رواية شظايا قلوب محترقة ( وكأنها لي الحياة ) الجزء الثانى الفصل السادس 6 بقلم سيلا وليد


 رواية شظايا قلوب محترقة ( وكأنها لي الحياة ) الجزء الثانى الفصل السادس بقلم سيلا وليد

 

لم يكن الرحيل بطولة…
كان انكسارًا أخجلني من نظراتهم لو مكثت.
كان خوفي عليهم أكبر من خوفي من البُعد،
فاخترت أن أمضي،
ظننت أنني أنقذهم مني…
لكنني لم أفعل سوى أن خلّفت خرابًا لا يُرمم.
فما عدت أرجو الغفران،
ولا الرجوع…
أريد فقط أن يعلموا:
أنني حين ذهبت،
كنت أبحث عن طريقٍ لا يُؤذيهم،
فانتهى بي الطريق… حيث لا أحد.
أراقبهم من بعيد،
كما تُراقب الغيمة أرضًا كانت تسقيها، ثم تخلّت.
أراهم يعتادون الغياب،
كما يُعتاد الوجع في صدرٍ طالت به الوحدة.
أُراقبهم كما يُراقب المذنبُ العدالة بعد فوات الوقت
لم يكن بيننا سور..
لكن المسافة كانت أبعد من كل المسافات…
أراه يمشي مثقَلاً وكأن الحياة تسحبه من كتفيه إلى قاعها
كأن شيئًا في قلبه لم يُشفى،
كأنّه لم يغفر، لكنه لم ينتقم.
أنا التي زرعت فيه هذا الانحناء…
أنا التي نبتَ منها وجعه.
لذلك عدتُ أدراجي ولم ألتفت،
لأن الالتفات خيانة للقرار،
ولأنني إن التفتُّ... سأعود،
وأنا لم أعد أملك إلا الرحيل

من أمام مدرسة يوسف

وقفت ميرال في مكانها كأن الأرض تجمدت تحت قدميها، عيناها تترقبان، وقلبها يشتعل بنيران الاشتياق، تنتظر طفلها بقلب متلهفًا

ظهرت سيارة أرسلان أمام المدرسة، اعتدلت بهدوء،  ترجلت غرام من السيارة، تحدثت معه قليلًا، ثم احتضنت كفّ بلال وسارت به إلى الداخل.

تتبعتهم ميرال بعينينها المتألمتين، وهمست لنفسها بمرارة خنقتها:

- "عملتِ في نفسك كده ليه يا ميرال..."

أغمضت عينيها تمنع دمعة خانتها، لكنها لم تملك أن تمنع الألم، ذاك الألم الذي التهم ضلوعها مع كل نبضة قلب.

لم تمضِ دقائق، حتى ظهرت سيارة إلياس، وكأن القدر قرر أن يجلدها بكل ما تبقى من أنفاسها. توقفت السيارة، وترجل منها طفلها، يتشبث بكفّ رؤى.

- "آآآه..."
خرجت منها ، كأن روحها أُنتزعت من صدرها دون رحمة.

لحظات وتوقفت سيارة غادة إلى جانبهم، ترجلت بعدما أشار إليها إلياس، ثم استدار إليها وهو يشير إلى الداخل قائلاً:
-"هتدخلي مع يوسف؟ عايز أطّمن على الكلاس... شوفي الدنيا ماشية ازاي جوا."

ربتت على ذراعه بحنو:

-"متخافش يا حبيبي، هدخل معاه. المدرسة ممتازة على فكرة... دي مش أول سنة له؟"

-  طيب يلا وراهم.

راقبته ودقات قلبها آلامت صدرها. همست باسمه، وتمسكت بذراع نعيمة التي كانت ترافقها، بعدما خانتها ساقيها
- "دا جوزك؟" تسائلت بها نعيمة

أومأت ميرال برأسها، ودمعة سقطت دون إذن:

- "أه... هو. واللي واقفة جنبه... دي اللي اتجوزها."

اتسعت عينا نعيمة في صدمة:
"دي أختك؟"

هزّت ميرال رأسها نفيًا، وردّت بصوت منكسر:
-  "لأ... دي بنت عمو مصطفى، جوز ماما فريدة... وأبو إلياس."
-"مش فاهمة..."

لم تقو ميرال على التفوه، فقد كانت الدموع أبلغ، ماتشعر به، قبضت على يد نعيمة بقوة حين استدار إلياس متجهًا نحو سيارته، ليظهر وجهه بالكامل اليها، رفع نظارته يرتديها وتحرك ، شعرت وكأنه لم يهتم للاختفائها، كأنها لم تُحبه يومًا، لم تُخنق من ابتعادها، لم تُدفن حيّة وهي مازالت على قيد الحياة..

لحظات و مرّت فيها سيارته بمحاذاتها، لم يكن بينهما سوى خطوة واحدة و لكنها شعرت بأنها كالمحيط.

سقطت كل قواها... وانهارت كأنها ورقة خريف ذبلت فوق اغصانها، وهو يمر بجوارها ولم يشعر بوجودها، ولم تستطع ملامسته

ضمّتها نعيمة بذراعيها، تهدئها، تربّت على ظهرها، بينما كانت ميرال تبكي بصوت مرتجف، تشعر بأنه خان حبها:
- "اهدي حبيبتي... اهدي."

اختفت السيارة، ورغم اختفائه، إلا أن وجعها مازال يؤلم صدرها. أوقفت نعيمة سيارة أجرة، وساعدتها على الصعود، بعدما فقدت تحمل جسدها و قلبها الممزق...

وصلت إلى منزلها بجسد خائر القوى ..متجمد بمشاعر الألم والحزن، دلفت بجوار نعيمة توقفت تنظر إلى طفلتها التي تلعب مع هند 

كم هو مؤلم عندما تعجزُ عن وصف ماتشعر به؛ ظلَّت واقفة تتابعُ ابنتها بعيونٍ لامعةٍ بكمِّ الألم الذي تشعرُ به
وصورُ ذكرياتٍ مع زوجها تكاد تخنقُ روحها، هل الآن يفعلُ مع زوجتهِ كما يفعلُ معها؟!.

غصَّة مؤلمة شعرت باختناقها، فخرجت سريعًا إلى الشرفة تتنفَّسُ بصعوبة تهمسُ اسمهِ بشفتينِ ثقيلين ودموعها انفرجت كالبرك..
شهقة أخرجتها من ثقلِ تنفُّسها، فهوت على ركبتيها تتنفسُ بصعوبة، وصلت إليها نعيمة وجلست بجوارها تمسِّدُ على ظهرها بحنانٍ أمومي، ألقت نفسها بأحضانها وبكت بصوتٍ مرتفع، صوتًا اهتزَّت له الجدران: 
ـ أنا بموت ياطنط نعيمة، قلبي مولَّع نار، مش قادرة أتنفس. 
ظلَّت تمسِّد على صدرها مرَّة وعلى رأسها مرَّة حتى استكانت بأحضانها، ثمَّ أخرجتها تزيلُ دموعها بحنان: 
-اسمعيني كويس حبيبتي، الماضي انسيه وافتكري مستقبلك ومستقبل بنتك، خلاص دوسي على الوجع، هينزف شوية بس هيطيب، غير لمَّا تسيبيه مفتوح. 
هزَّت رأسها بدموعها وقالت: 
-عندك حق، أنا لازم أفوق وأمسح الماضي كلُّه. 

رسمت نعيمة ابتسامة وقالت:
-أيوة كدا حبيبتي، شكلك قوية مش ضعيفة بلاش الاستسلام دا.

-عايزة أشتغل، لازم أشتغل، مش هفضل كدا بالدروس دي

-إنتي معاكي مؤهل إيه نسيت اسألك؟.
-أنا كنت صحفية في مجلة (.  )
-صحفية!..قالتها نعيمة بذهول، ثمَّ أردفت: 
-كنتي صحفية يابنتي وسبتي شغلك؟!.
-طنط نعيمة حضرتك لسة قايلة مش عايزين نرجع للماضي. 
-طيب حبيبتي، فيه حاجة في دماغك؟، 
-أه، عايزة أشتغل في مدرسة يوسف ابني. 
-إزاي مش فاهمة. 
-يعني لو أشتغل مدرِّسة، أو أي حاجة.. المهم أكون جنب ابني بأي طريقة. 
-طيب ماهوَّ هيعرفك.
-لا..أنا هقدِّم بالنقاب.
-يعني إيه مش فاهمة؟. 
قصَّت لها ميرال ماتريده.
صمتت للحظات ثمَّ قالت: 
-هشوف الدكتورة اللي شغَّالة معاها تعرف تجيب لك واسطة. 
-شكرًا..بجد شكرًا على كلِّ حاجة، لو أختي مش هتعمل كدا. 
-أه فكَّرتيني، أختك مش هتقوليلها إنِّك عايشة؟. 
-لا..كفاية يزن، دا الوحيد اللي أقدر أمِّن له، متأكدة منُّه، رؤى ماأظنش إنَّها تسكت، ممكن تقول لإلياس أو ماما فريدة.
-طيب قومي نتغدى وبعد كدا نشوف.. 
بعد أسبوع دلفت نعيمة إليها الغرفة: 
-حبيبتي..رفعت رأسها بعدما كانت تداعبُ ابنتها، ثمَّ توقَّفت: 
-عملتي إيه؟. 
-للأسف المدرسة مكتفية بالمدرسات، بس..بس..قالتها وصمتت، طالعتها بحزنٍ متسائلة:
-بس إيه ياطنط؟.
-عايزين نانا للصفوف الأولى.
-إيه..نانا!!.
أومأت برأسها قائلة:
-للأسف أه.
-أنا موافقة. 
جحظت عيناها تطالعها بصدمة:
-عايزة تشتغلي نانا؟!.هزَّت رأسها وقالت بدموعها:
-أيوة المهم أشوف ابني وأحضنه وألمسه. 
-دا ينفع إزاي في المدرسة؟.
لوَّحت بيدها باكية: 
-مش عارفة، المهم أشوفه وخلاص، اقتربت من نعمية وتشبَّثت بكفَّيها:
-وحياتي ياطنط نعيمة، حاولي تتصرَّفي، أنا موافقة، المهمِّ ابني وبس.

هتتعبي يابنتي. 
صرخت قائلة:
-أنا موافقة..ربتت على ظهرها: 
-الله المستعان..
أسبوع آخر إلى أن ذهبت إلى المدرسة التي بها يوسف..
دلفت للداخل وبعد مقابلةِ عملها، وقبولها بسبب معرفةِ الطبيبة بأحدِ المسؤولين بالمدرسة.. 

خرجت تتفحَّصُ ممرَّاتِ المدرسة..

كأنَّ قلبها الذي خرج قبلها، يركضُ بين الصغار بحثًا عن نبضهِ الغائب، تبحث بعينيها المشتعلة بلهيبِ غيابِ الضنا عن الأحضان، كأنَّ كلَّ خلية فيها تصرخ باسمه، وعقلها لا يرى سوى صورةِ طفلها الغالي. 

توقَّفت تلك العيونِ المتلهفة بين الصغار، بإحدى  فتراتِ الاستراحة، كانت تتحرَّكُ معها إحدى المسؤولاتِ عن عمَّال النظافة، فقالت لها:
-خليكي هنا لمَّا أشوف مين موجود معاكي الأسبوع دا.
هزَّت رأسها وظلَّت بمكانها تنظر بالفناءِ ذو المساحة الشاسعة، دارت عيناها على تلاميذِ الصفوف الأولى 
وقلبها كالمضخَّة، يبحثُ عنه قبل عيناها، وقف طفلها..يتحرَّكُ بجوار بلال، يضحك، ضحكةً صغيرة هزَّت جدرانَ قلبها، شهقة خرجت كأنَّها طعنةً في الروح..هنا توقَّفت أنفاسها، وجمد الهواء في صدرها، ارتجفَ جسدها بالكامل، سوى دموعها التي أصبحت كالشلال، هنا عجز كلَّ شيء، حتى توقَّف اللسان عن التفوُّه، عن النطق عن كلِّ ما يدلُّ الحديث..هكذا كانت أوَّل رؤيتها له.

شهر مضى وهي تراقبُ طفلها من بعيد، لقد نفذ صبرها وسحقتها أمومتها، وهي تراهُ من بعيد..تتنفسُ وجوده عن بعد، تلتهمُ صوتهِ بنظراتها، لكنَّها لا تقترب...
أمَّا اليوم..فقد سقط...سقط، وكأنَّ الحياةَ منحتها عذرًا لتُشفى.
ركضت نحوه بكلِّ ما تبقَّى فيها من بقايا أمومة، عجزت عن كلِّ مايمنعها عن طفلها..فتحرَّكت خلفه تراقبهُ أثناء خروجهِ من المدرسة، كان يركض في الزحام حتى سقط على ركبتيه، هنا لم تتحمَّل المشاهدة فقط، هرولت إليه بقلبِ أمومتها: 

-حبيبي مالك..رفع الطفل عينيهِ إليها بصمت، هذا الصوت يتردَّد بأذنيَّ دائمًا، نعم إنُّه صوت ماما!!. 
همس الحروف بتقطُّع: 
-ماما..شعرت بانسحابِ أنفاسها ودورانِ الأرض بها وفقدت النطق وهو يراقبها بعينيهِ الصغيرة، وهي تفحصه بلهفةِ أم، انهارت وهي تتحسَّس ركبتيه، كأنَّها تزيل آلامهِ قائلة:

-حبيبي الحمدلله مفيهاش حاجة، ممكن ماتجريش تاني وتاخد بالك.. 
كأنَّه لم يسمع سوى صوتِ ميرال، صورها ضربت ذكرياتهِ حتى همس: 

-مين حضرتك؟..نطقها يوسف ومازالت عيناهُ تفحصها..
نهضت متوقِّفة مرتبكة تشير إلى نفسها: 
-أنا دادة هنا في المدرسة، شوفتك وإنتَ بتوقع..قالها قلبها باكيًا قبل لسانها.

انحنى يحملُ حقيبته وقال:
-شكرًا لحضرتك، قالها وخطا عدَّةَ خطواتٍ ثمَّ تراجع ملتفتًا إليها:
-طنط..توقَّفت ميرال وعيناها تذرفُ بالدموعِ وهي تستمعُ إلى كلماته، اقترب منها يوسف: 
-حضرتك اسمك إيه؟.
صمتت ولم يكن لديها القدرة على النطق حتى همست بتقطُّع:
-مروة، اسمي مروة. 
-شكرًا طنط مروة، قاطعهم بلال وهو يناديه:
-جو يالَّه بابا هيروَّحنا النهاردة..استدار وغادر حتى توقَّف لدى الباب ينظرُ إلى وقوفها وهي تراقبه، ظلَّ ينظر إليها لفترةٍ إلى أن استمع إلى أرسلان: 
-يوسف..استدار وتحرَّك إليه. 

أسبوعًا آخر وهي تقتربُ منه شيئًا فشيئًا..أصبحت مَن ينتظرها يوسف، يخبِّئُ لها الشوكولاتة، ويحكي لها أسرار طفولتهِ مع والده..

جلس بجوارها ذات يوم، وهو يأكلُ سندوتشه، ثمَّ تعمَّق بعينها المختفية خلف نقابها ولم يظهر منها سوى بريقًا فقط، فقال:

– صوتك شبه ماما..الله يرحمها.

"الله يرحمها"...أغمضت عينيها وهي تردِّدها:
أهو جرح جديد في صدرها، لكنَّها ابتلعت الغصَّة، وهمست:
– ربِّنا يرحمها ياحبيبي.
-طيب مين مامتك دلوقتي...قاطعهم صوت المعلمة
-يالا ياولاد على فصولكم..اعتدل يحمل صندوق طعامه الصغير
-هشوفك بعد المدرسة 
اومأت بصمت تراقب تحركه إلى أن اختفى عن عيناها ..نظر للذي سقط منه، انحنت والتقطتها، ميدالية مفاتيح، بها صندوق صغير، فتحته بانامل مرتجفة، وجدت صورتها وهي تقبله
وضعت كفيها على فمها تمنع شهقاتها 

باليوم التالي، ظل يبحث عنها كالذي يبحث عن والديه، جلس بحزن ولم يتناول طعامه، يومًا اخر، دلف يبحث عنها بضياع، حين اختفت ليومٍ واحد، بسبب مرض طفلتها، جاء إليها غاضبًا كأنَّه ضاع:

– طنط مروة، إنتي مجتيش إمبارح، أنا استنِّيتك...

ابتسمت وقلبها يتمتمُ لها، هو استنَّاها؟!
هنا شعرت وكأنَّ الوجع تبخَّر في لحظة.

-اقترب ابنِ عمِّه: 
-يوسف بتعمل إيه هنا؟..بقالي كتير بدوَّر عليك. 
أشار إلى ميرال وقال:
-كنت بشوف طنط مروة، أصلي مشفتهاش، إمبارح مجتش.
تطلَّع إليها بلال ثمَّ اتَّجه إلى ابنِ عمِّه:
-إنتَ إزاي تقعد مع حد متعرفوش؟.. عمُّو لو عرف هيزعل منَّك. 
تناول سندوتشهُ وكأنَّه لم يستمع إليه حتى انتهى وتوقَّف: 
-هشوفِك بعد المدرسة. 
أومأت دون حديث، فتحرَّك بجوارِ ابنه عمِّه، استمعت إلى إحدى العاملات:
-معرفش دي متوصِّي عليها باين، إحنا بس اللي بندخل الحمَّامات مع الأطفال، ودي قال إيه بتراقب الفصول تكونش أبلة الناظرة.. 
استمعت إلى حديثهم ورغم ذلك ظلَّت مبتسمة تراقب طفلها حتى اختفى، فتحرَّكت متَّجهةً إلى مكانها المخصَّص.

بعد فترة خرج يوسف وتوقَّف ينتظرها أمام المدرسة كعادته، تحرَّكت متَّجهةً إليه وابتسامتها تنيرُ وجهها: 
-واقف في الشمس ليه ياحبيبي، يالَّه روح.
-بكرة وبعده إجازة ممكن يبقى تكلِّميني..صمت للحظات ثمَّ قال:
-لا لا مينفعش، ممكن بابا يزعل لو عرف.
انحنت وجلست على عقبيها أمامه واحتضنت ذراعه: 
-حبيبي يومين بس وإن شاءالله أشوفك تاني، المهمِّ خلِّي بالك من نفسك، وأوعى تزعَّل بابي، لازم نسمع كلامه. 
-أنا عايز أشوف وِّشك، مش يمكن تكوني شبه مامي زي ماصوتك زيَّها..
احتضنت وجههِ وابتسمت، وهناك عاطفة قوية لضمِّه، فلم تشعر بنفسها سوى وهي تحتضنهُ بقوَّةِ أم غاب طفلها لسنواتٍ من الحرمان، ولكنَّها فزعت على صوتٍ خلفها:
-يوسف..صاحت بها رؤى بصوتٍ مرتفع..فاستدار ينظرُ إليها ثمَّ اتَّجه إلى ميرال ينظر إليها بجهلِ عقله، ولكن بقلبِ طفلٍ شعر بأحضانِ والدته.. 
لحظات ونظراتهِ تراقب كلَّ شيءٍ بها، ثمَّ اتَّجه إلى رؤى التي كرَّرت نداءها: 
-إنتَ بتعمل إيه مع الستِّ دي؟.
أشار على ميرال التي وقفت تراقبهم وقال:
-تعالي أعرَّفك على طنط مروة ، شبه ماما بالظبط.
هزَّة عنيفة أصابت رؤى التي توقَّفت متصنِّمة ترمقُ ميرال بنظراتٍ تفحُّصية ثمَّ قالت:
-ميرال!!. 
هزَّ رأسهِ بالنفي وقال: 
-لا..دي طنط مروة نانا هنا في المدرسة، كنت عايز أحكي لك عنها بس إنتي مبقتيش تيجي عندنا.. 
شعرت بالصراع وكأن عقلها توقَّف فجأة ثم اقتربت من ميرال خطوة، فجأة توقَّفت بعدما أيقنت أنَّها هي.. 
شعرت بنيرانٍ تحرقها بالكامل وهي تنظر إليها حتى تقابلت العيون للحظات..فهمست رؤى: 
-ميرال..تاني..استمعت إلى يوسف:
-هدِّيها الشيكولاتة دي ونمشي على طول، قالها وتحرَّك خطوة إلَّا أنَّها أوقفتهُ وابتسمت: 
-حبيبي لو سألتك مين دي قولَّها ماما مرات بابا.
قطب جبينهِ متسائلاً: 
-ليه أقولَّها ماما وبابا مش متجوزك؟!.
أشارت للأطفال حولها وقالت:
-علشان تعرف إنَّك مش لوحدك وفيه حد تاني بيحبَّك..قولَّها وبس وأنا أفهِّمك علشان تخاف تعمل فيك حاجة..مش إنتَ بتحبِّ خالتو؟..
-حاضر...قالها وتحرَّك إليها يبسطُ يدهِ بالشيكولاتة: 
-اتفضلي دي..وهستنَّاكي يوم الأحد..
أشارت ميرال بعينها على رؤى حتى لا تثير شكوكَ رؤى التي تنظرُ إليها:
-مين دي حبيبي؟. 
صمت يوسف ثمَّ قال:
-دي ماما اللي عايشة معانا، مرات بابا. 

رفعت ميرال رأسها سريعًا إلى رؤى.. 
لحظة تصادم..
بين الحاضرِ والماضي..
بين الحقيقةِ والكتمان..
بين الأمِّ والخائنة..

-رؤى!..أومال غادة إيه؟!.
ابتسمت رؤى بعدما رأت ذهولَ ميرال وتخبُّطها فنادت على يوسف:
-يالَّه ياحبيبي..
بعد إذنك. 
قالها واستدار إليها، بينما ظلَّت ميرال واقفة بمكانها غير مستوعبة ماوصل إلى أذنها..

بمنزل يزن 
خرجت رحيل متجهة إلى شركتها، قابلها طارق بالحديقة:
-رحيل فيه موضوع مهم لازم تعرفيه
ضيقت عيناها وتوقفت تنتظر حديثه
-الشركة اللي كنت كلمتك عنها 
اومأت منتظرة حديثه، فقال وهو يطوف بعيناه بالمكان:
-عرفت أنهم شغالين غسيل أموال 
شهقة اخرجتها بخفوت، تضع كفيها على فمها
-يالهوي ياطارق، احنا مضينا العقود 
اقترب يربت على كتفها يطمئنها:
-اهدي، انا هتصرف، هشوف اعمل ايه 
تتصرف، مش دي اللي قولت ناس نضاف 
-قولت هتصرف متخافيش
تحركت بخطوات واهنة، تهمس بخفوت:
-في اقرب وقت ياطارق، في اقرب وقت لو سمحت 

قالتها وتحركت متجهة إلى سيارتها، قابلتها رؤى التي كانت تقف تراقبها
-شايفة انك واخدة على طارق اوي، متنسيش أنه اخو يزن، وكمان كنتي مخطوباله
-امشي يابت من وشي، مبقاش غير المرضى النفسيين ..تمتم بها رحيل وركبت سيارتها تشق طريقها بسرعة جنونية
ابتسمت رؤى بسخرية 
-هنشوف مين اللي مريضة نفسية ياست الجميلة 

بعد فترة وصلت إلى شركة إلياس 
-عايزة اقابل إلياس لو سمحتي 
-عندك ميعاد سابق 
-لا ..بس ضروري أقابله
قالتها بخروج غادة من مكتبه تضحك، توقفت تنظر إلى رحيل
-رحيل فيه حاجة 
فركت جبينها وتلعثمت بالحديث:
-كنت عايزة اسأل إلياس في حاجة 

بمنزل ارسلان 
جلست صفية بين احفادها، تداعبهم، دلفت غرام وهي تحمل فواكه 
-ماما صفية شوية راحة بقى، ياله حبايبي خلوا تيتا تتنفس شوية 
نهضت ضي قائلة:
-انا هروح عند عمو إلياس، عايزة جو يعلمني لعبة جديدة 
-تمام حبيبتي اوعي تتشاقي، علشان متتعبيش النانا هناك 
-حاضر يامامي 
بينما توقف بلال قائلًا:
-عندي هوم ورك هروح اخلصه..اومأت له، ثم اتجهت تجلس بجوار صفية تضع أمامها الفواكه
-عمو فاروق اتصل، وقولت له إنك نايمة، انا معرفش ايه اللي حصل، بس بلاش الزعل يضيع الحاجات الحلوة اللي بنتوها طول السنين 
-إنتي بنت أصيلة ياغرام، وابني محظوظ بيكي 
-وأنا محظوظة بيها ياست الكل..قالها ارسلان الذي دلف للتو وانحنى يطبع قبلة فوق جبينها
-وحشتيني ياغرامي
مسدت على كتفه مبتسمة:
-وانت اكتر حبيبي..
-ربنا يبعد عنكم العين حبيبي 
يارب ياماما ..بحث بعيناه عن أبنائه 
-فين الولاد 
-بلال جوا، وضي عند يوسف 
-يادي النيلة على يوسف، الواد دا هيعمل غسيل لبنتك، هروح تشوفهم بيعملوا ايه، إلياس لسة مرجعش اصلًا

بمنزل يزن 
كان يجلس بجوار ابنه وهو يقوم بتلوين بعض الرسومات، استمع إلى طرقات على باب الغرفة، دلفت رؤى قائلة:
-لازم اتكلم معاك في موضوع مهم، مينفعش اسكت 

أسبوع آخر مضى على الجميع بهدوء 
لكنَّه لم يكن كأي أسبوع لدى ، بل كأن كلَّ ثانيةٍ منه شوكةٌ تُغرسُ بصدرها، 
كانت تتنفسُ الألم، تمشي وخطواتها ثقيلة كأنَّ الجاذبية تضاعفت عليها 
لم تعد تدري ماتفعل..زوجها تزوَّج أختها، وابنها..انقطع عن المدرسة.

كان صمتها كصوتِ الموت...صاخبًا رغم سكونه.

لم تجرؤ على سؤالِ أحد، فقط كانت تذهب كعادتها، تجلس تراقبُ البوابة لعلَّها تراه..لكن لا أحد.

كلَّ يومٍ كان يمضي، كانت تشعرُ أنَّ جزءًا منها يُسحب، كأنَّ روحها تُنتزع...
حتى جاء ذلك الصباح الذي قضى عليها.

ترجَّلت من سيارةِ الأجرة، تمسك حقيبتها بيد متشنِّجة، وعيناها كعادتها تبحثُ عن طفلها...
لكن توقَّفت متجمِّدة على صوتِ إحداهن:

– يوسف نقل من المدرسة.

استدارت بحدَّة، كأنَّ صوتًا اخترق صدرها، ووجدت "رؤى" تقف، تقطَّع آخر خيطَ أملٍ بها..
بابتسامةٍ خبيثةٍ مغلَّفةٍ بشفقةٍ مزيَّفة..

اقتربت رؤى خطوة، وصوتها كالسيف:

– مش هسألك ليه عملتي كده...
بس هقولِّك: ابعدي..
زي ما كنتِ بعيدة، خلاص مينفعشِ ترجعي.

ظلَّت ميرال متسمِّرة، ملامحها متجمِّدة، وجهها شاحبًا كأنَّها فقدت القدرة على التنفس...

– أنا وإلياس اتجوزنا..علشان يوسف.

قالتها رؤى وكأنَّها تُسقِطُ صاعقةً على رأسِ أختها...

هزَّت كتفها للأعلى واستنكرت فعلتها:
- خفت ييجي له مرات أب تبهدله... إنتي مفكرتيش غير في نفسك، رميتي ابنك..وإلياس؟
إزاي كان هيتعامل مع طفل عنده سبع سنين؟!

كلَّ كلمة كانت صفعة..بل، طعنة..في صدرِ ميرال..

– دلوقتي راجعة بعد تلات سنين؟!.
بعد مااتعوِّدوا على حياتهم؟
فكَّرتي في إيه؟ في ابنك؟ في أختك؟ في جوزك؟

تقدَّمت أكثر، كأنَّها تدهسُ ما تبقَّى من كبرياءِ ميرال:
- رجاءً، ميرال...لو يوسف حكى لإلياس..هييجي هنا، وممكن يعمل فيكي حاجة..هوَّ دلوقتي مفكَّرك ميتة..
سيبيه يعيش على كده، بلاش تكسريه من تاني..لا تستمعُ لشيء سوى اعترافها الشنيع..

-اتجوزتوا!!.
نطقتها ميرال بتقطُّع. 
-هزَّت رأسها وتصنَّعت الحزن: 
-محبتشِ ابنك حدِّ تاني يربِّيه، ابنك اتعلَّق بيَّا أوي، وكمان إلياس، خلاص مبقاش ينفع نفترق، ومتنسيش إنِّك أختي، وهوَّ كدا جمع بين الأختين، يعني كدا هضُّريه، حتى لو طلَّقك ودا أكيد اللي إلياس هيعمله بعدها، بس قدَّامه وقدَّام نفسه هيضَّايق، وأنا بصراحة مش عايزة أخلِّيه يأنِّب نفسه على حاجة هوَّ ملوش يد فيها.. 

-اتجوزك إنتي مش اتجوِّز غادة؟!.. 
توقَّفت تنظر إليها بجهل: 
-غادة مين؟!.قصدك غادة السيوفي؟.. هيَّ غادة هتعرف تعامل ابنك زيي، غير إلياس بيعترها أخته..قاطعها اتِّصال إلياس..أخرجت الهاتف، تنظرُ إليه ثمَّ رفعتهُ أمام ميرال: 
-اتأخَّرت وقلق عليَّا، بعد اللي عملتيه مبقاش عنده صبر.

-أيوة حبيبي قدَّامي نصِّ ساعة هخلَّص وأكلِّمك..قالتها وأغلقت الهاتف سريعًا..
شعرت ميرال بأنَّ الأرضَ تدور بها، نعم استعمت إلى صوتهِ وهو يهاتفُ رؤى باسمها.. 

اقتربت تربتُ على ذراع ميرال: 
-آسفة صدَّقيني...
رمقتها ميرال بدموعها التي حاولت كبحها إلَّا أنَّها أبت فقالت بتقطُّع: 
-لمَّا غادة أخته، إنتي كنتي إيه لإلياس؟..
تراجعت خطوةً للخلف تشيرُ لنفسها بفخر: 

-أنا..إيه ياميرال نسيتي إنِّنا كنا هنتجوز، وأهو الدليل بعد موتك المزيَّف اتجوزنا.
-ربِّنا يسعدكوا..قالتها ميرال وغادرت المكان بخطواتٍ ضائعة..
بينما توقَّفت رؤى تراقبُ تحرُّكها تهمسُ لنفسها: 
-آسفة ميرال، لازم أدافع عن اللي معرفتيش تحافظي عليه..قالتها ودلفت للمدرسة..قاطعها اتِّصال إلياس مرَّة أخرى:
-إنتي ليه مابترديش؟. أنا اللي كنت بكلِّمك مش حبيبك ياهانم.
-آسفة ياإلياس ماأخدتش بالي، فكَّرتك يزن.
-رؤى، يوسف عند ماما فريدة، ماتروحيش هناك أنا لمَّا أرجع من السفر هرجعه، مادام بقى كويس وحرارته نزلت مالوش لازمة مرواحك، وأنا كلَّمت المدرسة وبلَّغتهم بتعبه، ابعدي عن مايخصِّ يوسف، آخر مرَّة هقولهالك.
قالها وأغلقَ الهاتف. 
نظرت للهاتف الذي أُغلقَ ثمَّ تنهدت: 
-هنشوف ياإلياس، هنشوف مين اللي هيبعد ابنك عنِّي...

بالسجن عند رانيا 
جلست أمام أحد المحامين، تستمع إليه بتركيز حتى انتهى من حديثه، نفثت دخان سجارتها وهزت رأسها قائلة:

-قوله مستعدة اعمل اللي هو عايزه، بس بشرط واحد، يخلصني من ابن السيوفي
-ماهو مبقاش ابن السيوفي يامدام رانيا، قولنا نهدى شوية، وكمان متخافيش والله الباشا بيخطط متخافيش 
نقرت بأناملها على المكتب:
-وعد مني كل الاسماء هتكون في ايده، لما اسمع الخبر  دا، وكمان يخرجني من هنا، ايه يامتر، دا حتى بسمع انك اشطر متر في مصر
-متقلقيش احنا مسيطرين على الوضع، متنسيش انك اعترفتي ..وكمان طارق الشافعي 
ضيقت عيناها وقالت:
-يعني لو طارق غير شهادته ممكن أخرج
أشار بإصبعه واردف:
-ممكن نخفف المدة اكتر واكتر 
طيب هبعت رسالة لطارق، حاول توصلها له 

بشركة إلياس 
ولج إليه مالك يحمل بعض الأوراق 
-إلياس باشا، دول كام شركة طالبين ، اطقم امنية، وكمان فيه فيلا في الشيخ زايد، باسم مختار العوضي، عايز طقم من اكفأ المتدربين 
أمسك إلياس الورق وبدأ يقلب به، ثم أشار إليه بالخروج 
-تمام يامالك، سيبه افحص الشركات دي كويس
-امرك ياباشا..

بمنزل يزن 
كانت تجري خلف أطفالها وصوت ضحكاتهم مرتفعة بالمكان، توقفت بعدما اقترب زوجها منها، نهضت متجهة إليه 
-حمد الله على السلامة..
اومأ لها ودلف للداخل بصمت
أشارت إلى المربية
-خلي بالك من الولاد..ثم مضت للداخل
وجدته يقوم بنزع ثيابه:
-حبيبي مالك فيه ايه؟!
-إنتي اللي بتقولي فيه ايه
قطبت جبينها متسائلة:
-مش فاهمة...!

شهور خلف شهور مرَّت على ميرال ثقيلة حتى وصلت إلى خمسِ سنوات من مغادرتها لمنزلِ زوجها..

دلفت إلى منزلها بعد انتهائها من فترةِ دروسها بإحدى السناتر، كي تساعدها على معيشتها هي وطفلتها التي أوشكت على دخولها المدرسة، انتهت من عملها بشقَّتها ثمَّ اتَّجهت تبحثُ عنها أمام المنزل: 
-شمس يالَّه حبيبتي علشان نتغدى.. 
نفضت كفَّيها من الغبار وأردفت بصوتها الطفولي:
-كفاية بقى لعب النهاردة، ماما رجعت، يالَّه أشوفك بكرة..قالتها الصغيرة وركضت إلى منزلها..قابلتها هند التي عادت من الجامعة للتوّ 
-أهلًا ياصغننة.
-أهلًا أبلة هند، يالَّه بسرعة ماما بتنادي وأنا بطني بتوجعني جعانة أووي. 
قرصتها بوجنتيها: 
-حبيب أبلة هند الجعان. 
صعدت هند لأعلى بينما توجَّهت الصغيرة لوالدتها، دقائق واتَّجهت هند إليها: 
-ماما عاملة محشي وعايزة نتغدَّى مع بعض...

بعد عدَّةِ ساعات، خرجت ترتدي عباءة سوداء بنقابها، وتحرَّكت بجوار هند، توقَّف أمامهما ابنِ عمِّ هند:
-رايحة فين ياهند؟.
تأفَّفت بضجر، ثمَّ هتفت بامتعاض:
-وبعدهالك ياأنس، هتفضل عامل زي حارس محطة القطر كدا، وسَّع كدا.. 
قالتها وتحرَّكت تسحبُ يد ميرال تهمسُ إليها:
-ربِّنا يستر وميجيش ورانا، معرفشِ راجع بدري ليه النهاردة.. 
ضحكت ميرال تهزُّ رأسها قائلة:
-الحبِّ بهدلة.
-حب..حبِّ إيه دا، حبُّه حنش طويل يلسعه.
قهقهت ميرال بصوتٍ مرتفع، تطبقُ على ذراعيها:
-اسكتي يابنتي، واللهِ الواد جدع وزي العسل. 
أشارت بيديها باعتراض:
-أيوة جدع محدش قالُّه حاجة، بس الجدعنة دي بعيد عنِّي..
توقَّفت بخطواتها وغمزت بعينيها:
-أنا نفسي في حد زي الباشا اللي بنتعامل معاه..زي عسكر وحرامية. 
تجمَّد جسدها للحظات ثمَّ قالت:
-تفتكري ممكن
❤️❤️❤️❤️
تفتكري ممكن حد يشغله؟.
يارب صبَّرني..قالتها برفعةِ يدها للأعلى مستغيثة، ثمَّ تحرَّكت تهمهم:
-أنا في الآخر هروح أعترف بكلِّ حاجة.. 
لكزتها ميرال وتحرَّكت بجوارها، إلى أن أوقفت سيارة أجرة، متَّجهةً بهما إلى وجهتهم..توقَّفت السيارة أمام إحدى الشركاتِ الأمنية الكبيرة، لتترجَّل ميرال تنظرُ إلى اللافتة بقلبٍ ينتفضُ باشتياق، وعيناها على الاسمِ الذي جعل قلبها كمعزوفة..سارت إلى مكانها المعتاد وتوقَّفت تنتظره..
تتابعُ تحرُّكهِ للداخل، ربتت هند على كتفها:
-نمشي، ولَّا ناوية تدخلي؟. 
هزَّت رأسها بالنفي وأشارت إلى الطريق، بعدما فقدت النطق من بكائها..
تحرَّكت متَّجهةً إلى سيارةِ الأجرة المتوقفة بخروجهِ السريع من الشركة، ترنَّح جسدها بسبب قالبِ الطوب الذي يُوضعُ بجوارِ أحد الأشجار، ليترنَّح جسدها حتى كادت أن تسقطَ لولا جسدهِ خلفها، صرخت هند باسمها:
-مروة!..باستنادها بذراعيه، معتذرًا:
-آسف ماأخدش بالي...هنا توقَّف كلَّ شيء سوى من ارتجافِ جسدها بين ذراعيه، أطبقت على جفنيها، محاولةً أخذ أنفاسها بانتظامٍ وهو يشير إلى هند التي تحدِّقُ به بقوَّة:
-اسنديها، شكلها دايخة، ثمَّ أشار إلى أحد الحرسِ الخاصِّ بالشركة
-ساعدوها..كلَّ هذا وهي تستمعُ إلى صوته، تلك النبرة الشجيَّة ترسلُ إليها ذبذباتٍ تحرقُ جسدها بالخيانة، ممَّا أوصلها إلى أن تردَّ وتستدير إليه، تُلقي نفسها بأحضانه ببكاءٍ صارخ، ولكنَّها أضعف من هذا كلِّه، ظلَّت على حالتها، إلى أن اتَّجهَ بنظرهِ إليها:
-إنتي كويسة؟..اقتربت هند منهما بعدما شعرت بحالةِ ميرال: 
-شكرًا يافندم..قالتها وهي تسندُ ميرال ومضت متَّجهةً ناحية سيارةِ الأجرة..كعاصفةٍ تتعثَّر برياحها الهوجاء، واشتياقها له يلتهمُ قلبها كما تلتهمُ النيرانُ سنابل القمح، غرزت كفَّها بذراعِ هند، وارتعش قلبها تهمسُ بخفوت، حتى لا يصلَ صوتها إليه:

-هند مشِّيني من هنا بسرعة. 
فتحت باب السيارة، لتساعدها بالصعود، بينما توقَّف إلياس يراقبُ خطواتها الضعيفة، وفجأةً صاح بصوته:
-استنِّي عندك..قالها واقترب منهما، وعيناهُ على تلك التي تهربُ بعينيها تحت نقابها..أحسَّت بشللٍ في كلِّ خلايا جسدها واشتعلت عيناها بالدموع بكلِّ خطوةٍ يقترب منها..ابتلعت ريقها بصعوبة، تنظرُ إلى هند التي تحاول أن تجدَ مخرجًا.. 

-ليه بلاحظ وجودكم هنا كلِّ فترة، أنتوا مين، وبتعملوا إيه هنا، في مكان زي دا؟...أشار بيدهِ إلى المكان واستطرد:
-دي شركة أمن.
حمحمت هند وحاولت الحديث بتلعثم:
- إحنا بس كنَّا..أشار إليها بالصمت، ثمَّ اتَّجه بنظرهِ لتلك التي تختفي تحت نقابها..
-هي مش بتتكلِّم ليه؟!.إنتي بوصِّيلي..
تجمَّع الحرس حوله على ِصوته مع خروجِ السائق من سيارةِ الأجرة: 
-بتعملوا إيه قدَّام شركتي، وكلِّ فترة بشوفكم هنا.
ماهو أصل..رفع سبَّباته إلى هند واقترب من ميرال وعيناهُ تتفحَّصُ كلَّ حركةٍ من جسدها..تراجعت للخلف مذعورةً من اقترابه، وانفجرت دموعها، كاتمةً صرخةً توغَّرت صدرها، وهي تراه، يرفع سلاحهِ عليها: 
-ارفعي النقاب دا..

ارتجف جسدها وكادت أن تفقدَ وعيها..
خطا خطوةً حتى أصبح أمامها وبسط كفِّهِ إلى نقابها وسلاحهِ بوجهها، ولكنَّه توقَّف بعدما توقفت سيارتين سوداء، لحظات فقط 

ودوّت أصوات طلقات نارية اخترقت جدران الشركة. عمت الفوضى، وانقلب الهدوء إلى جحيم.

لحظات، تحوّل المكان إلى ساحة حرب... عربات مصفحة، وطلقات تُمطر من كل اتجاه. هرع موظفو الشركة، واندلع اشتباكٌ شرس بين المهاجمين وطقم الحراسة الخاص بإلياس..دفعها بقوة حتى سقطت على الأرضية، بخروج مالك وطقم الأمن بالكامل، ليتحول المكان لساحة حرب
انتفض جسدها وهي تراقب تحركه، سحبتها هند محاولة أبعادها رغم ارتجاف جسدها وخوفها، رفعت هاتفها
-انس انت فين؟
نهض من مكانه ..ليستمع إلى صوت بكاؤها:
-هند إنتي فين ..ارسلت إليه العنوان تنظر إلى نظرات ميرال وهمسها باسم زوجها 
-ابلة مروة لازم نمشي لو سمحتي
قالتها هند بخوف وبكاء
-لا ..مش همشي، ظلت تراقبه إلى انطلقت  إحدى الرصاصات التي أصابت هدفها... واخترقت جسد "إلياس هبت من مكانها تصرخ باسمه، اخترق الصراخ أذنه، وتشوش صوتها مع كلمات مالك:

- إحموه!! إحموه!

نزف الدم من قميصه الأبيض، ومع ذلك لم يتراجع، بل اندفع نحو إحدى السيارات السوداء التي كانت تهم بالفرار، وسط خسائر بشرية من الطرفين

شحب وجهه وضعف جسده، بعدما خارت قواه، ليهوى بركبتيه، يضغط على جرحه
-ركضت ميرال  إليه وهي تشعرُ بتخبُّطِ ساقيها، وصلت إلى جسده الملقاه على الأرض حتى أصبح كالجثة
سقطت بركبتيها فوق جسده ترفع رأسه مع إغلاق عيناه ..صرخت ببكاء 
-إلياس .. حبيبي افتح عيونك، هزت رأسها تبكي بصراخ 
-اسعاااااف..فتح عيناه بعدما استمع الى صوتًا وكأنه يأتي من عالم اخر 
رفع كفيه المرتعش ليسحب نقابها، بعدما رفعت رأسه فوق ركبتيها تضم وجهه 
-إلياس ..افتح عيونك..إلياس 
كررتها مع صرخاتها الهسترية، انكشف وجهها أمامه مع غمامته السوداء التي يحاول بشتى الطرق أن يتلاشها، ولكن خارت قواه بالكامل، همس اسمها حتى غاب عن الوعي نهائيا، باقتراب مالك يشير إليهم 
-مين دول..تجمع الجميع مع صرخات مالك، وبكاء هند بصوت مرتفع..رغم ذلك لم تنظر ولم تهتم سوى بذلك الجسد الذي بين يدها، بكت وبكت حتى اوقفها مالك يصرخ بفريق الأمن 
-خدو الاتنين دول، لما نشوف ايه حكايتهم ..ولكن توقف بعد صراخ انس الذي ترجل من سيارة الأجرة سريعا
-هند ..قالها صارخا وهو يقترب منهم مع وصول سيارة الإسعاف 
توقف مالك أمامه:
-إنتَ مين يالا؟. 
أخرج بطاقتهِ وأردفَ بامتعاض:
-اللي قدَّامك دكتور نفسي مش يالا، حضرتك مش شايف واحد محشِّش وماشي بمطواة علشان تكلِّمه كدا.. 
دي بنت عمِّي ومرات عمِّي، قالها وهو يشير إليهما..ثمَّ أشار إلى سيارةِ الأجرة التي توقّّفت تنتظرهم على جانبِ الطريق..ارتعشت ميرال بعدما حمل المسعفون جسد الياس متجها إلى سيارة الاسعاف
-خلاص امشي هتديني محاضرة
قالها مالك لأنس واتجه إلى سيارة الاسعاف يسأل بتلهف عن إلياس 
-هننقله حالا للعمليات

انقطعت أنفاسها ، فاقترب منها أنس وبسط كفِّه إليها، تعلَّقت به واستندت على هند، سحبتها رغمًا عنهامتَّجهةً للسيارة.
-لو سمحتي لازم نمشي ..تحركت ونظراتها على ذلك الجسد المسجي بسيارة الإسعاف
-استمعت إلى أحدهم:
-إن شاءالله الإصابة مش خطيرة 

وصلت إلى المنزل بجسد بلا روح.
استقبلتهم نعيمة التي كانت تتخبط في القلق بعد اتصال أنس بها، هرعت إليهم والذعر يتجلى بملامحها:

"فيه إيه وايه اللي حصل ؟"

دفعت ميرال الباب بهدوء، لكن جسدها كان ينتفض، تشعر كأن روحها تُسحب منها رويدًا رويدًا، تنظر إلى كفوفها الغارقين بدمائه، حتى جثت على الأرض بقوة، مما دوّى صوت ارتطام ركبتيها بالأرضية.

استدارت نعيمة لها بذعر:
"ميرال إيه اللي حصل؟ 
أجابت هند بصوت متقطع:

- جوزها... اتضرب بالنار.

شهقت نعيمة، وضربت صدرها:

-"يا لهوي! مين اللي ضربه؟"

هزت هند كتفيها، ودلفت إلى الداخل وهي تترنح:

"أنا مش قادرة أقف... مشفتيش اللي حصل، كأننا في حرب... ناس كتير ماتت قدامنا. أنا نطقت الشهادة.

سألتها نعيمة بصوت خافت:

- وجوزها مات؟"
أجابت هند وهي تهوي على المقعد، تنزع حجابها بيد مرتجفة، عيناها تسمرت على ميرال التي جلست قابضة على ركبتيها:

"معرفش... الرصاصة دخلت في جسمه ونزف كتير... كتير أوي."

اقتربت نعيمة، وجثت بجوارها، تضمها في حضنها:

"مروة... يا حبيبتي، إوعي تسيبي نفسك كده، إحنا بالعافية رجعناكي للحياة تاني!"

رفعت ميرال عينيها، تدور في الفراغ، وتشير بعشوائية:

"حياتي؟ فين حياتي؟ أنا فين؟ وهو فين؟ وابني فين؟"

همست بصوت مختنق:

"ابني..."
ثم نهضت فجأة، تمضي بخطوات تائهة إلى شقتها

مرّت ساعات ثقيلة كالصخر على صدرها، جلست بجوار النافذة، تحدّق في الفراغ، ثم التقطت جهاز التحكم وشغّلت إحدى القنوات الإخبارية، علّها تسمع خبرًا يطمئن قلبها. كل الطرق مغلقة، الأرقام لا تُجيب، الأسئلة بلا رد، والخوف يتوحش في صدرها.

وفجأة، هبّت من مكانها كمن استيقظ من غيبوبة:

"لازم أروح المستشفى لازم أطّمن عليه، لازم يا طنط نعيمة"

أسرعت نعيمة إليها، تضم وجهها بكفيها محاولة تهدئتها:

"اهدي يا ميرال، اهدي ما تنسيش إنه غالبًا في مستشفى خاصة، وإحنا مش هنقدر ندخل بسهولة، ده كمان جريمة قتل يعني قضية.
لكنها بكت بشهقات وتوسل، انحنت تمسك يد نعيمة، تقبّلها برجاء:

"أبوس إيدك يا طنط... لازم أروح أشوفه... لو م..."

ولم تستطع التفوه بموته، ارتجف صوتها وانهمرت دموعها،  وقلبها ينفطر  على اسمه.

بعد فترة توقفت أمام المشفى تنظر إلى الدخول والخروج بحرص، تطلعت إليها وأشارت إلى المشفى
-الموضوع صعب يابنتي..
هاتي تليفونك
-تليفوني ..!! هاتيه بس ياطنط 
بسطت كفيها بالهاتف، لحظات وقامت بالرنين على يزن 
-ألووو 
شهقت تضع كفيها على فمها تهمس اسمه
-يزن ..هب من مكانه، وعيناه تتلفت بكل مكان، بعدما استمع الى صوت قريب منه، نفس الصوت الذي يصل إليه بالهاتف مع صوت ميرال وهو نداء إحدى الممرضات 
-دكتور (.   ) الرجاء التوجه إلى غرفة العمليات 

كان قريبا منها على بعد بعض الامتار، ولكنه لم يكتشفها من نقابها فهمس 
-ميرال ..انتي فين

ارجع شوية، هتلاقيني 
خطى بعض الخطوات، استمع الى صوت طارق
-رايح فين ..!!
أشار بيده واردف:
-راجع ..خليك شوية وراجع..قالها بخروج ارسلان
-يزن رايح فين..هز كتفه بجهل، مع تحركه يبحث عنها، ظلت تطلع إليه باشتياق
توقف وهو يتحدث بالهاتف:
-ميرال انتي فين .لم يكمل حديثه بعدما وضعت كفيها على كتفه تهمس 
-انا هنا..التفت سريعا، توسعت عيناه حينما وقعت عيناه على هيئتها، سحبته واتجهت إلى ركن بجوار المشفى 
-ميرال ..قالها وهو يحتضن وجهها، ثم جذبها إلى أحضانه
-بكت بشهقات مرتفعة، وخانها جسدها حتى هوت بين يديه
-اااه ..ضمها بحنان اخوي
-اهدي حبيبتي..اهدي انا هنا 
تمتم بها وهو يقبل رأسها
تشبثت بقميصه، ليحاوط جسدها يسحبها إلى سيارته، بينما توقفت نعيمة تنظر إليها بشفقة
ضمها لاحضانه يهدهدها 
-خلاص بطلي عياط 
رفعت عيناها إليه، تتسائل بلهفة:
-إلياس ..قالتها بتقطع ، عايش 
اومأ لها وهو يربت على ظهرها
-اه عايش وكويس، منتظرين بس يفوق 
-عايزة اشوفه ..!!
قطب جبينه: 
-يعني ايه تشوفيه، انتي مش ناوية ترجعي بقى ياميرو
-مبقاش ينفع خلاص ياحبيبي، المهم دخلني اشوفه، من غير ماحد يحس لو سمحت 
-ميرال وبعدين معاك 
-يزن متخلنيش اندم اني لجأتلك 
تنهد بغضب، ثم قال:
-وبعدهالك هتفضلي هربانة لحد امتى ، طيب ابنك مش حرام يتعامل على أساس أمه ميتة 
-يزن خلاص مبقاش ينفع بعد اللي حصل، المهم لازم اشوفه دلوقتي 
ترجل من السيارة وأمسك كفيها يسحبها للداخل، لكنها توقفت
-مين عنده ..!!
-مفيش غير ارسلان وعمو مصطفى، طنط فريدة كانت هنا، بس لسة رجعت مع الباقي
-رؤى فوق ..قالتها تنظر بكافة الاتجاهات
-كانت هنا ومشيت مع الباقي، انا وطارق كنا مروحين كمان هو حالته كويسة 

- طيب عايزة أدخل أشوفه من غير ما أرسلان ولا عمو مصطفى يعرفوا... هتقدر توصلني له؟
هز يزن رأسه مؤكدًا:

"تمام، بس حاولي ما تطوليش، أرسلان ما بيفارقش الأوضة، وعمو مصطفى في الأوضة اللي جنبها."

أومأت له بخفوت، وتحركت معه إلى الداخل.
راح يزن يتلفت بعينيه بحثًا عن أرسلان، ثم أشار لها بالتوقف جانبًا:

"هشوف أرسلان فين، ولما نخرج، ادخلي."

وقفت في أحد الأركان، تنظره.
دقائق، وخرج أرسلان وهو يتحدث في هاتفه، بجواره يزن، فاغتنمت الفرصة ودلفت سريعًا إلى الغرفة.

دلفت بساقين ترتجفان، تشعر بأن عذابها حُفر في تلك الغرفة، اقتربت من السرير، تنظر إلى جسده  الساكن موصل بالأجهزة، تفحصت وجهه الشاحب، دنت ثم 
انحنت فوق جبينه تطبع قبلة خافتة، تحمل بين طياتها كل الاشتياق، كل الوجع، كل الحنين.

مرّت أناملها المرتعشة على وجهه، تهمس باسمه بصوت مكسور، ودموعها تهطل في صمت.
رفعت كفيه بين كفيها المرتعشتين، تضعهما على شفتيها، تُلثمه

نظرت إلى موضع الجرح، ثم إلى الأجهزة التي توصل بجسده، رفّت أهدابه ببطء يهمس اسمها

ابتسمت بذهول وهي تسمع همسه المتهدّج:

- "ميرال"
أطبقت جفنيها بقوة، تمنّت أن تصرخ، وأن تفتح كل نوافذ الدنيا وتخبر العالم أجمع أنه ما زال ينطق باسمها.
ولكنها شعرت وكأنها بقبرٍ لا يخرج صوتها لأحدًا..مررت أناملها على وجهه 

- هل ما زال يحبّها؟ هل ما زالت تسكن ذاكرته؟
ملست على كفه برفق، ثم انحنت تقبّله من جديد، في تلك اللحظة فتح عيناه، ينظر إليها بتشوش

- مير... ال...
همس بها بصوت مخنوق، فارتبكت، وسحبت نقابها بسرعة تغطي به عينيها، واستدارت تغادر، لكن اصطدمت بأحدهم.

نظرت إليها، واتسعت عيناها بدهشة...

- إنتي! إزاي دخلتي هنا؟
دفعتها ميرال بقوة، حتى حجزتها بالجدار وهمست:
-جوازك باطل، سمعتيني، والياس اول حاجة هيعملها لما يفوق هيطلقك، لانه مكنش يعرف اني عايشة، جوازك باطل يارؤى، ابعدي عن جوزي، قالتها  وانطلقت تبتعد قبل أن ينكشف أمرها، وكان صوت بكاؤها يخنق صدرها.

ظلت رؤى  تتابعها بعينين جاحظتين، حتى خرجت من المشفى، تمتمت بغيظ:

"وبعدين بقى معاكي أنا كنت مرتاحة، مادام وصلت لهنا، يبقى إلياس هيوصلها"

توقفت حينما انتبهت لحركة داخل الغرفة.
دخلت فوجدت إلياس يحاول النهوض، وقد نزع الأجهزة، وكان جسده يتصبب عرقًا.
صرخت باسمه وهي تهرول نحوه:

- إلياس..استنى، استنى 
لكنّه دفعها بقوة، يتألم، يتهاوى.

دخل أرسلان فورًا بعدما سمع صوت الصراخ:

- فيه إيه؟"

همس إلياس بصوت واهن، وارتجاف في أنفاسه:

- ميرال... كانت هنا... الحقها...

التفت إلى رؤى، يشير إليها بتوسّل:

"هي شافتها... إنتي شفتيها، مش كده؟"

لكنها ترددت، ثم أنكرت ببرود:

- مين؟ أنا مشفتش حد... يمكن كنت بتحلم، أو لسه تحت تأثير البنج.

حاول الوقوف مجددًا، يضغط على جرحه، لكنه سقط أرضًا فجأة، شاحبًا.
أسرع أرسلان نحوه، التفت إلى يزن:

- ساعدني واقف تتفرّج ليه

بعد أن استعادوا السيطرة عليه، جلس أرسلان في الخارج يرمق رؤى بتساؤل حاد:

- يعني إنتي متأكدة إنها ما جتش هنا؟"
هزت رأسها:

"مشفتش حد. وبعدين... مش ميرال ماتت؟"

تحرك أرسلان إلى إدارة المشفى للتأكد من تسجيلات الكاميرات.
أما يزن، فاتجه إلى أحد الأركان بهدوء، وأخرج هاتفه يتصل.

في الميكروباص...

كانت  تستند برأسها إلى الزجاج، تراقب الطريق بعينين مبللتين، وابتسامة هادئة تشق ثغرها كلما تذكّرت صوته وهمسه باسمها.

رنّ هاتف نعيمة ففتحته :

"أيوه، مين معايا؟"

"مش دا تليفون ميرال؟" تسائل بها يزن

ناولتها الهاتف، أخذته ميرال وتحدثت بصوت خافت:

- انا رُحت... وراجعة بيتي. اطمنت عليه. خلي بالك منه

-ميرال، إلياس عرف إنك جيتي.

تنهدت وقالت:
مش مهم. المهم إنه بخير، وكويس علشان يطلق رؤى، ازاي تسيبه يتجوزها يايزن ..
- يزن ..هتف بها ارسلان، وهو يخطف الهاتف منه، يستمع إلى كلمات ميرال
-انا متشكرة بجد يايزن، وكمان كنت قد الثقة،  هكلمك بعدين.
-ميرال، لو مرجعتيش صدقيني هتندمي ..
-ارسلان ..قالتها ثم أغلقت الخط، و أخرجت شريحة الهاتف وناولتها لنعيمة بابتسامة حزينة:

"أسفة، بس أنا عارفة مادام ارسلان ادخل.. أول حاجة هيعملها إنه هيتتبع التليفون."

بعد عدة أسابيع اتجه إلى احد الفنادق لحضور اجتماع خاص بأحد الشركات الأجنبية الكبرى 
جلس الجميع على طاولة الاجتماعات، انحنى إلى مالك
-كان لازم احضر، بتخنق بسرعة من الحاجات دي 
-اسف بس لازم وجودك، مهم جدا، كفاية اسم حضرتك 
زم شفتيه وقال:
- مش متفائل، معرفش ليه حاسس فيه ملعوب مش لطيف
ضحكة مالك بخفوت يهز رأسه 
-وأنا الصراحة، بعد إصرارهم بالاجتماع دا، رغم أنه مالوش أهمية اوي 
-خليك ورا النخلة العالية، لما نشوف اخرتها ايه، هتجيب بلح ولا بلح برضو 

ضحك مالك بصوت مرتفع مما جعل الجميع ينتبه إليه، بينما نقر إلياس بقلمه فوق الطاولة ينظر بساعته 
-مااشوف اخرتها معاك، اهبل اوي 

اقترب النادل يضع أمامه أحد المشروبات وظرفًا مغلق 
فتح الظرف ظنا أنه شيئا يخص الاجتماع، ولكن رائحته غزت رئتيه 

سأبوح لك بسرٍ أخفيه عن العالم… 
قد أكون بعيدة، لا أراك حين يشتدّ الشوق، ولا أستطيع لمس يديك حين أحتاجك،.
لكنني مازلت أحبك بجنون العاشقين

أحملك في قلبي كأنك قطعة مني،
نبض لا يفتر، وحنين لا يخبو،
أراك في وجوه المارة،
أسمع صوتك في سكون الليل،
وأشعر بك رغم بعد المسافات،
رغم كل ما يفصل بيننا…
فأنت في قلبي وطن،
وفي روحي سكن،
وإسمك…
هو النبضة الوحيدة التي تُبقي قلبي حيًّا...

اتمنى تصليح الخطأ، مش معترضة على حياة جديدة، بس اختي لا، دلوقتي عرفت انا عايشة، ومش زعلانة منك، وانت كمان متزعلش مني، عيش حياتك، والله هكون سعيدة، رغم الألم بس هكون سعيدة، عارفة اتحملتني كتير، سيبالك قطعة من قلبي وروحي، وبلاش تتخانق مع الولد كل شوية ..هو بيحبك بس بيزعل منك علشان بتنساه 
مروة راجح الشافعي 

أعاد الكلمات بشهقة فلتت رغمًا عنه، ليهب من مكانه فزعًا، وركض خلف ذلك الذي وضع أمامه ذلك المظروف، مع نظرات الجميع إليه

نهض طارق من مكانه واتجه ناحيته
-إلياس ايه اللي عملته دا، الناس بتبص علينا 
استدار للنادل وأشار إليه 
-عايز اشوف الكاميرات بتاعة المطعم
امسكه طارق وهو يبتسم 
-إلياس انت مجنون
دفعه بعيدًا، حتى اختل توازنه وكاد يسقط، واتجه خلف النادل متوجهًا نحو مدير المطعم ... دقائق وهو يفحص الكاميرات بنظرات كادت تحطم جميع الشاشات أمامه إلى أن وقعت عيناه عليها ..هنا توقف  النبض بالقلب، بدخول أحدهم يصرخ به
-إنت ازاي تدخل اي حد هنا 
خرج وكأنه لم يستمع إلى شيئا، منذ افاقته يبحث عنها بكل الاماكن ولكن كأنها سراب أتى واختفى، حتى شعر بأنه كان يحلم وأنها ليست حقيقة 
أمسك الورقة يقرأ حروفها مرة أخرى إلى أن وقعت عيناه على كلماتها التي تخص رؤى 

مرَّت الأيام سريعًا...
بفيلا "السيوفي"،اجتمع الجميع حول مائدةِ الغداء، وفي منتصفِ الأحاديث المعتادة، انسحب أرسلان بهدوءٍ ليجيب على هاتفهِ المحمول.

صوتٌ جاد اخترق أذنه:

– أرسلان، البنت اتقدَّملها في مدرسة بقرية تابعة لمحافظةِ القاهرة، هبعتلك التفاصيل دلوقتي.

في مكانٍ آخر داخل الفيلا، كان إلياس يقفُ غير بعيد، وقد سمع ماقاله المتَّصل، فهرول تجاه أرسلان الذي كان يتفحَّصُ الرسالة الواردة...وبحركةٍ خاطفة، انتزع الهاتف من يده، وعيناهُ تكاد تلتهمُ الكلمات المرسلة، يهمهمُ بالعنوانِ هامسًا:

– مدرسة!...قرية!...مركز ؟!

لم ينتظر، اندفع إلى الخارج كالإعصار، انطلق بسيارتهِ بسرعةٍ جنونية..

تطلَّعت فريدة خلفهِ بدهشة، ثمَّ نظرت إلى أرسلان بشكّ:

– أخوك راح فين؟

ردَّ أرسلان دون أن يشيحَ ببصرهِ عن الباب:

– راح يجيب ميرال.

سقط الكوب من يدِ يزن، وارتفعت عيناهُ في ذهول:

– هوَّ عرف مكانها؟!.

تسمَّرت الأعين كلَّها عليه، بينما همست فريدة كأنَّما تتأكَّدُ من وقعِ الاسم:

– ميرال مين؟

دخلت رؤى في تلك اللحظة وهي تمسكُ بكفِّ يوسف، فتوقَّف الكلام.. اقترب أرسلان من يزن بعينينِ تشتعلان:

-مش عارف رد إلياس هيكون ايه لما يعرف انك كنت عارف من فترة

أطرق يزن رأسه

اقتربت فريدة منهما، ونطقت بصوت لا يكادُ يُسمع:

– ميرال مين اللي عايشة؟!

رفعت فريدة عينيها إلى أرسلان بذهول، وكأنَّ الدم عاد يضخُّ في قلبها بعد توقُّفٍ طويل، ابتسمت والدموعُ تملأُ وجهها:

– بنتي..عايشة؟!

أومأ أرسلان سريعًا يشير إلى يزن:
-كان عارف بقاله اكتر من سنتين ويمكن اكتر
-إنت يايزن، طيب ليه يابني، مشفتش حالتنا 
-انا عملت الصح، كان لازم اخليها تثق فيا، علشان لما تحتاجلي، ودا اللي حصل..ليه متحاملين عليا
رمق ارسلان وقال :
-ايه نسيت انكوا عملتوها قبل كدا 

هز ارسلان رأسه بغضب 

وهو يتحرَّكُ للِّحاق بإلياس، يرمق يزن نظرةً أخيرة:

– أنا لازم ألحقه.

بينما يوسف يردِّد وهو يحتضنُ يد جدَّته:

- تيتا..ماما عايشة!..

في الجهة الأخرى...

في منزلٍ متواضع، كانت ميرال داخل المطبخ، تُعدُّ كعكةَ عيد ميلادِ طفلتها الخامس، وتدندنُ بصوتٍ خافت:

– امورتي الحلوة...بقت أحلى.

في الخارج، كانت هند تُعلِّق الزينة وتجهِّزُ الساحة الصغيرة للاحتفال، تملأُ الأجواء موسيقى عيد الميلاد وأصواتُ الضحكات.

على بعد عدَّةِ أمتار، توقَّفت سيارة فارهة على مدخلِ الحارة، تسبَّبت في تجمهرِ الأطفال، وخرجت فتاة صغيرة تنادي:

– شمس..شمس..تعالي نلعب ماما جابت لي ألعاب جديدة.

اتَّجهت شمس التي كانت تمسكُ فستان عيد ميلادها، التفتت وهي تشير إلى صديقتها:

– تيتا، خُدي الفستان لماما، وقوليلها إنِّ طنط ظبّّطته عليَّا..

انحنت نعيمة تقبِّلُ خدَّها، فركضت نحو صديقتها التي تقتربُ من السيارة.

وقفتا تتهامسان:

– شوفي العربية دي، يمكن ده بطل من أبطال السينما تعالي نشوفه.

ابتسمت شمس وهزَّت رأسها:

– ماما قالت لي ماأكلِّمش حد معرفوش.

لكن صديقتها تابعت السير، وتقدَّمت نحو إلياس الذي كان يحدِّقُ في المكان بنظراتٍ ملهوفة..توقَّفت عيناهُ على الطفلةِ الصغيرة التي اقتربت منه..

انحنى إليها، وخلع نظَّارتهِ بتوتر:

– اسمك إيه ياحلوة؟

ضحكت الطفلة وقالت:

– أنا لمياء، وإنت؟

وقبل أن يرد، رفعت الطفلة يدها تشير:

– شمس، تعالي سلِّمي على عمُّو.

رفع  إلياس رأسهِ ليتبعَ إشارة الطفلة بعد نطقها اسمَ ابنته، وعيناهُ وقعتا على شمس...

نفس العيون..نفس ملامحَ زوجته الطفولية..نعم فهي صورة مصغَّرة، لم يشعر بجسدهِ الذي بدأ يتهاوى، فلقد انقطع نَفَسُه وتعثَّر، ودقَّاتُ قلبهِ تصمُّ أذنيه..

همس باسمها كأنَّما يخرج من قلبه، لا من فمه:
- شمس...

تجمَّدت الطفلة، خائفة من نظراته، واقترابهِ منها، فصرخت فجأة:

– مامااااا! حرامي..فيه حرامي عايز يخطف شمس!..

وفي لحظة، التفَّ حولهِ شبابُ المقهى المجاور، يُمسكون به وهم يصرخون:

– إنتَ مين ياعم؟! بتعمل إيه هنا؟!

بينما ظلَّ إلياس ينظر إلى بابِ المنزل الذي ركضت إليه الطفلة، وقلبهِ يركضُ خلفها، يركضُ إلى ميرال...

صعدت الصغيرة الدرج بنزولِ نعيمة من عند ميرال، فصرخت الطفلة:
-تيتا فيه راجل شبه شجِّيع السيما تحت، كان عايز يخطف شمس بس عمُّو ضربه.
خرجت ميرال على صوتِ طفلتها:
-مالك ياماما؟!.

تعليقات



×
insticator.com, 6ed3a427-c6ec-49ed-82fe-d1fadce79a7b, DIRECT, b3511ffcafb23a32 sharethrough.com, Q9IzHdvp, DIRECT, d53b998a7bd4ecd2 pubmatic.com, 95054, DIRECT, 5d62403b186f2ace rubiconproject.com, 17062, RESELLER, 0bfd66d529a55807 risecodes.com, 6124caed9c7adb0001c028d8, DIRECT openx.com, 558230700, RESELLER, 6a698e2ec38604c6 pmc.com, 1242710, DIRECT, 8dd52f825890bb44 rubiconproject.com, 10278, RESELLER, 0bfd66d529a55807 video.unrulymedia.com, 136898039, RESELLER lijit.com, 257618, RESELLER, fafdf38b16bf6b2b appnexus.com, 3695, RESELLER, f5ab79cb980f11d1