![]() |
رواية ليس لها ذنب الفصل الثاني بقلم ميلي ميس
في بيت الجبّار، كانت التحضيرات على قدمٍ وساق. الزينة تملأ القصر، والضيوف على وشك الوصول، وكل شيء جاهز لحفل زفاف يُفترض أن يكون سعيدًا… إلا في غرفة تقع في نهاية الرواق الطويل، حيث جلست نور منهارة فوق سريرها، وعيناها دامعتان، ويديها ترتجفان.
لم تستوعب بعد أنها على بعد ساعات من أن تصبح زوجة لرجل لا يحبّها، بل يحتقرها… رجل كل ما يريده منها هو الانتقام لما فعله والدها.
فُتح باب الغرفة بعنف، ودخلت نيرمين وعلى وجهها تعبير ازدراء واضح، وهي تحمل الفستان الأبيض ببرود:
— الفستان يا هانم، ياريت تتجهزي بسرعة… العريس على وصول!
رفعت نور رأسها بحدة، وعيناها ممتلئتان بالدموع والغضب:
— مستحيـــــل! أنا مش هتجوزه! حتى لو دا آخر يوم في عمري!
في قصر الأسيوطي، كان المشهد مختلفًا تمامًا… سارة تتدلّع في أحضان سليم، في وضع أقلّ ما يُقال عنه إنه غير لائق، وهمست له وهي تقترب من أذنه:
— كان نفسي تبقى كتب كتابك عليّ النهاردة بدل الحقير*ة دي…
ابتسم سليم، ابتسامة باردة كلها خبث:
— ما تنسيش يا سارة… أنا بتجوز بنت الوَاط*ي دا علشان أوجعه… وعلشان أحرق قلبه.
اتجه بخطاه الثقيلة نحو الباب وهو يقول ببرود:
— جه الوقت إني أروح أتمم على الانتقام…
في قصر الجبّار، كانت نيرمين قد وصلت للصالون وهي تتنفس بغضب:
— الهانم رافضة تجهّز، وبتقول مستحيل توافق على الجوازة!
ظهر الغضب واضحًا على وجه حازم، فهب واقفًا مستعدًا للصعود إليها بنفسه، لكن ثريا أوقفته بوضع يدها على ذراعه، وابتسامة خبيثة على وجهها:
— استنى… عندي خطة.
وبعد لحظات، كان حازم يدخل غرفة نور، ملامحه حزينة، وعيناه فيهما شيء لم تره من قبل… الندم.
اقترب منها ببطء، وصوته يخرج ضعيفًا كأنه يستجدي الرحمة:
— نور… يمكن عمري ما كنت الأب اللي تستحقيه… بس صدقيني، كنت بحبك.
كنت بتابعك من بعيد، وأمّك اللي كانت دايمًا رافضة أقربلك.
ومن يوم ما عرفت إن أيامي معدودة… ما بقيش عندي وقت.
نظرت له نور بعينين دامعتين. وبرغم كل شيء… هو والدها، قطعة من دمها.
همست بصوت مرتجف:
— كذّاب… لو كنت بتحبني فعلًا، ما كنتش تبيعني لسليم!
أنت عارف إنه بيتجوزني علشان ينتقم… وبتعمل كده علشان تنقذ بناتك التانيين؟
اقترب منها أكثر، وصوته صار أكثر دفئًا وصدقًا:
— لا يا نور… انتي فاهمة غلط.
أنا مختارتكيش علشان أنقذ إخواتك… أنا اخترتك علشان انتي الأقوى فيهم.
نيرمين اتدلّعت طول عمرها، ما تقدرش تتحمّل ضغطة.
ولينا… انتي عارفة وضعها الصحي.
بس انتي… قلبك قوي.
أنا واثق إنك قادرة تحمي العيلة… قادرة تنقذينا كلنا.
ثم أكمل، وهو يضع يده على صدره، وألم واضح على وجهه:
— أنا ما أجبركش… القرار قرارك.
قلتلك كل اللي في قلبي… والباقي بيدك.
فجأة، فقد توازنه، ومال بجسده وهو يمسك قلبه، مما دفع نور للركض ناحيته صارخة:
— بابااااا!
وفي لحظة دخلت ثريا بسرعة، وصوتها يرتجف من القلق:
— حبيبي! الدكتور قال لازم تبتعد عن أي ضغط!
لكن حازم تمسّك بكلماته، وصوته مكسور:
— نور مش هتتجوز إلا برضاها… ولو رفضت… جهزي نيرمين!
صرخت ثريا بحدّة:
— نعـــم؟!
وما إن انتهت الكلمة حتى صرخ حازم بألم شديد، ممسكًا صدره وكاد أن يسقط.
صرخت نور، وهي تهرع إليه بفزع:
— خلاص! أنا موافقة… أهم حاجة تكون بخير… أرجوك ما تسيبني!
ابتسم والدها، بوجه شاحب وألم يخفي وراءه ارتياحًا:
— كنت عارف… قلبك كبير… وعمره ما هيقبل دمار إخواتك.
نظرت ثريا إلى المشهد، وشفتيها ترتجفان من الداخل، ثم ارتسمت على وجهها ابتسامة ماكرة… لقد نجحت خطتها كما أرادت تمامًا.
بعد مدة وصلت عائلة الأسيوطي إلى بيت "الجبار".
كان الدخول مهيبًا، تتقدّمهم سيارات فاخرة بزجاجٍ أسود يعكس هيبة لا تُقاوم، ومن خلفها خرج سليم بخطى ثابتة كأن الأرض لا تهتز تحت قدميه، تتبعه والدته و سمية بنظراتها المتعجرفة، وإلى جانبهم المأذون الذي بدا كتمثالٍ شاحب وسط هذا الجو المشحون.
دخلوا إلى القصر بكل غطرسة وكأنهم ملوك جاءوا لفرض سيطرتهم، لا كعائلة تزف ابنها.
ثريا وقفت عند رأس السلم تستقبلهم بابتسامة مصطنعة لا تخفي قلقها، بينما ظهر التوتر واضحًا في عيني حازم وهو يخطو نحوهم.
قال سليم بصوت عميق، حاد كالسيف، يخترق الصمت ويهز جدران القصر:
"فين بنتك يا حازم؟ نخلّص بسرعة."
جملة قصيرة، لكنها كفيلة أن تزرع الرعب في قلب كل من سمعها، وبالفعل، ارتبكت ملامح حازم وهو ينظر نحو الخادمة قائلاً بصوت متوتر:
"اناديلي نور حالًا!"
وبينما عمّ الصمت أرجاء المكان، علت أصوات خطوات خفيفة من أعلى الدرج، ثم ظهرت نور.
كانت ترتدي فستانًا أبيض بسيطًا، لا زخارف فيه ولا بهرجة، لكن فيه من الهيبة ما يفوق كل الزينة. طرحة شفّافة تغطي وجهها، تخفي دمعة معلّقة بين الرموش، وتكتم ارتجافة قلبها المكسور.
نزلت السلالم ببطء، كل خطوة كأنها تدوس على كرامتها، لكن في عينيها لمعة تحدٍ خفي، خافتة… لكنها موجودة.
المأذون فتح دفتره، والأنظار كلها على العروس المكسورة والعريس المتجمد، لتبدأ إجراءات كتب الكتاب سريعًا، بلا فرح ولا زغاريد، فقط أصوات تواقيع… وكأنهم يوثقون بداية معركة لا زفافًا.
نهض سليم، وكل حركة منه كانت كأنها أمر عسكري، ونظر إلى نور التي ما زالت تغطي وجهها بالطرحة، بصوتٍ بارد يخلو من أي مشاعر:
— يلا… نروّح.
لم ينتظر ردّها، بل استدار مغادرًا بخطوات واثقة، كأنّ النصر قد كُتب له للتو.
لحقت به نور بصمت، رأسها منحني لكن خطواتها لم تكن ضعيفة… كانت خطوات من تعرف أنها تسير نحو مصير أسود، لكنها لن تنكسر بسهولة.
خلفهم، وقفت ثريا وحازم عند مدخل القصر، يتظاهران بالدموع.
ثريا تمسح عينيها بمنديلٍ حريري، وتهمس وهي تنظر إلى سليم ونور يبتعدان:
— يا رب يسعدهم… ويبعد عنهم الشر.
لكن ابتسامتها الخبيثة التي لم تستطع إخفاءها، قالت كل شيء.
أما حازم، فوقف صامتًا… داخله يموج بين تأنيب الضمير وارتياح غريب… وكأنّه ارتكب جريمة، لكنه يبررها بأنها كانت "من أجل العيلة".
ركبت نور السيارة بجانب سليم بصمت، يده تغلق الباب بقسوة، وكأنّه يسجنها، لا يفتح لها حياة جديدة.
انطلقت السيارة الفخمة وسط نظرات المارة، لكن داخلها، كان الجو مشحونًا، صامتًا… كأنّ الهواء نفسه يختنق.
وصل سليم إلى القصر، وفتح الباب بصوت حاد، ليترجل من سيارته وسط جو مشحون بالتوتر. نظر إلى تلك المسكينة الجالسة أمامه على المقعد، ليصرخ بها بعصبية:
— يلا انزلي!
قفزت نور من مكانها، قلبها يكاد يقفز من صدرها، ثم نزَلت بخوف عميق من صوته القاسي. قبل أن تلمس قدمها الأرض، كان قد جذبها من كتفها بقوة، وسمعت صرخة ألم تخرج منها دون إرادة. واصل سحبها نحو القصر، بينما الألم يعصر قلبها، ودموعها تتأرجح على أطراف جفونها.
دخلوا القصر معًا، خطوات سريعة نحو الطابق العلوي. سليم دفعها نحو الغرفة ثم أغلق الباب وراءه بعنف. وقف أمامها، ملامحه صارمة وعينيه مشتعلة بغضب وحقد. اقترب منها بشكل مباغت، صوته عميق وخشن، يخرج وكأنه عاصفة هوجاء، تتناثر فيها كلمات السم:
— اسمعيني كويس... إياك تفكري في يوم تكوني زوجتي. أنتي هنا أقل من الخدامة، حتى تزوجت بيك فقط لأكسر أبوك، ورح خليكي تشوفي النجوم في السما. فاهمة؟!
نور كانت ترتعش، جففها الخوف، ولم تستطع أن ترد. مجرد كلماتها كانت تزن الأرض عليها، فصمتت، عيناها معلقة بالأرض، تتمنى أن يبتلعها الفضاء.
لكن سليم لم يرحمها. اقترب منها أكثر، وأرسل صفعة مفاجئة على وجهها، جعلت شفتها ترتعش تحت الطرحة. ثم صرخ بها، صوته يقطع الصمت كالسكين:
— لما أكلمك، تجاوبي! فاهمة؟!
ارتعشت نور كأوراق الشجر في عاصفة، ولم تستطع إلا أن تهز رأسها بسرعة، وقد تجنب وجهها أن يلتقي بعينيه المشتعلتين:
— حااااضر.
لكنه لم يكتفِ بذلك، بل نظر إليها نظرة حادة، وكأنما يريد سحق ما تبقى من كرامتها. ثم نطق بكلماتٍ غاضبة:
— شيلي الطرحة. أو... لتكوني قبيحة.
أصوات قلبها تتسارع في صدرها، كأنها تضغط عليها وتمنعها من التنفس، ولكنها كانت تعلم أن الجواب لن يكون إلا واحدًا… فقد أغلقت كل الأبواب حولها.
ليقترب منها بحركة مفاجئة يشد الطرحة لينصدم و....