رواية لطيفها عاشق الفصل الخامس عشر 15 بقلم سميه راشد


رواية لطيفها عاشق الفصل الخامس عشر بقلم سميه راشد


"حينما نصل إلى الشربة الأخيرة من آخر قطرات الأمل بقعر الكأس فنظن بأنها النهاية ولا محال من الموت عطشًا ثم نجد الكوب يمتليء شيئًا فشيء  من حيث لا ندري إلى أن يفيض الأمل وتعود الأحلام إلى الحياة."

صفعها اعترافه، بل جمدتها كلماته فباتت تقف أمامه كلوح الثلج بلا حراك، ماذا قال لتوه؟ أهذا أول اعتراف منه بعد نكبتهم بحبه لها، لطالما عاركت أفكارها قلبها وأوهمته أن حبه الذي كان يتغنى به بعد عقد قرانهما قد سلبته فعلتها حتى أفقدته إياه وأسقته كرهًا لا طاقة لها على تحمله منه.

ولكن ما جاد به انفعاله وأقره أمامها الآن أعاد كل الحقائق إلى عقلها! أعاد شعور بالطفو فوق غيوم من سعادة شكلتها كلماته! ولكن لما لا تراه سعيدًا بهذا الاعتراف؟! لما ترَ الصدمة تحتل ملامحه أثر كلماته وكأنه لم يكن ينوي منحها إياها أبدًا؟!

ظلت عيناها تأكل وجهه أكلًا بينما لم يصدر عنه سوى أن زفر بضيق وانتقل يدخل إلى غرفته وكأنه لم يلقِ على مسامعها أنشودته التي كان يتدلل عليها ويتمنع عن إسماعها لها حتى قارب سمعها على الجفاف مما يعانيه منه.

أجفلت على صوت الباب الذي أغلقه خلفه بقوة ليصدر قلبها آه اعتراض فينعكس على ضغط دمائها الذي ارتفع على الفور لتظهر نتيجته أمام مرأى عينيها في صورة دماء سالت بها أنفها.

تحسست أنفها أثر شعورها بتلك السخونة العجيبة التي راودتها للمرة الأولى لتشهق فور رؤية الدماء تلوث يديها فانفلتت منها صرخة فزع وهي تهرول تجاه المرآة تتأكد مما تقصه لها الدماء على يدها.

انفتح باب غرفته بفزع فور وصول صرختها إليه ليسرع تجاهها يتفحصها بقلق شديد سرعان من تفاقم فور رؤية الدماء تسيل من وجهها.
- إيه الدم دا اتعورتي ازاي إيه اللي حصل

أجابته بصوت يرتجف خوفًا من دماء ترتعب من رؤيتها أكثر من أي شيء آخر
-مش عارفة مناخيري بتنزل دم ليه مش عارفة اتعورت إزاي.. مفيش حاجة حصلت.

انتقل التوتر من صوتها إليه.. لطالما قرأ عن الدماء التي تسيل من الأنف بل وحدثت لصديقه  في الصغر ذات مرة أمامه، قرأ عن كيفية التعامل مع الأمر، ولكن لما الآن يشعر بالارتعاب؟! لما يشعر برؤية دماءها تغشي عقله فلا يتذكر ولا يدري ماذا يفعل بهذا الموقف لتترأف الدماء بحالهما وتتوقف دون تدخل منهما فأسرع على عبوة المناديل الورقية وظل يمررها على أسفل أنفها إلى أن اختفى أثرها عن وجهها تمامًا بينما ظل في عيون قلوبهما، فبدنه مازال يرتجف وعيونها مازالت تدمع أثر يده التي تربت على ظهرها بحنو حرمت منه دائمًا وتتلمسه منه الآن.

_تعالي.

قالها وهو يبعد يده عن ظهرها لتشعر بالإحباط إلا أنه أعاد ذاك الشعور إليها مرة أخرى وهو يستبدل كفها بظهرها ليحلق قلبها في السماء أثر ضغطة يده الحانية على باطن كفها.

قادها برفق إلى أن وصل إلى غرفتها وأجلسها على الفراش بهدوء ثم تركها وغاب عنها قليلًا حتى عاد محملًا بكوب من العصير الطبيعي الذي أعدته والدته لهما سابقًا.

وزعت نظراتها بينه وبين الكوب ليجلس بجوارها ويرفع الكوب إلى شفتيها يساعدها بمبالغة لتستجيب له هي الأخرى بمبالغة أكبر وكأنهما جائعان لمشهد هاديء يضمهما دون شجار.

ارتشفت بعض من العصير ثم ابتعدت بوجهها في تمنع ودلال ليهز رأسه بعدم رضا قائلا بنبرة كللها القلق
- اشربي عشان تعوضي الدم اللي فقدتيه قبل ما نروح للدكتور.

كادت تمتنع وتتشدق بعدم حاجتها للذهاب إلى الطبيب إلا أن نظرته المحذرة أردعتها على الفور فأخرستها وأوقفت الكلام بحلقها.

رفع الكوب إلى شفتيها مرة أخرى لترتشف منه بضجر وهي تطالعه بضيق بينما كان هو ضائعًا في نظراته التي اتشحت بالهيام والاهتمام تارة، والقلق والعتاب تارة أخرى.

التقطت العتاب الذي نطقت به عيناه فأجابته بنظرة أخرى معتذرة ليشيح بوجهه وكأن عينه تأبى الحوار كما يرفض لسانه.

نهض واقفًا بعدما قاربت على الانتهاء من شرب العصير ناطقًا بصوت يتصنع اللامبالاة وهو يفتح الخزانة الخاصة بها ويخرج فستان من اللون النحاسي القاتم ثم جوارب وخمار باللون البيج، وضعهما جوارها بعناية قبل أن يخرج من الغرفة ناطقًا
-مستنيكِ برا على ما تخلصي لبس لو حسيتي إنك تعبانة أو محتاجة مساعدة نادي عليا.

أومأت إليه بهدوء ليخرج سريعًا بينما هي رددت باستعجاب وهي تنظر بأثره
-هتساعدني إزاي يعني بوشك اللي  مبيعرفش يضحك دا

لتبتسم فور الانتهاء من جملتها على افترائها الذي افترته عليه للتو، فهو يمتلك أجمل ابتسامة إن أراد فقط لو أراد..
***********

تعثرت رقية في خطواتها أمام ذاك المحل الذي تأتي باحتياجات عملها منه، تحتاج الخامات سريعًا لتنفيذ الطلبات التي عليها فعلها بأقل من أسبوع ولا تجد ما تحتاج بنفس الجودة سوى هنا، حاولت التعامل مع محل آخر إلا أنها لم تجد كل ما تحتاج بل ولم تشعر بالراحة مثلما تشعر هنا.

ترددت قليلًا إلى أن حسمت أمرها بالنهاية ودلفت إلى المحل تدعو الله بألا يكون ذاك الشاب هو من ستبتاع منه هذه المرة بعد ذلك الموقف المحرج الذي مر بها في المرة السابقة، فهي لم تعتَد التعامل مع أحدهم بقلة الذوق هذه، ولكن أليس هو من تحدث معها بحدة؟! إذا فلا يستعجب من تركها الأشياء له بعدما بذل جهدًا في إحضارها لها.

عضت على شفتيها بضيق فور رؤيتها له جالسًا مع أحد المراهقين الذي يساعده في البيع لتشعر به يبتسم بمكر عقب دخولها، حاولت إقناع نفسها بأنه لم يعرف أنها هي، فلقد تعمدت تغيير طريقة النقاب هذه المرة كي يتلبسه التيه ولا يدرك كنهها إلا أنها تشعر بالتخبط لتفيق من شعورها بالخجل على جملته الجادة
- اتفضلي طلباتك! 

غمرها الارتياح أثر كلمته، فعلى ما يبدو أنه لم يتذكرها فهمَّت بقول ما أرادت؛ ليستمع إليها بهدوء ثم يأمر الصبي الذي  برفقته بجلب بعد المواد من المحل الكبير الملحق بهذا والذي يستخدمونه لتخزين المواد ليتركها هو ويحضر الباقي، فتنفست بهدوء مخالف لذاك الذي دلفت به، أوشك على جمع جميع ما طلبت ففتحت حقيبتها لتأخذ منها من الأموال ما ستدفع بعدما حرصت على مضاعفتها هذه المرة لتستمع إليه يقول بنبرة أثارت استفزازها وحرجها معًا
- بس مفيش ترجيع المرة دي 

احمر وجهها بشدة بل وشعرت بكفيها يرتجفان خجلًا وصل إليه ليكسوه الشعور بالذنب، فحتمًا لم يقصد إخجالها، كل ما قصده فقط هو تخفيف حدة التوتر التي تسود المكان فلام نفسه وعزم على إنهاء البيع دون أن يلقي إحدى نكاته التي حتمًا تنفرها منه.

-الحساب 
قالتها بخفوت فور جمعه جميع المشتريات بكيس أبيض كبير مطبوع عليه اسم المحل، فأمسك الآلة الحاسبة وانشغل بها قليلًا قبل أن يقول الرقم الذي خرج له فأخرجت النقود على الفور وناولتها له ثم انتظرت قليلًا ليأتي لها بباقي نقودها.

دلف أحد الشباب سريعًا يهتف باسمه
-علي هنا يا مهند؟
فأشار إليه بالنفي ثم تابع ما يفعل غافلًا عن تلك التي تكبح ضحكاتها بقوة فور استماعها لاسمه، ذاك الاسم الذي ينتمي لأحد أبطال المسلسلات التركية الذي كانت تستمع إليه في الصغر قبل أن يتوب الله عليها من سماعهم، حاولت التحكم في رغبة الضحك بصعوبة، لا تقصد تنمرًا ولكن هذا الشاب يختلف كثيرًا عمن سمي باسمه، فذاك أشقر بعيون زرقاء اللون بينما هذا قمحي اللون بشعر أسود فاحم وعينان بنيتنان تميلان للأسود. 

أعطاها نقودها فور انتهائه لتأخذها وتخرج سريعًا قبل أن تنفلت ضحكاتها وتظهر بشكل أبله إلا أنها حين خروجها استمعت إليه يقول
- اضحكي اضحكي الله يسامحه الحاج. 

برقت عينيها بشدة فور سماعها ما قال لتشير إلى أحد الوسائل الصغيرة ذات اللون الأسود  "التوكتوك"سريعًا وتركب بالخلف وهي مازالت على حرجها، لقد شعر بها، شعر بضحكاتها التي كانت تمنعها وتعتقد أن نقابها لا يظهر من انفعالها شيء ولكن يبدو أن عيناها لم تقصر في فضحها.

شعرت بالضيق من ذاتها، ماذا تفعل ولماذا ضحكت؟ ومالها هي باسمه؟ بل كيف تجرأت على النظر إليه في غفوة منه وعقدت مقارنة بينه وبين ذاك الممثل؟ أين غض البصر وأين خوفها من الله الذي عاهدت ربها على رعايته، بحزم داخلي عزمت على عدم القدوم إلى على هنا مرة ثانية حتى ولو توقف الأمر على إيقاف عملها ستفعل، فما حدث ومزاحه الساخر منها لا يرتضيه الشرع وكذالك هي لن ترتضيه لنفسها أبدًا.

فهذه تصرفات فتاة طائشة وليست رقية العاقلة التي تضع مراقبة الله لها نصب عينيها في جل تصرفاتها، ولكن يبدو أن قرارها جاء متأخرًا وقد سبق السيف العذل ولن يتحمل نتيجة ما حدث سواها!!
**************
بإصرار دق هاتف رحمة برقم غير مدون تعلم صاحبه جيدًا، فأغلقته دون إجابة للمرة التي لا تعلم عددها، إلا أنه لم ييأس فقد أعاد الاتصال مرة ثانية فأجابته تقول باندفاع وغضب
- بترن تاني ليه؟ قفلت ألف مرة بردوا بتعيد الاتصال.. كفاية كدا بقا أنا تعبت... مش عايزة أرجع لك.. مش عايزاك  مش عايزة وجع تاني كفاية بقا..
-تمام.

هذه فقط هي الإجابة على حديثها الغاضب منه، الإجابة على انهيارها الذي ظلت تؤجله لعدة شهور، انهيارها الذي سنحت له الفرصة ليطفو على السطح الآن فارتفع صوت بكائها حتى جعل من بالمنزل يهرول إليها فزعًا.

بينما هي تنهار بهذه الطريقة كان هناك من يجلس أمام والدته بحرج ولا يدري ماذا يفعل، فلقد خاب اعتقادها هذه المرة، لم يكن هو من هاتفها، بل والدته، تلك التي جائته تعتذر منه بعدما أنهكها ابتعاده عنها، بل وأخبرته بأنها ستعتذر من رحمة كي يسامحها هو، رددت بأنها تهاتفها منذ ساعات وليس هناك إجابة منها لتثبت له حديثها بمهاتفتها مرة أخرى إلا أنها هذه المرة أجابت لتفوح كلماتها  بتلك الرائحة الكريهة التي نالت من قلبه فجعلت الوجع يستقر بمنتصفه بعدما كان الأمل زحزحه قليلًا وأوشك على تفتيته والقضاء عليه شيئًا فشيء.
*************

من يصدق أنهما الآن يجلسان معًا أمام البحر ويتناولان ال"آيس كريم" بهدوء بينما ترتسم على وجهها تلك الراحة التي لفظتهما من حياتها منذ أيام، فعلى ما يبدو أنه يلتزم بأوامر الطبيبة بأن يرفه عنها على أكمل وجه.

لن تنسى وجهه بذلك الحين حينما وبخته  بتلك الطريقة وهي تتساءل عن السبب خلف إصابتها بضغط الدم المرتفع إلى هذه الدرجة وهي مازالت بهذا السن الصغير، تلك الطبيبة لم تتوانَ في ردعه لدرجة جعلتها تجيبها بحدة مدافعة عنه وتخبرها بأن لا دخل له بما أصابها، أخبرتها بأنه أبعد ما يكون عن سبب آلامها، فإن كان له دخل بمرضها فلن يكون سوى الدواء الذي تبرأ به، إن كان له علاقة بألم تعانيه فحتمًا ليس هو سوى ذاك المسكن الذي يسري بالأوردة فيخفف من حدة الألم ويمنح شعورًا باللذة لا يرجى سوى منه.

ناولها منديلًا ورقيًا وهو يراها مشتتة بين ما بيدها وملابسها التي أوشكت على الخراب بسبب كبر حجم ما بيدها مما جعل الثلوج تسيل سريعًا  فأعطاها المنديل كي تمحو ما تريد لتنظر إليه بامتنان والعجب بادلها إياه بابتسامة جميلة كانت تفتري عليه منذ قليل بأنها لا ترتسم على وجهه أبدًا 
- أنا آسف

قالها بخفوت ولا تدري لما؟ لما يعتذر؟ أهو الذي أخطأ بحقها؟ أهو من عليه الاعتذار؟ تعلم أن شعوره الدائم بالذنب تجاه ما حوله هو ما حمله على الاعتذار، بل تكاد تجزم أنه يحمل نفسه سبب ارتفاع دمها بينما هي مريضة به منذ عامان تداوم على حبوب الضغط ولا يعلم بمرضها سواها ومذكراتها السوداء، فلم يكن هو سبب ما أحل بها أبدًا بل عدم تناولها للحبوب منذ يومين هو السبب ولكن امتنحت عن إخبار الطبيبة كي لا يظهر هو بمظهر الجاهل بمرضها، لتقول بخفوت  
- على فكرة مش أنت السبب  في ارتفاع الضغط عندي.

طالعها بعدم فهم لتتابع بتوتر وهي تتهرب من نظراته وكأنها مدانة
- أنا عندي ضغط مزمن من سنتين وباخد كل يوم حباية عشان يضبطه بس العلبة خلصت ومجاتش فرصة آخد من يومين عشان كدا ارتفع بالطريقة دي.

لطمه اعترافها، أقل ما يقال أنه لطمه، بل وكاد يصيبه بالجنون، مريضة ضغط منذ عامان! منذ عامان ولا يعلم هو؟ منذ عامان  مريضة وهو يعاملها بهذه الطريقة التي كادت أن تؤدي بحياتها لولا ستر الله؟ ليردد لسانه بما يشعر به
- إزاي؟ إزاي محدش يعرف.. واللي أبوكي كان بيعمله دا كله وأنت عندك ضغط.. اللي أنا كنت بعمله دا كله وأنت عندك ضغط؟ وإزاي جالك إزاي.

ابتسامة سخرية ارتسمت على وجهها فور سؤاله الأخير، أيسأل عن سبب مرضها وهو من كان شاهدًا عليه كل خميس، أمازال يسأل؟

ليفهم ما تقصد من ابتسامتها فأرجع رأسه إلى الوراء وشد خصلات شعره بقوة ألمتها هي ثم نهض ليقف بعيدًا عنها بعض الشيء قبل أن يرمي الأيس كريم من يده بأحد الأركان غير قادرًا على متابعة التهامه ثم قال بنبرة هادئة
- خلصي اللي في إيدك عشان نمشي..
تعليقات



×
insticator.com, 6ed3a427-c6ec-49ed-82fe-d1fadce79a7b, DIRECT, b3511ffcafb23a32 sharethrough.com, Q9IzHdvp, DIRECT, d53b998a7bd4ecd2 pubmatic.com, 95054, DIRECT, 5d62403b186f2ace rubiconproject.com, 17062, RESELLER, 0bfd66d529a55807 risecodes.com, 6124caed9c7adb0001c028d8, DIRECT openx.com, 558230700, RESELLER, 6a698e2ec38604c6 pmc.com, 1242710, DIRECT, 8dd52f825890bb44 rubiconproject.com, 10278, RESELLER, 0bfd66d529a55807 video.unrulymedia.com, 136898039, RESELLER lijit.com, 257618, RESELLER, fafdf38b16bf6b2b appnexus.com, 3695, RESELLER, f5ab79cb980f11d1