![]() |
رواية الطاووس الابيض الجزء الرابع الفصل المائة والثمانون والاخير بقلم منال سالم
من قال أن لحظات السعادة ممتدة للأبد؟ هناك فترات إخفاق، وفترات تعاسة، فترات زهو، وفترات إحباط، فترات صحو، وفترات انكسار، فترات فرح، وفترات ألم ومعاناة. أربعة أشهر مضت عليها معه ذاقت فيها صنوف الحب، وأصناف الشوق، ربما تخلل تلك المدة بعض المشاحنات البسيطة، الخلافات في وجهة النظر، والقليل من المعارضات لبعض الأمور العادية؛ لكنها في المجمل لم تصل لهذا الحد الخطير مُطلقًا!
أمام سيل اتهامات "فضل" الباطلة حملقت "فيروزة" بعينين جاحظتين فيه، وقد بدأ جسدها في التصلب، تيبست قبضتاها على ذراع زوجها، غير مصدقة كم الافتراء الظالم المُلقى عليها، وهذه المرة الطعن المباشر في شرفها، مع فارق أنه قصد عن عمدٍ تلفيق هذا الاتهام الخسيس في وجود زوجها لتجعلها في موضع شك، واحتمالية ظنه السوء بها، وهذا جلَّ ما كانت تخشاه، أن ينساق وراء بذاءات لسانه النجس!
طفا بقوةٍ كل ما هو بشع، سيء، مهين، ومؤلم من ذكريات على سطح ذاكرتها، فتجسدت المشاهد حيةً في مخيلتها، وتزاحمت مع مثيلاتها، لتعود إلى نقطة البداية، إلى حيث بدأ كل شيءٍ من قساوة واتهام، ضرب واعتداء، كسرة وانهزام، فأصبحت على شفير السقوط في دوامة تدمير ذاتها. لم تكن "فيروزة" لتتحمل خسارة آخر من منحته ثقتها، من أعطته نفسها، ومن وهبته البقية المتبقية من روحها، فقط إن صدق للحظة أنها مُدانة، وأنها باعت جسدها لغيره، حتمًا ستكون النهاية؛ لكنها مُهلكة على كل الأصعدة. ماذا عن زرع الشكوك في نفسه؟ ألن يكون ذلك كفيلاً بزعزعة أي استقرار مهما بلغ الحب بينهما مبلغه؟
تحيرت، واحتارت، وتشتت، وانهارت، فعجزت عن النطق، ووصلت إلى حالةٍ من الجمود الإجباري، ذلك الحجاب الذي يفرضه عقلها قسرًا عليها، ليجعلها فاقدة للإدراك الحسي، فتصبح جسدًا بل روح، عادت "فيروزة" إلى تلك الحالة المرضية التي كانت تصيبها عندما لا تتحمل مواجهة حقيقة شديدة الإيلام تصدمها بالواقع، متوقعة أن النهاية قد باتت وشيكة، وشيكة للغاية، والخسارة حقًا لن تُحتمل مهما ادعت قدرتها على تجاوز الأزمة، الهروب كان سبيلها، وإن كان مؤقتًا!
أحس "تميم" بزوجته تتخشب وهي متعلقه بذراعه، شعر بانتفاضات متشنجة تصيبها، فالتفت ينظر لها سريعًا فرأى وجهها شاحبًا، تعبيراتها جامدة، ونظراتها متسعة في جحوظٍ، والأهم أنها فارغة من الحياة. أدرك حينئذ –وبعد معاهدته لمعظم نوباتها- أنها تمر بأزمة أخرى جديدة؛ لكنها أشد وطأة في شراستها، جذبها بتخوفٍ لم يظهره إلى صدره، وحاوطها بذراعه بعد أن استله من أسفل قبضتيها ليحول دون سقوطها. تابع "فضل" ما يفعله بتشفٍ، وهتف في استفزازٍ:
-شكلها قصرت معاك!
هدر به "تميم" لاعنًا بنظراتٍ توحشت على الأخير:
-أنا هدفنك بالحيا بعد ما أقطع لسانك ده يا (...).
تصنع الضحك، وعلق في سخريةٍ:
-ولا تقدر، بدل ما تتشطر عليا، وتعمل فيها راجل، لِم مراتك.
التقطت يد "تميم" الأخرى مطفأة السجائر في خفةٍ، ثم قذفها في وجهه بقوةٍ، فأصابت أنفه، وجعلته يتأوه من الألم، استغل التهائه ليبعد "فيروزة" عن مرمى بصره، وسحبها للخلف بذراعه المحكمة حول جسدها، كأنما يريد أن يؤكد لها بوجوده إلى جوارها، ومع هذا القرب الشديد، أنه ملاذها الآمن، ودرعها الحصين، والقادر على الذود عنها باستبسالٍ واستماتة، حتى الرمق الأخير. ظل يضمها في هذه الثواني الحرجة، كأنما يريدها أن تنزوي بين ضلوعه، فتختبئ من المخاطر المحاصرة بها، إلى أن يدرأ عنها الأذى بكافة أشكاله وصوره.
واصل "تميم" تهديده اللفظي له:
-نهايتك على إيدي النهاردة.
تحسس "فضل" التورم البارز في أنفه، وهتف هازئًا:
-إنت أخرك كلمتين وبس ...
صمت "تميم" لانشغاله بدفقةٍ أخرى من التشنجات الخفيفة التي نالت من جسد زوجته الغائبة عن الوعي، احتواها بذراعيه، وحاول السيطرة على نوبتها، فاعتقد "فضل" أنه في موضع قوةٍ بسكوت الأول، وغمرته حالة من الشعور بنشوة الانتصار، خاصة أنه اعتبر ما يردده من عبارات مهددة عن انتقامه الأرعن منه مجرد هذيان فارغ، لن يحدث أبدًا، فرك أنفه، ونفخ أوداجه مرددًا في حقارةٍ:
-عشان تحس إنك راجل قصاد واحدة آ...
لم يتم جملته الموحية بإهانة فجة للنهاية، فقد سبقته يد "تميم" التي أمسكت بمزهرية صغيرة، ليقذفها في وجهه بكل ما يعتريه في هذه اللحظة من غضب وغليل مشتعلٍ بصدره، فأصابته إصابة مباشرة في حاجبه، وجعلت خيطًا عريضًا من الدماء يتفجر فيه، وينزف بغزارةٍ، ليغرق صدغه، اعتقد "فضل" أنه قد أطاح بعينه، وراح يتحسسها بهلعٍ كبير، ناظرًا إلى الدماء المصبوغة على أصابعه، في حين اندفعت "آمنة" هي الأخرى مدافعة عن ابنتها، بغريزة أمومية انتفضت فيها:
-اتقي الله، إنت كداب وضلالي، أنا بنتي مش كده!
رد عليها بحرقةٍ:
-اقلب القِدرة على فومها.
شهقت مستنكرة بشاعة لسانه القاذف بالاتهامات الباطلة، وتطلعت إليه مصعوقة، غير مصدقة ما يردده ببذاءة مستبيحًا الخوض في الأعراض بمثل هذا الفجور. لم يكن "فضل" قد أفاق بعد من إصابته الأولى، إلا وقد تلقى أخرى جعلته يصرخ عاليًا من شدة الألم، حيث وجد مدية "تميم" مقذوفة في اتجاهه، وأصابت هدفها في التو، وغرزت بعمقٍ في كتفه، مما جعل صدى صراخته يبدو كعويل النساء المكلومات. لم يستطع كبح صوت صرخاته الموجوعة، ولم يقدر على المساس بالمدية المغروزة، تركها في مكانها دون أن يمسها، ليشرع بعدها مستدعيًا بعض الرجال المستأجرين، ممن اتفق معهم سابقًا على الصعود، والوقوف إلى جواره، عندما تتطلب الحاجة لذلك، وها قد أتى دورهم ليعينوه على شره!
.....................................................
استدعاهم "فضل" برنةٍ من هاتفه المحمول، فجاءوا ملبيين النداء في الحال، اقتحموا المنزل بعصيهم، وسلاسلهم الحديدية، مع بعض الأسلحة البيضاء، وتفشوا في أرجاء الصالة كالجراد المنتشر، ليحاوطوا بـ "تميم" وزوجته، ويشكلوا حائطًا بشريًا، يمنع كائنًا من كان من الاقتراب من ربِ عملهم الحالي، ارتاعت "آمنة" من هيئتهم الإجرامية، وفزعت بشدة لما وجدته في إيديهم من أدوات قتل بدائية، شهقت صارخة في هلعٍ، وانكمشت على نفسها، لتستحثها غريزة البقاء على التحرك، فأسرعت في خطاها مختبأة خلف ظهر "تميم"، الملجأ والملتجأ لكل من هو مستضعف .. كان الأخير ينظر باستهجانٍ حارق إلى ما يفعله هذا الوغد الحقير، يحاول تقييم الأمور في رويةٍ وتعقل، فحياة الأبرياء على المحك!
تخطى "فضل" في فجوره أي تصورٍ، وفاق في تنديسه حرمات المنزل أي تخيل، كيف بلغت به الجراءة أن يقوم بهذه الأفعال المستنكرة مع من تجمعه صلة الدم المباشرة؟ فماذا إن كان غريبًا عنه؟ أي انحطاطٍ وصل إليه بتصرفاته الماجنة؟!
وكأنه استعاد شيئًا من كرامته المبعثرة بتواجدهم حوله، فنطق "فضل" بتفاخرٍ:
-جيتم في وقتكم.
رد عليه "تميم" بهديرٍ مجللٍ، قاصدًا إهانته، رغم احتمائه وسط هؤلاء المجرمين:
-جايب اللي تتحمى فيه يا (...)؟!!!
اشرأب بعنقه ليتمكن من النظر إليه من خلف أظهر عتاة الإجرام، ورد عليه في نبرة يشوبها الألم:
-ما أنا عارفك، إيدك طارشة، والصراحة مش ضاربة معايا أتخرشم، وأنا راجل داخل على وش جواز، من بنت بنوت، لسه بشوكتها، مش واحدة طريقها سالك لكل حد ماشي عليه.
هدر به "تميم" بصوتٍ مجلل به كل الوعيد:
-هتموت على إيدي، وهفصل رقبتك عن جسمك.
استمر "فضل" في استفزازه علنًا وفي حضرة هؤلاء، معتقدًا أنهم يمنعون بطشه عنه:
-بدل ما تقطعلي رقبتي، ادبحها هي، تلاقيها مقرطساك.
لو كانت النظرات تحرق لأصبح "فضل" في التوِ رمادًا متناثرًا، تعصف به الرياح، فيتبخر في الهواء، ولا يبقى له أي أثر، هاج "تميم" متوعدًا بشراسةٍ منقطعة النظير:
-إنت ساعاتك في الدنيا معدودة!
تساءل أحد المجرمين في تحفزٍ، وهو يرفع عصاه الغليظة في الهواء، كتهديدٍ صريح:
-أؤمر يا ريس ونجيب خبر كل اللي هنا.
ضحك بافتعالٍ، وقال مدعيًا عدم اكتراثه:
-سيبوه يهلفط، ما هي الشيلة تقيلة ...
ثم أمسك بقطعة الثياب التحتية، وقذف بها عند قدميه، بعد أن أشار لأحد الرجال بالتحرك جانبًا، كأنه يعطيه دليل الإدانة، ليضيف بعدها في تهكمٍ سافر:
-خده، جايز ينفعك.
لولا وجود زوجته في أحضانه، ووالدتها المغلوبة على أمرها خلفه، طالبة لحمايته، لانقض في الحال عليه، زاهقًا روحه، ولما تركه على قيد الحياة، غير عابئ بمن حوله من أكثر البشر شرًا. نظرات "تميم" وحدها كانت كفيلة بإفزاع "فضل"، ففر هاربًا ومختبئًا خلف الحائط البشري، وهو غير قادرٌ على إخراج المدية من لحم كتفه، ظل يردد بصوتٍ شبه ساخر رغم حشرجته:
-ياما كان نفسي فيك يا بلح، بس طلعت لا مؤاخذة آ....
افتعل الضحك قبل أن يختفي عن المشهد، متعمدًا إتلاف أعصاب "تميم" بصوته المنفر، وجعل حمئته الذكورية كرجلٍ شرقي تثور، ويثأر لنفسه بقتل زوجته اعتقادًا منه أنها غارقة حتى النخاع في الخيانة .. هكذا أوهم نفسه، وظن أنه نجح في ذلك.
.......................................................
كل شيءٍ قابل للتغير إلا شرور النفس وخبثها، حين تتمكن من الشخص، وتصبح سمة متأصلة فيها، حينئذ يتحول لكتلة ملعونة تُفسد من تطالها! كانت لحظات سريعة في مرورها، عصيبة في الإحساس بها! بمجرد أن غادر "فضل" ومن معه من معتادي الإجرام منزلها، هرولت "آمنة" نحو باب المنزل توصده، كأنما تخشى بشدة من احتمالية عودتهم، وتهديدهم مرة أخرى بشكلٍ أوقع وأقسى.
تنفست الصعداء، وراحت تسحب شهيقًا وراء الآخر، لتثبط به من كم انفعالات الرهبة المسيطرة عليها، ثم كفكفت دمعها المنساب بكفيها، لتستدير بعدها ناظرة إلى "تميم" الذي انحنى حاملاً زوجته بين ذراعيه، لم تجد أثرًا لقطعة الثياب التي ألقاها أرضًا، نفضت حيرتها، وانتبهت مجددًا إليه، شيعته بنظراتها الملتاعة وهو يدخلها إلى غرفتها، لتبدأ بعدها في السير المتعجل واللحاق به، تسمرت عند سريرها وقد رأته يمددها عليه، شملته بنظراتها الحزينة هاتفة بنبرة مدافعة:
-والله العظيم ده واد كداب، بنتي مش كده، هي مظلومة.
سكت ظاهريًا، ولم يسكن ما بداخله من عواصف مهتاجة، كررت كلامها من جديد بتوسلٍ:
-ماتصدقوش يا ابني، عُمر ما "فيروزة" تعمل الغلط، هو ضلالي، وعاوز يخرب عليكم!
كأنها تُحادث الفراغ، لم يلتفت "تميم" ناحيتها، وبقي يوليها ظهره، نادته بصوتٍ أمومي يحمل كل الرجاء في طياته:
-"تميم" يا ابني.
لم يكن بحاجة لسماع كلامها هذا ليصدق من هي زوجته، هو يعلم تمام العلم مدى نقاء سريرتها، ومدى طُهرها، ناهيك عن معرفته بسر عفتها، هذا الأمر الذي أبقاه طي الكتمان رغم فرحته العارمة بكونه أول رجلٍ في حياتها. استقام واقفًا، ومنحها تلك النظرة المميتة، المليئة بكل ما يستعر فيه من غضبٍ وحنق، قبل أن يدمدم بهسيسٍ ثقيل:
-النهاردة هاجيب أجله.
هتفت مذعورة تستجديه:
-لأ يا "تميم"، ماتوديش نفسك في داهية.
الكلام المسترسل دون تنفيذٍ فعلي على أرض الواقع لن يأتي بمفعوله مع أمثاله، مثله يحتاج لعقاب رادع يقضي عليه نهائيًا، وقد آن وقت حصاد رأسه الخبيث!
................................................................
أخفت الظلمة السائدة في عينيه خوفه النابع من قلبه على زوجته الراقدة أمامه، لا حول لها ولا قوة، حل "تميم" ربطة حجاب رأسها، وأرخاه عن عنقها، ثم جلس على الطرف قريبًا منها، امتدت يده لتدلك برفقٍ وجنتها الباردة، باعثًا الدفء على بشرتها، ناداها رغم اختناق صوته بغليله الثائر فيه:
-"فيروزة" ...
صمت لهنيهة ليضبط نبرته، ثم تابع في ثباتٍ عجيب، كأنما يريدها أن تتبع صوته في غياباتها:
-أنا عارف إنك سمعاني ...
أحنى جسده عليها، وأمال رأسه ناحية وجهها، ليبدو صوته قريبًا، مؤثرًا، ونافذًا إلى أعماقها، لعله يرشدها في ضلالاتها لنقطة العودة إلى إدراكها:
-إنتي أشرف واحدة عرفتها، فخر لأي حد يعرفك.
لامست شفتاه جبينها، وراح يتابع كلامه في صوتٍ خفيض:
-وعمري ما هصدق أي حاجة تتقال عنك.
تراجع عنها مسافة بسيطة لينظر إليها ملء عينيه، لدهشته! وجد العبرات تنساب من طرفيها وسط هذا الجمود المخيف المقيد لبدنها، اعتصر الألم قلبه، وأضناه، كأنما قد طعنه أحدهم فيه بوخزاتٍ قاتلة، مسح بيده ما بلل خديها، وهتف قاطعًا وعدًا لن يقبل مُطلقًا بالتراجع عنه:
-حقك هاجيبه، ولو فيها موتي!
نهض من مكانه، واستقام واقفًا ليبدو أكثر شموخًا، صلابة، وقسوة عن ذي قبل، أخرج هاتفه المحمول من جيبه، وعبث في قائمة الأسماء لديه، باحثًا عن اسمٍ بعينه، هاتف أولاً الطبيبة "ريم"؛ لكن تعذر عليه الوصول إليها، فرقمها كان خارج التغطية، لعن في صوتٍ خفيض عدم قدرته على التواصل معها، وأدار رأسه محدقًا في وجه "آمنة" التي كانت تبكي ابنتها في حسرة وهي جالسة عند الطرف الآخر من الفراش، تحفز في وقفته المنتصبة واشتاط مرة أخرى عندما سمعها تنوح بانكسارٍ:
-اشمعنى إنتي يا بنتي اللي بيتعمل فيكي كده؟ ليه الكل دايمًا جاي عليكي؟!!
مهما حاول ما زال عاجزًا عن تهدئة انفعالاته المستثارة، وتثبيط انفعالاته الهائجة، بالكاد كان يحاول الظهور بمظهر المتعقل المسيطر على الأمور؛ لكنه كان على المحك، يوشك على الانفجار في أي لحظة. سحب شهيقًا عميقًا لفظه دفعة واحدة، وسألها في صوتٍ جاف خالٍ من الضعف:
-هو الدوا بتاع "فيروزة" لسه عندك؟
استغرقها الأمر لحظة لتركز معه، أزاحت بظهر كفها دموعها المتدفقة، وأجابته بإيماءة مصحوبة من رأسها:
-أيوه، أنا عيناه في درج الكومدينو عندي في الأوضة.
هتف يأمرها بصوتٍ لا يُرد:
-هاتيه نديها منه على طول.
قامت واقفة على قدميها، وأطاعته قائلة:
-حاضر يا ابني.
انصرف من غرفتها وهي شبه تركض لتأتي له بما طلب، بينما ظل "تميم" باقيًا في موضعه يرمق "فيروزة" بنظراتٍ مطولة، جمعت بين اللوعة، والرغبة في الانتقام.
..................................................................
غالب مشاعره المتأثرة بوهنها، وبدأ في تحكيم صوت العقل، ليستغرق في أفكاره المتصارعة، محاولاً ترتيبها ليصل إلى الطريقة المُثلى في تحقيق انتقامه العنيف. فرك "تميم" رأسه المضغوط بكفيه، مانعًا نفسه من فقدان السيطرة على ما تبقى به من انضباط مهدد بالانهيار، من الجيد أن الصغيرة "رقية" وأبيها كانا غير متواجدين بالمنزل، وإلا لتحولت الأمور لفوضى عارمة!
طرأ بباله أحد الأسماء المحظور عليه التواصل معه بأي شكلٍ، لكون شره مستفحلاً، ووحشيًا للغاية؛ لكن لا مناص من مخالفة الاتفاق، والوصول إليه في التو، لم يفكر مرتين، وإلا لأظهر تردده وتراجع عما انتواه، نظرًا لحساسية الوضع المحيط بزوجته. اتصل بـ "ناجي" قائلاً دون تمهيدٍ:
-فضيلي نفسك حالاً.
جاءه صوته متسائلاً في اهتمامٍ:
-ليه يا ريسنا؟
أجابه بعينين غائمتين، وبنبرة ثابتة، باعثة على القلق:
-عاوزك توصل لكبير "الهجامة".
هتف "ناجي" مصدومًا:
-مين؟
قال بنفس الثبات الجاد، والممزوج بالعزم:
-اللي سمعته، رتبلي أعدة معاه، والنهاردة!
ظهر التردد على صوت "ناجي" وهو يخاطبه:
-ماشي، بس ده آ... هايبقى صعب شوية، إنت عارف الجماعة دول خطرين ...
بدا غير مبالٍ بتحذيره المتواري، ورد عليه متسائلاً بتصميم:
-هتعرف توصله ولا لأ؟
أجابه بعد سكوتٍ طفيف:
-أيوه، بس إنت عاوز كبيرهم ليه؟ لو في مصلحة نقدر نقوم بيها قولي، وآ..
دون إعطائه أي تفاصيلٍ مشبعة لفضوله المستريب، قاطعه "تميم" بصوتٍ مبتئس، يؤكد على حتمية تنفيذه:
-اللي أمرتك بيه تعمله وإنت ساكت، مفهوم؟
لم ينتظر تعليقه، أو حتى مسايرته في الحوار، أغلق الاتصال فجأة، وكل ما فيه يدعو للثأر الفوري ممن نهش في عرض زوجته بافترائه المهترئ!
.......................................................
بكت بكاء المعذب العاجز عن إظهار براءته، ومن حوله يؤكدون إدانته بلا دليلٍ، إلى أن أتت نجدة السماء، فكان اتصالها المُلح، والذي لم تتنبه إليه في البداية، لانشغالها بما يحدث مع ابنتها؛ لكن ما إن سمعت رنين الهاتف، ونظرت إلى الرقم الغريب الذي لم يتوقف عن الرنين، حتى أجابت عليه، تفاجأت بسماع صوت "سعاد"، وهتفت قائلة بلهاثٍ:
-كويس إنك اتكلمتي في وقتك.
نطقت الأخيرة تحذرها في تشددٍ، وبصوتٍ مرتفع -أقرب للصراخ- بات مسموعًا لـ "تميم" أيضًا:
-خدي بالك يا "آمنة"، "فضل" شكله ناوي على نية سودة لبنتك ...
تقدمت "آمنة" بالهاتف ناحية زوج ابنتها، ليسمع بوضوح ما تنطق به، فالتقطت أذناه كلامها القائل:
-أنا سمعاه بنفسي بيتفق مع كام حد يجوا لعندك.
طلبت منها في تلهفٍ بعد أن لامست دليل براءة ابنتها باعترافها النزق:
-عيدي الكلام ده تاني.
في صبرٍ نافذ كررت عليها:
-بقولك "فضل" ناوي يعمل في بنتك حاجة، حلفان يأذيها، ويطلع عليها القرافة، خدي بالك منها، ده بقى شيطان ماشي على الأرض.
عندئذ اختطف "تميم" الهاتف من يد حماته، ووضعه على أذنه صائحًا بانفعالٍ يحوي تهديدًا صريحًا:
-شوفي يا حاجة ابنك طالع النهاردة القرافة، ويا أنا يا هو!
لم يكترث بشهقاتها المصدومة، ولا بالهمهمات الجانبية الصادرة حولها، أعاد الهاتف إلى "آمنة"، وتراجع مبتعدًا قبل أن يخرج عن طور سكونه الزائف. أنهت معها الاتصال في عجالةٍ، وتبعته قائلة بصدرٍ متهدج:
-سمعت بنفسك؟ شوفت كان ناوي على إيه من الأول؟
لم يقم وزنًا لكلامها، ورد بصوتٍ اخشوشن على الأخير:
-كل ده مايهمنيش، هو قضى على اللي باقي من عمره لما فكر يمس مراتي!
صوته المحفوف بهذا الهدير جعلها ترتجف، ترتعب من تخيل ما يمكن أن يفعله به، وتبعات ذلك على مستقبله، أدركت أنه لن يمرر الأمر على خير أبدًا، لذا توسلته في توجسٍ مرعوب:
-بلاش تضيع نفسك عشان واحد زي ده، هي نيته من الأول وِحشة، ماتخليهوش يخسرك كل حاجة في لحظة طيش، إنت عندك بيت، وعيلة، ومراتك اللي بتحبك.
لم تشفع توسلاتها في ردعه عن الإقدام على ما ناواه، أعاقه فقط عن التحرك حالته زوجته غير المستقرة، تمهل مضطرًا إلى أن يطمئن عليها، وخلال فترة سكونها الإجبارية أجرى عدة اتصالات هامة، رتب فيها أوضاعه لمقابلة من يعرف عنه بزعيم "الهجامة"، غير مبالٍ بسماع "آمنة" لمعلومات مقتضبة عما سيفعله، فكل شيء في لحظة أصبح قاب قوسين أو أدنى من التحطم والانهيار.
.....................................................
بعد وقتٍ مضى عليه بطيئًا، استفاقت "فيروزة" من إغماءتها، بتقليب رأسها يمينًا، ويسارًا، قبل أن تصدر من بين شفتيها تأويهةٍ محملة بالأنات، ليتبعها صوتها المنادي بتحشرجٍ:
-"تميم"!
كان الصوت خفيضًا بعيدًا، ازداد وضوحًا عندما كررت مرة ثانية:
-ما تصدقوش يا "تميم"!
جلس من فوره على طرف الفراش، وقد تركزت عيناه عليها، هزها برفق وهو يبادلها النداء:
-"فيروزة"!
بمجرد أن تسللت نبرته المألوفة إلى إدراكها الحسي، انتفضت مندفعة للأمام، وهي ما تزال تصرخ باسمه:
-"تميم"!
جحظت بعينيها في فزعٍ، والعرق البارد يتصبب بغزازة من جسدها، لهثت بصدرٍ ناهج، كأنما قد خرجت لتوها من سباقٍ للعدو، ارتعشت شفتاها وهي تقول بصوتٍ تحول للبكاء:
-ده كداب، مفتري، وآ...
قاطعها قبل أن تتم جملتها للنهاية مؤكدًا:
-أنا مصدقك إنتي!
اندفعت إلى حضنه المفتوح أمامها، وارتمت فيه، باحثة عن أمانها المفقود بين ذراعيه، ضمها إلى صدره، وألصقها به، تاركًا إياها تبكي على كتفه في حرقةٍ وقهر، ورغم ما يعتريه حاليًا من مشاعر متأججة مستعرة، إلا أنه تعامل مع زوجته بهدوءٍ احتوى ما يربد بها حاليًا من اضطراب وخوف. سكنت قليلاً ورأسها مسنودة على كتفه، في تلك اللحظة بالذات لم تجد من الكلمات ما تعبر به عما يجوس بداخلها من أحاسيس مختلطة، ما بين الخوف والأمان، الرهبة والاطمئنان.
اشتدت ضمته، وأحست بقوته تُعيد إليها ما ظنت أنها فقدته، كادت تستكين كليًا لولا أن همس لها بعزمٍ أرعبها:
-حقك هاجيبه.
نبرة صوته أوحت بأنه لا ينوي خيرًا على أدنى الأصعدة، حتمًا سيلقي بنفسه في التهلكة من أجل حمايتها، ويا ليته ما يفعل! أرجعت ظهرها للخلف لتنظر إليه بارتياعٍ من وسط غيمة الدموع المنتشرة في حدقتيها، سألته بقلبٍ يقصف بعنفٍ في التياعٍ:
-إنت هتعمل إيه بالظبط؟
لم يجبها، مما ضاعف المخاوف بداخلها، وجعل دبيب الخوف يتفشى أكثر في كامل وجدانها، هتفت به تستجديه:
-ما توديش نفسك في داهية يا "تميم" عشان واحد جبان زي ده، أنا ...
انقطع صوتها وتحشرج، فقاومت بكائها الوشيك قدر المستطاع لتخبره بلوعةٍ حقيقية:
-أنا عاوزاك جمبي.
النظرة القاسية في عينيه أكدت أنه لن يتراجع على الإطلاق مهما ذرفت من عبرات، استعطفته بصوتٍ تحول للهاث من بين نهنهات بكائها:
-يا "تميم" ده هيخليك باللي عمله نخسر بعض، وهو ده اللي عايزه في الأساس.
لم يبتسم، ولم تلن ملامحه، بدا وجهه كالصخر جامدًا، غير مقروء التعبيرات، امتدت يداه لتحتضن وجهها المرتجف، نظر لها مليًا، وقال بصوتٍ لا يحمل الشفقة، وبتصميمٍ قذف الرعب ليس فقط في قلبها:
-هريحك منه نهائي ..
بُهتت، وذُهلت، وحل برأسها كل الارتعاب، شعرت بعد تصميمه غير القابل للعودة بانقباضة قاسية تعصف بثنايا قلبها، بل كاد من إثر صدمتها المخيفة ينسحق، ينمحق، ويتمزق إلى أشلاء. هبت "فيروزة" مذعورة واضعة كلتا راحتيها على كفيه المحتضنين لوجهه تتوسله بعينين تستدعيان أنهر الدموع من شدة خوفها عليه:
-لأ يا "تميم"، أوعى تعمل كده.
برفقٍ لا يخلو من قليلٍ من القوة استل "تميم" كفيه من أسفل يديها، وهتف في إصرارٍ ضاعف من مخاوفها أضعافًا مُضاعفة:
-معدتش ينفع.
نهض من جوارها متغاضيًا عن نظراتها المرتاعة، فقامت بدورها من موضع رقدتها بعد أن أزاحت الغطاء عن جسدها، هرولت خلفه مقاومة الدوار الخفيف الذي أصابها جراء حركتها المفاجئة، وصرخت به باستجداءٍ باكٍ:
-استنى يا "تميم"، بالله عليك تسمعني.
توقف عن السير ليستدير ناحيتها، لحقت به، وتابعت في رجاءٍ أكبر:
-هو ده اللي عاوزه منك، يقضي عليك وعليا، يفرق ما بينا، يضيعنا.
بدت ملامحه أكثر صلابة، تصميمًا، وعزمًا على المضى قدمًا حتى النهاية في انتقامه الحتمي، أخبرها بغير استرخاءٍ:
-اللي يمسك بسوء مالوش الحق إنه يعيش.
جال بخاطرها تصورًا خياليًا لنهاية الوضع بشكلٍ شنيع ومأساوي، فقط إن لم تبذل كل ما في وسعها لإيقافه، لذا وضعت "فيروزة" يديها المرتجفتين على ذراعيه ترجوه بقلبٍ مذعور، وتعابيرٍ لا تنم سوى عن الهلع:
-عشان خاطري اهدى، أنا خايفة عليك، مقدرش أعيش من غيرك.
تلك الكلمات المؤثرة، النابعة من القلب، والتي نفذت إلى ما بين ضلوعه، صدَّ بإرادة من حديد تأثيرها، وخاطبها بصوتٍ جافٍ، أجش، كأنما لم يعرف الرفق أبدًا:
-حقك هاجيبه، ولو فيها موتي.
انخلع فؤادها أكثر، وظنت أنه سيقتلع من شدة ارتياعها، بكت بحرقةٍ، واستعطفته، وهي بالكاد تجثو على ركبتيها، علَّه يستجيب لتوسلاتها:
-يا "تميم"!
أمسك بها من كتفيها يجبرها على النهوض وهو يأمرها:
-اقفي على رجلك، مش اللي زي ده يخليكي تركعي.
من بين دموعها الغزيرة اعترفت له بصدقٍ، بما نفذ إلى الوجدان كالسهم المارق:
-عشانك أعمل كل حاجة، بس ماتضعش من إيدي.
جذبها إلى أحضانه، مشددًا من ضمته الأخيرة لها مؤكدًا لها:
-خليكي فاكرة إن محبتش إلا إنتي.
لم تستطع ردعه، ولا حتى إيقافه، انسل من حضنها، مودعًا إياها، ومنطلقًا خارج المنزل، وصوت صراخها يناديه باحتراقٍ يشع في كامل روحها:
-"تمــــــيم"!
.......................................................
في مكانٍ شبه مقفر، يحاوطه الخراب والركام من كل جانب، ناهيك عن أكوام القمامة ذات الرائحة العفنة، أوقف "ناجي" سيارته، عند ما تُعد مجازًا بوابة للمرور إلى الداخل، من الصعب تخيل كيف تكون الحياة في منطقة منفرة كتلك، وللدهشة هناك مئات الأشخاص من كل الأعمار يعجون بها. بنظراتٍ شمولية حذرة مسح محيطه بناظريه، وتقدم للأمام مُلقيًا التحية بثباتٍ:
-سلام عليكم.
رمقه أحد الرجال من ذوي الوجوه الإجرامية بنظرة احتقارية، قبل أن يرد مقتضبًا، كما لو كان يترفع عن الحديث معه:
-وعليكم ...
في حين سأله آخر مستفهمًا بنبرة غليظةٍ، وقد أبرز سلاحًا آليًا كان ملتصقًا بجانبه:
-إنت مين؟ وعاوز مين في حتتنا.
ابتلع "ناجي" ريقه، ووزع نظراته بينهما، قبل أن يجيب:
-كبير "الهجامة".
ضحك المتواجدون في سخرية هازئة منه، ليعلق الرجل الأول بتهكمٍ شبه مهين:
-ليه هو كوبارتنا فاضي يقابل اللي زيك؟
استجمع جأشه أمام تلك الوجوه الشيطانية، ورد في هدوءٍ:
-قوله من طرف المعلم "تميم سلطان"، وهو هيقابلني.
أمسك الرجل الثاني بياقة "ناجي"، وعبث بها بسخطٍ، فأبعد الأول يده عنه، وحدجه بنظرة قاسية، فلوى الرجل ثغره في ازدراءٍ، ثم استطرد:
-شكلك واثق أوي من نفسك.
رد عليه بجديةٍ رسمها على كل ملامحه:
-عرفه إني موجود، وبلاش تضيع وقتي ووقتك.
رغم لمحة التهديد المستترة في صوته، إلا أن ذلك الرجل تغاضى عنها مؤقتًا ريثما يتأكد من صدق أقواله، وإلا لصب عليه غضبه. بإشارة صارمة من عينيه صاح في أحد الواقفين يأمرهم:
-بلغ العصفورة.
رد عليه آخر مُظهرًا طاعته له:
-وجب يا زميل.
انتظر "ناجي" بتوترٍ جاهد لإخفائه على مقربة من البوابة، غيرُ قادرٍ حتى على تغطية أنفه، لمنع تلك الرائحة المنفرة من النفاذ إلى أنفه، وإلا لما سَلِم من تعليقاتهم السخيفة الهازئة به. تنبه لصوت أحدهم يسأله في نبرة تهكمية:
-والحلو من نواحينا، ولا من فين؟
ترفع وهو يجاوبه بسخافةٍ:
-من بعيد.
قبل أن يبادر بالرد عليه ظهر من يدعى بـ "العصفورة" هاتفًا بلهاثٍ:
-خليه يخش، الكوبارة مستنيه.
تنحوا الرجــال للجانب، وأزاحوا العوارض الخشبية، ليتمكن من الدخول تاركًا سيارته بالخارج، اصطحبه "العصفورة" في عربة التوكتوك عبر ممرات ضيقة، وأزقة أكثر ضيقًا بين بيوتٍ مبنية من الصفيح والطين اللبن إلى فضاءٍ فسيح، بعيدًا عن الرائحة القابضة، ليستنشق بعض الهواء النظيف، كان وسط كل هذا الخراب والبؤس يقبع بيتًا ضخمًا، وفخيمًا في هيئته، على النقيض كليًا مع مظاهر الفقر المدقع بالخارج، حينئذ أدرك أنه مجرد تغطية محكمة لتخبئة ما يحدث بالداخل.
ترجل "ناجي" من العربة، ليقابل فئة أخرى من الرجال الأشداء، العتاة، شديدي الإجرام، كل منهم يحمل في يده سلاحًا حديث الطراز، ألقى عليهم التحية، وسمحوا له بالمرور إلى باحة البيت، هناك أبصر حديقة غناء مورقة، ونافورة تنتفض بالمياه في الوسط، وعلى يساره وضعت بعض الأرائك المخصصة للحدائق. تباطأت خطواته بالتدريج حين رأى من يُلقب بكبير "الهجامة" جالسًا على الأريكة المريحة، وفي يده مبسم النارجيلة، أخفض رأسه قليلاً احترامًا له وهو يستطرد قائلاً:
-سلام عليكم.
لفظ "الهجام" سحابة كثيفة من الدخان من رئتيه، وابتسم مرحبًا به بحفاوة استغربها:
-أهلاً بطرف الحبايب، أنا مصدقتش لما جالتي المكالمة.
تشجع "ناجي" ليرفع أنظاره إليه، فرأى شابًا حسن المظهر، ضخم البنيان، على ما يبدو يتمرن يوميًا بانتظامٍ، ليبدو مفتول العضلات، غير الصورة المتوقعة في ذهنه من مقابلة رجلٍ ممتلئ بالشحم واللحم، مترهل الجسد، كبير في السن، وربما في وجهه توجد علامات الإجرام. ما كان ينقصه ليبدو كحارسٍ شخصي لواحدٍ من الشخصيات الهامة هو ارتدائه لبدلة رسمية، ورابطة عنق أنيقة. تنحنح "ناجي" معلقًا في لباقةٍ:
-احنا نتشرف بيك يا كبير.
ترك "الهجام" المبسم من يده، واستقام في جلسته المسترخية، مُسلطًا كافة أنظاره عليه وهو يسأله في اقتضابٍ متحفز:
-خير؟
ازدرد ريقه الجاف في حلقه، وأخبره في هدوءٍ:
-الريس "تميم" عاوز يقابلك .. ضروري.
شدد على كلمته الأخيرة ليؤكد على أهمية الأمر، فما كان من "الهجام" إلا أن قابل ذلك بترحيبٍ واضح وهو يبتسم في غرورٍ:
-وأنا جاهز، واعتبر اللي عاوزه حصل من قبل ما أعرف إيه هو.
أخرج "ناجي" مظروفًا أبيض اللون من جيب بنطاله، وضعه قبالته على الطاولة البلاستيكية القصيرة، وأردف موضحًا:
-وده عربون المحبة.
امتدت يد "الهجام" لتلتقط المظروف، فضَّهُ من الجانب ليرى الأوراق النقدية الضخمة، ابتسم في حبورٍ، وعلق:
-دايمًا عامر ..
ثم صاح موجهًا أمره لواحدٍ من الرجال المتواجدين خلفه:
-قوم بالواجب مع ضيفنا.
أطاعه الرجل في انصياعٍ تام وهو يومئ برأسه:
-حاضر يا كوبارتنا.
.....................................................
إن تراخت، واستكانت، ورضخت للأمر الواقع، فهذا يعني حتمًا خسارته للأبد، وهذا ما لن تتحمله مُطلقًا بعد أن ذاقت فاكهة الجنة معه، وتنعمت بفردوسها على الأرض في أحضانه. ضمت "فيروزة" طرفي حجابها المحلول معًا، عقدته دون أن تعبأ بشكل هيئته، وهرولت متابعة ركضها الهابط على الدرج لتلحق بزوجها وهي تناديه بصوتٍ بح من كثرة الصراخ:
-مش هاسيبك تضيع وتضيَّع نفسك يا "تميم".
التفت آمرًا إياها بشيءٍ من الغلظة عند مدخل البناية دون أن يتوقف عن السير:
-اطلعي فوق.
التفت ساقها بالأخرى، وكادت تنكفئ على وجهها لولا أن أمسكت بالدرابزين، فمنعت نفسها من الوقوع، متوقعة أن يأتي لمساعدتها، وعلى غير المعتاد منه، لم ينظر خلفه، وواصل مشيه السريع نحو الخارج، عادت إلى اتزانها، وأكملت ركضها خلفه إلى أن وصلت سيارته، اعترضت فتحه للباب، ودفعته بكامل انفعالها لتغلقه، ثم استدارت ملتصقة بالباب، لتمنعه من فتحه، وسألته بصوتٍ لاهث يحمل اللوم:
-هتخليني أجري وراك في الشارع كمان؟
بوجهٍ غائم، وتعابير غير مبشرة أخبرها دون أن ترتفع نبرته:
-اسمعي الكلام، واطلعي.
ردت بعنادٍ، دون أن يرف لها جفن:
-لو مشيت فأنا رجلي على رجلك.
وقبل أن يفكر في الاحتجاج على تهورها المضاهي له، تحركت من مكانها، ودارت حول السيارة لتفتح الباب الأمامي، واستقرت في مكانها قائلة بتصميم:
-مش هسيبك لوحدك.
نفخ في صبرٍ نافذ، مدركًا أن التخلص منها بات عسيرًا، أرشده تفكيره إلى اصطحابها إلى بيت عائلته، فهناك لن تستطيع المناص، ووقتها سيكمل ما بدأه .. للنهاية!
................................................
خلف البيت المتسع، في مكانٍ يبدو كغرفة احتجازٍ، جدرانها رمادية داكنة، خالية من النوافذ، إلا من واحدة علوية، يحاوطها الزجاج، وقضبان من الحديد، بها كراكيب وبقايا أثاث متناثرة بشكلٍ عشوائي عند الأركان، احتشد بعض الرجال حول واحد مقيد من يديه خلف ظهره، يجثو على ركبتيه في وضع ذليل، مهين، منكس الرأس، ويصرخ من أثر العدوان الوحشي عليه. طقطق "الهجام" أصابع يديه معًا، قبل أن يبسطهما هاتفًا في صوتٍ أرعب أشد الرجال شجاعة:
-الرحمة دي مش عندي، دور عليها عند غيري.
هتف الرجل يتوسله في ذعرٍ مسيطرٍ عليه:
-يا ريس غلطة ومش هتتكرر.
لم يرأف به، ولم يمنحه نظرة غفران، بل بدا أكثر إصرارًا على تعذيبه حتى النهاية، أقبل عليه وقد تناول سلاحًا ناريًا من أحد أتباعه:
-الغلطة عندي بفورة، ورصيدك في السماح خلص.
ارتاع الرجل في فزعٍ أكبر حين رأى ما بيده، وهدر يستعطفه ببكاءٍ وهو يرتجف كليًا من شدة ارتياعه:
-ده أنا راجلك، دراعك اليمين، طول عمري تحت طوعك.
سحب "الهجام" زر الأمان عن سلاحه المعبأ بالذخيرة الحية، وأخبره في هدوءٍ قاتل، وهذا البريق الوحشي يظهر في عينيه:
-دراعي لما يأذيني أقطعه، وإنت خونت العهد.
باتت المسافة الفاصلة بينهما خطوتين، والسلاح الناري مصوب نحو رأسه، مُدركًا الحقيقة المؤلمة، أن عمره أوشك على الانقضاء، استخدم آخر وسائله في استجداء شفقته:
-يا كبير، طب ورحمة "الهجام" الكبير ما ...
لم يتم جملته للنهاية، فقد ضغط "الهجام" على الزناد لتتحرر طلقة غادرة استقرت في رأسه، وفجرتها، لتودي بحياته وتنهيها في التو، انتشرت بركة من الدماء حول الجثة المنكبة على وجهها، بصق عليه "الهجام"، وخاطبه كتحذيرٍ مستتر لمن يقف من الرجال:
-غلطت لما حلفت بيه، راس أبويا محدش يحلف بيها وهو خاين.
من بين المتابعين وقف "ناجي" يشاهد المشهد الدموي بصدرٍ منقبض، فبالرغم من ارتكابه لبعض الأمور المتجاوزة، إلا أنه لم يصل لهذا القدر من الإجرام والوحشية. ارتد للخلف في تلقائية بعد سماع الطلقة رغم توقعها، ردد مع نفسه في شيءٍ من التوجس، ناظرًا إلى قسوته مع الخائنين:
-يا ساتر، ربنا ما يوقعني معاه.
تنبه إلى صوته وجفل عندما سمعه يأمر رجاله:
-شفوه، وادفنوه.
علق واحد منهم مُطيعًا أمره نافذ الوجوب:
-عُلم.
رجفة غادرة تسللت إلى بدن "ناجي" وقد رأه مقبلاً عليه، خاصة أن وجهه لم يظهر عليه دليلاً لندمه على قتله، استدعى شجاعته الهاربة، وتكلم في عفويةٍ:
-أجيلك وقت تاني يا كبير لو مشغول.
قال "الهجام" في هدوءٍ بارد، كأنما لم يزهق روح أحدهم قبل لحظات معدودات:
-لأ، أنا فاضي، دي شوية تسالي كده.
بدأ بالسير معه نحو الخارج، ومغادرة حجرة التعذيب تلك؛ لكن اعترض طريقهما أحد الأشخاص، حيث صاح بصوتٍ شبه مندفع، كأنما على عجلةٍ من أمره:
-يا كبير، في حد من طرف حبايبنا من عزبة العِترة عاوزك في مصلحة.
نظر إليه بتعالٍ، ثم خاطبه في كلامٍ مبطن:
-الأهم يقدرني، ساعتها هيلاقيني أنا والرجالة.
ابتسم الرجل معقبًا:
-اعتبره حاصل يا كوبارة، هافهم منه إيه الحوار وأرسيك عليه.
لوح له بذراعه مرددًا:
-ماشي الكلام.
حمحم "ناجي" معقبًا ببسمة مهزوزة:
-صيتك مسمع يا ريس.
لم يخفَ على "الهجام" رهبته منه، وقال منتصبًا بكتفيه في عنجهيةٍ:
-أهم حاجة في شغلانتنا الخِطرة دي هي السمعة، لو راحت، يبقى عليه العوض في الهيبة!
لم يستطع سوى مجاراته في رأيه، وإن كان على غير وفاقٍ معه، فتحدث بعد إيماءة خفيفة من رأسه:
-كلام موزون.
...................................................
بدت المصائر محتومة، والأقدار مكتوبة، فقط تبقى للزمن تحديد ميقاتها! تطلعت "فيروزة" بعينين متوجستين إلى زوجها تارة، وإلى الطريق تارة أخرى، لم يتخد مسارًا مغايرًا للمألوف، كان يقود السيارة في اتجاه بعينه، مما دفعها لسؤاله في فضولٍ متحفز:
-إنت رايح فين؟
أجابها في جمودٍ، وكامل نظراته القاسية على الطريق:
-هوديكي عند أهلي.
أدارت رأسها في اتجاهه، وتكلمت إليه في جديةٍ:
-ده بني آدم قذر، كل غرضه يخرب ما بينا، ما تخليهوش ينجح في ده.
نظرة خاطفة منحها لها، كانت مليئة بالعزم والتصميم، أتبعها قوله الواضح:
-إنتي مش محتاجة تبرري، هو نهايته وجبت.
مرة ثانية ارتجف قلبها وارتعش من الخوف، صرخت في صوتٍ مشروخ تستجديه:
-برضوه يا "تميم"؟ ليه مش عاوز تسمعني؟ مش إنت مصدقني، ومتأكد من براءتي؟
أكد لها عدم نيته على التراجع:
-مش هسمحله يفلت باللي عمله.
مدت يدها، ووضعتها على جانب ذراعه، ضغطت عليه قليلاً، واستمرت في توسلها المليء بعواطفها الجياشة:
-يا "تميم" أنا عاوزاك جمبي، ليه هتحرمني منك؟ وتخلي حبنا يروح.
سكت ولم ينطق بشيء، فأضافت على نفس الوتيرة المتخمة بالمشاعر:
-"تميم" إنت صبرت كتير واستحملت واستنيت عشان نكون في الآخر سوا، دلوقتي هتضيع حياتنا عشان كلب زي ده؟
بقي على صمته المؤلم لها، وكادت تستخدم نفس الوسيلة الضاغطة عليه؛ لكنه أوقف السيارة عند مدخل بيته، وترجل منها هاتفًا بصيغة آمرة:
-تعالي.
سألته في لوعةٍ:
-وإنت هتروح فين؟
حاوطها من كتفيها بذراعه ليستحثها على التحرك معه، سارت إلى جواره متسائلة مرة أخرى:
-إنت طالع معايا صح؟
ربما لم تسمع رده بشكلٍ منطوق؛ لكنه اصطحبها للأعلى، فأبقت نظراتها المرتاعة عليه تراقبه عن هذا القرب، توسلته وهو يدس المفتاح في قفل باب بيت عائلته ليفتحه:
-لو أنا غالية عندك ماتسبنيش.
كأنما وخزته بكلمتها الأخيرة، قاوم لحظة من الضعف أمام نظراتها الخائفة ليقول في هدوءٍ مريب:
-طول عمرك غالية.
دفع الباب بيده الأخرى، ثم ولج إلى الداخل، ساحبًا إياها برفقٍ، فتعلقت بذراعه مجددًا، وصرخت فيه بصوتٍ شبه باكٍ:
-حرام عليك، عاوز تضيع نفسك؟ إن مكانش عشاني، فعشان خاطر أهلك.
على إثر صياحها المفزع، الهادر في أرجاء الصالة، خرجت "ونيسة" من الداخل وهي تجرجر ساقيها، أمعنت النظر وقد ضاق ما بين حاجبيها، لتجد ابنها وزوجته ينظران إلى بعضهما البعض بشكلٍ يدعو للريبة وإثارة الشكوك، وما زاد من الهواجس بداخلها بكاء "فيروزة" الغريب، وعباراتها الباعثة على الشك، دنت منهما متسائلة في توجسٍ:
-في إيه يا ولاد؟ إيه اللي حصل؟
استدارت "فيروزة" ناظرة إليها لتجاوبها بما ضاعف من مخاوفها:
-إلحقي يا طنط، حشوه، هيودي نفسه في داهية عشان واحد مايستهلش.
امتدت يد "تميم" لتمسح على وجنة زوجته المبتلة بحنوٍ، فعادت لتنظر إليه برجاءٍ يقطع نياط القلوب، تنهد لافظًا الهواء من صدره، ثم خاطبها بهدوءٍ عجيب، كأنما يودعها بشكلٍ غامض:
-إنتي هتفضلي عندي أغلى حاجة، وعمري ما أسمح لشعراية بإنها تأذيكي.
تقدمت "ونيسة" نحو ابنها لتسأله بصدرٍ منقبض:
-رد عليا يا "تميم"، في إيه اللي حصل؟
خرج من الداخل الجد "سلطان"، فاعتقدت "فيروزة" أن في وجوده السبيل لردع حفيده، ومنعه من الإقدام على مثل تلك الأفعال الخطيرة، هرولت ناحيته، وتعلقت بذراعه هاتفة فيه بصوتها المنتحب:
-يا جدي امنعه، هيضيع بسبب كلب مايسواش.
رفع الجد أنظاره نحوها أولاً، فأبصرها تكاد تنفطر خوفًا، قبل أن يحول ناظريه، ويتطلع إلى حفيده بتفرسٍ، منحه نظرة متسائلة دون أن يكون بحاجة لسؤاله، فما كان من "تميم" إلا أن جاوب في عزمٍ غير قابل للتفاوض:
-غصب عني يا جدي، المرادي غير، وإنت عارفني.
ضم "سلطان" شفتيه معًا لهنيهة، رمقه بهذه النظرة المتفاهمة، النافذة لدواخله، حرك ثغره بعدئذ قائلاً بما بدا أشبه بالنصيحة:
-صدق قلبك يا ابني، وماتعملش إلا الصح ..
في مكانٍ مُقفر، وسط تلك الصحراء القاحلة، حيث الفراغ الممتد من مساحات شاسعة، أبطأت سيارتا دفع رباعي من سرعتهما، لتقفا على مقربة من تلك السيارة، ترجل من السيارتين عدد لا بأس به من الرجال المدججين بالسلاح، يتقدمهم "الهجام" بخطاه الواثقة، وعلى وجهه ابتسامة مسرورة، هلل كاسرًا السكوت السائد في هذا المجهول:
-والله زمــان، أنا مش مصدق عيني.
أتاه صوته على نفس القدر من العلو والتحية:
-مرحب بالناس المهمة.
امتدت يده لمصافحة "تميم"، واستطرد قائلاً بزهوٍ:
-معلم "تميم"، عاش من شافك يا سيد الرجالة.
بادله الأخير المصافحة أن تحرك ناحيته لإلقاء التحية عليه مرددًا:
-ريس "كرم".
قهقه ضاحكًا في دهشة مستمتعة قبل أن يعقب وهو يحثه على السير بعيدًا عن الرجال المحاوطين بهما:
-يــــاه، بقالي زمن ماسمعتش الاسم ده ...
استغرب "تميم" من عبارته، بينما واصل "الهجام" التوضيح:
-من أيام أبويا الله يرحمه، لدرجة إني نسيته، ده إنت رجعتني لسنين ورا بالاسم ده.
علق "تميم" في هدوءٍ حذر، رغم علامات الضيق الظاهرة على محياه:
-الله يرحمه.
استمر "الهجام" في الشرح مبتسمًا بانتشاءٍ؛ وكأن ما يرتكبه من جرائم دموية وسيلته المتاحة للتسلية:
-كل الرجالة بتناديني "الهجام"، أو "كوبارتنا"، وأنا بكرمهم .. على طريقتي.
آثر "تميم" الصمت، ولفظ دفعة من الهواء المشحون بغضبه من صدره، فتساءل "الهجام" مستفهمًا بتعابير اكتسب طابعًا جديًا مغايرًا لما كان عليه قبل ثوانٍ:
-خير؟ وردني إنك عاوزني في مصلحة.
بنفس الضيق البادي عليه أخبره "تميم" بما يشبه الاعتذار:
-معلش هتقل عليك.
عاتبه في وجومٍ:
-والله أزعل منك لما تقول كده، إنت عارفني، اللي يفديني بروحه، أشيلهاله لآخر العمر.
جال بذاكرته لمحة خاطفة من فترة احتجازه بالسجن، حيث تدخل مصادفة في إحدى المرات التي نشب فيها شجارًا عنيفًا بين النزلاء، للزود عن "الهجام"، دون أن يكون على صلة وثيقة به، وقتئذ تمكن من منع أحدهم من وخزه غدرًا بسلاحٍ أبيض، وقام بكسر ذراعه، ليعتبر الأخير ما فعله بمثابة توثيق لرابطة أخوية من نوعٍ مختلف، إن احتاجه يومًا وجده إلى جواره. نفض الذكرى عن عقله مؤقتًا، وهتف في غير ابتسامٍ:
-تسلم، ده العشم برضوه.
أخرج "الهجام" المظروف الأبيض من جيب بنطاله، وأعاده إليه قائلاً:
-اتفضل ..
تناوله "تميم" الطرف المألوف منه، ونظر إليه متسائلاً في تعجب:
-إيه ده؟
أجابه مقتضبًا وهو يومئ له بعينه:
-عربونك
تساءل مرة أخرى في استغرابٍ أكبر:
-بترجعه ليه؟
أخبره باسمًا:
-يا سيدي اعتبر المصلحة اللي عاوزها تحية مني ليك، ده كفاية إني شوفتك.
رفض مُبديًا تصميمه:
-لأ معلش، الاتفاق اتفاق.
عارضه في صوتٍ هادئ، ينم عن محبة وأخوية قوية:
-معاك إنت، تؤمر تُطاع.
أصر عليه في جديةٍ شديدة:
-ده شغل، ومايزعلش حد.
هتف "الهجام" معترضًا بعنادٍ:
-لأ يزعلني أنا، ده أنا مرضتش أكسف الراجل بتاعك، وقولت دي فرصة حلوة أشوفك فيها ...
ثم وضع يده على كف "تميم" ليجبره على إخفاضها قائلاً:
-عين فلوسك في جيبك.
رفع ذراعه للأعلى متجاوزًا يده، وقال رافضًا:
-لأ، لو مخدتهومش هاعتبر المصلحة ملغية.
بدا التردد ظاهرًا على وجه "الهجام"، فتابع "تميم" بنفس النبرة المُصرة:
-اعتبره عرق الرجالة، ده حقهم.
صمت لحظيًا، كأنما يفكر في الأمر، واضعًا يده على طرف ذقنه يفركها قليلاً، قبل أن ينطق في نهاية الأمر، وبابتسامة تعلن قبوله لعرضه:
-مش هردك.
أعاد الظرف إلى جيبه، ثم تساءل في نبرة مهتمة:
-ها، مين اللي عليه العين، وخلاك تقابلني؟
غامت عينا "تميم" بشكلٍ مخيف، وأخبره بعد زفيرٍ سريع، بجزءٍ لا يضاهي أبدًا ما يكبته في صدره من غليلٍ حارق:
-واحد عاوزك تجيبه عندك، يتمنى الموت ومايطلوش.
هز رأسه معلقًا في ترحيبٍ؛ كأن المسألة لا تعني شيئًا له:
-بسيطة، لو عاوزني أشفِّيه كمان ده موجود.
كان يعلم أن المقصود من تلك العبارة، هو إجراء عملية استئصالٍ لأعضائه الحيوية من أجل بيعها في السوق السوداء لفئة المتاجرة بالأعضاء البشرية، توحشت نظرات "تميم"، وصارت أكثر إظلامًا، عندما خاطبه بحنقٍ متصاعد:
-الموت راحة ليه، وأنا مش عاوزه يرتاح.
شبك "الهجام" أصابع كفيه معًا، فرقعهم دفعة واحدة، وتكلم في ثقةٍ عارمة:
-اديني اسمه، وعنوانه، وهتلاقيه مشحون في ظرف كام ساعة عندي.
نظر إليه "تميم" بغموضٍ، فأكد "الهجام" بنفس النبرة الواثقة:
-وشغل نضيف، من غير شوشرة، ولا سين وجيم.
استحسن الأمر، فقال موجزًا:
-حلو الكلام.
انتصب "الهجام" بهامته، والتفت ناظرًا إلى رجاله المجتمعين على مسافة بضعة أمتار، ليضيف في غرورٍ:
-إنت عارف شغلي، يحير المتحير، ومش أنا اللي هاقولك.
حاول الابتسام مجاملاً، فبدت بسمته متكلفة إلى حدٍ كبير، وهو يعلق:
-طبعًا، مش كبير "الهجامة"!
.........................................................
كانت أقرب للانهيار الكامل، في حالة من اللا وعي والصراخ، تبكي بهيسترية، وجنون، حتى احمر كامل وجهها من كثرة بكائها المذعور، ففي خضم لهفتها للحاق بزوجها نست "فيروزة" هاتفها المحمول، وبالتالي تعذر عليها كليًا التواصل بأي شكلٍ مع زوجها، لإقناعها بالعدول عن قراره المرعب، مما زاد من مخاوفها، وضاعف من ذعرها عليه. لم يختلف حال "ونيسة" عنها؛ لكنها بدت أكثر تماسكًا بالمقارنة بها، خاصة أنها كانت معتادة على مثل تلك الأزمات المتعصبة، بالرغم من عدم إلمامها –حاليًا- بتفاصيل الموضوع الشائك الذي قد يدفع ابنها للتصرف برعونة، تطلعت الأخيرة إلى "فيروزة" بعد أن أعدت لها مشروبًا باردًا لتتناوله، خاصة مع الإعياء الظاهر عليها، أصرت عليها لتأخذه، وقالت في إلحاحٍ وهي تجلس بجوارها على الأريكة:
-اشربي اللمون ده، واهدي، وإن شاءالله عمك "بدير" جاي وهيتصرف، دي مش أول مرة "تميم" يفكر فيها بالشكل ده.
في قرارة نفسها أرادت "فيروزة" تصديق ما تقوله، أنها غضبة مؤقتة ستنتهي بزوال العارض المؤثر، وتعود الأمور إلى مجرياتها الطبيعية؛ لكنها تعلم تمام العلم أن الحقيقة مغايرة كليًا لما ترجوه، أبعدت يدها الممدودة إليها، ساكبة قدرًا من المشروب على ثيابها، وهتفت بصوتها المنتحب:
-مش عاوزة أشرب حاجة، أنا عاوزة جوزي يرجع.
جاءها صوت الجد هادئًا ومطمئنًا:
-هيرجع يا بنتي، اطمني.
استدارت ناظرة إليه بعينيها المنتفختين، وعاتبته:
-إزاي تسيبه يا جدي؟ ده هيضيع نفسه.
نظر إليها بغموضٍ، وهو يلف رأس عكازه بين راحته، فتابعت في صوتٍ ينم عن هلعها:
-المرادي غير ... هيقتله!
قالت كلمتها الأخيرة في صوتٍ عاد للبكاء العاجز مجددًا، ففزعت "ونيسة"، وسألتها بقلبٍ مرتجف:
-مين هيقتل مين؟
أدارت رأسها في اتجاهها، وأجابتها بشيءٍ من الخزي:
-"فضل" ابن عمي.
هنا صاحت "ونيسة" في حدةٍ:
-هو ما بيتهدش البني آدم ده، عاوز إيه منكم؟
دفنت "فيروزة" يديها بين كفيها، وراحت تصرخ في هياجٍ منفعل:
-أنا السبب، لو مكونتش وافقت أتجوز "تميم" مكانش ده حصل.
رد عليها "سلطان" بصوتٍ حازم لا غاضب:
-ماتحمليش نفسك ذنبك مالكيش فيه، كل واحد بيشيل شيلته ...
بدت نبرته أكبر للهدوء وهو يتابع:
-وأنا عارف حفيدي، طالما حد غلط، هيربيه بالأصول اللي عارفها كويس.
خفضت يديها لتنظر ناحيته، ثم صاحت في بكاءٍ حارق:
-يا جدي بقولك هيقتله.
اختنق صوتها، وتقطع وهي تكمل بصعوبةٍ:
-وساعتها "تميم" هيروح خالص.
لطمت "ونيسة" على صدرها، ورددت في نبرة بدت متوسلة، مليئة بالاستجداء:
-ابني يا حاج.
نهض "سلطان" واقفًا من موضعه، انتصبت هامته، ورفع رأسه للأعلى قائلاً في صوتٍ صارمٍ:
-مش عاوز كلام، أنا عارف حفيدي كويس، ومتأكد إنه هيتصرف صح.
غادر المكان، دون أن ينبس بالمزيد، فعادت "فيروزة" لتدفن رأسها بين كفيها متابعة بكائها المرير، ومن بين نهنهاتها راحت تدعو في رجاوات شديدة:
-يا رب اهديه ورجعه ليا، يا رب ماتخسرني فيه.
...............................................
أثناء قيادته على الطريق، نظر إلى هاتفه الذي لم ينقطع عن الرنين بتحفزٍ، لم يجب عن أي اتصالٍ ورده مؤخرًا، فقط بدا مترقبًا لمكالمة بعينها، تلك التي ستأتي بما اعتبرها مجازًا البشارة، حينئذ سيقتص من ذلك الوغد الدنيء، وبوحشية تامة، تجعله متوسلاً الموت؛ لكنه لن يأتيه! مع تكرار الصوت المزعج، تطلع "تميم" إلى شاشة هاتفه بعبوسٍ، اضطر أن يجيب على هذا الاتصــال، فأصغى إلى صوت والده المتسائل في هدوءٍ رغم رنة الغضب المحسوسة فيه:
-مكونتش ناوي ترد على أبوك؟
على مضضٍ جاوبه:
-إنت فوق راسي يا حاج.
سكت "بدير" للحظاتٍ، بدا فيها صوت أنفاسه مسموعًا، إلى أن تكلم أخيرًا بحنوٍ أبوي:
-إرجع يا "تميم".
رغم بساطة الجملة، إلا أن تأثيرها عليه كان عظيمًا، مؤلمًا بدرجة جعلت قلبه ينقبض، ونظراته تشتعل، قتل "تميم" غصة عالقة في حلقه، وقال في حرقةٍ، وقد اشتدت قبضته على المقود:
-حق مراتي يابا.
أخبره في تعقلٍ:
-هنجيبه، بس مش بالطريق اللي إنت ناوي تمشي فيه.
رغمًا عنه ارتفع هدير صوته وهو يُحادثه:
-معدتش ينفع أي مهاودة معاه، هو عدى كل الخطوط الحمرا.
ما زال "بدير" محافظًا على ثبات صوته الهادئ عندما عقب:
-يبقى نأدبه بالأصول، ولا إنت عاوز تحسرنا عليك لما نلاقيك متعلق على حبل المشنقة؟!!!
لم يخبت غضب "تميم" شيئًا، بل إنه تضاعف وصار أكثر حدةً وهو يستحضر في ذهنه ما فعلته بكل دناءةٍ وخسة، احتدت نبرته قائلاً باحتجاجٍ، رافضًا أي شكلٍ من أشكال التهدئة وضبط النفس:
-ده معدتش ينفع معاه أصول، ويابا لو مفكر إن حتة وصل هيخليه يبطل فمش هيحصل.
رد عليه "بدير" بصوتٍ مال للحزمٍ:
-مش هتجادل معاك كتير، عاوزك في البيت قدامي.
وقبل أن يفكر في الرفض، أكمل والده جملته:
-ده لو إنت مقدر أبوك فعلاً، وعامل لكلمته احترام.
بجملته الصريحة وضعه ما بين مطرقة الثأر، وسندان طاعة الوالدين، لم ينتظر "بدير" تعقيبه، أنهى المكالمة، وتركه يكتوي بنيرانه غضبه المستعرة كلما استحضر الذكرى، وينسحق كالطحين بين الرحى بوأد رغبته في الانتقام امتثالاً لأمره. لكز "تميم" المقود في عصبية، مختنقًا بما يهيج من مشاعر ثائرة بداخله، وصوت لعناته الهادرة ينفذ من نوافذه المغلقة للسيارات المتحركة بجوار خاصته.
.........................................................
كلصٍ يختال بنجاح عملية سرقته، جلس "فضل" منتشيًا في المقعد الأمامي للسيارة التي استأجرها، للمرة الأولى يشعر أنه انتصر انتصارًا عظيمًا، في معركة دومًا كان فيها الخاسر على مدار جولاتها الممتدة، وإن كان انتصاره الزائف بالافتراء والكذب، مد يده برزمة من النقود إلى زميله مشددًا عليه:
-راضي الرجالة كويس، وقولهم مش هاتكون أول مرة.
هز رأسه صاغرًا وهو يكلمه من النافذة:
-ماشي يا ريس "فضل".
استقــام واقفًا ليشرع في التحرك مبتعدًا عنه، حتى ينفذ أوامره، بقيت عينا "فضل" مرتكزتان عليه؛ لكنه لم يكن منتبهًا له بشكلٍ كامل، فقد شرد في خيالاته الحالمة، متوهمًا قيام "تميم" بتعنيف زوجته بشكلٍ قاسٍ، قد يؤدي في النهاية إلى قتلها، انتفخت أوداجه، وامتلأ صدره بالهواء في تفاخر وهو يتحدث بين جنبات نفسه:
-زمانه دبحك يا بنت الـ (...).
أراح مرفقه على إطار النافذة متابعًا حديث نفسه:
-ولو معملش كده، دماغه هتفضل تودي وتجيب، ومش هيرتاح أبدًا.
عبث شيطانه الماجن برأسه، ووسوس له مرة ثانية بفكرة أخرى جهنمية لاقت قبولاً كبيرًا لديه، لما لا يستغل هذه المسألة، ويلفق المزيد من الأكاذيب عن ابنة عمه، وينشرها في بلدته؟ فالناس لن تقاوم فضولها في الخوض في شرفها، وتصديق ما قد يُقال عنها رغم يقينه من براءتها؛ لكنها ربما تكون وسيلته في التغطية على فضائحه المشينة. تلون ثغره ببسمة خبيثة، والتمعت عيناه بهذا الوميض اللئيم وهو يؤكد لنفسه في صوتٍ خافت:
-هيجرى إيه؟ ده جايز بالحكاية دي الناس تنسى اللي حصلي، ويفكروا إنها عملت كده عشان تداري على عمايلها السودة.
فرك كفيه معًا في نشوة متزايدة، وراح يستمتع بهذيانه، تنبه لصوت مرافقه عندما خاطبه:
-خلاص يا ريس "فضل"، الكل اتراضى.
أشــار له بيده ليركب السيارة وهو يعقب عليه:
-زي الفل ..
استقر الرجل في مقعد القائد، فأكمل "فضل" أمره لها وهو يمسح على بطنه براحته:
-اطلع بينا على الحاتي اللي في النواحي دي، هاتلنا منه كباب وكفتة.
اندهش الرجل لعرضه السخي، كأنه لم يتوقع ذلك منه، خاصة و"فضل" يردد في سرورٍ غريب:
-خلينا ننبسط.
هز رأسه هاتفًا بابتسامة سعيدة:
-عينيا.
انحرف بالسيارة عبر الشوارع الجانبية إلى أن وصل إلى واحدٍ من أشهر المطاعم المتخصصة في تقديم اللحوم المشوية، بدا من غير اليسير إيجاد مكانٍ مناسب لصف المركبة، نظرًا لضيق الطرقات، اشرأب "فضل" بعنقه من النافذة المجاورة له، ولمح بقعة شبه خالية على مرمى بصره، أشار إليها بيده أمرًا من معه:
-اركن هناك، في حتة فاضية.
سأله متحققًا:
-فين يا ريس "فضل"؟
أجابه مشيرًا نحو إحدى السيارات حديثات الطراز:
-عند السكودا السودة دي.
أومأ برأسه متسائلاً:
-طيب، عاوز أجيب أد إيه يا ريس؟
لوى ثغره مرددًا في امتعاضٍ، وقد تجهمت تعابيره قليلاً:
-كفاية كيلو، يدوب أنا وإنت، بلاش طمع.
نظر له الرجل من طرف عينه معقبًا بغير صوتٍ في تبرمٍ:
-يعني هاكل الكيلو لوحدي، ما إنت هتلهف بقليله تلاتربعه.
تنحنح مدعيًا امتثاله لطلبه قائلاً:
-ماشي.
رفع "فضل" سبابته قائلاً في لهجةٍ متشددة، وبها نوعٍ من التحذير:
-متتأخرش، وقوله يحط طحينة وعيش سخن، بلاش يستعبطك.
ترجل من السيارة بعد أن ركنها في هذا المكان الخالي هاتفًا:
-عينيا.
شيعه "فضل" بعينين نهمتين وهو يختفي عن أنظاره، ليعاود الاستمتاع بنصره الحقير، مرددًا في صوتٍ خفيض:
-يا سلام، الواحد ماتبسطش في حياته أد النهاردة.
أفسد عليه ما اعتبرها لحظاته المميزة هذا الرنين المزعج، نظر إلى شاشة الهاتف متعجبًا من ذلك الرقم الغريب الذي يلح على الاتصال به، أجاب في تحيرٍ، سرعان ما تلاشى عندما سمع صوت والدته المألوف، انقلبت تعابيره، وغامت بتأففٍ وهو يسأله في نفاذ صبرٍ:
-عاوزة إيه يامه؟
ردت عليه في عصبيةٍ:
-خربتها وارتحت يا "فضل؟
تجاهل سؤالها، وصاح في استنكارٍ حاد:
-إنتي جبتي تليفون جديد من ورايا يامه؟ أكيد واحدة من المزاغيد إخواتي، مش كده؟ ما هما عاملين رباطية عليا!
صرخت به في حمئةٍ:
-ده اللي همك؟ هتروح من ربنا فين؟
أبعد الهاتف عن أذنه ليغمغم بسبةٍ خافتة، ثم قال في تكبرٍ:
-محدش ليه دعوة باللي بأعمله.
هتفت به في يأسٍ يشوبه كل اللوم:
-راعي عضم التربة، دي بنت عمك، واللي يمسها يمسك.
في جحودٍ لا يحتمل قال:
-أنا مابراعيش حد، وده اللي عندي.
استمرت "سعاد" في تقريعه قائلة بحنقٍ:
-يعني موت أبوك بقهرته، وماسبتش الغلبانة في حالها، وآ....
لم يرغب "فضل" في سماع هذا التوبيخ المستفز والمفسد لنشوته، فقاطعها في قساوةٍ:
-ياباي، مابتزهقيش يامه من الحوارات دي، أه ارتحت، ولسه مبسوط.
علقت عليه في قهرٍ:
-منك لله يا "فضل"، ربنا عمره ما هيسيبك.
صاح بها بنفس المشاعر المتحجرة:
-اقفلي يامه، وولولي براحتك، أنا مش ناقص غم.
ضغط على زر إنهاء الاتصــال قائلاً في نفورٍ:
-هو أنا ناقص وجع دماغ.
أعاد "فضل" رأسه للخلف، وأراحها على مقعد السيارة ناظرًا للأعلى بابتهاجٍ مريض؛ لكن ما لبث أن خبا ذلك السرور حين قرأ اللافتة العريضة التي لم يكن قد انتبه لها منذ البداية، ردد حروفها بصوتٍ لم يتجاوز ما بين شفتيه:
-البناية مهددة بالسقوط، رجاءً عدم ركن السيارة بالأسفل.
لا يعرف ما الذي جعله في تلك اللحظة يتحول من الانبساط للانقباض، اكفهرت كل تعابيره، تلبد "فضل" في جلسته، وانكمش بشكلٍ غريب، أحس بشيءٍ غير مريحٍ، باعث على الخوف، والإظلام التام، لم يكن قد أتم جملته للنهاية إلا وقد هوت كتلة خرسانية -ضخمة الحجم وثقيلة الوزن- من الأعلى، لها نتوءات حديدية مدبدبة استقرت فوق سطح سيارته، عند جانبه تحديدًا، كأنها تقصده، جعلت رأسه يتهشم، عظامه تتفتت، أطرافه تتمزق، وجسده ينسحق في لمح البصر، لتتحول السيارة إلى قطعة من الصفيح الغارق في الدماء.
على إثر الصوت المفزع، وكتل الغبار المتناثرة في الأرجاء، انتفض جميع من في الشارع يصرخون في هلعٍ. عمَّت الفوضى في لحظاتٍ معدودات، واحتشد الأهالي في غمضة عين حول مكان الانهيار، لتحل عليهم الصدمة المخيفة. هلل أحدهم مشيرًا بيده للأعلى؛ كأنما يخمن ما حدث:
-ده في بلكونة وقعت.
أضاف آخر وهو يشير نحو إحدى السيارات:
-الظاهر جت على العربية اللي هناك دي.
للعجب! لم تتعرض أي سيارة أخرى للدمار مثلما حدث مع سيارته على وجه الخصوص، بل لم تمس أقل واحدة من مجموع العربات المصفوفة بسوءٍ سواها. الأشلاء الممزقة التي برزت في محيط السيارة جعلت المشهد أكثر تقززًا ورعبًا، صرخت النساء من هول المنظر، وامتنع الرجال عن تقديم المساعدة، فقد استمرت البناية في التساقط، كتلة وراء الأخرى؛ ولكن على نفس الموضع من السيارة، لتغرق تحت أطنانٍ من الركام وتُباد كليًا عن بكرة أبيها ...
خشي من احتمالية تأخره عليه، وتعرضه للتوبيخ اللاذع منه، خاصة أن المكان في هذا الوقت كان مزدحمًا بشكلٍ لا يُطاق، ولسان "فضل" لا يتوقف عن السب واللعن تحت أي ظرف، أخرج رفيقه هاتفه المحمول من جيبه لينظر إلى التوقيت فيه، أطلق زفرة مزعوجة، وقد تأففت ملامحه، اشرأب بعنقه مجددًا لينظر إلى العاملين المنهمكين في إعداد طلبات الطعام، وضع يده على بطنه يتحسسها، يكاد يسمع صوت قرقرة معدته من الرائحة الشهية المغرية، قاوم جوعه قدر استطاعته، سئم من الانتظار، وضاق صبرًا، لهذا صاح عاليًا من موضعه ليدفعهم للتعجل في تسليمه ما يخصه:
-الله يكرمك خلصني أوام، أنا مستعجل.
احتج عليه أحد الواقفين على مقربة منه في تهكمٍ:
-يعني لسه جاي وعاوز تمشي؟ ده الناس هنا بقالها فوق الساعة.
نظر إليه قائلاً بتعابيرٍ منقلبة:
-معلش، أنا على سفر.
رد عليه الرجل بشيءٍ من التهكم:
-الله يسهلك.
نفخ رفيق "فضل" مرة ثانية، وراح يُعاود النظر في شاشة هاتفه، قبل أن يعيده إلى جيبه، عندئذ تحسس المدية التي تم نزعها سابقًا من كتف "فضل" بعد ادعاء تعرضه للإصابة عن طريق الخطأ، وتضميد جراحه مؤقتًا في إحدى العيادات الخاصة بأحد أطباء الجراحة، لم يرغب في التخلص منها، واحتفظ بها لنفسه بعد أن قام بتنظيفها بمطهرٍ، كنوع من الذكرى، أخفى ابتسامة منتشية وهو يتلمسها بأصابعه المدسوسة في جيبه:
-ده أنا نسيت إنها معايا، وربنا خسارتها تترمى، دي من النوع الغالي ...
سرعان ما تجهمت تعابيره نسبيًا وهو يكمل حديث نفسه:
-بس "فضل" هيسبغلي في الراحة والجاية لو شافها معايا.
برقت عيناه بوميضٍ مستمتع حين طرأ بباله فكرة مستهلكة؛ لكنها كانت مرضية لها، فأخذ يخبر نفسه:
-هبقى أداريها فترة لحد ما ينسى، وبعد كده أخدها اتنمظر بيها قصاد المقاطيع أصحابي.
انتشله من شروده الحالم صياح أحدهم بلهاثٍ منفعل:
-يا جدعان، إنتو أعدين هنا ومش شايفين الكارثة اللي برا.
انتبه الجميع لحديثه الهام، وبادر أحد الأشخاص بسؤاله في فضولٍ متزايد:
-يا ساتر، حصل إيه؟
أشار الرجل بيده نحو الخارج موضحًا في نفس الصوت المنفعل:
-على أول الشارع في بلكونة وقعت من عمارة الاتحاد.
سأله آخر في قلقٍ:
-وحد جراله حاجة؟
هز كتفيه في تحيرٍ، وأجاب:
-مش عارف لسه، بس الناس هناك أمم.
لكز أحد الأشخاص كتف آخر قريبًا منه يستحثه على التحرك وهو يقول:
-بينا نشوف لحد ما يخلصوا الأوردرات.
بدأ بعض المتواجدين بداخل المطعم بمغادرته لرؤية الحادث، في حين بقي رفيق "فضل" قابعًا في مكانه، تقدم في الصف، وهتف مجددًا بصوته المرتفع:
-يا عم خلصني وهات الكباب خليني أشوف مصالحي.
رد عليه العامل من خلف الحاجز الزجاجي:
-طيب .. اصبر، ولا روح معاهم اتفرج لحد ما نجهزلك طلبك.
اعترض عليه في عنادٍ:
-لأ مش ماشي قبل ما أخد الكباب.
خاطبه العامل في سماجةٍ:
-يبقى استنى دورك وإنت ساكت.
قوست الأخير فمه في نفورٍ، وغمغم مع نفسه بسخطٍ وهو يشيح بوجهه:
-معاملة زفت، ماتتخيرش عن "فضل"!
..................................................
العودة بلا تحقيق أدنى درجات الانتقام اعتبره أمرًا مخزيًا، لم يجرؤ "تميم" على الذهاب إلى المنزل، واتجه إلى الدكان ليمكث به منفردًا بحاله المضطرب، تجنب جميع العمال الاقتراب منه، خاصة بعد تحذيره الصارم بعدم إزعاجه، تركوه في عزلته بالداخل، وواصلوا عملهم بهمةٍ دون التفكير في اللجوء إليه إن استدعى الأمر لهذا. فقط واحدٌ من العمال تشجع ليهاتف الحاج "بدير" ليطلعه على حالته، فأخبره الأخير بالانصياع لأوامر ابنه، وانتظار مجيئه للتصرف والتعامل معه.
خلال تطوافه الطويل في تفكيره العميق والمتصارع ما بين فعل الصواب، وارتكاب الخطأ، أحس "تميم" بالتخبط، والتحرُّق، فالقلب رغب منه التروي، والعقل أصر على الثأر وقطع الأعناق. لم تنقشع غيمات غضبه المستعرة بعد، بل كانت تتراكم، وتزداد قتامة كلما استحضر ذهنه كلمات "فضل" السقيمة، إن لم يكن واثقًا في براءة زوجته، لانساق بلا تعقلٍ وراء أكاذيبه، وفعل الأسوأ، ما لا يأتي على عقل بشؤ؛ لكن ثقته بها غير محدودة، غير قابلة للتشكيك.
استند بجبينه على قبضتيه المضمومتين، وراح يتنفس بثقلٍ، كأنما ينفث حممًا من اللهيب من صدره، ارتفع رأسه المنكس عندما سمع صوت والده يناديه في حنوٍ:
-"تميم".
عيناه الغائمتان كانتا كفيلتان للإشارة إلى مدى ما يكبته من ثورة عارمة، ضم شفتيه بقوةٍ، وتحفز في جلسته بشكلٍ لافت لتشنجه، دنا منه "بدير" قائلاً بأسلوبه الهادئ السلس:
-كويس إنك جيت على هنا.
جلس على المقعد المواجه لمكتبه، وسأله في اهتمامٍ، ونظراته مسلطة عليه:
-عامل إيه دلوقتي؟
لم يستطع "تميم" تخبئة انفعاله المشحون، تحرر قدرًا منه وهو يجاوبه في حدةٍ، انعكست في نبرته قبل ملامحه:
-هاقولك إيه يابا؟ إني مش قادر أوري وشي لمراتي، ولا حتى هابقى عارف أرفع عيني في عينها وأنا مجبتلهاش حقها لسه؟
صمت "بدير" للحظةٍ قبل أن يسأله بتريثٍ:
-هتجيب حقها وتودي نفسك في داهية؟
هتف في نبرة متحفزة على الأخير، وقد اِربد وجهه بالمزيد من أمارات الحنق:
-الشرف مافيش فيه كلام يابا.
بسط "بدير" كفه على سطح المكتب، وأخبره بتعابيرٍ هادئة مستكينة:
-اصبر، واحتسب، وافتكر كلام ربنا لما بيقول "وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ" ..
كان كمن أصيب بخرسٍ مؤقت، ألجم لسانه، وأصغى إليه وهو يتم جملته:
-يعني حكم ربنا نافذ رغم إرادة البشر، مشيئته هتحصل شئنا أم أبينا.
رغم هياجه ردد "تميم" من بين أسنانه:
-ونعم بالله ..
واصل والده الكلام معه لإقناعه بالتريث، مستخدمًا أسلوبه السهل اللين:
-إنت ربنا عوضك ورزقك بنعم كتير، والحاقد اللي زي البغل ده عاوز يعميك عن خير ربنا، وياخدك لطريق مالوش نهاية، إنت في امتحان دلوقتي ربنا حطك فيه، وعاوز يشوفك هتعمل إيه، ففوض أمرك ليه، وانتظر النتيجة، وزي ما هو سبحانه بيكون غفور رحيم مع عباده، بيكون برضوه المنتقم الجبار وشديد العقاب مع الظالمين.
أخفض رأسه مطبقًا على جفنيه، كأنما يحاول تحجيم ما يتقد بداخله من مشاعر هائجة، تسعى لكل ما هو مُخرب، امتدت يد والده لتمسح على كفه في مودةٍ، وأضاف:
-والظالم مهما اشتد ظلمه نهايته أقرب مما يتخيل.
اختنق صوت "تميم" لشعوره بالتقصير، وظهر واضحًا عندما عقب في ألمٍ:
-صعبان عليا حالي يابا، لما مراتي تستنجد بيا، وأبقى مش قادر آ...
قاطعه مبتسمًا في تأكيد:
-مراتك بتحبك، وعايشة تحت ضلك، هتحرمها من قربك بإنك تعمل الذنب وتبرر؟
لم يستطع مغالبة غضبه المتصاعد، فغطت آثاره على كامل وجهه حين علق منفعلاً:
-يعني أسيبه كده يعمل ما بداله؟ يطعن في شرف مراتي وأنا واقف أتفرج؟
تكلم معه "بدير" بهدوءٍ:
-ومين قالك إنه هيتساب كده؟ ربك قادر على فعل كل شيء، وخصوصًا لما البشر يعجز عن التصرف.
طرد "تميم" الهواء في زفيرٍ طويل محمل بالاستياء، استمر والده في التحدث إليه بطيب الكلام:
-استهدى بالله، وأرمي همومك عليه ...
ثم نهض واقفًا وهو يطلب منه:
-قوم معايا نروح البيت، مراتك مستنياك هناك.
كان يطلب منه ما لا يملكه حاليًا، فمواجهة نظراتها المليئة بهذا الشعور المقهور لم يكن مستعدًا له، اعتذر منه مبررًا في ضيقٍ ما زال محتلاً كيانه:
-شوية بس يابا، مش عارف أقابلها وأنا كده.
تفهم عزوفه، وقال ناصحًا إياه:
-طيب .. بس خليك فاكر إنها مفطورة من العياط عشانك، فماتسبهاش لوحدها، كسرة القلب وحشة، وهي عشمانة فيك أوي.
هز رأسه في طاعةٍ قبل أن يرد بصوتٍ انخفض بشكلٍ تدريجي، كأن الإعياء تمكن منه:
-حاضر يابا.
ابتسم "بدير" في حبورٍ، ودعا له عن طيب خاطرٍ:
-ربنا يكرمك ويراضيك.
تركه بمفرده، وغادر في هدوء، ليظل "تميم" حبيس همومه الثقيلة، رغمًا عنه نفرت دمعة عاجزة من طرفه، أزاحها قبل أن يراها أحدهم، ليردد بعد ذلك بين نفسه في تحيرٍ موجع:
-أخد حقها منك إزاي وأنا متكتف كده؟!!
كاد يغرق في همومه الثقيلة مرة ثانية لولا رنين هاتفه، نظر إلى الاسم الصادح على شاشته، فوجده لشقيقته، كانت من عادتها ألا تتصل إلا لو كان الأمر هامًا، تجاهل اتصالها متوقعًا أنها تلعب دور الوسيط في تهدئته، فربما اشتكت إليها والدته، وطلبت منها التدخل لإيقافه عن تهوره. لم يرغب في مصارحة أحدهم عما يجوس في نفسه، أطرق للحظاتٍ، ولم يكترث لمكالمتها؛ لكن تكرر اتصالها، وبدا مُلحًا بشكلٍ مزعج، كان على وشك التغافل عن إجابتها لولا أن قرأ رسالة نصية منها وصلت إليه، رددها بغير صوتٍ:
-الحقني يا "تميم"، ابني في المستشفى، وأنا لوحدي.
عندئذ انتفض من مقعده، ويده تعبث بأزرار الهاتف ليتصل بها، بمجرد أن أجابت عليه، سمع نهنهات بكائها، سألها في جزعٍ:
-إنتي فين بالظبط؟ أنا جايلك على طول.
بدا وكأن في همها النجاة مؤقتًا من بوتقة أحزانه، لينشغل كليًا بأمرها ويلتهي عقله عن التفكير فيما يحرق أعصابه ويتلف البقايا الصامدة فيه.
...........................................................
ظل ملازمًا لها طوال فترة بقائها بالمشفى لتقطيب جرح صغيرها الذي تعرض لحادث منزلي أدى لجرح راحة يده، أثناء لهوه بواحدٍ من الصحون الفخارية حين غفلت عنه للحظاتٍ، فسقط من يده، وتكسر، مما جعل جلده الناعم يُجرح من الأجزاء الحادة، وينزف بغزارة. تنفست "هاجر" الصعداء عندما تأكدت من زوال الخطر، وعادت به إلى منزلها بصحبة شقيقها، وضعته بالفراش، وخرجت إليه قائلة بزفيرٍ متعب:
-الحمدلله نام، عدت على خير.
تطلعت إليه بامتنانٍ وهو جالس على مائدة الطعام، ثم تابعت بعد تنهيدة سريعة:
-مش عارفة كنت هاتصرف إزاي لو مكونتش معايا.
قال بنفس التعابير الواجمة:
-أنا سندك يا "هاجر"، وقت ما تعوزيني كلميني.
تحرجت نسبيًا وهي تخبره:
-فكرتك مشغول، وخصوصًا لما مردتش عليا على طول، ده غير إن "سراج" مسافر في شغل، كنت هابقى في حيص بيص، لا هاعرف أروح ولا أجي لوحدي.
فشل في الابتسام وهو يحاول طمأنتها:
-أنا معاكي في أي وقت، وكويس إنك بعتي رسالة.
عقبت عليه في عفويةٍ:
-ده اللي جه في بالي ساعتها.
أومأ برأسه بخفةٍ، وقال:
-ربنا يحفظهلك ابنك، ويباركلك فيه.
اتسعت بسمتها وهي تكلمه:
-يا رب، وعقبال ما تفرح بعوضك يا "تميم".
سحبت المقعد لتجلس في مواجهته، تفرست في ملامحه التعسة بفضولٍ شبه متحير، ثم سألته بنظراتٍ ضيقة:
-مالك شايل الهم ليه؟
أراح ظهره للخلف، وراوغها موجزًا في الرد:
-مافيش.
انتفضت بغتةً كأنما تذكرت شيئًا، تراجعت خطوة للخلف، وراحت تقول في عتابٍ:
-الكلام خدني ومجبتلكش حاجة تشربها.
اعترض على ذهابها قائلاً:
-مالوش لزوم.
هتفت في تصميمٍ وهي تسرع الخطى:
-والله ما يحصل.
توقفت عند أعتاب مطبخها مقترحة في حماسٍ:
-هاجيبلك عصير فريش يرد الدموية في وشك.
لم يعارضها، والتزم الصمت مرة ثانية؛ لكن بقيت أفكاره الصاخبة تهتاج في رأسه، ما زال وجه هذا القمئ وهو يدلو بدلوه الكاذب عليه حاضرًا بقوة في مخيلته، انقبضت أصابعه وتكورت في شكل قبضة متشنجة، ضرب بها على سطح المائدة في حنقٍ وهو يغمغم لاعنًا إياه بهسهسة خافتة:
-كلب نجس، (...)!
تذكر أنه لا يزال محتفظًا بقطعة الثياب التحتية في جيبه، أخرجها منه لينظر إليها عن كثب، وألسنة اللهب تتقاذف في حدقتيه، كيف لوغدٍ مثله أن يحصل على مثل تلك الأشياء النسائية الخاصة؟ على الأغلب سرقها خلسة في غفلة من الجميع، وفي وقتٍ كان متواجدًا به بمنزل العائلة، دون أن ينتبه له أحدهم، وما أكثر زياراته السمجة! التفت فجأة نحو شقيقته التي راحت تمازحه في دهشةٍ:
-إيش إيش، إنت جايب الحاجات الحلوة دي لمراتك ولا إيه؟
طوى القطعة بتعجلٍ، فخاطبته ضاحكة:
-وماله، دلعها واتمتع معاها.
كان على وشك إعادتها إلى جيبه، لولا أن شددت عليه، بشيءٍ أكد كذب افتراء هذا الحقير:
-بس شيل تيكت السعر من عليه، لأحسن تبقى عيبة أوي في حقك.
أمعن النظر في ورقة السعر الملتصقة على الجانب، والتي غفل "فضل" عن نزعها، تفحص القطعة بتدقيقٍ، فوجد المزيد من الملصقات الخاصة بالمقاس، والموديل، استرعى الأمر انتباهه بشدة، فإن كانت زوجته تخونه حقًا، وهذا ما لم يصدقه من الأساس، فكيف إذًا ارتدت هذه الثياب وأهلكتها وهي ما تزال بحالتها الجديدة؟!
الكاذب الفاسق أراد فقط زرع الفِتنة بينهما، وإفساد زيجتهما بأحقر الوسائل الممكنة، دون أن يكترث لنتائج فعلته المشينة! ما ضاعف من شعور "تميم" بالاحتراق، هو تركه له هكذا دون تأديبه بما يستحق، فإن رحمه اليوم، وعفا عنه، فلن يمضي الغد دون أن يزيد من خسته، لذا بدا من الأفضل من وجهة نظره معاقبته على كل جرائره شر عقاب. مرة ثانية تنبه لشقيقته وهي تسأله في دهشةٍ:
-مالك يا خويا؟ سرحت في إيه؟
نفى بتصنعٍ:
-ولا حاجة يا "هاجر".
لم تكن مقتنعة برده، وسألته وهي تحاول سبر أغواره:
-الموضوع شكله كبير، ده أنا بكلمك وإنت في عالم تاني.
تحجج بحجةٍ واهية قبل أن يقرب كوب المشروب من فمه ليرتشف منه القليل:
-معلش، تلاقيني بس تعبان.
أخبرته على الفور في جديةٍ:
-طب قوم روح لمراتك، زمانها مستنياك.
من أجل خاطر زوجته قرر إرجاء تفكيره الانتقامي مؤقتًا، نهض من مقعده، وقال:
-معاكي حق، هي محتاجاني دلوقتي.
ابتسمت وهي تدعو له:
-ربنا يخليكم لبعض، ويخليك لينا.
بادلها ابتسامة صغيرة تبددت سريعًا حين أولاها ظهره، لينصرف بعدها وهو يسعى للسيطرة على غضبه الآخذ في التصاعد.
............................................................
أشفق على حال حفيده، وانزوى بغرفته يقرأ القرآن راجيًا المولى عزوجل أن يرده إلى صوابه، وألا يخسره في لحظة طيش هوجاء، فقد كان له بعد ابنه السند والسلوى. لم يعلم إن كان ما مر به لاحقًا هو حلمٌ عابر، أم رؤية مليئة بالبشرى، حيث أحس الجد "سلطان" أنه لم يعد بمفرده في غرفته، جاءت إليه من بين ضبابٍ غريب من افتقدها، أتت باسمة مثلما اعتاد أن يراها في كل وقت، وإن ثقلت الهموم على كتفيه، ثمة هالة آخاذة بها دفعته للهتاف باسمها في شوقٍ شديد:
-"فُتنة"!
أضافت رؤياها شعورًا متلهفًا على قلبه الملتاع، فراح يسألها في عتاب محب:
-فينك من زمان؟ كل ده غايبة عندي؟
أدمعت عيناه تأثرًا وهو يكمل:
-نفسي أجيلك أوي، بس اللي حايشني عنك الواد "تميم"، خايف أسيبه لوحده يضيع نفسه.
أمعن النظر في يدها، كانت تحمل لفافة بيضاء بها، قربتها من بصره، فحاول تبين ما بها؛ لكن نظره لم يسعفه، لهذا تساءل متعجبًا:
-إنت جايبة إيه معاكي؟
لم تجبه، فتابع أسئلته المتحيرة لها:
-دي ليا؟
هزت رأسها بالنفي، فانتقل لسؤاله التالي:
-أومال لمين؟
أشارت بعينيها إلى الصورة الموضوعة على الكومود المجاور لسريره، التفت ناظرًا إلى حيث تشير؛ كان الإطار الخشبي يضم صورة فوتغرافية له مع حفيده الغالي، فسألها مندهشًا:
-"تميم"؟
أومأت إيجابًا، ويدها ما تزال ممدودة باللفافة، حاول أخذها منها متسائلاً:
-فيها إيه؟
ضحكت تلك الضحكة المسرورة التي تدخل على قلبه الرضا، فابتسم باكيًا، كم اشتاق لسماع صوتها، للبقاء بقربها، للشعور بها! وكأنه لم يعد هناك ما يُقال بينهما، فبدأ طيفها في التلاشي، فزع قلبه، وهتف في حزنٍ ممتزج بكل اللهفة:
-"فُتنة"؟ رايحة فين وسيباني؟
اغرورقت حدقتاه بالدموع وهو يعاتبها لرحيلها الخاطف:
-أنا ملحقتش أشبع منك.
أفاق من غفلته الغريبة، والدموع ما تزال تبلل صدغيه، مسحها بظهر كفه مرددًا في غرابةٍ شديدة:
-لطفك يا رب.
عاود القراءة في مصحفه الشريف، فوقعت عيناه على الآية الكريمة: وَٱمْرَأَتُهُۥ قَآئِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَٰهَا بِإِسْحَٰقَ وَمِن وَرَآءِ إِسْحَٰقَ يَعْقُوبَ
وكأنه فهم الرسالة الخفية من وراء هذه الرؤية السارة، لذا حلت البسمة على وجهه المرهق، وقال في سرورٍ انتشر في نفسه:
-البشارة جاية قريب .. إنت الكريم يا رب!
...................................................
مثل تلك الأخبار المفجعة لا تأخذ وقتًا طويلاً في المعرفة والانتشار، حيث وصل النبأ إلى "آمنة" عن طريق إحدى معارفها بالبلدة، دون أن تلم بتفاصيل الوفاة أو كيفية حدوثها، اتصلت الأخيرة بها لتُعلمها لتجيء في التو، وتكون في مقدمة الحاضرين، وتقدم كامل الدعم لـ "سعاد" في مصابها الأليم، نظرًا لصلة القرابة بينهما، لم تحاول "آمنة" الاسترسال في الحديث معها، واقتضبت في ردودها المصدومة إلى أن أنهت المكالمة، عندئذ أطلعت ابنتها "همسة" –والتي كانت متواجدة معها في نفس الآن بالبيت- على الخبر الصادم، فتفاجأت بما حدث، وهتفت متسائلة في ذهولٍ تام:
-معقولة الكلام ده؟ طب حصل إزاي وإمتى؟
أجابتها بنبرة حيرى:
-محدش عارف يا بنتي، بس هانقول إيه غير ربنا خلص منه.
علقت عليها في غير أسفٍ:
-هو خد جزاته، ده بذنب "فيروزة" واللي عمله فيها.
غامت تعابير أمها، ورددت:
-أه والله، ربك مُطلع وشايف.
تساءل "همسة" في قدرٍ من الحيرة:
-طب تفتكري "فيروزة" عندها خبر يا ماما؟
حكت "آمنة" جبينها بإصبعها، وقالت نافية:
-ماظنش، ده أنا مش عارفة أوصلها ...
ثم أشارت بيدها نحو هاتفها المحمول المسنود على الطاولة لتتابع مفسرة:
-هي نسيت موبايلها هنا.
سألها "همسة" مرة أخرى وهي تميل على الأريكة الغافل عليها رضيعها لتتفقده:
-ومتعرفيش هي فين؟
جاوبتها في تعجلٍ:
-ما هي نزلت ورا جوزها من بعد اللي حصل.
سكتت ابنتها قليلاً كأنما قد استغرقت في أفكارها، لتقول لاحقًا في نوعٍ من التخمين:
-جايز يكونوا عند حماتها، مالهومش مكان تاني يروحوه.
اقترحت عليها "آمنة" في غير تفكيرٍ:
-تعالي نشوفها هناك، وبالمرة نعرفهم باللي حصل.
هزت رأسها موافقة، وأضافت:
-ماشي، أنا هلبس "رقية" تكوني إنتي جهزتي.
تحركت والدتها متجهة نحو غرفتها في عجالة، ولسانها يردد بنبرة عازمة:
-على طول أهوو.
....................................................
تهدل جلده، وتكرمش تحت عينيه بشكلٍ مخيف، عندما سمع الأنباء غير السارة من مهندسه الزراعي بشأن تعرض كامل محصوله للإصابة بآفة خطيرة أفسدت نتاج أرضه، وهو لا يزال موجودًا على عروشه. هبَّ "فتحي" واقفًا، ثم قال وهو لا يزال غارقًا في صدمته:
-معناته إيه الكلام ده؟
أخبره المهندس في نبرة آسفة:
-يعوض عليك ربنا يا حاج.
هلل مذهولاً بعد أن جحظت عيناه:
-يعوض عليا ربنا؟!!!
علق عليه المهندس في هدوءٍ محاولاً توضيح تبعات سوء اختياره:
-أنا نصحتك من الأول، وقولتك مافيش داعي نجرب حاجة مش مضمونة، النوع اللي استخدمته غير معروف، مالوش مصدر ولا أساس، وإنت أصريت على رأيك، فطبيعي تكون دي النتيجة.
تنشطت ذاكرة "فتحي" بلقاءٍ سابق جمعه بـ "فضل" وأحد مندوبي واحدة من المؤسسات الزراعية المتخصصة في إنتاج المبيدات المستجدة، كان اتفاقهم بشأن شراء ما ينقصهم بسعرٍ زهيد، من أجل خفض قيمة التكاليف، وجمع المزيد من الربح في نهاية الموسم الزراعي، فجاءت النتيجة عكس كل التوقعات، مخيبة للآمال، ومصيبة بالإفلاس.
كان وجه "فتحي" يلمع كأنه يفح النار وهو يصيح بنبرة أشبه بالزئير:
-الله ينتقم منه، هو اللي شار عليا الشورة الهباب دي، وأديني خسرت الجلد والسقط.
اندفع كالمجنون مواصلاً صراخه فيمن حوله بمضيفة منزله:
-شوفولي الزفت "فضل" ده فين!
جاءه الرد من أحدهم وهو مطرق الرأس:
-في أخبار مش ولابد يا حاج "فتحي".
هتف في حرقةٍ، والحنق يتقاذف من عينيه:
-تاني؟ هو في مصايب أكتر من كده؟
تردد الرجل في إخباره؛ لكنه نطق في نهاية المطاف بنوعٍ من الأسى:
-"فضل" تعيش إنت.
هتف مذهولاً، وهو يحاول الحفاظ على توازنه:
-مات؟
أكد عليه الرجل بأسفٍ:
-أيوه، لسه الخبر واصلنا من واد كان معاه في مشوار، وموته كانت صعب شويتين.
بحث "فتحي" عن أقرب مقعدٍ ليجلس عليه قبل أن يفقد توازنه من كم الصدمات، حل الهم بأنواعه على تقاسيمه وهو ما زال يدمدم في حرقةٍ:
-يعني هو مات وأنا اتخرب بيتي.
ظهر الغليل في صوته وهو يصيح داعيًا عليه، وضاربًا بكفيه على فخذيه:
-روح الله يجحمك مطرح ما روحت يا "فضل" يا ابن "سعاد"!!
..........................................................
كل اقتراحٍ فكر فيه تضمن مخاطرة غير محمودة العواقب؛ لكن لا مناص من درأ الأذى بشيءٍ رادع، أبطأ "تميم" من سرعة سيارته حين ظهرت بنايته على مرمى بصره، شمل المكان بنظراتٍ خاطفة ليبحث عن بقعة خالية يركن فيها. لحظه وجد منطقة مناسبة مواجهة للمدخل، فانتقل إليها على الفور، وأطفأ المحرك. ظل باقيًا لبرهة في مكانه، محاولاً تفريغ عقله من كم الأفكار المتزاحمة فيه، قطع رنين هاتفه المحمول الصمت المشحون المستغرق فيه، التقطه بيده من على التابلوه، وتحدث إلى المتصل بفتورٍ:
-أيوه يا "هيثم".
هتف الأخير في صوتٍ شبه لاهث؛ كأنما يمهد لشيء خفي:
-إنت فين يا "تميم"؟
تساءل في اقتضابٍ:
-خير؟
أجابه متسائلاً في غموضٍ:
-عرفت باللي حصل للبغل "فضل"؟
الإتيان على سيرته في هذا الوقت تحديدًا يعني استثارة أعصابه، وهذا ما لم يطقه "تميم"، انفجر صارخًا في ابن خالته بحقدٍ:
-ماله الـ (...) ده؟ عمل إيه تاني؟
ردد "هيثم" مندهشًا:
-تاني؟ هو كان في أولاني؟
صاح به "تميم" في صبرٍ نافذ للغاية:
-لخص في الكلام يا "هيثم".
تنحنح ابن خالته قبل أن يخبره بلمحةٍ من التشفي:
-بص هو لا هيلحق يعمل تاني ولا تالت، ربنا خده وريحنا من قرفه.
هبطت الخبر على رأسه كالصاعقة، فبرقت نظراته، وهتف مصدومًا:
-إيه!
أكد عليه فيما بدا أشبه بالشماتة:
-أه والله، أنا زيك مصدقتش لما مراتي قالتلي، بيقولك مات في حادثة بشعة، بس لسه معندناش التفاصيل.
من بين شفتيه ردد "تميم" في صدمة ما زالت لها تأثيرها عليه:
-يا سبحان الله!
علق "هيثم" قائلاً:
-أهوو ريح واستريح.
وكأنه يُحادث الفراغ، لم يكترث "تميم" لما يقوله، بل أخذ يكرر في صوتٍ خافت، يكاد يكون مسموعًا للطرف الآخر:
-صدقت يا أبويا لما قولت وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ..
.................................................................
لم تتوقف عن البكاء مُطلقًا بالرغم من تأكيدات "ونيسة" المتواصلة بأن زوجها بات في مأمن من الخطر، لم تقتنع "فيروزة"، ولم تصدق ذلك، ظنت أنها تحاول تهدئتها بهذا الكلام لتكف عن النحيب. بقيت في وضعية استنكارٍ رافضة الإصغاء إليها، حتى انعكس التأثير السلبي على بدنها، فبدت أكثر إعياءً، وذبولاً. حذرتها حماتها مجددًا بلومٍ رغم حنو نبرتها:
-يا بنتي ماينفعش اللي إنتي عملاه في نفسك ده!
كانت تبكي بصوتٍ متقطع، تهز رأسها برفضٍ صريح، فاستأنفت الأولى كلامها إليها، لعلها تتخلى عن عنادها، وتهدأ:
-ما أنا قولتلك عمك الحاج "بدير" راحله الدكان، وهو بخير.
ردت ببكاءٍ:
-لأ، مش هطمن إلا لما أشوفه قصادي.
وضعت "ونيسة" يدها على ذراعها، ضغطت عليها برفقٍ، وأكدت عليها في يقينٍ واضح:
-بصي طالما أبوه كلمه، اعرفي إنه مش هيخرج عن طوعه، وهيسمع الكلام.
نظرت إليها كأنما تفتش بين عينيها عن صدق عباراتها، فأضافت "ونيسة" في لطفٍ:
-وبعدين كنتي هتلاقيني أعدة كده قصادك لو هو فيه حاجة؟! أنا برضوه أمه، وبخاف على ولادي من الهوا الطاير.
على ما يبدو اقتنعت "فيروزة" قليلاً بحجتها المنطقية، فبدأت تسحب أنفاسًا عميقة تثبط بها نوبة بكائها، في حين قربت "ونيسة" صحن الفاكهة الذي أتت به لها منها قائلة بلهجةٍ شبه آمرة:
-كلي بس حاجة إنت وشك لونه مخطوف.
رفضت بشكلٍ قاطع تناول ما يسد جوعها:
-مش عاوزة.
ضربت "ونيسة" كفها بالآخر، وأخذت تهتف في تذمرٍ:
-لا حول ولا قوة إلا بالله، وذنب الأكل إيه تغضبي عليه؟
تمسكت برأسها قائلة في عندٍ طفولي:
-ماليش نفس، أنا عاوزة "تميم"، كلميه يا طنط.
أخبرتها في قلة حيلة:
-يا بنتي ما أنا طلبته قدامك كذا مرة ومردتش عليا، وأبوه دلوقتي هيجي ويجيبه معاه.
هتفت في لوعةٍ:
-يا ريت.
تنهدت "ونيسة" مضيفة في توجسٍ استبد بها، حاولت قدر المستطاع إخفائه:
-ربنا يسترها علينا وما يشمتش فينا عدو.
موجة من الدوار العنيف كادت تطيح برأسها، بالكاد تماسكت لئلا يظهر ضعفها، حاولت الظهور بمظهر الثبات وهي تستطرد في رجفةٍ طفيفة:
-طنط أنا هاقوم أستنى "تميم" جوا في أوضته.
ربتت "ونيسة" على كتفها مرددة:
-ده بيتك يا بنتي، ارتاحي مطرح ما تحبي.
من بين الحزن المرسوم على صفحة وجهها، ظهرت بسمة باهتة ممتنة على شفتي "فيروزة"، قبل أن تعود وتسحبها لتبدو عابسة من جديد. نهضت من مجلسها مغادرة الصالة، سارت في تؤدةٍ، وبغير اتزانٍ، نحو غرفته، استندت بكفها على طول الحائط الممتد في الرواق، إلى أن وصلت إلى الباب، دفعته بوهنٍ، ووطأت للداخل وهي بالكاد كانت على وشك فقدان وعيها، أغلقته من ورائها، ثم تقدمت نحو الفراش ملقية نظرة تعيسة عليها، بكت مرة ثانية، قبل أن تستلقي بجسدها عليه، تاركة لهذا الشعور العجيب بالإغفاء يغمرها، كأنما كانت تنشده لتريح عقلها المستنزف، وتستريح من أوجاعها اللا متناهية ....................... !!!