رواية حين التقيتك الفصل الثالث
صعد الأطفال كل إلى غرفهم و ظلت هدير جالسة فى مكانها تتابع حركات جعفر و هو يسخن الطعام بعد أن منعها من الصعود إلى غرفتها حتى تتناول كل الطعام الذى سوف يحضره لها و رغم رغبتها القوية للأعتراض إلا أن الإجهاد منعها من الجدال معه فى أى شىء
و فضلت الصمت تتابع حركته و كل شىء فيه و كأنها تراه لأول مره و ليست تعرفه و تراه كل يوم و لسنوات طويلة
أنتهى جعفر من تسخين الطعام و وضعه أمامها و سحب الكرسي المجاور لها و قال
– الأكل كله يخلص … بدل ما أرجعك المستشفي و الدكاتره هناك يتصرفوا معاكى
ظلت صامته تنظر إليه رغم تلك الإبتسامة التي رسمت على وجهها ليأخذ الملعقة و حمل بها بعض الطعام و قربها من فمها لتنظر إلى الملعقة ثم له ليشير لها أن تأكل … لتجد نفسها و كأنها مغيبه تفتح فمها تلتقط ما يوجد بالملعقة ليبتسم بسعادة كبيرة و هو يأكل ما تبقا منها بسعادة
– أنت بتعمل كل ده ليه ؟
رفع عيونه إليها بحيره لتكمل كلماتها
– أنت مين ؟
ترك المعلقة من يديه و عقص ذراعيه فوق الطاولة و نظر إلى الحائط أمامه لعدة ثواني صامتاً ثم نظر إليها و قال بابتسامة حزينة
– أنا جعفر إبن سلطان و سنيه أتنين أيتام قرروا يسندوا بعض ويعافروا فى الحياة سوا … أتجوزوا و خلفوني أنا بس و لما كملت خمستاشر سنه أبويا مات … و أمى مقدرتش تعيش بعده كتير و سابتني لوحدى … من يومها إعتمدت على نفسي … أشتغلت ليل نهار حاولت أكمل تعليمى لكن معرفتش أصل بصراحة دماغى مش فى العلام
كانت تستمع إليه بكامل تركيزها … صحيح هى لم تقصد هذا من سؤلها لكنها فرصة جيدة لتكتشف من هو جعفر … لم ينتبه لحالها أو أفكارها و أكمل كلماته
– كنت عامل يوميه فى المصنع أشيل الكراتين و أفرغ العربيات … ألملم القصصات و أنظف الورش بعد العمال ما يمشوا … لحد ما فى يوم الحج برعي صاحب المصنع شافني و فضل مراقبني جالى فى يوم و سألني أنت ليه بتشتغل كتير … ليه مش بتروح بيتك و حكتله كل حكايتي صعبت عليه و فضل يرقيني شوية بشوية لحد ما بقيت رئيس العمال و المسؤل عن ورش التفصيل رغم حنان الحج برعي لكن كنت ديماً حاسس بالوحده و اليتم
نظر إليها و أبتسم إبتسامة صغيرة وأكمل قائلاً
– لحد اليوم إللى دخلتى عليا الورشة و أنتِ باصه فى الأرض و الدموع ماليه عيونك
كانت تستمع لكلماته و وصفه و هى تتذكر ذلك اليوم بكل تفاصيله و حزنها بسبب تركها للمدرسة و مرض والدتها و تخلى والدها عن مسؤليته
ليكمل جعفر كلماته
– وقتها قررت أعيش علشانك … وقتها حسيت الدنيا بتقولى لسه ليك نصيب من الحلو يا جعفر
– هما ليه سموك جعفر ؟
قاطعت سيل كلماته بذلك السؤال ليضحك بصوت عالي ليخطف تلك الدقة الزائدة بقلبها و يعيدها إليها دقات و دقات
ظلت تنظر إليه و هى تبتسم دون وعى … حتى هدأت ضحكاته و أقترب بوجهه من وجهها وقال
– هو أسمى وحش ده حتى معناه النهر الصغير فوق الجدول
رفعت هديل حاجبيها باندهاش ليحك مؤخرة رأسه و هو يقول ببعض الخجل
– صحيح أنا مش معايا شهادات لكن دورت على معنى الأسم حتى دورت على معنى إسمك
– و معناه أيه بقا ؟
قالتها باستفهام تصاحبها إبتسامة رقيقة و ناعمة و سعادة تطرق بيبان قلبها و تحطم حواجز الحزن التى تحيط به
أخفض عينيه أرضاً و قال بخجل لا يتناسب أبداً مع خشونة ملامحه و جسده الضخم و ذلك الجرح الإجرامي فى وجهه
– معناه رفع الصوت و تردده
خيم الصمت عليهم لم يستطع أن ينظر إليها و هى لم تستطع التعقيب على كلماته سوا بتلك البسمة التى أصبحت جزء من وجهها منذ جلوسها معه
مرت عدة دقائق يخشى النظر إلى عيونها و هى تتأمل جانب وجهه و ذلك الجرح الكبير الذي يزيده خشونة و قوة … و يالا العجب تشعر أنه مميز و لا تشعر بالنفور منه كمان كانت تشعر سابقاً
– هو إيه سبب الجرح ده ؟
سألته و يدها تلمس طرف حاجبه لينظر إليها بسعادة رغم ذلك القلق الذى يسكن عينيه … أبعدت يديها و أستندت بذقنها على كف يدها المستندة على الطاولة ليمسك الملعقة و وضع بها بعض الطعام و قربها من فمها و هو يقول
– بعد سنتين من شغلى فى المصنع … كان فى عربية عايزة تتحمل و كل العمال تعبوا و قرروا يسبوها لبكره و أنا كنت بنام فى المصنع و فى اليوم ده مكنتش عايز أنام قولت أحملها و أسلي وقتى … و بعد ما خلصت تحميلها وقبل ما أقفل العربية معرفش إيه إللى كعبلنى وقعت على الأرض و كان فى صندوق حديد وقعت عليه و حصل إللى حصل
كل ذلك و هو يطعمها بسعادة كبيرة تجعل قلبه الذي دائماً يشعر بالوحدة و الوحشة بداء الأن يشعر بالحياة و السعادة
– هو أنت كنت فين من زمان ؟
رفع عيونه إليها باندهاش وإبتسامة واسعة تزين ثغره لتقول هى ببعض الخجل
– أنا مش عارفة أقول أيه ؟ أنا عايزه أشكرك كل حاجة عملتها جوازك منى
ليشير لها بالصمت و قال ببعض الحزن
– تشكريني ! على إيه ؟ على إنكم فرحتونى و حسستوني أنى بنى آدم و أستحق يكون ليا عيله و ناس بحبها و يحبوني … عايزه تشكريني علشان حلمى أتحقق يا هدير بأنك تكوني مراتى
تشعر بكثير من المشاعر داخلها و لكنها لا تستطيع إستيعاب كل تلك السعادة و الفرحة التى لم تحلم بها يوماً و الحياة الجديدة الذى فتح جعفر بابها أمامها و لكنها حقاً لم تعتاد عليه و كل شىء تم بسرعة و لكنها لا تعلم كيف تخبره بكل تلك الأفكار التى تدور برأسها
لكنه كان يتابع كل حركة منها حتى أنه كان يعد عدد إنغلاق عيونها و فتحها ليمسك يدها المستريحة على الطاولة و قال بحنان شعرت به بكل حواسها حنان لم تشعر به من قبل
– يلا قومي بقا علشان ترتاحي و تخدي دواكي أنتِ لسه تعبانه
ثم وقف على قدميه و مد يده لها لتضع يديها فى حضن يديه وقفت وسارت معه بهدوء
حتى و صلا إلى غرفتهم أجلسها على السرير و تحرك إلى الخزانة و أخرج منها منامة حريرية طويلة بأكمام قصيرة و أقترب منها و هو يقول
– هتبقى حلوه أوى عليكى
ثم أشار بيده على باب مغلق فى أحد أركان الغرفة و قال
– الحمام أهو
و أكمل ببعض التردد و الخجل
– بس بلاش تقفلى الباب بالمفتاح علشان بس
وصمت دون أن يستطيع إكمال كلماته لتفهم مقصده و أبتسمت إبتسامة صغيرة و أومئت بنعم
و بعد دقائق خرجت من الحمام لتجده يجلس مكان جلوسها سابقاً بعد أن أبدل ملابسه ظلت واقفه فى مكانها تنظر إليه فمظهره بالملابس البيتيه حافى القدمين جعلها تشعر ببعض الألفة و الراحة
شعر بها و رفع عيونه إليها ثم وقف سريعاً و هو يبتسم ثم رفع الغطاء و أشار لها تقدمت و جلست على السرير أيضاً فوقها الغطاء و قال بهدوء بعد أن جلس على ركبتيه ينظر إلى عيونها الناعسه
– أنا عارف إنك محتاجة وقت طويل علشان تتعودى عليا و على حياتنا سوا … و أنا عندى إستعداد أستناكى العمر كله … المهم إنك بقيتي على أسمى و فى بيتي … مراتي
– أنا محتاجة أقولك شكراً .. بجد يا جعفر شكراً
و غطت فى نوم عميق غير مستوعبه لما فعلت بقلبه المسكين حين نطقت أسمه و لأول مره
ظل على جلسته عدة دقائق يتأمل ملامحها الرقيقة المرهقة ثم تحرك و صعد إلى جوارها يداعب خصلات شعرها حتى غرق فى النوم فوق خصلات شعرها الناعم الطويل
**********************
فى صباح اليوم التالي أستيقظت هدير من نومها بعد أن أخذت كفايتها من النوم … لا تتذكر آخر مره نامت بعمق و راحة و هل من قبل جربت إحساس أن تُألمها عظامها بسبب كثرة الراحة
أعتدلت جالسة نظرت فى أنحاء الغرفة لم تجد أحد همست بصوت مسموع
– جعفر
تعلم جيداً أنه لم يستمع إليها أنزلت قدميها أرضاً و توجهت إلى الحمام و بعد عدة دقائق غادرته و هى ترتدي مأذر الحمام
لتنتبه لذلك الفستان المعلق على الخزانة لتبتسم و هى تمسكه بسعادة و هى تشكر جعفر من داخلها
خرجت من الغرفة و أصوات أخواتها يصل إليها بوضوح يضحكون و يهللون و يشكرون جعفر
وقفت على أول درجات السلم تشعر بالصدمة مما ترى أخواتها يرتدون ملابس جديدة و أمامهم الكثير من الملابس و جعفر يبتسم بسعادة كبيرة و هو يتلقى القبل منهم و الأحضان
رفع عيونه إليها بابتسامة واسعة وقبل رأس الصغيرة زينب التي تجلس على قدمه بسعادة ترتدي ثوب زهري و حذاء أبيض جميل و بين يديها دُميه صغيرة تشبهها كثيراً
أنزلها أرضاً و توجه إليها قائلاً
– صباح الخير .. عامله إيه النهارده
– صباح الخير .. الحمد لله
ثم أشارت فى إتجاه أخواتها و هى تقول
– أيه كل ده ؟ أنت ليه كلفت نفسك كده ؟
ليقطب حاجبيه لتشعر للحظة بالخوف فتلك الهيئة ذكرتها به فى الورشة حين يكون شديد الغضب من تأخر الإنتاج أو الأخطاء لكن ذلك الخوف ذهب أدراج الرياح حين قال هو برفق
– أنتوا عيلتي و كل ما ليا و أخواتك أخواتي … و والدتك أمى و لا أنتِ لسه شايفاني غريب و
وضعت يديها على فمه تسكت سيل كلماته و هى تقول بابتسامة صغيرة
– أنتَ نعمة من ربنا كبيرة اوى … عوض ربنا إللى مكنتش متخيلة أنه يحصل بسرعة كده
أنزلت يديها جانباً و نظرت أرضاً و هى تكمل بخجل
– أنتَ بس ذنبك أيه تشيل كل ده ؟
– ذنبي أنى بحبك يا هدير
نظرت إليه بصدمة و عدم تصديق ليقابل نظراتها بابتسامة واسعة و عيون تنطق بحب لم تتوقعة أو تتخيلة يوماً