رواية لاجلها الفصل الثاني والعشرون 22 بقلم امل نصر


 رواية لاجلها الفصل الثاني والعشرون 

مدينتي فارغة،
مدينتي تحتاج إلى الحب كي يسكنها،
وإن ادّعيت غير ذلك، فاعلم أني كاذبة.
غربة القلب أقسى من غربة الأوطان،
وأنا لا أريد منك سوى الأمان...
الأمان في قربك،
حتى لو قابلت إحسانك برفضٍ مني،
فحقيقة الأمر هي غير ذلك على الإطلاق...
أنا أريدك...
وإن لم أعترف بها حتى أمام نفسي.

#مزيونة_بنت_الأحرار
#بنت_الجنوب

...........................

هل أصبحت عادة بالنسبة لها؟ أم هو شيء جميل لا تتمنى الاستغناء عنه؟
أن تراه يوميًا كل صباح،
بمجرد أن تطلّ برأسها من باب منزلها إلى الخارج،
أو حين تخرج المفروشات لتهويتها وتنشرها على الحبل المشدود أسفل شجرة التين في الناحية المواجهة لمنزله، كما يحدث الآن،
فقد كان يسقي تلك الشجيرات التي تنمو يومًا بعد يوم.

لا تدري متى ينام ومتى يستيقظ؟
فهو دائمًا ما يسهر ليلًا أيضًا في نفس المكان مع رجال حراسته،
وتستمر السهرة إلى وقتٍ متأخر من الليل،
وفي جميع الأحوال، يشاكسها بعينيه العابثتين رغم حديثه العادي... والعادي جدًا.

كان يعطيها ظهره في هذا الوقت، مندمجًا بتركيز تام في ريّ تلك النبتة الصغيرة التي جعل زراعتها قريبة من شجرتها،
فلم ينتبه لخروجها المنتظر حتى الآن،
وذلك لوقوفها في مكانها دون إصدار أي حركة،
ليست متعمدة، ولكن الفضول ربما، أو شيء آخر لا تعلمه،
يجعلها تلتقط فرصة انشغاله للتأمل ومطالعته.
في العادة يمنعها الحرج وجرأة أفعاله من النظر حتى في عينيه،
لعلمها جيدًا أنه لا يفوت هفوة عن التفسير والتلميح إليها،
أما في تلك اللحظات النادرة، فلا شيء يمنعها من التمعن في النظر إليه.

شَكليًا، في صفاته، لا يختلف أحد على وسامته الرجولية الخشنة،
كما أن له هيبة يراها الأعمى.
التعليم الجامعي طبع عليه حضاريته بوضوح،
أحيانًا يستفزها بجرأته وإصراره على كسر جمودها وتحفظها معه،
وهي بالطبع ترفض ذلك،
ولكنها لا تُنكر فضله،
يكفي وجوده بجوارها ليغمرها شعور تام بالأمان.
هو حولها، ومعها في أي وقت وزمان،
هذا لم تعلمه اليوم فقط،
بل من أول مرة دافع فيها عنها وعن ابنتها بتلقين "عرفان" درسًا قاسيًا بضربه،
وقتها رأت في عينيه نظرة دافئة لم ترها عند أي رجل غيره.

استفاقت من شرودها فجأة على التفاف رأسه إليها وابتسامة خبيثة ارتسمت على شفتيه،
وكأنه أمسك بها متلبسة بالجرم،
فاحتدت أبصارها نحوه، وتمالكت بأسها بحمحمة صغيرة منها تجلي حلقها كي تسيطر على ارتباكها،
وأقدامها تحركت بعملية:

– آآآ صباح الخير يا أبو ريان.
صمت برهة يشاهدها تنفض بيدها الملاءة الملونة قبل أن تتقدم نحو الحبل وتضعها عليه،
فردّ لها التحية:

– صباح الخير والهنا يا نسيبتنا.

حسنًا، ها قد بدأنا وصلة العبث والكلمات المبطنة بمعانٍ ذات مغزى...
كان ذلك ما يدور داخلها،
قبل أن يؤكد عليه هو بمزاحه:

– الواد ريان إمبارح نزلني في نص الليل أدوّر له على محل حلويات فاتح، وكله بسببك.

توقفت يداها عما تفعل، ورفرفت أهدابها بدهشة،
تشير بسبابتها على ذاتها سائلة:

– بسببي أنا!...... كيف يعني؟

ترك خرطوم المياه يسقط في الجدول الصغير،
كي يُقرب المسافة بينهما ويجيبها بمكره:

– ما هو من ساعة ما داق المعمول البيتي بتاعك، وهو اتعلّق بيه وعايز منه يوماتي.
وأنا بصراحة هتكسف أطلب من خواتي البنتة، ولا مرت أخوي،
أصل ما بحبش أتقل على حد.
في الأول نزلت بيه على المحافظة ندور على محل زين، واشتريله علبتين،
بس للأسف خلص إمبارح،
فاضطريت أدور على أي محل في البلد فاتح وخلاص،
أصل بيصعب عليا جوي، أكمنه وحيد... وملوش أخوات،
وأمه مش موجودة معاه عشان تعمله،
غلبان زي أبوه...

وتنهّد في الأخيرة بمسكنة كي يستجلب استعطافها،
وتصله النتيجة على الفور،
بهذا التأثر الذي اعتلى ملامحها حين تحدثت، متجاهلة الأخيرة:

– لا طبعًا مالوش حق، كان واجب يقولي، هو أنا غريبة؟
ده لو لمح بس جدام ليلى، هي كمان مكنتش اتأخرت وبلغتني.
على العموم، ملحوقة، النهاردة إن شاء الله أعمل له حبّاية كتار، يجعد فيهم شهر.

– ما عايزينش نتعبك يا نسيبتنا...

صدرت منه بنبرة مزجت بين لؤم ونعومة، أخجلتها،
فحاولت الانسحاب من أمامه حتى لا يتطور العشم بينهما لأكثر من عمل المعمول:

– مفيش تعب ولا حاجة، ده ريان زي ليلى، بتي ولا عيال أخوي.......

أوقفها مقاطعًا قبل أن تلتف عنه ذاهبة بسؤالها:

– بجالك يومين يعني ما زُرتيش ليلى، لحقتي تنشغلي عنها؟

– لاه، كيف؟ أنا كنت رايحالها النهاردة.

جاءت إجابتها بعفوية، ثم استدركت مستفسرة:

– وإنت عرفت منين صحّ إني ما زُرتهاش بجالي يومين؟

لو تعلم كيف يستمتع بمشاكستها حين يستفز ذلك الجزء البريء في شخصيتها،
ما كانت أجابته من الأساس.

– اشتكت لمعاذ، ومعاذ اشتكالي.

– اشتكت لمعاذ، ومعاذ اشتكالي؟

ردّدتها من خلفه بتساؤل، وكأنها لم تفهمها من المرة الأولى،
فاهتزت رأسه كإجابة،
لتتنهد داخلها بيأس من أفعاله، عائدة لتحفظها:

– تمام، أعدي عليها النهاردة إن شاء الله، أنا بس كنت مشغولة فعلًا...

– في إيه؟

جاءت الإجابة على سؤاله بظهور مفاجئ لتلك المرأة،
معلمتها المتجهمة دائمًا في وجهه، كلما وقعت أبصارها عليه:

– صباح الخير، عاملين إيه؟

ردّت مزيونة التحية، فقد أربكها حضورها المفاجئ قليلًا:

– صباح الفل يا أبلة اعتماد، وشّك ولا القمر. جيتي بدري يعني؟

ردّت اعتماد موجهة نظرة نارية نحوه:

– بدري من عمرك يا حبيبتي،
أنا قولت أبدر عشان ناخد درسنا في السريع بدل ما أروح المدرسة متأخرة،
وأخدلي كلمتين من المدير الزفت.
رجالة فقر ميجيش من وراها غير الفقر.

وكأنها توجه الحديث إليه،
طالعها بإجفال، يعقّب على قولها:

– ربنا يكفينا شر الفقر... صباحك خير يا أبلة اعتماد.

ردّت وهي تشير بيدها إلى مزيونة نحو باب المنزل،
فتحركت لتسبقها للذهاب،
فتلقي بردها إليه ساخرة:

– توك ما افتكرت، ولا هي وصلت متأخر.

سمعها حمزة،
فالتجم في أثرها لحظات حتى خرج صوته:

– جاااكي فرسة! نشّفتي دمي،
هو أنا بيني وبينها تار الولية دي؟!
...........................

وإلى منزل حمّاد القناوي

داخل شقة العروسين،
حيث تلك الجميلة التي تتمايل بردائها المدرسي أمام المرآة بعد انقطاع عن ارتدائه لأكثر من أسبوعين،
وهاهي اليوم عائدة إلى دراستها بكامل نشاطها،
بعد أن تمكنت من لملمة ما فاتها في وقتٍ قصير بفضله،
زوجها الحبيب الذي تكفّل بمساعدتها طوال الأيام الماضية بعد رجوعهما من السفر،
ساعات في استذكار الدروس، تقابلها لحظات حب تجمعهما سويًا،
تلك الأيام التي تحلم بها كل الفتيات،
أما هي فستخلّدها في ذاكرتها إلى آخر العمر.
ليتها تدوم إلى الأبد،
لكن ها قد آن أوان انغماس كلٍ منهما في مجاله،
هي في طريقها إلى مدرستها،
وهو من الغد، سيسافر إلى عمله في العاصمة...

وقد كان في هذا الوقت جالسًا بجذعه على فراش السرير، متكئًا على قائمته،
يتابعها منذ استيقاظها،
بهمٍّ يغلبه رغم روح الفكاهة التي يتمسك بها في تعامله معها:

– هتجعدي تتخايلي جدّام المراية كده كتير؟ شكلك ملكيش غاية،
أنا بجول نأجل يوم تاني، على الأقل تلاجي نفسك مستعدة.

سمعته، فالتفتت إليه ضاحكة:

– ولا نص يوم حتى! مش كفاية الأيام اللي ضاعت؟
نام يا حبيبي وبلاش تعشم نفسك،
الأساتذة جابوا آخرهم مني، وأنا معدتش عندي حجج.

– اممم...

زمّ شفتيه مطرقًا رأسه بحزن،
فخرجت من صدرها تنهيدة مثقلة،
واتجهت إليه، تجاوره على الفراش، قائلة بتأثر:

– خلاص، لو زعلان، أغيب النهاردة، ما جاتش على اليوم ده يعني.

رفع رأسه إليها، يوبخها ساخرًا:

– إنتِ عبيطة يا ليلى؟
مش جايلة بنفسك إن معدتش المدرسة هتقبل حججك؟
عايزة تترفدي ولا يجيلك إنذار على الأقل؟

طالعته بقلة حيلة:

– طب أعمل إيه طيب؟ ما انت زعلان...

تبسّم بمكر، يشاكسها:

– وافرضي زعلان...
أي حاجة أقولها هتبعيني فيها؟ ما فيكيش مخ؟

توهّجت مقلتاها، ولكزته بقبضتها على كتفه بانفعال:

– طب أنا الحق عليّ إنك صعّبت عليا...
ماشيه، وسايبهالك يا معاذ، بس كده!

سيطر عليها بقوته، يكبّل ذراعيها بيد واحدة، ثم قبّل جبهتها،
وقال بجدية تخللت نبرته:

– خلاص، اهدي... أنا بهزر معاكي.
ثم افرضي يعني غيبتي بالفعل،
ما أنا كده كده هسافر من بكرة، وأغيب عنك بالأسابيع...
ده اللي شاغل بالي يا ليلى،
مش يوم المدرسة اللي هتاخدي فيه ساعات بس وراجعة تاني.

خمدت شراستها بتأثر، وارتخت يداها عن ضربه،
ناظرة له ببراءة قادرة على سحق مقاومته لشياطين رأسه،
التي تدعوه لرمي كل الوعود والالتزامات خلف ظهره ويطيع أهواءه،
لعدم تركها أبدًا...
ولكنه يحمد الله أن ما زال فيه ذرة من عقل تنهيه وتصرفه عن ذلك،
فيردف لها برجاء:

– لاه لاه، بلاش يا غالية تبصيلي بعينيكي الحلوة دي وتطلعيها في دماغي صح،
جومي يا ليلى من جاري الله يخليكي...
قومي روحي مدرستك، هتتأخري عليها،
شوية كمان وأنا مش هضمن نفسي.

...........................

وفي الأسفل، حيث مائدة الطعام.

ارتصت أنواع متعددة من الأطعمة للإفطار،
ولم يتبقَّ سوى اللبن الساخن،
وقد أتت به "حُسنية" تحمله في وعائه المخصص،
لتكمل به الوجبة المتكاملة، وتضعه على المائدة،
قبل أن تشاركهم الجلوس،
تلقي نظرة شاملة على الحضور قائلة:

– ما شاء الله عليكم،
محدش فيكم طلع يصحي معاذ ولا عروسته ياجوا يفطروا معانا؟
ما تخلي حد من عيالك يطلعلهم يا هالة،
ولا روحي شوفيهم إنتي.

سمعت منها الأخيرة، فتوقف الطعام بفمها،
وجاء ردها بحنق:

– إنتي عايزاني أنا الكبيرة أطلعلهم يا مرت عمي؟
وهمّا ما ينزلوش لوحديهم ليه؟ مش عارفين اللي وراهم؟

وجمت "حُسنية" تطالعها بإجفال لحدّتها غير المبررة،
فزفر "خليفة" الذي تابع الموقف منذ بدايته، لينهرها بدوره:

– خلاااص... وفّري كلامك الماسخ،
عنك ما طلعتي،
أنا هرن عليه من مطراحي وأصحيهم... ولا العوزة ليكي.

تمتم بها بنزق، فأفحمها عن الجدال،
ليتناول هاتفه، ويشرع في الاتصال بشقيقه،
لكنه انتبه لهبوط الاثنين الدرج بكامل هيئتهما للخروج،
فتراجع عن الاتصال،
مقرّبًا رأسه من هالة، هامسًا بضيق:

– حرام تجمّلي نفسك شوية، بدل ما تبقي مكشوفة كده جدام الكل.

عدّلت رأسها نحوه، تحدجه بنظرة نارية لم يأبه بها،
ليصرف نفسه عنها، ويوجه اهتمامه نحو العروسين وترحيب والدته المحب لهما:

– يا ما شاء الله عليكم،
الله أكبر، دول نازلين لوحديهم، أهاه، من غير ما نبعت حد!
أنا لازم أبخّركم النهاردة قبل ما تطلعوا.

تبسّم الاثنان لحفاوة الاستقبال المبالغ فيها من المرأة وباقي الحضور،
حتى "خليفة"، الذي أشرق وجهه،
وتحوّل تمامًا إلى مشاكسة شقيقه وعروسه المحظوظة كما رأتها الآن "هالة".

وقد انصبت أبصارها عليهما،
على "معاذ" الذي كان ملتصقًا بها، وكأنه يرفض ابتعادها عنه تلك اللحظات،
فرحته بها، وهذا العشق المبارك من الجميع،
شيء يدعو للتساؤل والتعجب...

– تعالوا يا عرسان تلحقوا الأكل الصابح وهو سخن.
تفوهت بها "حُسنية"، وكان رد "معاذ":

– مش هينفع يا حسنية، يدوب أوصلها بالعربية.

– معلش يا أمي، لما يرجع بجى أبقي اكليه براحتك.
قالتها "ليلى"، لتصيح "حُسنية" ببهجة شديدة:

– يا ختي على "أمي" اللي طالعة من بوقك زي العسل!
تعالي يا بت، أبوسك في خدك على الكلمة الحلوة دي، جربي يا بت!

انصاعت "ليلى" وهرولت تقترب منها بمرح،
وأعطتها خدها، فقبلتها هي أيضًا،
فدلف "حمزة" على هذا المشهد معلقًا هو الآخر:

– يا ما شاء الله عليكم!
طب واقفين ليه؟ ما تجعدوا، خلي نفسي تتفتح أنا كمان معاكم!

– هرجعلك يا حمزة أفطر معاك.
قالها "معاذ"، وهمّ بالذهاب مع زوجته،
فتمتمت هي الأخرى بعجالة:

– وأنا على الغدا بجى يا عم يا حمزة،
تأخير أكتر من كده مش هلاقي حد يدخلني المدرسة!

– روحي يا بتي، وربنا يوفقك... اللهم آمين.

علّقت بها "حُسنية" بطيبتها،
أما "حمزة" فلم يتركها تتخطاه دون أن يوقفها:

– استني هنا... خدي قبل ما تمشي.

فتحت "ليلى" الكف التي تناولها،
فجذبها على حين غرّة، واضعًا بها شيئًا ما،
لتتفاجأ بورقة نقدية من فئة المئة جنيه،
فأصابها الحرج، وشرعت في إعادتها:

– لا يا عم حمزة... مينفعش...

قاطعها بحزم، مشدّدًا على أحرف كلماته:

– دااا مصروفك من هنا ورايح...
زيك زي "ريان"،
وده مفيش فيه نقاش ولا أخد ورد،
يلا على مدرستك.

همّت بالجدال،
لكن "معاذ"، الذي انتفخ صدره بفعلته،
أوقف الكلمات في حلقها:

– جالك مفيش فيه نقاش،
اخلصي... خلينا نلحق الحصة الأولى حتى.

وسحبها فجأة، ليهرول بها بخطواته السريعة،
وصوتها يصدح معه:

– طب براحة، هتوجعني يا معاذ!

ضحك جميع الحاضرين من كبار وصغار لمشهدهم،
إلا "هالة"...
فقد بات الأمر أمامها أقسى من قدرة تحمّلها.

...........................

وفي داخل فناء السجن المركزي

حيث اليوم هو خروج "عرفان"،
وقد كان وسط مجموعة من زملائه الذين يودعونه بطريقتهم الخشنة في المزاح الثقيل،
وضحكاتهم تجلجل في قلب المكان، ليثيروا انتباه الموجودين والمارة أيضًا.

حتى أتى "عطوة" من العدم،
يرمي بثقله عليه، متمتمًا:

– هتوحشني يا صاحبي،
هتوحشني يا "عرفان" يا ولد بلدي!

رغم تفاجئه وانزعاجه من تلك الطريقة في توديعه،
إلا أنه تماسك، يربّت على ظهره ويجاريه:

– تشكر يا "عطوة"، دا من أصلك،
وإنت كمان هتوحشني، بس إحنا هنروح من بعض فين؟
كلها تلات تشهر وتحصلني.

خرج "عطوة" من حضنه، يضيف على كلماته:

– هو دا اللي مصبّرني يا صاحبي،
إني هطلع ونعيد صحبتنا تاني،
بعد الفتنة اللي حصلت ما بينا وبعدتنا عن بعض،
بس إنت أخيرًا فهمت اللي فيها... أها، مسامحني يا صاحبي؟

للمرة التي لم يعد يذكر عددها يناديه "صاحبي"،
وكأن بلعبته الأخيرة في التحايل على القانون ليخرجه من القضية،
قد أهداه الحرية.

هذا الأحمق، يبدو أن الغباء قد استبد به،
ونسي أن القضية تخص من إليه بالأساس!
يعني، إن لم يتأكد من صدق الرواية التي أدلى بها،
فعواقب الكذب ستكون عليه أقسى حتى من تخيله.
هل يظن أن التعرّض لعرضه شيء هين؟!
... ولكن، كل شيء في وقته.

– ملوش لازمة منه الكلام ده يا "عطوة"،
شد حيلك بس،
ولما تطلع... تعلالي على طول،
هتلاجيني مستنيك يا غالي.
....................................

توقف بسيارته لينتصب واقفًا، يطالع المبنى الذي يُجرى العمل على بنائه بواسطة الشركة المعروفة.
ارتفعت رأسه نحو المخطوط على اللوحة المعدنية في تلك المنطقة الصحراوية، القريبة من بلدتهم:
"مجمع مباني المشفى المتخصص لأبناء المدينة الجديدة والقرى المجاورة لها"،
وهو المشروع الذي تتولى الشركة إنشاؤه، تمامًا كما فعلت من قبل في مبنى الوحدة الصحية ببلدتهم قبل عدة سنوات،
حيث كان لقاؤه الأول بها...

واقفة وسط العمال، تُشرف وتُلقي بأوامرها على رجال لا يصلون لنصف حجمها،
ولا يجرؤ أحدهم على رفع عينيه إليها،
تمامًا كما يحدث الآن أمامه، وكأن الزمان لم يتحرك لحظة.
ما زالت كما هي، لم تتغير...
واثقة، ناعمة، وجميلة.

لا يدري ما الذي أتى به إلى هنا؟
هل يوجد في هذا العالم رجل يعشق تعذيب نفسه مثله؟
ربما... لكن يكفي هذا، عليه أن يغادر.

ارتد بقدميه بالفعل عائدًا إلى سيارته، يهمّ بالمغادرة،
ولكن أوقفه ذلك الصوت الذي تعشقه أذنه،
ليتوقف رغم إرادته، يتابع نداءها باسمه، بعد أن انتبهت إليه كما يبدو:

– خليفة... يا خليفة، استنى!

أغمض عينيه، يستمتع برنة الصوت الناعمة،
سحب دفعة من الأكسجين، ثم زفرها ليملك بأسه،
واستدار إليها، يطالع اقترابها رويدًا رويدًا، حتى وصلت إليه لاهثة:

– في إيه يا عم؟ بقالي ساعة بنده عليك.

برّر بابتسامة لم تصل إلى عينيه:

– سامحيني، مخدتش بالي... هو انتِ بتندهِي بجالك كتير؟

أومأت برقة:

– مش كتير أوي يعني...
أنا يدوب خدت بالي وإنت واقف مدّي ضهرك،
رحت جاية على طول أتأكد وأسلم عليك،
هو إنت هنا بقالك كتير بقى؟

أجاب وعيناه تحاولان الهرب من خاصتيها، ومع ذلك لا ينجح:

– إحنا أصلًا لينا أرض قريبة من هنا، وأنا جاي من هناك دلوك،
لقيت الفضول موجفني أشوف المشروع الجديد،
بس ما كنتش أعرف إنه تبع شركتكم.

تنهدت باسمه، تعلق على قوله:

– آه بقى، ما إحنا ماسكينه قريب بدل الشركة اللي كانت موقفاه،
المهم... إنت عامل إيه بقى؟
وريّان قلب مامي وحمزة؟
ما تقولهم هما كمان يعدّوا عليا، مدام أرضكم قريبة من هنا زي ما بتقول.
أنا باجي هنا يومياً على فكرة!

صمت حتى انتهت من إسهابها، يومئ برأسه كاستجابة،
بعد أن تمكنت من قلب فرحته بلقائها إلى تذكير صارخ بأولوياتها في الحياة،
التي لم ولن يراها يومًا...

– تمام يا هالة... هجولهم الاتنين يبجوا يعدّوا عليكي.

---

مساءً
وقد أتت اليوم في زيارة لابنتها، بعد غياب لم يتعدَّ الثلاثة أيام،
وكانت نتيجته شكوى وصلت إليها، لتعبّر عن استيائها منها الآن:

– بتشتكيني لجوزك يا ليلى عشان بس اتأخرت كام يوم؟
أمال لو زوّدت، هتعملي إيه يا بت؟
وأنا اللي جولت إنك كبرتي وعجلتي في جوازتك دي!

تعقيبًا على قولها، ردّت ليلى بتشتّت:

– أنا اشتكيتك يا أمه؟
مين اللي قالك كده؟
أنا يمكن زعلت صح، بس مش لدرجة الشكوى!

– زعلتي!

زفرت "مزيونة"، تردف بغيظ:

– على تلت أيام يا موكوسة زعلتي؟
يبجى كده بلغتي جوزك،
والمحروس اللي ما يتبلّش في خَشمه فولة،
بلّغ الغضنفر التاني، طب يمكن كنت تعبانة!

صدر منها شهقة عالية تقارب الصرخة، مرددة بهلع وقد اقتربت منها تتفحصها بعينيها:

– تعبانة!؟
حاسة بإيه؟ جوليلي، أجيبلك دكتور!

صاحت بها:

– الله يخرب مطنك يا شيخة!
يا بت انتي مفكيش مخ؟
أنا بجول يمكن... يمكن!
مكنتش تعبانة ولا حاجة، زينة وتمام،
لكن غيبت يا ستي... فيها إيه يعني؟
لازم تتعودي يا بت!

وجمت ليلى، بملامح تذكرها باحتياجها الدائم لها،
مهما وجدت السعادة مع زوجها:

– مفيهاش حاجة...
بس أنا مهما شفت من محبة في البيت هنا،
عمري برضو ما هتعود على بعادك،
ده غير إن معاذ من بكرة هيسافر،
يعني انتي كده لو زودتي في الأيام، يبجى عايزاني أتعوّد على الوحدة؟
معقولة تسيبيني يا أمه؟

نفت لها "مزيونة" بهزّة من رأسها:

– لاه طبعًا... إن شاء الله أجيلك دايمًا، بس...

– بس إيه؟

صمتت "مزيونة" لحظات...
فكيف تخبر ابنتها الصغيرة عن تلك المشاعر المتناقضة التي تنتابها في هذا المنزل؟
محبة شديدة من معظم أفراده،
لكن... نظرات غريبة من تلك المدعوة "هالة"، رغم ادّعائها غير ذلك،بالإضافة إلي حمزة... الذي...
لا تعلم، ولا تريد التفكير في الأمر...
لكنها دائمًا ما تفضّله كجار في بيتها، أما هنا؟
لا... لا تريده أصلًا، لا تريد حتى رؤيته!

– سرحتي في إيه يا أمه؟
خَطفتها ليلى من شرودها، فتنتبه، وتغيّر دفة الحديث سريعًا:

– سيبك... ما تحطيش في بالك،
المهم شوفي السلة اللي عند الباب دي،
طلّعي منها الحاجات اللي فيها، وهاتيها ورايا على المطبخ، نرتّبها في التلاجة.

سمعت منها ليلى، وتحركت بالسلة حتى وضعتها على أرضية المطبخ،
تُخرج الطعام المُعدّ من والدتها داخل أوانٍ مُحكمة الغلق:
الحمام المحشي بالأرز – فهذا شيء أساسي –
ثم أنواع أخرى،
لكن ما لفت انتباهها تلك العلب البلاستيكية المغلقة،
التي ما إن قامت بفتح غطائها لتكتشف محتواها، حتى هتفت بلهفة نحو والدتها،
التي كانت بدأت في جلي الأطباق بحوض الغسيل:

– معمول! عملالي معمول!

سمعت منها، لتلتف نحوها بتذكر:

– أيوه، استني بس... أنا عاملة علبتين،
واحدة ليكي، وواحدة لريّان.

– ريّان؟!

– أيوه، ريّان... أصلّي عرفت إنه بيحبّه...

لا تعلم "مزيونة" لماذا برّرت عبارتها بنوع من الحرج الذي شعرت به فجأة،
لكن ليلى صاحت بمرح، تركض بالعلبة:

– ده أكيد هيفرح بيه جوي!
أنا هروح أدهوله بنفسي!

– استني يا بت!

لم تسمع منها...
وقد ركضت بالعلبة لتُفرح الصغير،
ووقفت هي مكانها بتوتر...
لا تعلم سببه.
...............................

حين خرجت من شقتها تبحث عن الصغير، وقفت في الشرفة الشاسعة التي تتوسط الطابق، لتنظر إلى الأسفل، فوجدته يلعب مع أقرانه.
نادت باسمه:

– ريان... يا ريان!

حين التفت إليها، أشارت بيدها كي يصعد وحده، وملامحها تنبئ بأنهّا ستخبره بسر ما،
مما حفّزه أن يذهب سريعًا دون أن يسحب معه البقية، ليعرف ماذا تريد.

...

أما والده، فقد كان في هذا الوقت يصطف بسيارته داخل الفناء الضخم للمنزل، عائدًا من الخارج،
يُجري مكالمة هامة مع أحدهم:

– طلع من الصبح؟ انت متأكد من كلامك ياض؟ الراجل ده فعلًا طلع؟... طب اسمع زين، عايزك تخلي بالك منه وتجيبلي أخباره أول بأول... زي ما بقولك كده، انت نفّذ وبس... تمام.

أنهى المكالمة، يزفر بضيق متعاظم، وهمٌّ يجثم على صدره.
لقد خرج هذا الشقي يحمل بيده صك البراءة من الجريمة المخزية،
وهو الأعلم بما يدور برأسه الآن.

خرج من سجن استمر لشهور،
وهو لم يتقدّم ولو خطوة واحدة في علاقته بتلك العنيدة،
التي تفرض سلطة عقلٍ ممتلئ بعُقد الماضي
على قلبٍ سلّم الراية منذ فترة ليست بالقليلة.
لكن... لا حيلة له.

زفر بضيق، ثم دلف إلى داخل المنزل،
وألقى التحية على والدته التي تتخذ من المقعد في وسط الردهة مجلسًا دائمًا لها،
ثم سقط بجسده بجوارها:

– مساء الفل يا ست الحبايب.

ردّت ببشاشتها المعتادة:

– مساء الفل والهنا يا نور عيني... شكلك جاي تعبان يا ولدي؟

أومأ لها بضيق، يرمي حُجّته على العمل، دون الإفصاح عن السبب الحقيقي:

– معلش، بجى النهاردة كان يوم مليان شغل ومقابلات ولتّ وعجن... يلا، الحمد لله.
مش متعوّدة تجعدي لوحدك؟ فين بقية الشعب؟

ضحكت حسنية تجيبه بسجيتها:

– يا خوي، ربنا يزيد ويبارك.
على العموم، لو قصدك على أخواتك البنتة، فدول في بيوتهم، مفيش ولا واحدة جات منهم النهاردة.
أما عن خواتك، فخليفة نايم فوق، ومعاذ راح يجعد شوية مع أصحابه قبل ما يسافر بكرة على شغله.
أما عن حريم إخوتك، فهالة... انت أدرى بيها، زي الجن، تخفي وتظهر فجأة.
وليلى معاها أمها دلوك.

– بتقولي مين؟
تمتم بها، معتدلًا في جلسته، مردفًا باهتمام:

– يعني مزيونة جاعدة فوق عند بتها دلوك؟

أومأت بجفنيها، وشبح ابتسامة بزغ على ثغرها، قائلة بمكر:

– طلعت بجالها ييجي ساعة... قعدت معايا لحظة قبل ما تروح لبتها.
شوية كده وتلاقيها نازلة، حكم إنها عزيزة النفس، ما تحبش تأخر نفسيها أبدًا.

بدوره، أومأ هو الآخر، يدّعي التفهّم:

– أيوه، صح... أنا برضو واخد بالي منها في الحتة دي... أآآ...

قطع الحديث بتشتّت، وقد تاه عقله بين رغبة ملحّة في الصعود ورؤيتها،
بحجّة يختلقها من أجل ذلك،
أو الانتظار المرّ، وذلك ما يملكه الآن، ولا حيلة له بغيره.

لكن...
لم يكن حظّه سيئًا لتلك الدرجة،
حين وصله صوت صغيره، مختلطًا بصوتها وصوت ليلى،
تنبهت حواسه، واعتدل باهتمام شديد، يتابع هبوط الثلاثة على الدرج:

– أنا هغيظ بيه كل العيال النهاردة يا خالة مزيونة، واللي ياخد واحدة يدفع تمنها الأول!

– وه للدرجة دي عاجبك يا ريان؟

– جوي جوي يا خالة.
قالها ريان ردًا لها، وأيدته ليلى بشقاوتها:

– جدع يا ريان! أيوه كده، اتعلم تبقى تاجر شاطر من صغرك.

– شوف يا خوي مين اللي بتتكلم! أخيب واحدة في العالم بتدي نصايح!

شهقة استنكارية عالية صدرت من ليلى، هاتفة بها:

– أنا يا أمه؟ أنا برضو خايبة يا أمه؟!

– أيوه إنتي يا عين أمك، أمال أمي أنا؟!
قالتها "مزيونة" بضحكة جلجلت بمرحها، غافلة عمن اهتز قلبه فرحًا بداخله...
فقد كانت هذه أول مرة له يسمع ضحكتها المنطلقة دون تحفظ،
ضحكة تتعمد كتمها مع جميع البشر،
إلا هذين الاثنين: ابنتها ليلى... وفخر العرب، ابنه ريان.

والذي كان أول من انتبه إليه منهم،
ليكمل باقي الدرجات نحوه راكضًا...

أبوي، ابوي،  شوفت خالتي مزيونة عملتلي ايه؟
خجلت الاخيرة تبتلع ريقها بحرج شديد، فهذا ما كانت تخشاه، والان يتحقق مع رد فعله وهو يتذوق واحدة من يد صغيره متلذذًا بشدة:

- امممم تسلم يدها، دا احلى كمان من اللي اشترناه من محل امبارح واللي قبله يا ريان .
قدم ريان واحدة آخرى ممن يحتفظ بهم داخل كفه إلى جدته والتي تناولت منه هي ايضا،  لتعبر عن إعجابها:

- يا ماشاء الله، تسلم يدك يا بتي، حلوة جوي صح زي ما جال ريان وابو ريان، بس مش عيب يا ولدي تملى كفك من حاجة العروسة؟

تدخلت هنا ليلى تزيد على الطين بلة بعفويتها:
 - لا ما هو مش من بتوعي، ريان امي عملتله علبه كبيرة لوحدة لما عرفت انه بيحبه زيي .
تمنت مزبونة أن  تنشق الأرض وتبتلعها، فرغم أن ما قامت به كان بمحض نيتها الطيبة لا تقصد من خلفه شيء، ومع ذلك شعرت الان بحنق شديد، وكأنها وقعت بفخ نصبه لها ذلك الماكر والد الطفل، كم تود خنقه.

- يعني امك عملت علبة معمول كاملة لريان؟
جاء التساؤول فجأة من تلك التي ظهرت ايضا فجأة، لا احد يعلم من أين خرجت او أتت ، تطالع مزيونة بأعين حادة ، حتى جعلت حمزة يقطع عليها، موجها خطابه للأخرى:
-  تشكري يا ست مزيونة، والله وفيكي الخير، جبرتي بخاطر ريان ولدي مجرد بس ما عرفتي انه بيجيب المعمول .

أضافت ايضا حسنية:
- طبعا امال ايه، مش بعيد عليها بت الأصول، ربنا يبارك في صحتك يا بتي، والله اللي عملتيه ده عجبني انا كمان، تسلم يدك.
اومأت مزيونة برأسها في رد للأثنان،  متجاهلة تلك التي صارت تخرج دخان احتراق منها ، فتستأذنهم:

- الله يسلمكم انتو الاتنين، اسيبكم بجى بعافية، اصل عايز اعدي على اخوي قبل ما اروح بيتي.
هم حمزة أن يمنعها عن الذهاب ولكن اوقفه دوي هاتفه باتصال من الرقم الذي كان يحدثه منذ قليل،  وما ان شرع بأن يجيبه حتى دخل احد الاطفال من ابناء اخيه مناديا:

- عمي حمزة ، في واحد برا طالب يدخل يشوف مرة عمي ليلى .
- وه 
انتفض حمزة هادرا نحو الصغير امام دهشة ليلى ووالدتها:
- مين يا مخبل انت اللي طالب يشوف مرة عمك كدة مرة واحدة،  دا مجنون دا ولا ايه؟

- لا مش مجنون، دا بيقول انه ابوها.
تفوه بها الصغير لتأتي كصاعقة ضربت رؤوسهم، وتابع حمزة بعدم تصديق:

- ابوها مين يا واض؟ هو اي حد يقولك كلمة تصدقها؟
فينه الراجل ده، خليني اشوفه.
- انا اها يا حمزة باشا، جايلك بنفسي عشان تتأكد. 

جاء الصوت من مدخل المنزل، من قبل عرفان الذي دلف بصحبة زوج ابنته معاذ، يرافقه بوجه متجهم، اظهر حجم الضيق الذي يشعر به، وهو يدعوه مضطرا:
- اتفضل يا عمي طبعا البيت بيتك .

تعليقات



×
insticator.com, 6ed3a427-c6ec-49ed-82fe-d1fadce79a7b, DIRECT, b3511ffcafb23a32 sharethrough.com, Q9IzHdvp, DIRECT, d53b998a7bd4ecd2 pubmatic.com, 95054, DIRECT, 5d62403b186f2ace rubiconproject.com, 17062, RESELLER, 0bfd66d529a55807 risecodes.com, 6124caed9c7adb0001c028d8, DIRECT openx.com, 558230700, RESELLER, 6a698e2ec38604c6 pmc.com, 1242710, DIRECT, 8dd52f825890bb44 rubiconproject.com, 10278, RESELLER, 0bfd66d529a55807 video.unrulymedia.com, 136898039, RESELLER lijit.com, 257618, RESELLER, fafdf38b16bf6b2b appnexus.com, 3695, RESELLER, f5ab79cb980f11d1