكر, والرسول وصى على سابع جار, واحنا ولاد حتة واحدة, ويارب الأكل يعجبكوا.
-أكيد.
قالها "مجد" فجأة, لينظرا له فحمحم يقول:
-كفاية إنك تعبتي نفسك وعملتيه.
-السلام عليكم.
قالتها وهي تنصرف من أمامهما وقلبها يدق بدقات تشعر بها للمرة الأولى, فلأول مرة يعاملها "مجد" بهذا اللطف, لأول مرة يتقبلها دون أن ترى منه نظراته الكارهة, دون أن يجرحها بحديثه, كما كان الأمر هكذا في المستشفى لكنها كانت تبرر ربما يقدر ذهابها لرؤيته كمريض فيحاول أن يعاملها بلطف, ولكن ماذا عن الآن؟ وهل هذا أمل تتعلق بهِ أم ستكون أكبر ساذجة إن فعلت!
******
مساء اليوم التالي....
ابتسمت بتوتر وهي تحادث والدها المزعوم عبر هاتفه:
-أنا بس يا بابي كلمتك عشان اقولك إن في حد متقدملي وحابب يكلمك عشان يطلبني منك, وكمان يحدد معاك باقي التفاصيل.
أتاهما صوت الرجل يقول بضيق أجاد تمثيله:
-والكلام ده من امتى؟ بعدين تفاصيل إيه اللي هحددها معاه وانا معرفوش ولا اعرف عنه حاجة!
نظرت ل"شاهين" بتوتر ثم أجابت:
-انا اعرفه كويس يا بابي, وواثقة فيه, هو بس عاوز يعني يحدد معاك ميعاد الخطوبة وكمان عشان تكون موجود.
-لالا مش هقدر انزل مصر خالص, مش أقل من كام شهر لأن عندي اشغال كتير هنا مينفعش اسيبها وانزل.
نظرت ل "شاهين" بحيرة مصطنعة ثم سألت الرجل:
-يعني ممكن تنزل بعد قد إيه؟
-يعني مش أقل من 6 شهور, بلغيه بكده, وخليه يأجل أي حاجة لحد مانزل.
-تمام يا بابي, هكلمك تاني.
وأغلقت معه الهاتف لتنظر ل"شاهين" الذي يطالعها بصمت, صمت لم يقطعه فقطعته هي تقول بابتسامة متوترة:
-ساكت ليه؟
نظر لها بتمعن أقلقها:
-وافقتي ليه؟ متوقعتش تدخلي عليا الصبح المكتب تقوليلي أنا موافقة إننا نتجوز بجد!
تحكمت في خوفها من أن تخفق في الحديث, واستدعت الثبات وهي تقول:
-فكرت بعقلي, على فكرة أنا بعيدة خالص عن الحب والمشاعر والكلام ده, ولما هديت وفكرت لقيت إني طول عمري بدور على الزوج المناسب بشكل عقلاني, وبصراحة... انتَ فيك كل مواصفاته, بس مع عقبة بسيطة مش عارفة هقدر اتخطاها ولا لأ.
-ويا ترى إيه هي العقبة دي؟
-موضوع تجارتك في السلاح, انا للآن مش عارفة انتَ فعلاً بتاجر فيها ولا مازن فاهم غلط!
شبك كفيهِ فوق المكتب يقول بهدوء:
-بصي, انا اكتر حاجة بكرهها إن حد يدخل في تفاصيل حياتي, او يتدخل في حاجات انا شايف إنه ملوش فيها.
رفعت حاجبها الأيسر باستنكار تقول:
-يعني إيه! لا ليا فيها طبعًا, التفاصيل دي هتكون حياتي انا كمان, ازاي اتجوز شخص حواليه شكوك, وشكوك إجرامية كمان!
عقب على حديثها بنبرة قوية واثقة:
-بصرف النظر عن أي شيء يخصني أو يخص شغلي, يكفيكي اقولك إنك عمرك ما هتتأذي ولا هتكوني طرف لعداوتي مع حد... أنا عارف كويس اوي أفصل حياتي العملية بكل اللي فيها عن بيتي وحياتي الشخصية, شدوى عاشت معايا 7 سنين ولا مرة مشاكلي في شغالي أو عداوتي مع حد حست بيها, واعتقد ده اللي يهمك.
لم تقتنع بحديثه أبدًا وقالت:
-ايوه بس لو شغال في السلاح واتقبض عليك ده مش هيأثر عليا وعلى حياتي!
نهض يلف حوله مكتبه حتى أصبح أمامها فاقترب من كرسيها واستند بكفه على المكتب يميل عليها يسألها بأعين ماكرة:
-بتلفي وتدوري ومصممة توصلي لإجابة السؤال ده صح؟
رمشت بأهدابها توترًا من اقترابه الخطر, وابتلعت ريقها بصعوبة مع تسارع أنفاسها وقالت بنبرة مرتبكة:
-ايوه...مصممة, وبصراحة ده مقابل إني أوافق بشكل كلي..على...على الجواز يعني.
*******
جلس أمامها في المقهى الذي اتفق معها على اللقاء فيه, وقال بابتسامة ارتسمت على ثغره:
-هتشربي عصير مانجا كالعادة ولا ناوية تغيري؟
ابتسمت وهي تجيبه:
-مانتَ عارف مبشربش غيره.
طلب لها مشروبها وطلب له قهوته الخاصة وبعدها نظر لها يقول:
-امبارح جالك تليفون ومشيتي وملحقناش نتكلم, نزلتي مصر ليه وامتى؟ وكلمتيني ليه؟
ضحكت ضحكة صغيرة تقول:
-كل دي أسئلة؟ عمومًا هجاوبك.. نزلت مصر من أسبوعين, وليه...عشان للأسف حياتي بره انتهت, وكلمتك ليه... فكلمتك عشان لما نزلت مصر معرفتش الاقي أي حد من صحابي, ولقيت نفسي لوحدي, افتكرتك.. وقولت انتَ الوحيد اللي هعرف اوصلك لأن الاكونت بتاعك كان لسه عندي, قولت اكلمك ونرجع صداقتنا ويبقالي حد هنا على الأقل استند عليه وقت ما يحصلي مشكلة او احتاج صاحب.
نظر لها بتمعن يسألها:
-معقول! شايفه إننا ينفع نرجع صحاب؟ حتى بعد اللي حصل يا ليلى؟
تنهدت وهي تقول بينما تنظر بعيدًا:
-اللي حصل بيني وبين اخوك زمان انا عمري ما دخلتك طرف فيه, بالعكس طول الوقت حافظة جميلك إنك نبهتني وخوفت عليا اتخدع فيه, وعمومًا.... انا نسيت شاهين من زمان يا مازن.
-متأكده؟
سألها بشك واضح, لتبتسم في خفوت وقالت:
-لو ماكنتش نسيته مكانتش اتجوزت.
-اتجوزتي؟؟؟!
رددها بصدمة وفاه فاغر وقد شعر بحجر ثقيل سقط فوق قلبه فجأة..