رواية عشق لا يضاهي الفصل المائة الرابع و الاربعون 144 بقلم اسماء حميدة


 رواية عشق لا يضاهي الفصل المائة الرابع و الاربعون


وقفت سيرين كتمثال من حنين تتأمل بحر البيجونيا الممتد أمامها كما لو أن الزمان قد توقف احتراما لصمتها... كانت الزهور ترقص على أنغام الريح وتتمايل بلطف كأنها تهمس لها بأسرار الطفولة التي طمرت تحت غبار السنين.
تمتمت بصوت خافت كمن يخاطب نفسه أكثر مما يخاطب رفيقه
لم أكن أعلم أنها ما تزال هنا... كأنها انتظرتني طيلة هذه الأعوام.
رمقها رامي بنظرة متأملة ثم تابع خط بصرها حتى سقطت عيناه على الزهور المتوهجة بلون الوداع الهادئ كأنها ألسنة من الضوء ترقص فوق الأرض ومن ثم قال بانبهار صادق
ما أجملها... كأنها نبتت من الذكريات ذاتها لا من التراب.
تقدم المكان في السن نعم... لكنه لا زال يحمل أناقة الزمن المتروك عمدا كلوحة عتيقة لم تنسى تفاصيلها.
جدرانه الخشبية تقف بشموخ هادئ وكأنها لا تزال تحتفظ بضحكات سابقة وبصدى خطوات صغيرة تسعى خلف أحلامها.
تمتم رامي بدهشة وعيناه تجولان كمن اكتشف سرا
هذا المكان...
أجابته سيرين بصوت اكتسى بحزن ناعم كعزف ناي في ليل شتوي
كان هذا منزل طفولتي في هذه المدينة... قطعة من روحي معلقة هنا بين الزهور والنوافذ.
ثم أطرقت برأسها كأنها تخجل من ذاكرة تحاصرها وتابعت بصوت خافت
ولكن

لم يعد لي الحق حتى في عبور بابه.
ثم استدارت بعينين تختنق فيهما آلاف العواصف المكبوتة وقالت
دعنا نذهب.
أدار رامي المحرك ببطء والسيارة تنزلق بهدوء كأنها لا ترغب بإيقاظ الأشباح النائمة خلف الأسوار.
لم تلحظ سيرين تلك العينين المتربصتين خلف الشجيرات ولا ذاك الرجل المختبئ بين الأغصان كظل هارب من ضوء الحقيقة... كان أشعث الشعر يملأ ملامحه الغبار وعيناه مثبتتان على المكان كصياد يراقب فريسته من بعيد دون أن يصدر أي صوت سوى صوت أنفاسه المتقطعة.
جابت السيارة شوارع المدينة كأنها تمشط ذاكرة قديمة... وسيرين بصمتها كانت تسبح في دوامات متلاحقة من الحنين والخذلان... وحين أنهكها الحنين التفتت إلى رامي وقالت
أعدني إلى قصر ظافر.
كانت سيرين كمن يعود إلى سجن تعرف زواياه وتستطيع التنبؤ ببرودة جدرانه... وما إن دخلت القصر حتى اختارت العزلة ملجأها وتوجهت إلى غرفة الموسيقى تلك الغرفة التي كانت تحتفظ بنقاء لم تلوثه الحروب الخفية بينهما.
جلست أمام البيانو كما تجلس عابدة أمام معبدها ومدت أصابعها كأنها تهمس للمفاتيح بألم لا يقال... انسكبت أنغامها حزينة متقطعة فيها من الخذلان أكثر مما فيها من نغم... فالموسيقى رسائلها الخفية
رسائل لا يقرؤها إلا قلبها.
وفي مكان آخر من القصر وقف الحارس الشخصي يتم تقريره اليومي عبر الهاتف وأخبر ظافر بكل التفاصيل حتى تلك التي حملتها أنامل سيرين فوق مفاتيح البيانو.
وفي ليل يقطعه الصمت كخنجر يغوص ببطء في صدر المدينة بقي ظافر في مكتبه أطول مما اعتاد كأنما يحتمي بجدرانه من أفكار ترفض أن تصمت.
كان الوقت قد تجاوز التاسعة مساء حين أطل برأسه من نافذة الطابق العلوي يودع يوما متعبا لم يكن فيه مكان للراحة وإذا به يطلب من سائقه أن يجهز السيارة... وأشار إليه بوجه خال من التعابير بعد أن احتل المقعد الخلفي
خذني إلى المقهى.
في ذات اللحظة كانت سيرين قد خرجت من القصر بخطى تشبه تلك التي يمشيها المرء حين يهرب من نفسه لا من المكان.
الريح تعاكس شعرها الذي تأبى أن تروضه والهاتف بين أصابعها ارتجف فجأة وإذا برسالة قصيرة ظهرت كصفعة مباغتة على شاشتها
سيارة ظافر تتجه أيضا إلى المقهى.
كان المرسل رامي.
وكأن القدر ينسج خيوطه بدقة ساحر عجوز يعرف كيف يشعل النار في هشيم الانتظار... فقبل أن تعود إلى القصر منذ ساعات كانت قد همست لرامي
أرقب تحركات ظافر الليلة... خيم قرب بوابة آل نصران ودعني أعرف إلى أين يذهب.
لم تفاجأ
عندما علمت أن دينا ما تزال تحمل في قلبها ذلك الشغف القديم بالحكايات وتلوينها بالبهتان... فالنميمة كانت ولا تزال خبزها اليومي وموهبتها التي لم تذبل.
كان المقهى شبه خاو كأن الليل قد ابتلعه في جرعة واحدة وترك وراءه الصدى.
أما عن دينا فقد حجزت غرفة خاصة منعزلة عن عيون الغرباء في الفندق التابع للمقهى تطل نافذتها على شارع تتراقص فيه الأضواء الخافتة مثل أسراب من الذكريات.
وصلت سيرين في الموعد تماما... لا ثانية تسبقها ولا أخرى تتأخر ترتدي سترة صوفية بلون الرماد تخفي تحتها الطفح الجلدي الناتج عن تفاعل تحسسي لم يفهمه الأطباء بعد... لكن الحقيقة حتى لو لم يكن في جسدها ندبة كانت لتحمل تلك السترة دوما فالشتاء يسكنها حتى حين يكون الصيف في ذروته فالبرد بالنسبة إليها ليس طقسا بل شعور يقطن العظام.
لقد عادت سيرين... لكنها لم تكن كما كانت تلك الفتاة التي غادرت المدينة منذ سنوات عادت اليوم وقد اكتمل نضجها كنبيذ عتيق يسكر كل من يقترب منه... بشرتها تشع كأنها تنبع من قلب القمر ومظهرها لا يشي بما مرت به من انكسارات وقد استعادت لياقتها القديمة تلك التي أهدرتها أيام ما بعد الزفاف وكأنها تسترد ما سرق منها دون إذن.
كانت
أنيقة... لا كانت أكثر من ذلك...كانت
 

تشبه قصيدة تقرأ في صمت فتترك وراءها أثرا لا يمحى... حتى دينا التي لا تنظر إلى امرأة إلا بمقارنة تحسم لصالحها هي في كل مرة شعرت بوخزة حسد تشبه قرصة برد مفاجئة.
ورغم كل ما قيل عن سارة أمها ل سيرين التي فشلت في أن تكون حضنا إلا أن سيرين ورثت عنها الجمال الطول والرشاقة التي تخفي ألف قصة من الأنوثة... وكأن سارة أورثتها الجاذبية واحتفظت لنفسها بالخذلان.
قالت دينا بنبرة مخنوقة تخفي تحتها طوفانا من الحقد المكبوت
اجلسي يا سيرين.
كانت كلماتها لينة كخنجر مغلف بالحرير تهمس ولا تصرخ لكنها تنفذ إلى الأعماق.
وضعت هاتفها على الطاولة ببطء محسوب كأنها تزرع لغما لا يرى.. وخلف تلك الشاشة الساكنة كان ظافر ينصت... يسترق أنفاس الحديث من خلف الزجاج جالسا في سيارته خارج المقهى كظل يتوارى في العتمة يتغذى على الأصوات.
سيرين لم ترد فقط سحبت الكرسي وجلست وكأنها تحفر بجلستها موضعا في ساحة حرب على وشك البدء.
نظراتها لم تهتز جسدها مشدود كوتر قوس يستعد للانقضاض.
أخرجت دينا شيكا لا ورقة بل قنبلة هادئة ومررته نحوها على سطح الطاولة كجثة ملفوفة في حرير البنك
ومن ثم قالت بصوت متزن يغلفه التصنع
أعلم أنك قلت لي إنك ستتخلين عن ظافر مقابل عشرة مليارات دولار لكنني لا أظنني قادرة على الوصول إلى هذا المبلغ وحتى لو استطعت لا أظن أنه من الصواب أن أمنحك إياه... فظافر ليس شيئا يباع... إنه ليس سلعة في سوق النخاسة... هذا الشيك بمئتي مليون... خذيه واعتبريه مساعدة مالية لا أكثر.
في الجهة الأخرى من المكالمة داخل السيارة الفاخرة التي يقبع فيها ظافر كملك منفي كانت عيناه تتقلصان خلف حاجبيه المتشابكين... وتساؤلات ثقيلة أخذت تنهش صمته كذئاب جائعة
هل طلبت سيرين من دينا عشرة مليارات هل باعتني هل صار قلبي صفقة
كان التنصت بالنسبة له نافذة يطل منها على قلب امرأة لم يستطع يوما أن يقرأها.
همس لنفسه وهو يغوص أكثر في ظلمة الشك
إن قبلت المال... سأذهب إليها الآن. سأعيدها إلى القصر ولو على حطام كرامتها... وساعتها يمكنها أن تحلم بالحرية في حياة أخرى... في عالم لا أحكمه أنا.
لكنها وبهدوء يرعب دفعت الشيك جانبا كما تدفع ورقة بالية تحت ريح ساخنة ثم قالت بنبرة حادة كالسكين
ألست أنت من طلب مني أن أسعر نفسي أليس هذا ما
همست به يومها فلماذا الآن تمنحينني رقما وحدك وكأنني قطعة أثاث في مزاد خاص
تصلبت دينا في مكانها وقد توقف الزمن للحظة وانتابها الجنون تسأل حالها كمن يعاني انفصام الشخصية 
متى نطقت بذلك أي حفرة دفنت فيها تلك الكلمات
تابعت سيرين وصوتها يرتجف بنار الانتقام
لقد قلت لك بوضوح إنني لا أحتاج إلى مالك القذر... عائلتي تلك التي نهلت من خيراتها لم تتلق منك يوما فلسا عندما كنا نغرق. فلماذا الآن لماذا هذا الكرم الزائف
اتسعت عينا دينا في صدمة مرة كأن صفعة ناعمة هبطت على وجهها تقول بذهول
لكنك من طلب
قاطعتها سيرين بحدة هادئة كنصل مغروس في نحر أحدهم
دعيني أكررها لك لتفهمي جيدا أنا وظافر ما زلنا زوجين... وحتى لو لم يكن يحبني فلن أتركه... أسمعت لن أتركه لو قايضتني عليه بمال العالم بأكمله.
ثم وقعت عينا سيرين على الهاتف الموضوع على الطاولة كقطعة زجاج صغيرة لا تحتمل هذا الثقل من الحقيقة. خمنت ولم تكن بحاجة إلى أكثر من حدسها أن ظافر على الجانب الآخر من الوجه الصامت للمكالمة.
في تلك اللحظة أيقنت دينا أنها كانت طعما في لعبة أكبر منها.. فاشتغل الغضب
خلف ملامحها لكنها كتمته كما تكتم النار تحت رماد خادع ومن ثم التقطت هاتفها وأغلقته بهدوء مشؤوم كمن ينهي اعترافا على خشبة مسرح.
وفي سيارة الكاديلاك كان ظافر قد سمع كل شيء... أغمض عينيه لثانية لم يتكلم. لم يغضب فقط أخذ نفسا طويلا وكأن قلبه يبتلع جرحا جديدا دون أن يئن ولا يعلم سببا لعذابه إذ كان من المفترض أن يسعد لما استمع إليه ولكن خالجته مشاعر متضطربة بين تأنيب ضميرا لجحوده معها وبين هواجسه بكارم وذاك الطفل وبين صدق ما استمع إليها الآن ومن ثم قال بصوت منخفض يأمر السائق
لنعد إلى المنزل.
تحركت السيارة بينما جلس ظافر وعيونه تعكس غيمة سوداء من الأسى والغضب لكن في صمته ثمة وعد وعد بأن معركة الانتقام بدأت للتو وأن الساحة ليست إلا ميدانا لصراع لن ينتهي قبل أن يراق الدم.
وحالما تلاشت أضواء المقهى في خلفية الليل سمع صوت ظافر ينبعث من داخل السيارة يقول وهو يجز على أنيابه بغيظ
سنرى من سينزف أولا.
كانت كلمات ليست فقط تهديدا بل إعلان حرب قادمة على قلوبهم وعلى كل ما تبقى من بقايا ثقتهم.
حرب ستأخذ في طريقها الأخضر واليابس... سيرين.... دينا.
.. شادية... كارم... الكل سيحاسب.
تعليقات



×
insticator.com, 6ed3a427-c6ec-49ed-82fe-d1fadce79a7b, DIRECT, b3511ffcafb23a32 sharethrough.com, Q9IzHdvp, DIRECT, d53b998a7bd4ecd2 pubmatic.com, 95054, DIRECT, 5d62403b186f2ace rubiconproject.com, 17062, RESELLER, 0bfd66d529a55807 risecodes.com, 6124caed9c7adb0001c028d8, DIRECT openx.com, 558230700, RESELLER, 6a698e2ec38604c6 pmc.com, 1242710, DIRECT, 8dd52f825890bb44 rubiconproject.com, 10278, RESELLER, 0bfd66d529a55807 video.unrulymedia.com, 136898039, RESELLER lijit.com, 257618, RESELLER, fafdf38b16bf6b2b appnexus.com, 3695, RESELLER, f5ab79cb980f11d1