رواية شظايا قلوب محترقة ( وكأنها لي الحياة ) الجزء الثانى الفصل الثالث 3 بقلم سيلا وليد

 

 رواية شظايا قلوب محترقة ( وكأنها لي الحياة ) الجزء الثانى الفصل الثالث بقلم سيلا وليد


يا من كنتِ النبض الأول… أصبحتِ الغصة التي لا تزول
ليت الألم زارني في ألف وجه، إلا في وجهكِ…
ليت الرحيل مرّ على بيتي دون أن يأخذكِ..
فكل شيء بعدكِ بارد، جاف، غريب!
غابت شمسي يوم منذ ابتعدتي
ومنذها والليل لا يعرف النوم،
وصوتكِ لا يغيب عن جدراني،
كأنكِ تسكنيني رغم غيابكِ…
كأنكِ غائبة عن عيني، حاضرة في دمي…
أشتاقكِ في كل لحظة ضعف…
أشتاقكِ حين أبكي ولا أجد يدكِ تمسح دمعي..
أشتاقكِ حين أبحثُ عن دفء،
ولا أجد سوى برد الفقد يغلفني…
صرتُ غريب عن نفسي،
أجهل ضحكتي، أكره مرآتي،
فما عدتُ أنا… مذ تركتيني وذهبتِ!
أما زلتِ تذكري قلبي؟
أم نسيتِ أن هناك من لا يزال ينزف من أجلك كل يوم…
يناديكِ بين الصمتِ والدعاء،
ويُقسم أنه لن يسامح الرحيل لأنه أخذكِ دون استئذان؟”
كنت أظنكِ الوطن…
فإذا بكِ المنفى الذي لا نهاية له،
وكنت أظنكِ الأمان…
فإذا بكِ الخوف كله…
عند ميرال وقت الحادث
دقائق مرَّت و “ميرال” مازالت ملقاة على الأرض، تنزفُ بغزارة، تتسلَّلُ دماؤها على الأرض، و كأنَّها تكتبُ بها وصيَّتها الأخيرة.
في الجهةِ الأخرى، كان “حسين” يلفظُ أنفاسهِ الأخيرة بعد اصطدامه بالسيارة، هرولت زوجتهِ نحوه، تصرخُ بجنون:
– حسيييييين!! لاااااااا…اصحى، متسبنيش!.
وصلت “نعيمة” وسط صراخها، ركضت نحو زوجِ أختها تحاولُ إنقاذ
مايمكن إنقاذه، لكنَّه كان قد سلَّم الروح إلى خالقهِ محمَّلًا بذنوبه.
صرخت “نادية” تلطمُ وجنتيها في هيستيريا..وتجمَّع الحشد، حول جثَّةِ “حسين”، وصلت “هند” وهي تصرخُ باكية:
– مامااا…أبلة مروة فين؟ كان بيجري وراها بالسكينة دي!
تجمَّدت “نعيمة” مكانها، تنظرُ حولها بفزعٍ تبحثُ عن “ميرال”، بعدما وجدت السكين الملقاة على بعض خطواتٍ من جثةِ زوج أختها، وقبل أن تهمَّ بالتحرُّك، دوى صراخ ابنتها، وهي تركضُ حافيةَ القدمينِ نحو الشاطئ..
انحنت الصغيرة فوق جسد “ميرال” الملقى، تصرخُ باسمِ والدتها، تبكي والدماء تغمرُ يدها..رفعت رأسها، -الحقي ياماما..أبلة مروة بتموت..هرولت نعيمة بأنفاسٍ متقطِّعة، لتشهقَ على مشهدِ ميرال الغارقِ بدمائها، انحنت بجسدها تصرخُ بأعلى صوتها:
– إسعااااف..حد يلحقني بإسعااااف!
بعد فترة بالمستشفى الحكومي…
خرج الطبيب من غرفة العمليات، وجههِ متجهِّم، يلوُّحُ برأسهِ بأسف:
– للأسف يانعيمة…كان في نزيف دماغي شديد جدًا.
اتَّسعت عيناها بفزع:
– طيب البيبي يادكتور؟ البيبي حصل له حاجة؟
– لا، الحمد لله كويس…إحنا حاولنا نوقف النزيف على قدِّ ما نقدر.. هنستنَّى لمَّا تصحى وبعدين نعمل أشعة ونطمِّن.
تمتمت بقلبٍ منكسر:
– جيب العواقب سليمة يارب…
ربت الطبيب على كتفها وقال:
– إن شاء الله تقوم بالسلامة… ومتخافيش، أنا اتكفِّلت بكلِّ حاجة، لا سين ولا جيم.
رمقتهُ بامتنان:
– ربِّنا يخلِّيك ياحمدي، خلِّي بالك منها، مروة غالية عليَّا أوي ياحمدي…
ابتسم بتلميح:
– طيب مش ناوية تقولي لابنِ عمِّك تبقى مين مروة دي؟
أجابت سريعًا:
– ما قلت لك، بنت واحدة صاحبتي… ماتت من فترة، والبنت كانت برَّة مصر ولسّه راجعة.
أومأ ببطء وقال بنبرةٍ مشاغبة:
– بس حلوة أوي يانعيمة…تعرفي ناس مهمِّين أهو.
نظرت له باستخفاف:
– ليه، حدِّ قال إنِّي قليلة؟ المهم… هروح على دفنة حسين، وإنتَ خلِّي بالك من مروة.
– ليه؟ مش هحضر الدفنة ولَّا إيه؟
-يعني لازم ياحمدي..
ابتسم بخفَّة وهزَّ رأسهِ مجيبًا:
-لازم يابنتِ عمِّي..قاطعهم رنينُ هاتفِ نعيمة..
-ماما أبلة مروة كويسة؟…تساءلت بها هند وهي تبكي..
-أيوة حبيبتي..متخرجيش من البيت ياهند وأنا ساعة وجاية لعندك.
عند إلياس..
استمع إلى رنينِ هاتفه:
-أيوة ياشريف.
-أيوة ياسيدي، التليفون مبيدِّيش شبكة ياإلياس، بس أنا جبتلك آخر مكالمة..كان على رقمك.
-تمام ياشريف، قالها وأغلقَ الهاتف، ثمَّ دلف إلى مكتبهِ يشيرُ إلى مالك:
-الفريق تحت، عايز أشوف همِّتك، شركتنا جديدة، لازم اسمها يسمَّع، إسحاق باشا بيشكر فيك، أتمنَّى تكون قدِّ المسؤولية..
-إن شاءالله هكون قدِّ المسؤولية وعند حسنِ ظنُّكم.
أشار إليه بالخروج، مكث بمقعدهِ لدقائقَ لم يتحرَّك كأنَّ جسدهِ تصنَّم ولم يعد لديهِ قدرة على الحركة، غيَّمت عيناهُ بالدموع بعدما تذكَّر حياتهِ الماضية، وكيف تحوَّلت إلى جحيم..
مسح على وجههِ بعنف، كاد أن يمزِّقَ جلده، لحظات وهو على هذه الحالة بجسدٍ يغلي كالمرجل، إلى أن رفع هاتفهِ وقام الاتصال بأحدِ الأشخاص:
-هبعتلك رقم عايزك تحطُّه تحت المراقبة.
-تمام يافندم..تراجع بجسدهِ بعدما أرسل الرقم يحدِّثُ نفسه:
-ماأشوف أخرتها معاك يايزن، لو طلع اللي في دماغي صح صدَّقني هوجعك إنتَ وأختك..رغبة جامحة أن يذهب إليه ويفصلَ رأسهِ عن جسده بعدما تذكَّر حديثه:
“هوَّ اختفاء ميرال جنِّنك كدا، بقيت تتخيَّل أيِّ حد بيكلِّمني ميرال؟!..إنتَ محتاج تروح لدكتور يابنِ عمِّي، وبعدين لمَّا إنتَ كنت بتحبَّها أومال ليه قرفتها في عيشتها..قالها يزن وتحرَّك.. بينما ظلَّ إلياس متوقِّفًا بجسدٍ عاجزٍ لم يعد لديه القدرة على النطق.
بفيلا الجارحي..
صمتًا بالغرفة، بعد نطقِ أرسلان لحديثه، ثمَّ جلس أمامهم كالتلميذ المنتظر العقاب، تنهيدة طويلة أخرجتها صفية بكمِّ الألمِ الذي حملتهُ داخلها، ثمَّ أومأت برأسها:
-كنت عارفة إنِّ هيكون للطريق نهاية، بس متوقعتش تكون سريعة كدا..
رفع رأسهِ وشعر بغصَّةٍ مريرةٍ تملأُ جوفهِ من حديثها الذي شطر قلبهِ ثمَّ قال:
-ماما صدَّقيني الحل دا هيكون أحسن للجميع، أنا ضايع بينكم وبينهم ومبقتشِ عارف أراضي مين، في عزِّ ظروف حياتي اللي بتنهار مش عارف أراضيكم، حاولت أوازن بينكم، هيَّ أمِّي اللي ولدتني وأخويا اللي حياته ادمَّرت وإنتي أمِّي اللي ربِّتني وعمِّي اللي روحي فيه، طيب أنا فين والكلِّ بيشدِّ فيَّا، أحسن حل أكون في بيت منفصل ويكون ليَّا كيان، ويامرحب بالجميع، إنَّما أجزَّأ نفسي دا صعب.
نهض فاروق واتَّجه يجلسُ بجواره، يربتُ على ظهرهِ بحنان؛ ثمَّ حاوط أكتافهِ رغم شعورِ احتراقِ قلبهِ من انفصالهِ عنهم وقال:
-حبيبي اعمل اللي يريَّحك، إحنا يابني مش زعلانين، من حقَّك تشوف حياتك، من وقت ماعرفنا حقيقة نسبك وكنَّا منتظرين اللحظة دي، وبلاش تشيِّل نفسك هموم فوق همومك، أنا متأكِّد إنِّي ربِّيت راجل وتربيِّتي فيه حلال، مستحيل هيرمي أمُّه وأبوه، أكيد هيزورنا من وقتِ للتاني.
طالعهُ لبرهةٍ ولمعت عيناهُ ببريقٍ من الدموع وتحدَّث:
-أبدًا يابابا، هتفضل أبويا اللي ربَّاني، وهيَّ هتفضل أمِّي اللي ماأقدرشِ أبعد عنها، الموضوع ومافيه لازم نصحَّح حياتنا بعد اللي حصل، بلال في المدرسة بيقولوا عليه بلال الجارحي، بكرة لمَّا يكبر ويسألني ليه بيقولوا عليَّا كدا يابابا وأنا اسمي مش كدا..عايز أربِّي ولادي على أنُّهم ولاد أرسلان الشافعي، لازم يقتنعوا بكدا..وطول ماأنا هنا لا همَّا هيستوعبوا ولا أنا هقدر أتعايش على إنِّي أرسلان الشافعي.
توقَّفت صفية وقالت:
-هخلِّي البنات يجهِّزوا الغدا، ولَّا كمان مش هتتغدَّى معانا..
نهض من مكانهِ وتوقَّف أمامها:
-خلِّيهم يلمُّوا حاجات الولاد، بعدين موضوع الغدا دا..
انسابت دموعها تغزو وجنتيها تهتفُ بتقطُّع:
-يعني إنتَ ناوي تقطع علاقتك خالص بينا؟!..
يعني إيه يلمُّوا حاجات الولاد؟..
اقتربت خطوة منه وحدجتهُ بنظرةِ عتاب:
-عايز تقطع علاقة بأمَّك وأبوك، طيب ليه، إحنا ذنبنا إيه؟..نهض فاروق بعدما وجد حالة صفية وأردف:
-حبيبي هيَّ بس زعلانة علشان ناوي تبعد مرَّة واحدة، يعني خلِّيها على فترات، يعني اقطع أسبوع أسبوع وبعد كدا شهر وهكذا، إنَّما البعد مرَّة واحدة صعب يابني..إنتَ عارف مالناش غيرك إنتَ وأختك.
سحب كفَّيها وطبع قبلةً فوقهما يمسِّدُ عليهما بحنانٍ وتحدَّث:
-ماما أنا مش هبعد عنِّك حبيبتي، الموضوع ومافيه هنفصل بالبيت بس، أكيد هزورك من فترة للتانية، يعني زي ماكنت بعمل في بيتي كدا، يومين هنا ويومين هناك.
لكزتهُ تصرخ وهتفت بنبرةٍ باكية:
-إنتَ كدَّاب، إنتَ لسة قايل عايز تبعد عن حياة الجارحي، خلاص مش همسك فيك، مادام مش أهمَّك مش همسك فيك..
قاطعهم دخول إسحاق ملقيًا السلام..
استدارت إليهِ سريعًا وأشارت على أرسلان بغضبٍ خرج من كمِّ آلام ماتشعرُ به:
-تعالَ شوف آخرة دلعك، مش دا اللي وعدتني هيفضل في حضني، مش اللي وعدتِّني أنُّه هيفضل ابنِ الجارحي حتى لو كلَّفك حياتك؟..
اغروقت أعينُ أرسلان بالدموعِ من حديثها، فهتف إسحاق بنبرةٍ هادرة:
-صفية اهدي، إيه، لوك، لوك، لوك
إدِّيني فرصة أتكلِّم، رفع عيناهُ إلى فاروق ثمَّ اتَّجه إلى أرسلان:
-دا واحد داخل على الخمسة وتلاتين سنة، إيه..هيفضل في حضنك لحدِّ إمتى، خلاص هوَّ عايز حياته على كيفه ودا حقُّه، وكتَّر خيره أنُّه فضل معاكي بعد اللي حصل، وبعدين هوَّ مش هيقطع العلاقة، مجرَّد عايز يأسِّس حياة لأولاده لبعدين، إيه ياصفية عايزة نسله يكون تبع الجارحي حتى بعد ماعرف الحقيقة، ترضيها على نفسك، هوَّ صح، ومقدرش ألومه، نظر إلى أرسلان وتابع حديثه:
-إنتَ مبقتش صغير، واللي شايفه لحياتك صح اعمله، ومش لازم ترجعلنا، إنتَ راجل وكنت شغَّال في مكان حساس، يعني الكلِّ يمشي يقولَّك آمين من غير مناقشة.
ذُهلت صفية من حديثه:
-دا اللي قدَّرك عليه ربِّنا ياإسحاق!! بدل ماتقولُّه ماطمرش فيك التربية!..
-صفية اتجنِّنتي..صاح بها فاروق، ثمَّ أشار إليها:
-الموضوع انتهى وخلاص، وأنا مع إسحاق، مادام علاقته بينا لسة موجودة خلاص.
صمت فاروق بعدما استمعَ إلى حديثِ أحلام:
-يامربِّي غير ولدك..قالتها أحلام مقتربةً منهم ونظرةُ سخرية تجلَّت بملامحها، توقَّفت بجوار أرسلان ترمقُ إسحاق باستخفاف:
رمقها إسحاق بنظرةٍ قاتلة، عيناهُ تقدحُ شررًا من الغضبِ المكبوت، ثمَّ خطا نحوها ببطءٍ محسوب:
– احترامًا للاسم اللي لسه مكتوب في شهادةِ الميلاد…مش هردِّ عليكي.
استدار ناحية فاروق، وأردفَ بنبرةٍ حاسمة:
– عايز تشوفني؟ بيتي مفتوح، غير كده..البيت دا مبقاش يلزمني.
التفتَ من جديد نحو أحلام، ونطق بصوتٍ خافتٍ لكنَّه مزلزل:
– فيه ذكريات بتخنقني…لو حكيتها، موازين الدنيا هتتقلب.
أنهى كلماتهِ وسحب أرسلان من يده، وغادرا معًا وسط صمتٍ مشحون..
ارتفعت أنفاسُ أحلام بغضب، ثمَّ أشارت إلى فاروق بعينينِ تقدحُ نارًا:
– دا اللي بتقول عليه حيحترمني؟ دا أخوك اللي خايف على زعله؟!..
– ماما، لو سمحتي..أنا هتصرَّف مع إسحاق، وهخلِّيه ييجي يراضيكي كمان.
تحرَّكت إلى المقعد وجلست بعينين تحملُ خليطًا من السخرية والمرارة:
– يبقى قابلني..دا نسخة تانية من أبوه، المهم متبقاش مجنون إنتَ ومراتك البريئة وتسيبوا مالكم لابنِ الحرام دا.
نهضت صفية، رافعةً رأسها بكبرياء:
– أنا طالعة أوضتي يافاروق ولمَّا تخلَّص حوارات الستِّ الوالدة…عرَّفني يجهِّزوا السفرة.
جحظت عينا أحلام، ووقفت من مكانها كمن لسعها لهيب:
– إيه ياصفية؟! دا غيابي أثَّر على مخِّك ونسيتي نفسك؟!
استدارت صفية بكلِّ عنفوانها، ونظرت إلى أحلام باستخفافٍ قاتل:
– يمكن ياحماتي..ما هو حضرتك كنتي في المكان الصح، وأكيد..عديتيني.
هبَّت أحلام تتقدَّمُ نحوها، رافعةً كفَّها لتلطمها، لكن الباب انفتحَ بعنف، ودخل أرسلان كالإعصار:
– عندك..
وصل إليها بخطوةٍ واحدة، عيناهُ تشتعلُ بالجنون، وأشار نحوها بحدَّةٍ أمام فاروق:
– دي أمِّ أرسلان الجارحي…ماتفكَّريش للحظة هسمح لحدِّ يهينها، أنا لسه بحترم وجودك علشان بابا…وبس.
قهقهت أحلام وصفَّقت ببطء، تتلذَّذُ بالاستفزاز:
– شوف مين اللي بيتكلِّم، مبقاش غير ولاد الحرام اللي بيرفعوا راسهم..
في لحظة، احمرَّت عيناهُ كمن اشتعل داخلهِ بركان، وانقضَّ عليها قابضًا على عنقها، وسط صرخاتِ صفية وفاروق..
حاولت صفية دفعه، لكن فاروق صرخ بحدَّة ثمَّ لطمهُ بقوَّةٍ على وجهه، ليسقطَ أرسلان مترنحًا، يدهِ ترتجفُ على وجنتهِ التي تلقَّت الصفعة، وعيناهُ تائهة بين الوجوه..
تقابلت عيناه بعيني أحلام، وجد فيهما شماتة مريرة…لم يقل شيئًا، فقط استدار وغادر..
ركضت صفية خلفهِ تصرخ:
– أرسلااان!
لكنَّه كان قد استقلَّ سيارته، وانطلق بها كمن يهربُ من جرحٍ لا يندمل…أو كمن يسرعُ نحو نهايته…
بالجامعة…
أنهى محاضرته، واتَّجه إلى مكتبه بخطواتٍ هادئة، وماإن اقترب حتى لمحها واقفة أمام الباب، تعقدُ ذراعيها بعتابٍ صامت..
ابتسم واقترب منها:
– إزيك ياملك؟
ردَّت بوجهٍ جامد:
– أهلين، سيادة المعيد اللي ناسي ميعاده..
نظر إلى ساعته، وضرب جبينهِ بخفّّة:
– آسف والله، نسيت، كانت عندي محاضرة واتأخَّرت.
أومأت برأسها دون أن تنبس بكلمة… اقترب منها يداعبُ خصلاتها برفق:
– خلَّصت محاضراتي النهاردة، إيه رأيك نخرج ونتغدَّى سوا؟
رفعت عينيها إليه وقالت:
– النهاردة صعب..عندي إنترفيو في شركة أجنبية الساعة اتنين، ووعدت عمُّو أعدِّي عليه.
زمَّ شفتيهِ باعتراض:
– وأنا آخر من يعلم، ياملك؟!.
ارتجفت نظراتها نحوه:
– إنتَ ماكنتش راسي على شط ياإسلام..كلِّ شوية تطلعلي بحجج، فقلت أرسم خطِّ حياتي، ونشوف آخرتها إيه.
– ملك، هوَّ إنتي بتحبيني؟..سألها فجأة، وصوتهِ يحملُ رجفةَ تردُّدٍ وخوف.
ترقرقت عيناها، ودنت منه تمسكُ بذراعه:
– إنتَ لسه بتسأل ياإسلام؟ مش عارف ولَّا إيه؟
ضمَّ كفَّيها برفق، ثمَّ أردف:
– تعالي ندخل، مينفعشِ نوقف كده والطلبة رايحة جاية.
تحرَّكت بصمتٍ إلى الداخل..وضع أوراقهِ ومفاتيحه، ثمَّ التقط هاتفهِ وأشار إلى الخارج:
– يلَّا، هوصَّلك في طريقي.
هزَّت رأسها بالموافقة، وتحرَّكت بجوارهِ حتى وصلا إلى سيارتها، أشارت إلى السائق:
– الباشمهندس هيوصَّلني، روح إنت.
– حاضر ياهانم.
استدارت إلى سيارةِ إسلام واستقلَّتها، ثمَّ التفتت إليه تسأله:
– هتيجي معايا ولَّا هتوصَّلني وترجع؟
أدار السيارة بعد أن ارتدى نظارته:
– إنتي عايزة إيه؟
همست، ونظراتها تتفحَّصُ ملامحهِ الرجولية:
– عايزاك دايمًا معايا.
كلمة واحدة، أحيت روحه، وجعلتهُ يتوقَّفُ لوهلةٍ يتأمَّلها بعينينِ مترعتينِ بالعشق..مرَّرت أناملها على كفِّه، فسألتهُ بهدوء:
– بتبصِّلي كده ليه؟
رفع يدهِ لوجهها، أزاح خصلةً متمرِّدةً بفعلِ الرياح، اقترب حتى غدت المسافة بينهما شبه معدومة، أغمض عينيهِ يستنشقُ عبيرها، وكأنَّها الحياة ذاتها..
ابتسمت، ليصبح وجهها لوحةً مرسومةً بنظراته، اقتربت منه أكثر، وغرست أناملها في خصلاتِ شعره… لحظاتٍ تاه فيها العقل، وارتفعت دقَّاتُ القلوبِ تعلن عن حالةِ عشقٍ تلامسُ الخطر..
– أنا بحبِّك أوي ياملك…ومش هقدر أعيش من غيرك..قالها بهمسٍ أمام شفتيها، ليغيب العقلَ كاملًا بقبلة، أذابت المسافاتِ والحدود.
ارتفع رنينُ الهاتف، كصفعةٍ أعادتهم إلى الواقع..
انتفض مبتعدًا، وارتجفَ جسده، بينما أنفاسهِ تعلو وتهبط في صراعٍ داخلي..
سكتت خجلًا، وتورَّد وجهها حتى أصبح كالتفاحِ وقت جنيه، أمَّا هو فصاحَ بغضبٍ من نفسه:
– ماكانشِ المفروض ده يحصل، إحنا مش مكتوب كتابنا..حرام، حرام..
قالها وهو يضربُ المقودَ بقبضته، رفعت كفَّيه بين راحتيها:
-إسلام، إهدى…إحنا مخطوبين.
التفت إليها ونظراتهِ تنطقُ بالألم: -خطوبة ياملك…يعني مش مراتي، مش ملكي…هتبقي ملكي لمَّا أكتب عليكي.
ألمٌ ظهر على وجهها قائلة:
بس إحنا هنتجوِّز…مش كده ولَّا إيه؟
أرجع خصلاتهِ للخلف بغضب، ونارًا تأكلهُ من الداخل…كيف سمح لنفسه بالضعفِ أمامها؟! هو يعشقها، نعم، لكن عليه أن يحميها من ذنبهما قبل أن يحميها من العالم.
– إسلام…
شغَّل السيارة وقال بجفاف:
– هوصَّلك، ياملك…وممكن ما نتكلمشِ في حاجة دلوقتي؟
هزَّت رأسها بعناد:
– لأ، لازم نتكلِّم..ليه زعلان أوي كده؟
تأملها بوجع، وقال بصوتٍ مخنوق:
– لو قلتلك المفروض مانكونشِ لوحدنا أصلًا في العربية، هتصدَّقي؟ لو قلتلك حتى إمساكي بإيدك حرام؟ حتى شعرك ده مينفعشِ أشوفه…اتكلِّمنا في ده قبلِ كده، لبستي الحجاب فترة، وقلعتيه، ومش عارف ليه!..
سكت لحظة، ثمَّ أكملَ بصوتٍ مكسور: – حرام ياملك…كلِّ اللي بيحصل بينا حرام.
قاطعهم الهاتفَ مرَّةً أخرى، نظر للشاشة، وظهر اسمُ إلياس:
– “إسلام، لو فاضي عدِّي عليَّا في الشركة ضروري.”
– حاضر…قالها وقاد السيارة.
بعد عدَّةِ أيَّام، والحال كما هو..
في فيلا السيوفي، جلست فريدة وسط الحديقة، بين الأزهار التي كانت ميرال تعتني بها يومًا…تتحسَّسُ بيديها أوراقَ الزهور، وكأنَّها تبحثُ بين عطرها عن أنفاسِ الغائبة..
اقتربت منها رؤى بهدوء، ونادت بخفوت:
– ماما فريدة…
رفعت عينيها الذابلتين، وكأنَّهما فقدتا القدرةِ على الحياة:
– أيوه يابنتي…
جلست رؤى إلى جوارها، تطوف بنظرها على الزهور، ثمَّ قالت بنبرةٍ حزينة:
– هتفضلي كده لحدِّ إمتى؟ بقالنا تلات شهور من بعد حادثة ميرال، وحضرتك زي ماإنتي…مش حابة تشوفي دكتور يساعدك؟
لامست فريدة بتنهيدةٍ حارقة زهرة منطفئة، ورغم كونها بأرضٍ خصبة، ويحيطها الجمالُ من كلِّ جانب، تخيَّلت بها حياةُ ميرال فقالت:
ميرال كانت زي الوردة دي..منطفئة بالرغمِ كلِّنا كنَّا حواليها..
همست بها فريدة وكأنَّها تكلِّمُ نفسها، ثمَّ تابعت حديثها المتألِّم..بحاول أقنع قلبي بغياب ميرال…بس مش قادرة.
ربتت رؤى على كفِّها برفق:
– ماما فريدة، هيَّ الحياة كده، يوم ليكي ويوم عليكي…
أومأت فريدة برأسها دون رد، وذهبت ببصرها إلى يوسف وهو يلعبُ بالدرَّاجةِ في طرفِ الحديقة، فسألتها:
– إلياس مرجعشِ من الشغل لسه؟
هزَّت رؤى رأسها نافية:
– كلِّمني من شوية، وقال ممكن يتأخَّر .
استدارت فريدة بكاملِ جسدها نحوها، تغرزُ عيناها في عيني رؤى، ثمَّ سألتها بصوتٍ يحملُ مابين القلقِ والشك:
– مش ناوية ترجعي بيت أخوكي؟
شعرت رؤى بالحرج يتسلَّلُ إلى ملامحها، فأجابت بخفوت:
– حضرتك زهقتي منِّي ولَّا إيه؟
هزَّت فريدة رأسها بسرعة، نافيةً حديثها الموجع:
– لأ ياحبيبتي، مزهقتش منِّك..بس اللي في بالك مينفعش، أختك هترجع.
ارتبكت رؤى، وتلعثمت:
مش فاهمة قصدك ياماما…
فرَّت دمعةٌ ثقيلةٌ على وجنةِ فريدة، وقالت بصوتٍ مخنوق:
– ميرال هترجع…واللهِ لو فيها نفس هترجع، مش هتقدر تعيش بعيد عن جوزها وابنها..
ثمَّ نظرت إليها نظرةً طويلة، ثابتة:
– وإلياس؟ مستحيل يدخَّل ستِّ تانية حياته بعد ميرال..دا فضل لحدِّ ماعدَّى التلاتين علشانها…تفتكري ممكن يخلِّي حدِّ تاني يحلِّ مكانها؟
نهضت رؤى فجأة، وكأنَّ كلماتُ فريدة صفعتها:
– إيه اللي حضرتك بتقولي ده؟ حضرتك فاهمة غلط!..
أشاحت فريدة بوجهها، تهزُّ رأسها ببطء:
يمكن..يمكن أكون فاهمة غلط..بس كان لازم أقولِّك، علشان ماترسميش أحلام مالهاش أساس.
إلياس ابني…وأنا عارفاه كويس..
قاطعهم رنينُ هاتفِ رؤى:
-ابعتي يوسف أنا على البوابة..كانت فريدة تراقبُ حديثهما إلى أن نطقت رؤى:
-حاضر، يوسف..
صاحت بها رؤى تشيرُ إليه ثمَّ التفتت إلى فريدة:
-هوصَّل يوسف لإلياس بعد إذنك.
-برضو مش عايز يدخل؟.
هزَّت كتفها وتحرَّكت متَّجهةً إلى يوسف، بينما ذهبت فريدة بعينيها إلى بوَّابة الفيلا، علَّه يدلف ويطمئنَ عليها ولكن ذهبت أمنياتها بعد خروجِ يوسف وعودةِ رؤى وإغلاقِ البوابة، كأنَّهم أغلقوا عليها الحياة…شعرت بوقوفِ أحدهم خلفها، رفعت عينيها الباكية إليه:
-الدنيا ليِّلت هتفضلي هنا لحدِّ إمتى؟.
رفعت كفَّيها إليه:
-قوِّمني يامصطفى مبقاش فيَّا حيل، ولادي قضوا عليَّا..
انحنى وحاوطَ جسدها يرفعها مع وصولِ رؤى التي قالت:
-أنا كلِّمت طارق وهيعدِّي ياخدني، بعد إذنكم..
رمقها مصطفى بنظرةٍ حادَّة وقال:
-بس أنا مش عايزه يقرَّب من بيتي ولا من ولادي يارؤى، أخوكي على عيني بس برَّة بيتي..
انسدلت دموعها وتحدَّثت بأسف:
-آسفة ياعمُّو، هكلِّمه تاني وأعتذرله.
-استني يارؤى..هتفت بها فريدة وهي تنظر إلى مصطفى بذهول:
-إيه اللي بتقوله دا؟! عايزها تمنع أخوها يجي لها؟..
-دا اللي عندي..قالها وتحرَّك للداخل، بينما اقتربت رؤى تحتضنُ كفَّيها:
-مش زعلانة ياماما، حقُّه ومنقدرشِ نلومه، متنسيش إنِّ طارق السبب في اللي حصل..
ضيَّقت عينيها وتساءلت:
-تقصدي إيه؟..
قصَّت لها ماصار، إلى أن انتهت قائلة:
-والياس طلب منِّنا محدش يقولِّك حاجة علشان متزعليش من عمُّو مصطفى.
استدارت فريدة متحرِّكةً للداخل، حتى وصلت إلى غرفةِ مكتبه، دلفت للداخل تنظر إلى جلوسهِ الموجع..اقتربت حتى جلست بجواره:
-ليه مقولتليش على موضوع غادة وطارق؟..
رفع رأسهِ إليها وصمت لبعض اللحظات ثمَّ قال:
-علشان الموضوع دا السبب في اللي حصل.
-يعني إيه؟..أنا بقيت على الهامش يامصطفى، دلوقتي بتفرَّق الولاد عن بعضهم..
تلألأت عيناهُ بالسحب، وهزَّ رأسهِ بالنفي:
-عمري مافكَّرت في كدا، بس أنا أب وخوفت على بنتي يافريدة.
-والياس ماكانشِ خايف عليها يامصطفى، تفتكر إلياس لو شايف الولد وحش هيجي يقولَّك، دا إلياس
يامصطفى وإنتَ عارفه أكتر منُّه..
هنا ضعُفَ وخارت دموعه، دموعُ رجلٍ قوَّتهِ يهابُ منها الجميع، تراجع بجسدهِ على المقعد:
-أنا حاسس روحي خرجت من جسمي يافريدة بعد ماهو مشي، بحاول أقلم نفسي بس مش قادر..
اعتدل يشيرُ بيدهِ على غرفة المكتب:
-كلِّ ركن هنا لينا ذكريات مع بعض، أشار على صدرهِ وتابع بحديثٍ باكٍ:
-دا ابني البكري يافريدة، ابني والله العظيم ابني ولا عمري في يوم فكَّرت في غير كدا، بس لحظة شيطان وذلِّة لسان هدِّتنا كلِّنا..
ربتت على كتفهِ وانهمرت دموعها بغزارة:
-عارفة ومتأكدة، والله عارفة أنُّه غالي عندك، وهوَّ كمان، بس كان لازم البعد دا علشان متشلوش من بعض.
-أنا مش شايل منُّه..تمتم بها سريعًا، وشعر بانحباسِ أنفاسهِ قائلًا:
-أنا صعبان عليَّا حياته اللي ادمَّرت بسببي، مسح على وجههِ بالكامل يهزُّ رأسهِ بعنف:
-إزاي أنا هاجمته كدا!!.إزاي أغلط الغلط دا!..ابني أنا ومحدِّش يقدر يقول غير كدا، بلساني أنا خرَّجته من حياتي..
-طيب ممكن تهدى، أنا لو عندي شك فيك صدَّقني كنت همشي معاه، أنا متأكدة من حبَّك له.
-وحشني أوي يافريدة، أوي، وعارف عمره ماهيسامحني، وأنا أستاهل لأنُّه مغلطش..بس معرفشِ كان مالي، مجرَّد ماقالِّي بابا فيه عريس لغادة وحبِّيت أعرَّفك، ولمَّا قال طارق الشافعي اتجنِّنت وبدأت أخبَّط بالكلام، واللهِ لو يزن كنت هوافق عليه، المشكلة الواد سوابق ومتربِّي مع راجح ورانيا، صعب عليَّا يافريدة أتقبَّل على بنتي حاجة زي كدا.
احتضنت ذراعهِ ووضعت رأسها فوق كتفه:
-دا قدر ومكتوب يامصطفى، يعني كان حيحصل لميرال كدا من غيرك، بس دي مجرَّد أسباب وتدابير مش أكتر.
اتَّجه برأسهِ إليها ورفع رأسها ينظر بعمقِ عينيها:
-يعني مش زعلانة منِّي؟..تنهَّدت بألمٍ يخترقُ روحها قبل جوارحها ثمَّ قالت:
-منكرشِ زعلانة منَّك ومصدومة فيك، بس دا ميخلنيش أمسح الحلو اللي بينَّا، نهدِّ حياتنا علشان موقف..
احتضن وجهها وطبع قبلةً مطوَّلةً فوق جبينها:
-ربِّنا يبارك لي فيكي يارب، قالها وضمَّها تحت حنانِ ذراعيه، ممَّا جعلها تدفن رأسها بصدره:
-نفسي نرجع زي زمان، تفتكر ميرال لسة عايشة يامصطفى؟.
-أنا مش ساكت، بعتِّ صورها سرِّي للمستشفيات الحكومية اللي في القاهرة عن طريق حد موثوق فيه، ونوَّهنا في الأقسام برضو، واللهِ بدوَّر في كلِّ مكان..المشكلة مش معاها أي حاجة نعرف نوصلَّها بيها.
نهضت بعدما شعرت بألمٍ بصدرها:
-أنا هطلع أنام، دايخة منمتش من إمبارح.
-روحي حبيبتي.
تحرَّكت وحاولت الصمود أمام آلامِ صدرها التي تنخرها بقوَّة، إلى أن وصلت غرفتها، ألقت بجسدها على السرير، ثمَّ مدَّت يدها تسحبُ دواءها، حتى يهدأَ الألم ولو قليلًا..
بالأسفل..ظلَّ جالسًا بمكتبهِ لفترة، عيناه مسمَّرتانِ على تلك الصورة التي تجمعهُ بأولاده، كم كانت السعادة تلمع في عيونهم، وكم بدا وجههِ فخورًا حينها..مرَّر أناملهِ المرتجفة على وجه إلياس، وكأنَّهُ يتحسَّسُ ملامحهِ للمرَّة الأخيرة، لتتحرَّر دمعة ثقيلة سقطت فوق الصورة..آه، كم كانت مؤلمة، كأنَّها تحرقُ روحهِ وتجرِّدهُ من آخر أنفاسِ الكبرياء.
وضع الصورة برفق، ونهض بخطا متثاقلة مترنِّحة، كأنّه يسيرُ فوق جمر، أو يسير بروحٍ بلا جسد..خرج من بيته هائمًا في الشوارعِ دون وجهة، تتقاذفُ أمامه مشاهدَ له ولإلياس، ظلَّ يجوب الشوارعَ لساعات، حتى وقف أمام لافتةٍ ضخمةٍ على أحد المنازلِ كُتبَ عليها: “إلياس الشافعي”…
هناك، عند تلك اللافتة، تهاوت كلُّ حصونه..شهق ببكاءٍ موجع، وكأنَّه فقد ابنه مرَّتين..هل خرج من حياته؟ هل أصبح غريبًا عنه؟ ذاك الطفل الذي كان يحملهُ على كتفيه، ويغرقهُ بحنانه، أيصبحُ الآن محجوبًا عنه باسمٍ جديد وهويَّةٍ جديدة؟.
هزَّ رأسه بعنف، وكأنَّه يطردُ تلك الفكرة القاتلة، مدَّ يدهِ المرتجفة إلى هاتفه، وضغط على الرقم الذي يحفظهُ قلبهِ قبل عقله:
في الداخل، عند إلياس…
كان يجلس في حديقةِ منزله، يطالعُ السماء الملبَّدة بالنجوم..عيناه تتنقَّلان بينها ببطء، كأنَّه يعدَّها، أو يبحثُ عن إجابةٍ بين الأفقِ والصمت…شعور بالاختناق راوده، ذكريات تحاصره، تداهمهُ بلا رحمة..فتح هاتفه، وقلَّب بين الصور..هنا يضحكُ بأحضانها، وهنا يبكي من أجلها، وهنا يحترق بغيابها..
خفض رأسهِ إلى الطاولة، وترك دموعهِ تنهمرُ بصمت..هل أصبح البكاء عادةً يوميَّة مثل الطعام، مثل الهواء؟
هل وصل به الحال إلى هذا الضعف، أين ذهب إلياس المتجمِّدِ المشاعر؟..
أين ذهب ذلك الشخص الذي كان لا يهمُّهُ سوى كبريائه؟..
هل عشقها حطَّمهُ بالفعل؟..
أم محاولتهِ بإقناع نفسه أنَّه ليس ذلك الشخص، بل هو شخص آخر، يجب عليه التأقلم رغمًا عنه..
رنَّ الهاتف..رفع رأسهِ ونظر إلى الشاشة التي أُنيرت برقمِ والده..
انعقد حاجباه..أجاب بصوتٍ مبحوح:
– بابا في حاجة؟!.
صمت مصطفى ولم ينبس سوى بأنفاسه، لحظات حتى أعاد إلياس سؤاله:
– بابا حبيبي مالك؟!
شهقة متقطِّعة، كأنَّها تخرج من صدرٍ مثقوبٍ بالألم ليردف بحروفٍ متقطِّعة
– حضرة اللواء برَّة..هتقابله ولَّا أرجع؟.
ارتجف قلبه وهبَّ من مكانهِ دون أن يشعر، يهرولُ إليه بأقدامٍ حافية، وصرخ برجالِ الأمن:
– افتحوا البوابة بسرعة..
رغم نظراتهم المتفاجئة، بخروجهِ بتلك الطريقة، ولكنَّه لم يهتم..خرج يركض بعينينِ دامعتينِ وقلبٍ ينتفض..دار بعينيهِ إلى أن رأى السيارة المضيئة على بُعد أمتار، ركض نحوها..
– بابا!.
همسها، ثمَّ وقف أمامه، رفع مصطفى عينيهِ الدامعتين وقال:
– بابا…إنتَ شايف إنِّي لسه أبوك
ياإلياس؟
تألَّمَ لرؤيتهِ بذلك الحال، فتح باب السيارة وساعدهُ على الخروج، أشار لأحدِ رجالِ الأمن:
– أمِّنوا العربية.
ثمَّ سار به وهو يحتضنُ ذراعهِ حتى وصلا للداخل.
نظر مصطفى إلى قدميهِ الحافيتين، ثمَّ رفع نظرهِ وقال:
– للدرجة دي مصطفى السيوفي يهمَّك، ياإلياس؟
تراجع إلياس إلى الخلف، متألِّمًا من وقع الكلمات:
– ارتاح يابابا، لو سمحت.
– إنتَ شايفني هلاقي راحتي بعد
مابعدت عنِّي؟ بعد ما قطعت علاقتك بيَّا؟ هونت عليك شهر كامل،
ياإلياس…بقيت أخاف أقول: “ابنِ مصطفى”.
– بابا، لو سمحت..أنا مش قادر أشيل أكتر من كدا، أنا موجوع.
اقترب مصطفى فجأة، أمسك وجههِ بقسوة:
– شايف؟ مش قادر تبعد ياابنِ مصطفى..مهما قلت إنَّك مش ابني، بترجعلي غصب عنَّك..لأنَّك منِّي، واللي بينا مش بيتقطع، إنتَ ابنِ مصطفى السيوفي يلا.
– بابا، أرجوك..كفاية، أنا مش ناقص، أنا محتاج حدِّ يسندني، مش يخنقني…
– أنا اللي بخنقك؟!.
صرخ مصطفى، وضرب صدره:
-أنا اللي بخنقك ياإلياس!!.
انهارت حصونه..فبعض الكلمات أثرها يجلدُ الروح، وتصبحُ كصاعقٍ كهربائي.
-مبقاش ينفع، صدَّقني مبقاش ينفع، لا أنا هنسى ولا حضرتك هتنسى.
هزَّ مصطفى رأسهِ وانحنى بجسدهِ يرفعهُ من فوق الأرض:
-إلياس مش متعوِّد منَّك الضعفِ دا، آسف ياحبيبي، آسف علشان كسرتك بالطريقة دي..
أطبق على جفنيه، وتلاشى تنفُّسهِ حتى شعر بأنَّ الغرفةَ تطبقُ على صدره، ليرفع عينيهِ التي ضاعت منها الحياة:
– حضرتك مش غلطان أنا اللي ضيّعت كلِّ حاجة..أنا اللي وقعت وانكسرت، حطَّمت حياتي..أنا محدِّش غيري..
استدار يطالعُ البيت بعينينِ هائمتين:
دا بيت مين؟ فين الحياة اللي كانت فيه؟!..أنا مش عارف أنا مين…أنا مش عارف أرجع لإلياس السيوفي، ولا قادر أعيش إلياس الشافعي…الشخص
اللي قدَّامك بقايا راجل، بيحاول يكمِّل علشان ابنه، وأخواته…
ثمَّ رفع عينيهِ لوالده، يتكلَّم بصوتٍ متهدِّج:
-منكرشِ كلامك كسر جوَّايا حاجة… بس الحقيقة، أنا اللي كسرت نفسي بالكامل.
قالها، ثمَّ انهار على ركبتيهِ فجأة، كأنَّ الأرضَ سحبت ماتبقَّى من تماسكه… كفَّاهُ على وجهه، وأردف ببكاءِ روحٍ مذبوحة:
-مش متحمِّل أكون إلياس الشافعي، إزاي كنت بضغط عليها، أنا ضعت وضيَّعتها، وابني هيضيع منِّي، حياتي انهارت..مبقتش قادر أعيش بالألم دا..
كلماتٌ صاعقة ارتطمت بوجدانِ مصطفى كالرصاص، فتراجع خطوةً كأنَّها أطاحته، ثمَّ جلس أمامهِ على الأرض، على ركبتيه، مدَّ يديه المرتعشتينِ وأحاط وجههِ بين كفَّيه:
-حبيبي دا قدرنا كلِّنا، فين إيمانك بربِّنا، إزاي واحد عارف ربِّنا ويتكلِّم بطريقتك دي!!.
-تعبان وعايز أرتاح يابابا، بجدِّ تعبان، خدني في حضنك، محتاج حد يطبطب عليَّا
جذبه وضمَّهُ لصدرهِ بقوَّة، لا كضابط، لا كوالد حتى…بل كرجلٍ يتشبَّثُ ببقايا روحه، وطفلهِ الذي صار رجلاً محطَّمًا:
آاااه حارقة أخرجها إلياس:
-دلوقتي بس فهمت يعني إيه تحتاج لحضن يكون دواك.
ربت مصطفى على ظهره وانسابت دموعهِ بصمت، هنا تمنَّى أن تعودَ الأيام إلى ذلك اليوم، لطلب من الله أن يخرسهُ ولم ينطق تلك الكلمات..
ظلَّا على الأرض، حضنٌ صامتٌ، تتساقطُ فيه الدموع دون خجل، والليلُ يكتفي بالمراقبة من بعيد على ذلك المشهدِ الذي هزَّ الوجدان..
أودعت قلبي أمانةً بين يديك، فكيف كسرتَه ورحلت؟
لم يكن قلبي ساحة حرب، بل كان مسكنك، مأواك، حضنك وقت العالم القاسي…
فلماذا كنتَ أنت القسوة حين ضاقت بي الأرض؟
بعد فترة أغلق مصطفى الباب عليه، وخرج متَّجهًا إلى غرفةِ يوسف، دلف للداخل وقام بتعديلِ نومهِ وتخفيضِ درجةِ حرارة المكيف، ثمَّ طبع قبلةً حنونةً على وجهه، واتَّجه للخارج…
ارتفع رنينُ هاتفهِ بالأسفل، هبط متَّجهًا إليه:
-أيوة يافريدة..
-مصطفى..أخيرًا ردِّيت، إنتَ فين الساعة تلاتة الفجر..
-آسف نسيت أتَّصل، أنا عند إلياس.
نهضت من فراشها مفزوعة واختنقَ صوتها:
-ماله إلياس..يوسف كويس؟..
-اهدي حبيبتي، إيه..جيت أطمِّن على ابني وابنه ولَّا مش من حقِّي ياأمِّ إلياس..
هدأ قلبها الذي تقاذفت نبضاتهِ بين الضلوعِ وقالت:
-حقَّك هوَّ حدِّ له حق غيرك، يعني هوَّ كويس؟.
-كويس ونايم هوَّ ويوسف.
-نايم!..ردَّدتها بذهول ثمَّ قالت:
-نايم إزاي وسايبك لوحدك؟..هوَّ الواد هيفضل بارد كدا..
أفلت ضحكة متَّجهًا إلى المطبخ:
-نعمل إيه حظِّنا، المهمِّ نامي وارتاحي، أنا كمان هصلِّي الشفع والوتر وأنام.
-إنتَ بتعمل إيه دلوقتي؟.
-دار بعينهِ بالمطبخ وتساءل:
-عايز أعمل حاجة سخنة، حاسس باحتقان والكلِّ نايم، بس مطبخ ابنك مش عارف فيه حاجة..
– على أساس إنَّك عارف حاجة في مطبخنا..
ضحك بصوتٍ وقال:
-وأعرف ليه هوَّ أنا مش متجوز ستِّ الحسنِ والجمال.
-لا والله..وصل إلى التوابلِ يقرأُ مافوقها، ثمَّ أجابها:
-أه والله..قدَّامي هنا كمون وفلفل أسود..إيه دا فلفل أسود؟!..ودا بيتعمل بيه إيه!..
ضحكت بنعومة عليه ثمَّ قالت:
-حبيبي إنتَ عند التوابل، دي للأكل أكيد مش هتلاقي بينهم حاجة تتشرب، امشي شوية كدا في الجهة التانية هتلاقي كلِّ المشروبات..ماتحاولش تسهر أكتر من كدا، الفجر خلاص على وشك، وكمان صحِّتك اللي حضرتك مش فارقة معاك، نام لو سمحت.
-علشان حبيبي دي حاضر، المهم هاتي غادة وإسلام الصبح وتعالوا نفطر مع بعض.
تنهَّدت وهزَّت رأسها قائلة:
-إن شاءالله..تصبح على خير..
-إنتي من أهله.
بمنزلِ يزن وخاصَّةً بغرفةِ رحيل
كانت تغطُّ بنومها، دفع الباب بقوَّة، فهبَّت من نومها تتلفَّتُ حولها بخوفٍ إلى أن وقعت عيناها على يزن الذي دلف الغرفة..
-إيه..فيه إيه، الولاد مالهم؟!.
قطب جبينهِ واقترب منها:
-مالهم الولاد، هوَّ أنا مدخلشِ أوضة مراتي غير علشان الولاد..
زوت مابين حاجببها تردِّد كلماته، ثمَّ زفرت بسأمٍ تعدلُ خصلاتها المتمرِّدة على وجهها وقالت:
-عايز إيه يايزن، داخل بطريقة اللصوص دي ليه يابني آدم إنت، وإزاي تدخل بالهمجية دي؟!..
-صوتك يامحترمة صوتك عالي ليه، الساعة تلاتة الفجر.
هبَّت من مكانها متناسيةً ماترتديه من منامةٍ صفراء تصلُ مافوقَ الركبة تكشفُ معظم جسدها، اقتربت منه وأصابتهُ بنظراتٍ ناريةٍ تشير إليه بحدَّة:
-اطلع برَّة، وبعد كدا لمَّا تدخل أوضتي تخبَّط على الباب، اعرف الإتيكيت شوية..وفكرة مراتك دي امسحها من دماغك، لأنَّنا خلاص وصلنا لحالة ميؤوس منها، ولو ينفع يايزن أعمل زي أختك صدَّقني هعملها..
انحنى يضع إصبعهِ على شفتيه:
-اشش، صوتك ياروحي، ثمَّ مشَّط نظراتهِ على جسدها بالكامل وقال:
-اللون دا مبحبوش، حدِّ يلبس قميص أصفر وينام بيه يابنتي..وبتتكلِّمي على الإتيكيت..
نظرت إلى نفسها ثمَّ رفعت نظرها إليه، وجدتهُ يلتهمها بنظراتهِ..
دفعتهُ بقوَّة لخارجِ الغرفة:
-اطلع برَّة..إيه البرود دا ياأخي..
لفَّ ذراعيهِ حول جسدها، وهمس بجوارِ أذنها:
-آخر مرَّة هتكلِّم في الموضوع دا، ولادي مش هيتربُّوا بعيد عنِّنا، لا إنتي هتبعدي ولا أنا هبعد ، فخلِّيكي شاطرة كدا، وكوني زوجة مطيعة، بلاش لعبة القطِّ والفار.
-يزن بتوجعني سيب إيدي.
هزَّها وقال:
-لمَّا تسمعي قوانين يزن الشافعي، وأوَّلها بعد كدا تصحي بدري وتجهِّزي الفطار لجوزك، ثانيًا..كلِّ يوم أرجع من الشغل ألاقي الحمَّام جاهز، ثالثًا ودا المهمِّ عندي طبعًا، مفيش إنتي في أوضة وأنا في أوضة، لو إنتي قابلة الوضع دا أنا مش قابله، إنتي مراتي سواء وافقتي ولَّا رفضتي، مراتي ولازم تعملي باللي ربِّنا أمر بيه.
قالها وأبعدها عنه..ملَّست على ذراعها بتأوُّهٍ موضعَ إمساكه، ثمَّ رفعت عيناها إليه:
-إن شاء الله هعمل اللي قولت عليه بالحرفِ الواحد، بس في أحلامك.
أومأ مبتسمًا:
-لا ياروحي وأنا صاحي واللهِ ودلوقتي أوَّل اختبار..هتدخلي تغيَّري القميص دا، وتلبسي لون غيره، وبعد كدا تيجي ورايا على الحمَّام تليِّفيني..
انكمشت ملامحها بجهلٍ عمَّا تلفَّظه، زمَّ شفتيهِ باستخفافٍ من ردَّة فعلها، ثمَّ اقتربَ وقال:
-أكيد مش عارفة تليِّفيني يعني إيه، أه ماالأستاذة بنتِ العمري بيه، على العموم هنزل على نفسي وأعلِّمك أصول التربية الزوجية، تليِّفيني يعني تحمِّيني، عايز أستحمى يعني..
برقت عيناها من حديثه، ممَّا جعله اقتربَ أكثر ولم يعد بينهما سوى أنفاسهم، وآمال حتى مستوى وقوفها وهمسَ أمام شفتيها:
-مش عارفة دي كمان، يعني ناخد شاور مع بعضنا، بس بالترتيب، أنا الأوَّل وإنتي بعدي، بس في نفسِ الوقت، إزاي بقى معرفش، أستاذة الجامعة البريطانية أكيد عندها معلومة في الترتيب..
هزَّة عنيفة أصابت جسدها من تلميحاته، رفعت عينيها إليه وجدتهُ يطالعها بتسلِّي، بل رفع أناملهِ يمرِّرها على عنقها إلى أن وصل فتحةِ قميصها، وهي تنظرُ إليه كالجمادِ الذي لم يشعر بشيء، إلى أن وصل إلى المحظورة، دفعتهُ بقوَّة وصاحت به:
-قليل أدب منحرف..امشي اطلع برَّة.
-قليل أدب..ليه شاقطك من شارع محمد علي، إنتي مراتي..
-يخربيت مراتك دي..قالتها صارخة، إلَّا أنَّه تحرَّك ناحية الحمَّامِ الخاص بها وقال:
-المية والصابون قاطعين عندي، خمس دقايق وألاقيكي جوَّا ..قالها وهو يدندن:
الغزالة رايقة
ما الناس الحلوة سايقة
يا سيدي ياجماله
ماله ضغط كتير عليه
ضربت أقدامها في الأرض وهمست:
-إنسان همجي لوكال، توقف على همسها، ثم التفت إليه
-همجي ولوكال، طيب ياست الفافي
عايز استحم
تمكنت وهي تعقد ذراعيها
-ليه حد قالك عاليا دادة ..تراجع إليها يحك ذقنه
-معنى كدا انك رافضة تساعدي جوزك يامدام
كظمت غيظها وهتفت بشراسة:
-ابعد عني يايزن، واتقي شري، بلاش تخليني أخرج عفاريتي عليك
دنى منها بخطوات سلحفية، واحتجزها بينه وبين الجدار
– هدخل الحمام يارحيل وعلى الله تتأخري ..قالها واستدار متحركًا، فهتفت بغضب:
-الهي يحموك في كنكة يابعيد
تسمرت قدماه، مستديرًا إليها سريعًا
-كنكة..انتي وصلتي للكنكة، بنت العمري بتقول كنكة ..أطلق ضحكة رجولية وغمز إليها
-طب يارب دعوتك تستجاب يابنت العمري، واحنا الاتنين نكون في الكنكة دي
-اااااه..صرخت بها وهي ترفع كفوفها، مع ضحكاته واتجاه للحمام، بينما هي
تراجعت على الفراش وتمدَّدت مبتسمة كلَّما تذكَّرت ماقاله..هزَّت رأسها ووجهها أنار بضحكاتها:
-دا هيجنِّنك ياراحيل..صمتت لحظات واغروقت عيناها بدموعِ الخيبة تهمسُ لنفسها:
-بس بحبُّه ومش قادرة أشيله من قلبي..
تنهيدة صارخة من قلبها قبل جوفها:
-هنفضل في العذاب دا كتير ياربِّي..
-راحيل..صاح بها يزن بعدما فتح جزء من بابِ الحمَّام..
اعتدلت على الفراش ولم ترد عليه:
-يارب صبَّرني أحسن ما أروح فيه في داهية..قالتها ونهضت متَّجهةً إلى غرفةِ أولادها، دلفت للداخل وأغلقت الباب خلفها:
-ماأشوفك هتعمل إيه يابو ليفة..قال أليِّفك..قالتها ضاحكة وتمتمت:
-مجنون وبحبُّه، جتك الهم ياراحيل، عمية..سبتي الرجالة كلَّها ومالقتيش غير دا..
عند يزن خرج من الحمام وهو يطلقُ صفيرًا معتقدًا أنَّها مازالت بالغرفة، دارت عيناهُ بأركانِ الغرفة سريعًا، فخرج يبحثُ عنها ظنًّا أنَّها فعلت ما قالته، ستتركهُ مثل ميرال..
دار بالغرفِ مثل المجنون، إلى أن وصل غرفةِ أولادهِ حاول فتحها ولكنَّها مغلقة..
طرق بهدوء:
-راحيل إنتي جوَّا؟.. كانت تستندُ على البابِ بصمت، تستمعُ إلى صوتهِ الخائف..
ردَّت:
-هنام مع الولاد، وإنتَ اشبع بالأوضة يايزن..قالتها وتحرَّكت إلى فراشِ ابنتها المستغرقة بنومها..
كوَّر قبضتهِ على بابِ الغرفة ثمَّ تراجع:
-ماشي..
باليومِ التالي بالشركة التي تعملُ بها رؤى..جلست في الكافيه الخاص بشركتها في وقت استراحةِ العمل،
وصلت إحدى صديقاتها:
-مستنتيش ليه يابنتي، قولت لك جاية.
نظرت للخارج وأجابتها:
-قولت أستناكي هنا، خلَّصتي الشغل اللي طلبه منِّك طارق؟.
أومأت لها ونهضت قائلة:
-هجيب قهوة أجبلك حاجة؟.
رفعت كوب قهوتها وردَّت:
-بشربها أهو..
بعد فترة سألتها:
-إيه آخر الأخبار عن أختك؟.
هزَّت كتفها للأعلى وقالت:
-مفيش جديد..لسة منعرفشِ حاجة عنها.
مطَّت شفتيها تلفُّ فنجانها ثمَّ رفعتهُ ترتشفُ بعضه:
-مش عارفة أختك دي إزاي تفكَّر تعمل كدا، ربِّنا مديلها كلِّ حاجة.
ابتسامة خفيفة شقَّت ثغرَ رؤى التي أجابتها:
-واللهِ دا اللي قولته..بس طبعًا ميرال عند الكلِّ حالة خاصَّة، أنا بحسدها واللهِ ياتقى، تعرفي جوزها هيموت عليها، رغم إنَّها اللي سبته.
-غبي واللهِ من قلِّة البنات..
ابتعدت بنظرها للخارجِ وهمست بصوتٍ خافت:
-لا مش غبي، دا علشان بيحبَّها ومش شايف غيرها.
-لا والله..قالتها صديقتها التي تُدعى تقى باستهزاء، ثمَّ قالت:
-ليه اللي خلقها مخلقشِ غيرها، سوري يارؤى بس الرجالة كلَّها واحد، يعني لو شافوا اهتمام من أي ستِّ بيريَّلوا عليها، بس همَّ اللي بيعملوا حزنانين.
اتَّجهت رؤى تنظرُ إليها بتساؤل:
-مش كلِّ الرجالة، إنتي متعرفيش إلياس وميرال بيحبُّوا بعض قدِّ إيه..
ارتشفت تقى من بعض قهوتها تهزُّ رأسها باستهزاءٍ ثمَّ أردفت:
-ميرال بتحبُّه أوي..وبدليل سابته هوَّ وابنها، إنتي عبيطة يابنتي..أختك أكيد زهقت ومحبِّتش تكمِّل في العلاقة، علشان كدا هربت، أو رمت نفسها زي ما بتقولي وماتت..
قطبت رؤى جبينها رافضةً حديثها:
-لا مش معاكي، هيَّ بقالها فترة بتتعالج بسبب ظروف إنتي متعرفهاش.
اقتربت تربتُ على كتفِ رؤى باستخفافٍ ثمَّ قالت:
-خلِّيكي هبلة كدا، أنا لو مكانك أنتهز الفرصة، مش دا اللي كنتي هتتجوزيه زمان، لولا اللي حصل..
-الموضوع انتهى وخلاص ياتقى، ودلوقتي إلياس مش بيفكَّر غير في مراته وابنه.
لكزتها بغضب وقالت:
-يابنتي فوقي، مرات مين، أختك ماتت، وحتى لو عايشة مستحيل ترجع تاني، هتفضلي كدا لحدِّ مايخطفوه منِّك، زمان كان فيه حاجز بينكم، دلوقتي مفيش حاجة، واللي فهمته إنِّ الولد مرتبط بيكي ودا أهمِّ حاجة، لازم تلعبي على الحتة دي، ومتنسيش إنِّ إلياس صغير لسة، على ماأظن ماوصلشِ الأربعين، واللهِ أنا أدِّيله تلاتين سنة..
تاهت رؤى بحديثِ صديقتها ثمَّ همست:
-تفتكري ممكن يرجع يتجوز تاني بعد الحبِّ دا كلُّه..لا ماأظنِّش.
تململت بجلوسها ونظراتها قائلة:
-وهوَّ وقت ماكان عايز يتجوزك مكنشِ بيحبَّها، يابنتي أي راجل في الدنيا عايز الدلع والحنان..ومفيش راجل بيحزن على ست، طب واللهِ لو من خاطري لكنت وقَّعته، إنتي مش بتشوفي البنات بتبصِّ عليه إزاي لمَّا بيجي هنا واللهِ إنتي هبلة، وهتفضلي بخيبتك كدا لحدِّ ما يدخل بواحدة عليكم ويقول مراتي..
هزَّت رأسها بعنف وقالت بحدَّة:
-لا مستحيل، مفيش واحدة تقدر تقرَّب منُّه.
هزَّت الأخرى أقدامها تنظرُ إليها باستخفاف:
-دا إنتي واقعة لشوشتك، وجاية تقولي بيحبِّ أختي..جتك نيلة، قومي خلِّينا نروح لأخوكي اللي فوق دا، أهو دا بقى اللي نفسي يوقع في غرامي، بس معرفشِ ماله ياختي شبه ابنِ عمُّه، عيلة هم هتجيبلي التروما..
بمنزلِ أرسلان…
دلفت إلى الغرفة بهدوء، وجلست على طرفِ الفراش تمسِّدُ خصلاتِ شعره بحنان..فتح عينيهِ ببطء، دار بنظرهِ في الغرفة متجنِّبًا عينيها، لكنها ألقت بكفِّها على وجنتهِ وأدارت وجههِ إليها برفق:
– حبيبي، مالك؟ من ساعة ما جيت وإنتَ نايم. ماما صفية كلِّمتك كذا مرَّة، وكمان عمُّو إسحاق.
– أنا واخد إجازة..ممكن تسيبيني أنام شوية؟ ولمَّا أصحى نحكي…
انحنت تقبِّلهُ على خاصرته، ثمَّ عادت تمسِّد شعرهِ برفق:
– خد راحتك، وأنا هتصرَّف لو حد اتَّصل..على قدِّ مافهمت، في حاجة مضايقاك ومش عايز حدِّ يعرف.
قبَّل كفَّها وهمس:
– جهِّزي نفسك..من أوَّل الأسبوع هننقل على كمبوند الشافعي..وعايزك تتعاملي مع الولاد إنُّهم ولاد أرسلان الشافعي…مش عايز حدِّ يقول الجارحي تاني.
– خلاص يعني كدا هننقل؟
أومأ وأغمضَ عينيه، وقال بصوتٍ خفيض:
– كلِّ واحد لازم يرجع لأصله ياغرام. مبقاش ينفع…ولادي لازم يتنسبوا لجدُّهم الحقيقي، وإن شاءالله هنقلهم من المدرسة…بس أوَّل نظبَّط ظروفنا.
– حاضر..بس خلِّينا نأجِّل كلام عن الولاد دلوقتي، مينفعشِ على الطاير كدا، نام وارتاح.
– هيَّ الساعة كام؟
– سبعة..لسه بدري، أنا صحيت علشان أجهَّز الولاد.
ابتسامة حزينة مرَّت على وجهه، أومأ لها بهدوء..نهضت تغلقُ الإضاءة، واتَّجهت إلى غرفِ أولادها..أمَّا هو، فظلَّ يتأمَّل السقف، يدهِ تحت رأسه، دقائق تمرّ كأنَّها دهر، ثمَّ أمسك بهاتفهِ المغلق واتَّصل بأخيه.
عند إلياس..
أنهى صلاةَ الصبح، بعد أن فاتهُ الفجر بسببِ ماحدثَ بالأمس…التقط الهاتف على رنينه، وعيناهُ تتأرجحُ بالقلق:
– أرسلان..خير على الصبح؟!..
– مفيش…صحيت بدري وقلت أصبَّح عليك.
خرج من غرفتهِ ومازال ممسكًا بالهاتف:
– لا بجد؟ حلمت بيَّا ولَّا إيه؟
أجابهُ أرسلان ممتعضًا:
– إلياس، مش عايز تريقة..حسيت إنِّي محتاج أكلِّمك وخلاص.
توقَّف إلياس بعدما شعر بنبرةِ صوتهِ المخنوق:
– إنتَ كويس؟
– آه..كويس الحمدُ لله، زي ماقلتلك، صحيت بدري بس.
قالها مع دخولِ إلياس غرفةِ ابنه يوسف، اقترب من نومه، وانحنى يمسِّدُ على شعره:
-حبيبي اصحى، رفرف بأهدابه، ثمَّ أغلق عينيهِ مرَّةً أخرى..
-يوسف وبعدين، اعتدل فوق فراشهِ للحظات، ثمَّ نهض وتحرَّك ببطءٍ قائلا:
– صباح الخير يابابا.
–صباح الخير حبيبي، يالَّه علشان الباص.
أومأ له واتَّجه إلى حمَّامه، بينما فتح إلياس النوافذ وتحدَّث مجدَّدًا:
– بصحِّي يوسف للمدرسة.
– ليه؟ فين الدادة؟
– محبتشِ حدِّ يعمل له حاجة من بعد ماميرال مشيت، هيَّ عوِّدته على كدا، خفت يدخل في حالة مش كويسة، وأنا مش ناقصني.
– ربِّنا يعينك ياحبيبي..كويس إنَّك ما خلِّتوش يحسِّ بالنقص.
– آه…بس تعِبني، حالته متقلِّبة..كلِّ شوية يسأل عن ميرال، حتى النَّانا مش عايزها تساعده في الهوم وورك..وأنا بحاول أكون هادي، قدِّ ماأقدر.
– معلش..لازم تتحمِّله، لسه طفل.
– سيبك من يوسف..احكيلي، إيه اللي حصل؟
– مفيش والله…قدِّمت استقالتي..وإن شاء الله أوَّل الأسبوع هننقل..بس أزبَّط وضعي، وكنت عايز أشاركك في شركة الأمن.
ضحك إلياس، بخروجِ يوسف يحملُ ملابسه:
– تعال يابابا، كلُّه طمع في شركتي..لا يا حبيبي الشركة دي بتاعتي، وإنتَ عندك النادي العب فيه براحتك.
– بقى كده، طمعت…طمعت ياابنِ فريدة.
سكت لحظة ثمَّ أكمل:
– إلياس…تفتكر هنقدر؟
– أدينا بنحاول..المهمِّ نحاول
ياأرسلان.
اقترب يوسف:
– بابا، عايز أكلِّم عمُّو.
ناولهُ إلياس الهاتف، وهو يداعبُ خصلاته:
– كلِّم يوسف.
– عمُّو، عامل إيه؟ هتيجي إمتى تلعب معايا؟ حضرتك وعدتني..
– عيون عمُّو، إن شاء الله آخر الأسبوع.
– أووف، النهاردة لسه الاتنين.
ضحك أرسلان:
– العب مع باباك لحدِّ ماآجي.
رفع يوسف عينيه:
– بابا دايمًا مشغول..وبيرجع متأخَّر.
سهمًا خرج من عينيهِ نحو صدرِ إلياس، شعر وكأنَّه صوتُ ميرال تتحدَّث على لسانه..أخذ الهاتف منه وأغلقهُ بعد أن قال:
– لو فاضي، عدِّي على الشركة…
ثمَّ التفت إلى يوسف، يسحبُ كفِّه ليغلقَ زِرَّ قميصه:
– عارف إنِّ بابا مقصَّر…بس يوسف كبر، والمفروض يعذر، بابا هيوعدك بيوم إجازة نعمل فيه كلِّ اللي إنتَ تحبُّه.
عانقه يوسف، وقال بصوتهِ الطفولي:
– حبيبي يابابا..أنا آسف.
ضمَّه إلياس بقوَّة، يستنشقُ رائحته، كأنَّه يبحثُ فيها عن أثرٍ من ميرال… اغروقت عيناه، ثمَّ احتضنَ وجهه
وقبَّله على جبينه:
– برافو عليك يابابا، شوف عايز تعمل إيه يوم الخميس، وأنا أكون جاهز.
صفَّق الطفل:
– يعيش بابا حبيبي..
بينما جهَّز إلياس حقيبته، واتَّجه إليه:
-يالَّه علشان لسة مشوار الساندوتشات، نظر الطفل إلى محتوياتِ الحقيبة، ثمَّ صرخ بضجر:
– نسيت الرسمة اللي الميس عايزاها..
وبعدين أنا مش بحبِّ الرسم…وكنت دايمًا أقول لماما كده، بس كانت تخلِّي الموضوع حلو وتحبِّبه ليَّا، عارف يا بابا؟ أنا بحبِّ الإنجليش والماث…بس العربي والرسم لا خالص..بس لمَّا كانت ماما تشرحهم، بحبُّهم علشانها…
طعنةٌ مزَّقت قلبهِ من كلماتِ طفله البسيطة التي فتحت جرحًا أكبر..كأنَّه يسمع من طفلهِ اعترافًا يذكِّره كم كان بعيدًا..كم كان يجهلُ تفاصيله الصغيرة.
اقترب الطفل، وضع كفِّهِ على خدِّ والدهِ الشارد:
– بابا، حضرتك رحت فين؟ أنا عايز الساندويتشات…وياريت المرَّة دي ما يبقاش الأكل بيقع منُّه..
أومأ له ومازال شاردًا بحديثه، هبط للأسفل..خرجت الخادمة على هبوطه:
-حضَّرت اللانش بوكس بتاع البيه الصغيَّر ياباشا
اتَّجه بنظره إلى طفلهِ الذي مطَّ شفتيه وأردف:
-أمري لله أهي أحسن من ساندوتشاتك يابابا..داعبهُ بابتسامةٍ حزينةٍ ثمَّ أشار إليها:
-هاتيله كوباية اللبن..توقَّف عن الحديثِ بنزولِ مصطفى، التفت إليه إلياس:
-بابا حضرتك بت هنا؟!.
ركض يوسف إليه:
-جدُّو حبيبي عندنا..انحنى مصطفى وحمل يوسف قائلًا:
-إنتَ بتاكل إيه يالا، تقلت كدا ليه؟.
نظر الطفل إلى جدِّهِ متذمرًا:
-أنا اللي كبرت ياجدُّو، وحضرتك عجِّزت ومش قادر تشلني، نزِّلني حدِّ قالَّك شلني..
قهقه مصطفى عليه وتحرَّك به إلى طاولةِ الطعام، ملقيًا تحيَّةَ الصباح:
-صباح الخير ياإلياس
رفع نظرهِ إلى الخادمة وقال:
-جهِّزي الفطار، ومتنسيش أكل سيادةِ اللوا..
أومأت له وتحرَّكت بعدما قالت:
-تحت أمرك ياباشا، جذب المقعد وجلس بمقابلةِ والده:
-فكَّرت حضرتك مشيت..
اتَّجه إليه بنظراته:
-ليه يابنِ مصطفى أنا ليَّا في البيت دا أكتر منَّك، ومتنساش حفيدي كمان..
ابتسم إلياس بحنان وهزَّ رأسه:
-طبعًا ياسيادةِ اللوا، حد يقدر يقول غير كدا.
قاطعهم صوتُ غادة:
-واللهِ لولا قالولي إنِّنا جايين نفطر مع الأنتيم بتاعي ماكنت صحيت من النوم، بس كلُّه فدا اليو حبيبي..
-حبيبتي يادودي..انحنت تقبِّلُ رأسه:
-يالَّه بعد ماكنَّا بناخد أحضان ببلاش بقينا نبوس الشعر..
دفعها إسلام الذي هوى بجسدهِ على المقعد:
-ليه بتحسِّسوني إنِّنا جايين نفطر مع رئيس الجمهورية، وحالة الطوارئ اللي ماما عملتها دي من الفجر، طيب أنا عايز أنام دلوقتي..نوِّموني..
اتَّجه إلياس إلى مصطفى وتساءل:
-حضرتك اللي طلبت منهم..قالها بدخولِ فريدة والخادمة تحملُ بعض الأشياء، ثمَّ أشارت إليها:
-فضِّي الحاجات دي في أطباق وجهِّزوا السفرة يابنتي.
توقَّف إلياس مستديرًا إلى فريدة:
-صباح الخير ياماما..مكنشِ فيه داعي لتعب حضرتك.
اقتربت ترمقهُ بعتاب ثمَّ تحرَّكت من جوارهِ دون أن تعيرهُ أهمية وقالت:
-أنا بس صعبان عليَّا أخواتك اللي إنتَ وحشتهم، فقولت أطلع أحسن منَّك يابنِ فريدة..
جلس على المقعد يطالعها بحاجبٍ مرفوع ثمَّ قال:
-ليَّا الشرف يامدام فريدة إنِّي هفطر معاكم والله.
حدجتهُ بنظرةٍ تعني الكثير ثمَّ قالت:
-مش علشانك خلِّي بالك، علشان أبوك وأخواتك.
زمَّ شفتيهِ واتَّجه إلى مصطفى قائلًا:
-هوَّ حضرتك ليه مابتعملشِ بالنصايح، قلبت عليَّا علشان بيِّت هنا، ياعم يبقى روح بات عندها..بلاش تغضب عندي.
رفع إسلام رأسهِ من فوق الطاولة يطالعهُ بذهول، ثمَّ فرك عينيهِ لعدَّةِ لحظاتٍ متَّجهًا إلى غادة:
-هوَّ أنا في الواقع ولَّا بحلم يابت ياغادة..الشخص دا إلياس!..
قهقهت غادة تصفعهُ بخفَّة على رأسه، ثمَّ اتَّجهت تعانقُ ذراعَ إلياس:
-لا ياحبيبي في الواقع، أنا والبتِّ ميرو بس اللي كنَّا عارفين أنُّه خفيف الدم..
هنا صمتًا مميتًا بعد نطقها لاسمِ ميرال، لتدور العيونُ جميعًا حول الوجوه، توقَّف يشير إلى طفله:
-تعالَ حبيبي الباص جه..خرج بجوار طفلهِ يشيرُ إلى الأمن:
-خلِّيك مع يوسف لمَّا يركب الباص..بينما بالداخلِ لكز إسلام غادة قائلًا:
-كان لازم تتسحبي من لسانك..أمَّا فريدة توقَّفت وقالت بنبرةٍ مكسورة:
-هشوف البنات جهِّزوا الفطار ولَّا لأ..قالتها هربًا ودموعها تفترشُ طريقها..
-إسلام شوف أخوك فين..
-أومأ لها وتحرَّك للخارج.
بمنزلِ يزن وقفت بالمطبخ تُنهي طعام الإفطار بجوار الخدم..حملت بعضَ الطعامِ على سرفيس وتحرَّكت إلى الخارج وهي تدندنُ مع الأغنية التي تصدحُ بالراديو:
إنتَ تقول وتمشي، وأنا أسهر ما أنامشي
يااللي مابتسهرشي ليلة ياحبيبي
سهرني حبيبي حبك ياحبيبي
بكتب على الليالي اسمك ياحبيبي
حبيتك ياحبيبي من غير ما أسأل سؤال
وحاسهر ياحبيبي مهما طال المطال
أنا بس اللي محيرني وما خلانيش أنام
إزاي أنا أقدر أسهر وإزاي تقدر تنام
وأقوله «حبيبي كلِّ مافيك حبيبي وحلو
صوتك حلو قلبك حلو
وحتى لمَّا تتعبني وأسهر لك سهرك حلو»
-أنا هنا ممشتش، إنتي عمية؟..
-عارف صوتي حلو وأنا على بعضي حلو…
وضعت الطعام بغضبٍ مصطنعٍ واستدارت إليه:
-وبعدهالك بقى..اقترب وحجزها بين ذراعيهِ وطاولةِ الطعام، ثمَّ أبحرَ بعينِهِ على وجهها:
-صباح الخير ياحبيبي.
ارتجف جسدها من قربهِ المهلك، وابتعلت ريقها قائلة:
-يزن ابعد علشان منزعلشِ من بعض.
رفع أناملهِ يرفُّ بها داخل خصلاتها الشقراء وتحدَّث:
-وليه نزعل من بعض، عندي اقتراح، ولَّا بلاش الاقتراح..عندي سؤال يارحيل بس قبل ماتجاوبي لازم تفكَّري كويس، وصدَّقيني فيه حاجات كتيرة هتترتب على الإجابة..
تأرجحت عيناهُ بالحيرة من هدوئها، ناهيك عن يده التي تتحرَّكُ بخصلاتها، ونبرةُ صوتهِ الدافئة..
رفع ذقنها ونظر لداخلِ مقلتيها:
-بغضِّ النظر عن ولادنا، اللي عمري
ماحاولت أحطُّهم في صراع بينَّا، انسي الولاد، وصدَّقيني عمري ماأعمل حاجة ضدِّ مستقبلهم وراحتهم، ولا إنِّي أعمل حاجة تزعلِّك منِّي، خلاص اللي حصل حصل..
طالعتهُ تنتظر باقي حديثه بشقِّ الأنفس..سحب كفَّيها وجلس على الأريكة وأجلسها بجواره:
-راحيل إنتي فعلًا عايزة تطلَّقي، يعني عايزة تبعدي عنِّي؟..ثبَّت وجهها وتعمَّق بعينيها:
-هتقدري تعيشي بعيد عن يزن، لو هتقدري صدَّقيني أنا مش هقدر
وكلامي دا مش بغصبك تكوني معايا، فكَّري وأنا منتظر، ووقت ماتقولي قرَّرتي إيه واللهِ وحياة رحيل عندي هعمل اللي إنتي عايزاه، حتى لو هتاخدي الولاد وتستقرِّي بعيد، المهم تكوني سعيدة ومرتاحة..
قالها واتَّجه إلى طاولةِ الطعام:
-ريحة الأكل حلوة، شوفتي علشان بس دخلتي المطبخ الأكل حلو إزاي..
نهضت واتَّجهت متوقِّفةً أمامه:
-ليه طلبت طلاقي منَّك بليلة يايزن، وياريت تجاوبني بصراحة، علشان إجابتك متوقِّف عليها إجابتي.
عند ميرال..
خرج الطبيب من غرفتهِ يهزُّ رأسهِ بأسف:
-للأسف يانعيمة البنت دخلت غيبوبة..
ضربت نعيمة على صدرها:
-ياحبيبتي..يعني بعد كلِّ اللي حصل معاكي تدخلي في غيبوبة!..رفعت رأسها وتساءلت:
-طيب والجنين ياحمدي، دي لسة مدخلتشِ التامن.
-لحدِّ دلوقتي كويس، مش عارف إيه اللي حيحصل بعد كدا..فيه نزيف داخلي بنحاول توقفه..
اهتزَّت ساقيها فاتَّخذت المقعد ملجأها:
-زي مايكون البنتِ دي مش مكتوب لها السعادة.
جلس بجوارها وقال:
-مش ناوية تقوليلي مين دي يانعيمة..
رمشت عدَّةَ مرَّاتٍ محاولةً السيطرة على الرعشة التي أصابت جسدها من الخوفِ عليها، ثمَّ قالت:
-اللي أعرفه إنَّها متجوزة واحد غني أوي، وكانت عايشة مع ناس على أساس أهلها وطلعوا مش أهلها، حتى اللي كانت متجوزاه، طلع ابنِ عمَّها وأبوها هوَّ اللي قتل عمَّها وشرَّد العيلة، دا اللي حكته..أه وجوزها شغَّال ظابط في أمنِ الدولة..
هبَّ من مكانهِ مذعورًا:
-يانهارك مش معدِّي، إنتي إزاي تصدَّقي الكلام دا، مايمكن بتضحك عليكي، ووراها مصيبة ولَّا قاتلة حد ولَّا هربانة من حاجة..
جذبتهُ من كفَّيهِ وأجلسته:
-اهدى واسمعني، قامت بقصِّ كيفية وصولِ ميرال إليها:
جحظت عيناهُ يطالعها بصدمة:
-يعني إيه؟.
-واللهِ دا كلِّ اللي حصل، وكمان أنس متابع معاها، بس لمَّا جينا هنا قطعت علاجها.
-يعني هيَّ قالت لك كانت بتتعالج نفسي؟.
أومأت له وقالت:
-البنتِ غلبانة أوي، ومكسورة، فكَّرتني بنهلة الله يرحمها، فاكر نهلة ياحمدي؟..
محبتش البتِّ تعمل حاجة في نفسها.
-يعني جوزها مفكَّر إنَّها ميتة؟.
-للأسف دا اللي فهمته منها، علشان بتقول وقعت العربية في النيل.
طيب أنس قالِّك إيه عن حالتها؟.
‏. (Severe Major Depression)
-إيه..أومأت له واستطردت:
-ممكن تئذي نفسها فعلًا..أكيد إنتَ دكتور وعارف أنُّه مش مجرَّد اكتئاب.
-لا حول ولا قوَّة إلَّا بالله العليِّ العظيم..
بس برضو لازم جوزها يعرف، إنتي عارفة دا لو عرف إنَّها عايشة ومقولناش ممكن نروح في داهية..
-أنا مستحيل أخون البنت، لحدِّ ماتفوق.
إنتي مجنونة يانعيمة، دي غيبوبة وكمان حامل..
ولو ياحمدي، اللي يوصلَّها لكدا مش ضمنها..
-يخربيت سنينك، بتقولك لوا وظابط أمنِ دولة.
-وإحنا مالنا، هوَّ إحنا كنَّا خاطفنها، دا المفروض يشكرونا كمان.
-برضو يانعيمة.
-مفيش غيره يابنِ عمِّي.
أومأ لها باعتراضٍ ثمَّ قال:
-طيب لو فضلت كدا للولادة، هتعملي إيه؟..فيه بيبي هيجي، يعني عايز إثبات يعني أوراق رسمية.
-وقتها ربِّنا يحلَّها.
نهض وتحرَّك وهو يتمتم:
-أووف..على نشفان دماغك.
مرَّت الشهورُ…
سريعةٌ كلمح البصر على البعض، وثقيلةٌ كجبلٍ جاثم على صدور الآخرين، حتى اكتملت السنة منذ مغادرة ميرال لمنزل السيوفي…
سنةٌ إلا نصفها، كانت هي فيها جثةً تتنفس، معلّقة بين السماء والأرض، في غيبوبةٍ سرقت منها كلّ شيء…حتى صوتها.
في ليلةٍ شتوية، أمطرت السماء كأنّها تبكي معها…
وقفت نعيمة أمام النافذة، تضم ذراعيها إلى صدرها وتحدّق في زخات المطر، ولم تكف شفتاها بالدعاء:
ــ سبحان اللي حبّبني فيكي وعلّق قلبي بيكي يابنتي…
يارب تقوّمي بالسلامة، مش علشاني… علشان بنتك،
خدها من بوقي يارب، أنا قلتها… ما تحرماش منها،
البنت هتعيش يتيمة؟ يتيمة أم وأب؟
اليتِم صعب… كُسر… وحشة مالهاش دوا.
مسحت دمعة سالت رغمًا عنها، ثم استدارت إلى ميرال، التي كانت مسجاة كأنها نائمة في سلامٍ مزيّف… جسد بلا روح، عينان لا تريان، وصدر بالكاد يرتفع.
دلفت هند بخطوات مترددة، هامسة:
ــ ماما؟… هتباتي هنا؟ ولا نروح؟ خالتو اتصلت تسأل.
نظرت نعيمة إلى الصغيرة، شمس، ذات الثلاثة أشهر، ثم أشارت عليها:
ــ هاتيلي شمس، وروحي انتي… سيبيني الليلة هنا.
ــ ليه يا ماما؟ حاسة بحاجة؟
اتّجهت بنظرها إلى ميرال من جديد، ثم تنهدت:
ــ مش عارفة يا بنتي… عندي إحساس جوايا حلو، ربنا يجعله من نصيبها
أومأت هند برأسها واحتضنت شمس، قبل أن تهمس:
ــ أنا في أوضة خالو حمدي، لو احتجتي حاجة ناديني، مش هروح
قبّلت الصغيرة التي كانت تلوّح بيدها في الهواء، لا تدري بما يدور من حولها، ثم خرجت، تُغلق الباب خلفها بهدوء.
حلّ السكون، ولم يبقَ سوى همسات التسبيح من فم نعيمة، بل قلبها الذي لا يتوقف عن الدعاء ناهيك عن صوت المطر، وماادراك ماصوته في جميلة محافظات مصر عروس البحر الابيض المتوسط
بعد عدّة ساعات… انتهت من وردها، قامت وأدّت ركعتي الضحى، جلست أمام سرير ميرال تتأمّلها…
فجأة…ارتجفت أنامل ميرال… حركة خفيفة، بالكاد تُلحظ، حتى ظنّت نعيمة أنّها تتخيّل…
لكنّها لم تكد ترفع بصرها حتى رأت أهداب ميرال ترفرف ببطء… ثم همست بصوتٍ بالكاد خرج:
ــ إلياس…
شهقت نعيمة واندفعت نحوها كأنّ الحياة ردت إليها، ركعت بجوارها، تمسد على خصلاتها، ودموعها تنهمر:
ــ ميرال!! حبيبتي… سمعاني؟! ردي عليا!
فتحت عينيها قليلاً، رمشت عدة مرات متألمة من ضوء الصباح، ثم همست من جديد
-إلياس …
كادت نعيمة تصرخ من الفرح، لكنها تمالكت نفسها، أمسكت هاتفها المرتجف، واتصلت بابن عمّها، وما إن أجاب ..
-فيه إيه على الصبح؟.
-مروة فاقت ياحمدي.
-مروة مين؟..ابتسمت وهي تطالعها بحنانٍ وقالت:
-مروة اللي كانت في الغيبوبة..قالتها مع فتحِ ميرال لعينيها بالكامل..تدور بالغرفة ثمَّ همست بتقطُّع:
-أنا فين؟!..
انحنت نعيمة، تنظرُ إلى ملامحها باشتياق، ياالله ماذا فعلتي فيَّا أيتها الفتاة حتى تصلُ درجة حبُّكِ لهذه المرحلة..
-إنتي معايا، إيه فكراني؟.
دقَّقت ميرال النظر إليها، وصور سريعة أمامها إلى أن همست:
-أبلة نعيمة.
قبَّلت نعيمة جبينها:
-روح قلب أبلة نعيمة إنتي..حاسَّة بإيه يابنتي؟.
-أنا فين وإيه اللي حصل؟..هنا تذكَّرت ماصار إليها، لتشهقَ تضعُ كفَّيها على بطنها:
-بنتي..بنتي فين؟.
ابتسمت وأجابتها بدخولِ حمدي:
-بنتك زي الفل..دلف حمدي ملقيًا السلام:
-إزيك مدام مروة؟..شوفتي نعيمة بتحبِّك إزاي، صحِّتني من النوم وأنا لسة يادوب بدخل مكتبي بعد عملية طول الليل..
كانت تنظرُ إليه بجهل، فأشارت إليها نعيمة:
-دكتور حمدي المسؤول عن حالتك، وبيكون ابنِ عمِّي كمان.
أومأت برموشها وقالت:
-بنتي فين؟..قالتها بتقطع
اقترب حمدي وقام بفحصها، وبدأ يسألها بعضَ الأسئلة عن الآلام، وحركاتِ رأسها وعيناها بكلِّ الاتِّجاهات..
دلفت هند تحملُ طفلةً تبلغُ من العمرِ ثلاثةُ أشهر.
أشارت نعيمة إلى هند، ثمَّ اقتربت تحملُ الطفلة:
– سمِّي الله، زي القمر شبهك أوي، أنا مشفتش باباها، بس واخدة منِّك كتير
باباها!!. هنا تذكَّرت الياس، رفعت عينيها للطفلة ثمَّ همست بتقطُّع:
-مين دي؟..
جلست نعيمة بجوارها على المقعد وهي تحملُ الطفلة:
-دي بنتك حبيبتي، اتولدت من فترة، إنتي بعد الحادثة دخلتي غيبوبة..
اقترب حمدي منها وقال:
-بعدين يانعيمة، المهمِّ نطمِّن عليها، لازم نعمل إشاعات..
-يعني أنا والدة من فترة؟!. تمتمت بها بصوت مجهد
أومأت نعمية مع نظراتِ ميرال للطفلة التي تضعُ أناملها بفمها..
-دي بنتي؟. يعني بنتي اتولدت من غير ماأحسِّ بيها!..بنتي اتولدت وحيدة!!.
-إخصِ عليكي، أنا رحت فين؟.
رفعت كفَّيها الذي ارتجف وقالت:
-عايزة أحضنها، اعترض حمدي:
-بعدين يامدام لو سمحتي، لازم أطمِّن على راسك بالكامل، وكمان أعصابك مش هتتحمِّل تمسكي حاجة.
أمالتها نعيمة حتى وصلت لأحضانها…
ضمّتها كأنها تحتضن الروح التي عادت من الموت
ــ ضمّيها يا بنتي…
رفعت ميرال يدها المرتجفة، وكأنها ترفع جبلًا، والتفّت ذراعها الهزيلة حول جسد الصغيرة، وما إن استقرت بين أحضانها، حتى انهارت بالبكاء، نشيجٌ مرير خرج من أعماق قلبها المكسور:
ــ آآآه يا حبيبتي… آآآه يا نوري وجنّتي… أمّك رمتك زي أخوكي، من غير ذنب…قالتها وهي تسحب رائحتها كأنها تريد أن تخنق نفسها بها
ارتفع بكاء الصغيرة ..فحملتها نعيمة
نظرت إليها ميرال بعينين تغرقان في الندم، وكأنها تتوسل إلى ابنتها بأن تسامحها على جرمها
أجلستها نعيمة برفق على ساقيها، ومسحت دموعها بيدٍ ترجف من التأثُّر:
ــ بطلي عياط، شوفيها حلوة إزاي
وإنتي مش رميتيها، دا كان غصب عنك… ظروفك هي اللي كانت صعبة
مررت ميرال أصابعها على وجه الصغيرة، تلمس أناملها بعيونًا باكية:
ــ سميتوها إيه؟
-شمس زي ماكنتي بتقولي لي ..
رفعت ميرال عيناها بتساؤل:
-ازاي كتبتيها ومفيش إثبات لأوراق
ترددت نعيمة، ونظرت إلى حمدي وكأنها تطلب المساعدة، ثم همست:
ــ شدّي حالك، ولما تبقي بخير نتكلم
رفعت ميرال وجهها بانكسار:
ــ يعني إيه؟!
زفرت نعيمة بأسى، كأنها تخشى الجرح لكنها مضطرة لفتحه، فتحت فمها للتحدث إلا أن حمدي قال:
ــ كتبتها على اسمي يا مدام ميرال…
كنتي بين الحياة والموت، ومحدّش يعرف حتى اسم جوزك بالكامل…
قلنا لما تفوقي تبقي تغيّري الاسم.
انكمشت ملامح ميرال، كأن طعنة أخرى نُقشت في صدرها، انتزعت الإبر من ذراعها وگانه ألقي عليه تعويذة لتشعل نيران صدرها، حاولت الاعتدال بجسدٍ مهزوم، وصرخت بصوتٍ ضعيف كاد أن يسمع:
ــ لاااا! مستحييييل… دي بنتي!
أنا أمّها… وأبوها عايش!
مستحييييل تتسجّل باسم تاني، ابوها موجود، قالتها انهارت باكية، حاولت نعيمة السيطرة على موجة غضبها
-اهدي يابنتي …
تنهيدة خرجت من نياط قلبها، لم تحتملها رئتاها، فتداعى جسدها المتعب على الفراش، وزاد صراخها وانهيارها.
وضعت نعيمة الطفلة بين يدي هند على عجل، وأسرعت تمسك بـ ميرال التي بدأت تفقد السيطرة بالكامل على نفسها، بينما حمدي يحاول تهدئتها:
ــ اهدَي يا بنتي، كفاية عليكي اللي حصلك…
لكن ميرال لم تكن ترى ولا تسمع…
كان الكون قد ضاق عليها بما رحُب…
صرخت من أعماقها:
ــ إلياااااااس!
كررتها وكأنها تستدعيه من باطن الأرض، حتى خارت قواها تمامًا، وغابت من جديد بعد إعطائها مهدئًا يُنقذها من نفسها…
ساعات مرت…
والصمت ثقيل، يُخيّم على المكان.
ظلت نعيمة تترقّبها بخوف:
ــ ايه يا حمدي… هي رجعت في غيبوبة تاني؟
بقالها أربع ساعات نايمة!
هزّ رأسه بأسى يمسح وجهه بارهاق:
ــ اللي عرفته مش سهل… وهي حالتها أصلاً مش مستقرة..هروح اكمل شغل واعدي عليكي مرة تانية ..لو حصل حاجة كلميني
-أنا متشكرة ياحمدي جدا، طالبة منك خدمة كمان، عايزة دكتور يتابعها لما تفوق لحد مانرجع القاهرة
ربت على كتفها، وقال
-حاضر يانعيمة، هشوف دكتور، بس لازم يكون ثقة، وتأكدي اخر عملي الوظيفي على ايدك انتي والجميلة دي
لكزته وهتفت
-ليك عين تهزر ياحمدي، وبعدين عينك، انت مشفتش جوزها حلو ازاي، اتلم يابن عمي
انحنى يغمز بطرف عينه:
-افهم من كدا انك غيرانة يابنت عمي
حمدي..فجأة!!
تحرك رمش ميرال ، ثم عيناها… فتحت ببطء، كأنها تعود من عمق ظلام طويل.
هرعت نعيمة إليها، أمسكت بيدها:
ــ حمد الله على السلامة يا روح قلبي… فوقتي تاني، الحمد لله.
نظرت إليهم بعينين شاردتين، ثم همست بتقطّعٍ يخنقه الرجاء:
ــ عايزة… أتّصل بجوزي.
أومأ حمدي وناول نعيمة الهاتف:
ــ فاكرة رقمه؟
دمعة ثقيلة تساقطت من عينيها، وهزّت رأسها بالإيجاب، تحاول تذكّر الرقم، لسانها يبطؤ، عقلها يرتبك، الأرقام تتراقص وتفرّ منها… لكنها أخيرًا جمعته.
-كلِّميه إنتي يانعيمة، بلاش إشعاع حاليًا قريب منها.
أومأت نعيمة ونظراتها على ميرال:
-أقولُّه إيه؟.
-قولي له ميرال عندي وبس..
رنَّة اثنتان ثلاثة..ودقَّاتُ قلبها تتقاذفُ بصدرها إلى أن استمعت الى صوتِ نعيمة:
-إلياس باشا معايا؟..
إلياس السيوفي..همست بها ميرال فقالت نعيمة:
-إلياس السيوفي..
-أنا، مين؟..صمتت باستغراب ثمَّ قالت:
-أنا اللي مدام ميرال عندها.
على الجانبِ الآخر نُطق كلماتٍ جعلت وجهها يتحوَّلُ لشحوبِ الموتى، وعيناها على ميرال التي تراقبُ بلهفة…
تعليقات



×
insticator.com, 6ed3a427-c6ec-49ed-82fe-d1fadce79a7b, DIRECT, b3511ffcafb23a32 sharethrough.com, Q9IzHdvp, DIRECT, d53b998a7bd4ecd2 pubmatic.com, 95054, DIRECT, 5d62403b186f2ace rubiconproject.com, 17062, RESELLER, 0bfd66d529a55807 risecodes.com, 6124caed9c7adb0001c028d8, DIRECT openx.com, 558230700, RESELLER, 6a698e2ec38604c6 pmc.com, 1242710, DIRECT, 8dd52f825890bb44 rubiconproject.com, 10278, RESELLER, 0bfd66d529a55807 video.unrulymedia.com, 136898039, RESELLER lijit.com, 257618, RESELLER, fafdf38b16bf6b2b appnexus.com, 3695, RESELLER, f5ab79cb980f11d1