رواية عشق لا يضاهي الفصل المائة التاسع والثلاثون
لم يخطر ببال شادية يوما أن لطفا طارئا قد يسكن ملامحها.
لم تشك للحظة في أن للقدر... هذا المزاج الملتبس أن يرسل إليها طفلا دون سابق إنذار في المسافة الفاصلة بين شك ومصادفة.
اقتربت من زكريا وجلست القرفصاء أمامه كأنها تنحني للغموض تمسح عينيه عن قرب علها تبصر الحقيقة التي تراوغ.
قالت بصوت خافت رخيم لكنه يحمل نبرة امرأة تعرف كيف تأمر دون أن تأمر
هل تتذكر منزلك يا صغيري سأرافقك إليه.
تجمد زكريا كأن الزمن تعثر داخله إذ لم يكن يتوقع منها تلك النبرة ولا تلك الرقة التي تشبه ضوءا خافتا نبت في حجرة مغلقة منذ سنوات في الحقيقة لم تخبره سيرين الكثير عنها لكنه كان قد قرأ عنها تتبع خطواتها في تقارير وصور قديمة.
شادية نصران... السيدة التي تشبه القصور في وقارها بنت سلالة تعرف كيف تخفي الحزن تحت الأناقة والتي لم تبتسم علنا يوما كأن الابتسامة جريمة تخدش مهابتها.
أفاق من دهشته على صوتها ثانية وهي تضيف
إذا كنت تتذكر رقم هاتف والدتك..
. أو والدك يمكنني الاتصال بهما.
ارتبك الصبي ثم تمالك نفسه ورد بأدب يليق برجل صغير يخفي أكثر مما يظهر
شكرا لك... هل بإمكانك فقط إيصالي إلى موقف الحافلات عند الطريق الرئيسي سأستقل الحافلة من هناك.
راقبته كأنها ترى لوحة فنية تنبض بالحياة. طفل بهذا النضج والرقي أنيق في كلماته هادئ في حضوره شفاف كقطعة زجاج... لكنه يخفي شيئا ما خلف عينيه العميقتين.
تنهدت تلك التنهيدة التي تخرج من رحم الأمنيات الضائعة... تحادث حالها
لو أن ظافر أنصت... لو أنه فقط آمن لكنت اليوم أضم حفيدا في عمر هذا الصبي...
ومن ثم قالت بصوت يشبه تنهيدة مقنعة بكلمات
حسنا... تعال سأوصلك بنفسي.
تابعها زكريا بخطوات صغيرة لكنها واثقة... لم يخشها... شيء في أعماقه كان يقول إنها رغم كل شيء لن تؤذيه... ربما لأنه كان يعرف دون أن يفصح أنها ليست امرأة عادية بل جدته... التي لم تعرف أنه موجود.
ركب السيارة بجوارها... الصمت بينهما كان كثيفا يرن كأجراس في هواء ضبابي لكن شادية لم
تحتمل ذلك السكون فقد كانت الكلمات تتزاحم على لسانها كأسراب الطيور في موسم هجرة تبحث عن دفء تلقيه... فتحدثت
هل تعيش هنا يا صغيري في هذا الحي
هز زكريا رأسه نافيا ثم تظاهر بالفضول قائلا
وهل أنت تعيشين في هذا القصر يا سيدة نصران إنه كبير... جدا.
ابتسمت ابتسامة صغيرة كمن يعترف بشيء لا يحب الاعتراف به
لا هذا منزل ابني... أما أنا فلا أعيش هنا.
هنا انقض زكريا على الجملة كصياد وجد خيطا من دم... ومن ثم سأل بلهفة مصطنعة
أوه إذن جئت لرؤية أحفادك
كأن السهم أصاب موضعا هشا في قلبها فقد تغير وجه شادية وخفت نور عينيها.
تنهدت ثم قالت بصوت فيه وجع لا يصرح به عادة
لم يرزقني الله بأحفاد بعد... ولو كان لي حفيد لكنت بنيت له قصرا أعظم من هذا وملأته ضوءا وضحكا ولعبا...
كلماتها كانت صادقة كدعاء في جوف الليل... لم تكن تمزح ولم تكن تبالغ... ولو علمت أن زكريا ابن الدم لكانت قد فرشت له العالم حريرا وصنعت له من أيامه سلالم تصعد به إلى السماء.
لقد تمنت
حفيدا منذ اليوم الذي تزوج فيه ظافر وسيرين حتى إنها في لحظة من الحنين استأجرت مهندسا ليبني ملعبا ومنطقة تزلج... كل ذلك لطفل لم يولد بعد... كل شيء أعد لضحكة لم تأت.
لكن عدنان... زوجها كان غائبا دائم التجوال بين نساء الصالونات... وظافر قد انشغل عن الحلم بعالم آخر لا مكان فيه لدماء جديدة.
أما هي شادية فبقيت وحدها... تنتظر.
وكان ثمة سبب آخر لا يقال بصوت عال
حماتها... تلك المرأة التي خنقت أنفاسها دوما والتي جعلت وجود الحفيد شرطا للنجاة من الإلغاء.
زكريا لم يكن يعلم كل هذا... لم يكن يعرف أن القلوب أحيانا تقفل مثل خزائن سرية تحتاج إلى كلمات بعينها لفتحها... لكنه شعر بشيء جعل الحزن يلامس قلبه.
وحين وصلوا إلى الطريق الرئيسي أشار قائلا
ها قد وصلنا سيدتي نصران... شكرا لك.
نزل من السيارة بصمت يشبه وداعا لم يقال فيه كل شيء.
تابعته شادية بنظرات طويلة... ثم أمرت السائق ألا يتحرك حتى يراه يصعد إلى الحافلة بنفسه.
وفي طريق العودة قال السائق
بتعجب كأنما يتكلم عن سر اكتشفه للتو
الأطفال
صاروا أذكى يا سيدتي... هذا الطفل عينيه تشبهان عيني السيد ظافر تماما.
لم تجبه شادية إذ كانت تفكر في الأمر ذاته... بل كانت تعرف أنها لو رأت أي طفل آخر لما أبدت هذا القدر من العطف.
لكن... هذا الصغير
إنه مختلف.
إنه يشبهها... ويشبهه.
في الجانب الآخر من الحكاية كانت خطوات ظافر تقطع ممرات القصر كما لو كانت تدوس على رماد قلبه المتعب فقد عاد للتو من مشهد عبثي آخر حيث خيم الخطر فوق رأس امرأة كان يحاول أن يطوي وجودها داخل حدود حمايته كما يطوى كتاب لا أحد يجرؤ على فتحه.
إنها دينا تلك التي قد استدعته في مكالمة مقتضبة لكنها مشحونة بالخوف المصطنع تحيك بصوتها المرتعش مسرحية درامية خبيثة... إذ قالت إنها تتعرض لملاحقة معجب لم يكتف بأن ينسج أوهامه حولها بل تجاوز خيال المهووسين وادعى أنها حبيبته... والأسوأ من ذلك أنه اقتحم منزلها... وحاول أن يخطفها إلى عالم مظلم لم تختره... هذا ما
أدعته وإن كان حقيقيا إلا أن هذا الشخص لم يكن مجرد معجب.
هرع ظافر إلى هناك بنخوة رجل استنجدت به امرأة لكن الحراس كانوا قد طردوه بالفعل... لم يرغب في أن يترك الأمر للصدف فعين لها حارسا شخصيا وطلب منها أن تتصل به أو بالشرطة فورا إن عاد ذاك الرجل.
كل شيء في وجه دينا كان يصرخ بالرعب وشيء ما بداخله أحس بأنه ألقى حبل النجاة في الوقت المناسب.
وحين عاد إلى القصر كان الليل قد لف السماء بعباءته الرمادية والهواء مشبع بصمت ينهش الروح.
تذكر سيرين...
صوتها المتعب بشرتها التي ارتجف فوقها الطفح كأغنية ألم لا تنتهي.
تساءل هل أكلت شيئا
هل تشعر بتحسن
هل غفت عيناها ولو للحظة
وسط هذه التساؤلات قرر أن يحضر لها طعاما بنفسه.
وبعد أن أجرى مكالمة هاتفية مضى إلى الطابق العلوي خطواته تتردد على الدرجات كما لو أنه يصعد إلى نعيم يستجديه.
باب غرفتها لم يكن مواربا بل نصف مفتوح... كأنها تريده أن يدخل
أو لعل الريح فقط عاندت وأبقت عليه كذلك.
الستائر البيضاء كانت ترفرف بخفة كأجنحة ملائكة ترتعد فوق هاوية.
وسيرين... كانت هناك جالسة على مكتبها رأسها منحني كمن يحاول إخفاء روحه في لحن.
كانت تكتب نوتة موسيقية أناملها ترقص على الورق كما ترقص أمنية فوق جسد الوقت.
كل شيء كان هادئا حد الألم كأن الغرفة بكماء لا تتكلم لكنها تبكي.
دخل ظافر وفي أول نظرة لاحظ أثر الطفح كأنه نقش حزن على جسدها الأبيض.
قال بصوت حاول أن يخفي قلقه تحت طبقة من الحزم
هل أكلت شيئا
لم تلاحظ سيرين وجوده إلا عندما سقط ظله على ورقتها فرفعت رأسها ببطء وقالت دون أي اندهاش
لقد عدت.
أجابها بنبرة آمرة اللعنة على هذا الظافر!! متى سيتعلم اللين
نعم... انزلي إلى الطابق السفلي وتناولي طعامك.
هزت رأسها بخفة كأن الجوع لا يسكنها أو ربما يسكنها ما هو أعمق
لست جائعة.
واصلت الكتابة كما لو كانت تهرب من عينيه أو من سؤال لم
يطرح بعد.
لكن ظافر لم يكن ليتراجع... لم يكن الأمر مجرد طعام بل طقس من الحماية من الاهتمام الصامت.
قال بلهجة قاطعة
حتى لو لم تكوني جائعة عليك أن تأتي وتأكلي.
ثم التفت ونزل تاركا خلفه شيئا غير مكتمل كأنه انسحب من لوحة قبل أن ينهي رتوشها الأخيرة.
لم تجد سيرين بدا من اللحاق به... كانت خطواتها ثقيلة وجسدها يئن تحت وطأة خدر لا علاقة له بالحساسية.
وعندما وصلت إلى غرفة الطعام وجدت طاولة باذخة تزخر بالألوان والروائح... الطعام بدا كما لو أن مطعما بأكمله انحنى ليعد لحنا يؤكل.
ألقت نظرة سريعة...
لم تكن هناك أطباق بحرية.
تعلم أن الغياب لم يكن عشوائيا... لكنه لم يبرر ولم يتحدث... أرادت أن تسأله عما دار بينه وبين دينا ولكنها صمتت طالما لم يحك فلن تبدي اهتماما.
فقط جلس وبدأ يأكل.
كان الصمت بينهما سميكا لكنه مألوف... صمت الذين عرفوا كيف يحبون سرا.
بعد أن أنهت طعامها رفعت عينيها نحوه
ودون سايق إنذار وعلى غير توقع منه.........