رواية اوار ( جنية الظلام ) الفصل السابع بقلم ندى محمود توفيق
اخذ يتلفت حوله بتلهف بحثًا عنها في الغرفة حوله حتى سقط ضوء هاتفه على كيان مرعب يقف بالزاوية يوليه ظهره ومرتديًا زيًا اسود اللون أشبه بفستان الزفاف وعلى رأسه طرحة زفاف سوداء شفافة تغطي وجهه، ظل بحدق في ذلك الشيء بتركيز شديد ورغم صدمته من ظهوره مباشرة أمامه إلا أن الخوف لم يعرف طريقه لقلبه، كان يقف ثابتًا بثقة وعينان من قوتها تكاد تخترق ذلك الشبح دون هوادة، ليخرج صوته الحاد وهو يسأله:
_أنتي مين ؟
استدارت ببطء شديد حتى أصبحت أمامه وجهًا لوجه، وكان الذهول من نصيب فارس الذي فغر شفتيه وجحظت عيناه مندهشًا عندما رأى أمامه امرأة فائقة الجمال، ملامح وجهها من شدة جمالها قد تفقدك عقلك ولديها نظرة في عيناها السوداء تحمل تعاويذ سحرية بإمكانها أن تطيح بك إلى الجحيم، ظل فارس يتمعن بها وهو مسلوب العقل كالمحسور تمامًا للدرجة التي جعلته ينسى أن تلك المرأة ماهي إلا جنية مرعبة في الحقيقة.
أجابت على سؤاله بصوت أنثوي يطلق سحره على الآذان مع ابتسامتها الجذابة التي تسلب العقول:
_ أوار .. اسمي أوار ألا تتذكرني يافارس فأنت الذي أنقذتني وحررتني من سجني الأبدي ؟!
كان صدى صوتها يقع على أذنيه كطلاسم السحر التي تزيد من حالته سوءًا وتجعله مسحورًا بها أكثر، انقعد لسانه ولم يجيبها لكنه وجدها تقترب منه بخطواتها الناعمة وهي تجر خلفها فستانها الأسود وتبتسم له حتى وقفت أمامه مباشرة وهمست له:
_لا أعرف كيف أشكرك يافارس على ما فعلته لأجلى، لكنني قررت أن اكافئك وتكون معي للأبد لأنني لا أنوي تركك بعد الآن
خرج صوت فارس أخيرًا ضعيف وبالكاد يسمع وهو يسألها:
_ أنتي عايزة إيه بظبط مني؟
رفعت يدها لمستوى نظره لتظهر في باطنها سكين اسود اللون وهمست مبتسمة بشيطانية مستخدمة سحرها الشيطاني للسيطرة على عقله:
_خذ السكين وضحي بروحك من أجلي لتتمكن من البقاء معي للأبد، فـ امرأة جميلة مثلي لن تستطيع أن تجد مثلها بالعالم كله
استغرق لحظات وهو يحدق بالسكين مترددًا حتى سمعها تكمل بصوتها الشيطاني:
_هيا يا فارس ماذا تنتظر، صدقني أنا لم اعطي هذه الفرصة لرجل غيرك وهذا لأنني احببتك
نظر فارس في عيناها فغرق في سحرها المميت وأصبح مسلوب العقل تمامًا، وكلماتها له كانت كالأوامر، فراح يلتقط السكين من يدها لا إراديًا ويرفعها ببطء لرقبته ينوي ذبح نفسه دون وعي، لكن لحسن الحظ أن باللحظة الأخيرة قبل أن تلمس السكين جلده فاق من تأثير ذلك السحر القاتل على صوت زوجته وهي تصيح منادية عليه تبحث عنه:
_فارس أنت فين؟!
رمش بعينيه مرتين ثم انتبه لتلك السكين التي بقبضته فالقاها على الأرض فورًا بفزع وهو غير مستوعب ما حدث معه، لا يصدق أنه كان على وشك قتل نفسه وأنه سقط تحت تأثير تلك الجنية التي اختفت فور سماعه لصوت زوجته، لم يلبث الوقت الكافي لاستيعاب كل هذا حتى وجد ليلى تقتحم عليه الغرفة وتنظر له باستغراب ثم سألته:
_أنت ليه لسا صاحي وبتعمل إيه هنا؟
اندفع نحوها بسرعة ولف ذراعه حول كتفيها يضمها لصدره ويبتسم لها بتعابير وجه مريبة محاولًا عدم إظهار أي شيء لها:
_كان ورايا شغل وقولت اخلصه قبل ما أنام، أنتي إيه اللي صحاكي
هزت كتفيها بجهل وتمتمت في خفوت:
_معرفش بس لما صحيت وملقتكش جمبي قلقت
انحني على رأسها وطبع قبلة دافئة هامسًا لها بحنو:
_طيب يلا يا لؤلؤتي نطلع ننام
كان فارس يضمها لحضنه باحتواء وامتلاك شديد يوضح مدى خوفه عليها من شيء هي تجهله والذي جعلها تحدق به في شك تام وقد عزمت النية على كشف الأمر بنفسها، أن لن يخبرها هو ستعرف وحدها ما الذي يخفيه عنها ويجعل القلق والخوف لا يفارقه.
أما فارس فقد كانت صورة أوار في ذهنه راسخة يتذكر كل كلمة وكل شيء حدث، فأدرك أنه استخف بها كثيرًا فإن وصلت لنقطة السيطرة عليه لقتل نفسه.. هذا يعني أن بإمكانها فعل ماهو افظع من ذلك، لكن السؤال الأهم هنا والذي يجول في عقله ولا يجد له إجابة ” لماذا كانت تريد روحه ؟ “.
***
داخل منزل راندا كانت تقف أمام المرآة تظع اللمسات الأخيرة على مظهرها عندما صدح صوت رنين هاتفها فأسرعت إليه والتقطته لتجيب على ” عز ” الذي وصلها صوته الرجولي الجذاب بلهجته الحماسية هاتفًا:
_يلا ياقطة أنا واقف تحت العمارة
اقتربت من النافذة المجاورة لها التي تطل على الشارع الرئيسي واخرجت رأسها تنظر للأسفل فوجدته يقف مستندًا على السيارة بظهره مرتديًا بنطال اسود يعلوه قميص من نفس اللون وفوقه معطف طويل ويرفع رأسه للأعلى ينظر إلى نافذتها وكأنه يعلم أنها ستفعل وتنظر له منها فابتسمت له بقلة حيلة وأجابت عليه ضاحكة:
_انا نفسي افهم أنت مبسوط أوي كدا ليه يخربيت دماغك ياعز والله أنت مش طبيعي
رد عليها بعبث متصنع نفاذ الصبر:
_طيب يلا انزلي ولا هتسبيني ملطوع في التلج ده كتير
هزت رأسها له بالموافقة دون أن تجيب وهي مبتسمة فحصل على ردها من اماءة رأسها التي رآها من النافذة وانزل الهاتف ينهي الاتصال وهو يتمتم بغيظ:
_صدقيني وأنا نفسي تبطلي غباء وتشغلي دماغك شوية عشان تفهمي أنا مبسوط ليه!!
ظل واقفًا لأكثر من عشر دقائق منتظرًا إياها حتى رآها وهي تخرج من البناية مرتدية حذاء رياضي وبنطال جينز واسع حديث يتماشي مع الموضة يعلوه كنزة سوداء بحمالات رفيعة منحدرة بفتحة دائرية عند الصدر وفوقها معطف بني اللون متوسط الطول، وتاركة العنان لشعرها ينسدل على ظهرها بحرية.
التقطتت عيناه تلك الكنزة التي تظهر جزء صغير من صدرها وعلق بصره عليها بتعبيرات وجه منزعجة، فرأت هي حدة نظراته وتبدل حالته فجأة من المرح للحنق الشديد وضيقت عينيها بحيرة ووقفت أمامه تسأله باهتمام:
_مالك أنت اتعصبت عشان اتأخرت عليك ولا إيه؟
رد بصوت خشن دون أن يبدي على لين في تعابيره أو نبرته:
_لا مفيش حاجة يلا اركبي
هم بأن يستدير ليفتح باب السيارة ويستقل بها قبل أن يفقد أعصابه من فرط الغيظ وينفعل عليها، لكنها قبضت على رسغه لتوقفه وتسأله بإصرار وقلق حقيقي:
_ عز إيه اللي حصل قولي أنت وشك قلب كدا ليه أول ما شفتني؟!!
هبطت نظراته لا إراديًا على ملابسها وتحديدًا على جسدها العاري عند منطقة الصدر فأغلق عينياه مغتاظًا يحاول الحفاظ على ثباته الانفعالي ليجيبها بقوة:
_قولتلك مفيش يلا بينا
رفعت حاجبها بتعجب من حالته المريبة لكنها لم تضغط عليه أكثر من ذلك والتفت حول السيارة لتستقل بالمقعد المجاور له وهي تراقبه طول الطريق بعدم فهم، كان لا ينظر لها ومثبت نظره على الطريق أمامه ولا يتحدث معها، من شدة انشغالها وفضولها بأمره لم تسأله حتى إلى أين يأخذها، حتى توقفت السيارة أمام مطعم صغير أمام النيل مباشرة، ابتسمت عندما رأت ذلك المكان من شدة حبها له ونزلت من السيارة فورًا ولحق هو بها الذي ألقى نظرة على المطعم من الخارج فرآه مكتظ بالشباب، هنا فقد السيطرة على نفسه أكثر من ذلك فهو طول الطريق ساكنًا لا يستطيع أن يخبرها من انزعاجه من ملابسها وأن الغيرة تأكله أكل.
اتجه نحوها وأشرف عليها بهيئته الرجولية ينظر لها بحزم هاتفًا:
_اقفلي الجاكت ده الجو برد وهتبردي
هزت رأسها بالرفض وقالت ببساطة:
_أنا مش بردانة وكمان الجاكت مش بيتقفل مفهوش زراير
لوي فمه بغيظ وأطلق زفيرًا حارًا ثم خطف نظرة بطرف عيناه على كنزتها واشاح بوجهه عنها يهمس لها دون أن ينظر بأسلوب راقي ومهذب لكن نبرته لم تكن تشبه أسلوبه أبدًا بل كانت قاتلة وآمرة:
_طيب ارفعي البتاع اللي من تحت ده شوية لفوق
نظرت بسرعة لملابسها وجسدها بدهشة من كلماته فشعرت بالاستحياء الشديد ورفعت يدها تمسك بطرف الكنزة تجذبها للأعلى قدر الإمكان، بينما هو فأشار لها بعيناه لكي يتحركوا فسارت بجواره إلى الداخل حتى وصلوا أمام إحدى الطاولات، جلست على مقعدها المقابل له وعيناها لا تحيد عنه للحظة تتمعنه بفضول محاولة تخمين سبب انزعاجه وتبدل مزاجه لكنه قطع لحظات تأملها فيه بصوته وهو أخيرًا يبتسم:
_ياترى ايه السبب الجميل اللي مخليكي سرحانة فيا كدا
لوت فمها بحيرة وقالت بثغر مبتسم:
_لا متشغلش بالك المهم أنت فكيت خلاص وبقيت فريش ولا لسا متعصب؟
هتف عز بكل ثبات وبرود محاولًا عدم التركيز على ملابسها التي تثير جنونه:
_مين قالك أني متعصب؟!
ضحكت راندا بخفة وقالت ساخرة:
_أنت كدا مش متعصب يعني أمال لما تكون متعصب هتبقى ازاي، احنا لينا سنين طويلة مع بعض ياعز بقينا اكتر من مجرد زمايل شغل، فأكيد هكون فاهمة كويس الفرق بين لما تكون متعصب ولما تكون عادي
ابتسم وظهرت في عينيه نظرة سبحت في بحر الذكريات ثم قال وهو يستعيدها ضاحكًا:
_ فاكرة كانت علاقتنا إزاي في البداية، كنت مش طايقك وكنت بعاملك معاملة حقيرة
قهقهت بقوة فور تذكرها لأحد المواقف بينهم وقالت بين ضحكها:
_عمري ما انسى اليوم اللي من كتر ما كنت متغاظة منك ومن طريقتك معايا قفلت عليك باب المقبرة قصد واتحججت بأني لسا جديدة في الشغل ومخدتش بالي، والحفارين اخدوا وقت طويل بيحاولوا يفتحوا الباب وأنت جوا
رمقها عز بغيظ شديد وهتف وهو يجز على أسنانه:
_انت احمدي ربك أني معرفتش أنك عملتي العملة دي قاصدة غير بعد ما بقت علاقتنا كويسة
تابعت ضحكها الشديد مجيبة عليه:
_مهو أنت كنت تستاهل الصراحة، ده أنت كنت غلس بشكل ووصل بيك الحال انك عايز تمشيني من الشغل وكنت بتسخن فارس عليا، بس الحقيقة أنا ندمت بعد العملة دي وخوفت ليحصلك حاجة في المقبرة والأكسجين كمان قليل جدًا فكنت بحاول اساعد الحفارين بكل الطرق
غمز لها وقال مداعبًا بضحكة رجولية:
_ياقطة خوفتي عليا يعني؟!
راندا برفض تام ونظرة باردة:
_لا طبعًا خوفت لـ البس مصيبة بسببك بس!!
رفع حاجبه بصدمة من ردها القاسي لكنه لم يتمكن من حجب ضحكته من الانطلاق في النهاية، مرت دقائق طويلة يتبادلون الأحاديث المرحة، ووسط كلامهم كانت عيني عز لا تغفل عن العيون التي لا تنزل عن راندا.. كانت النظرات لرجل هيئته وشكله ونظراته مريبة كان يأكلها أكل بعيناه التي رغب عز بالانقضاض عليهم وخلعهم من مكانهم لكنه تمالك أعصابه بصعوبة حتى لا يفسد ليلتهم ومزاجه مرة أخرى، أما راندا فتوقفت وأخبرته بأنها ستذهب للحمام.. هز رأسه لها بالموافقة وانطلق فورًا برأسه ونظراته إلى ذلك الشاب يراقب تصرفاته أثناء سيرها في اتجاه الحمام فوجد عيناه تراقبها في خطواتها، يبدو أنه كان ينوي اللحاق بها لكنه تجمد مكانه عندما انتبه لنظرات عز القاتلة له.. الذي استقام واقفًا وقاد خطواته المتحفزة نحوه وسط نظرات ذلك الشاب التي بدأت شرانية.
***
بالقاهرة بمنزل عائلة فارس تحديدًا بغرفة ماهر كان ممدًا على فراشه يتصفح مواقع التواصل على هاتفه، الذي فجأة صدح صوته رنينه في يده وأنارت الشاشة باسم المتصل ” سمر “، حدق في اسمها للحظات باستغراب ثم أجاب ووضع الهاتف على أذنه:
_الو
تنحنحت بإحراج بسيط فور سماعها لصوته الرجولي وارتبكت ثم قالت برقة:
_احم.. ازيك ياماهر؟
ضيق عيناه بحيرة لكنه رد بكل سلاسة ولطف:
_أنا كويس الحمدلله ياسمر وأنتي عاملة إيه؟
أجابت باستحياء ووصوت أنثوي ناعم:
_أنا الصراحة مقدرتش انام غير لما اتصل اكلمك اتطمن عليك وكمان تفهمني موضوع البنت دي
ابتسم ماهر بود وقال في صوت رجولي رخيم:
_أنا الحمدلله كويس اطمني عليا، أما موضوع البنت دي.. موضوع كبير أوي ياسمر مش هتستوعبيه في التلفون وكمان اخاف عليكي احسن متعرفيش تنامي لو حكيتلك
قال عبارته الأخيرة مازحًا قاصدًا مداعبتها فردت معاتبة إياه برقة:
_بقى كدا بتتريق عليا ياماهر ؟!
قهقه بقوة وقال في لطف:
_لاوااله أبدًا أنا بهزر بس معاكي عشان تنسي القلق والخوف من الموضوع ده، عمومًا أنا جاي المستشفى بكرا نبقى نقعد مع بعض واحكيلك وافهمك
لمعت عيناها بفرحة حماسية فور سماعها لعبارته التي يخبرها بقدومه غدًا أيضًا فاجابت عليه:
_اوكي منتظراك
تنحنح ماهر في الهاتف برجولة وقال في صوت رخيم:
_متشكر ياسمر على سؤالك عليا واهتمامك
ابتسمت باستحياء وقالت برقة أنثوية:
_بتشكرني على ايه ياماهر مفيش الكلام ده ما بينا احنا مش عشرة يوم ولا يومين
هو رأسه مؤيدًا لعباراتها:
_فعلًا عندك حق
استكملت هي بهدوء:
_يلا تصبح على خير معلش بقى ازعجتك في الليل
أجاب بنبرة رجولية دافئة:
_ ازعاج إيه بس براحتك في أي وقت
ابتسمت خلف شاشة الهاتف دون أن يراها وردت بصوت رزين:
_يلا سلام بقى واشوفك بكرا أن شاء الله
_ أن شاء الله.. سلام
انزل الهاتف من فوق أذنه بعد سماعه لصوت صافرة اغلاق الاتصال التي بادرت هي بإنهائه وظل يحدق في شاشة الهاتف شاردًا، يفكر في اتصالها واطمئنانها عليه ثم انتقل منه متذكرًا كيف تعرف عليها في الجامعة أول مرة، كيف كانت مرحة ولطيفة تقدم له المساعدة دون حتى أن يطلبها، تعينه على المذاكرة وتشجعه حتى أنهم كانوا يقضون الساعات في حرم الجامعة بعد انتهاء محاضراتهم يتشاركون المذاكرة معًا كل منهم يساعد الآخر في فهم المعلومات المعقدة، حتى انتهت سنوات الجامعة كل منهم تفرق وذهب بطريقه المنفصل ليشق طريقه في مسيرته المهنية والحياتية، ويشاء القدر أن يجمعهم من جديد من خلال العمل معًا مجددًا بنفس المستشفى رغم أنه اصبح لديه عيادته الخاصة لكنه ظل متمسكًا بعمله في المستشفى لشدة حبه لذلك المكان.
ابتسم لا اراديًا وهو يتذكر تعبيرات وجهها وتصرفها العفوي بصباح اليوم عندما أخبرها عن تلك الفتاة وأنها ليست بشرًا ورأت بعينيها اختفائها في كاميرات المراقبة رغم وجودها بالمكان، وكيف تشبثت بذراعه في رعب كطفلة صغيرة تطلب الآمان من أبيها.. كانت دومًا تخشى الأشباح والتحدث عنهم ورغم تقدمهم في السن ومرورهم بظروف ومواقف وتجارب كثيرة من المفترض أن تغيرهم إلا أنها لم تتغير ومازالت كما هي تلك الفتاة الرقيقة والناعمة التي تعرف عليها في الجامعة.
***
داخل المقهى بعدما هب عز واقفًا واتجه نحو ذلك الشاب متأهبًا وثائرًا، فتوقف الشاب هو الآخر متأهبًا عندما رأى هيئة عز ونظراته القاتلة وهو متجه نحوه، وقف عز أمامه وهمس له بصوت رجولي مرعب لم يسمعه سواهم:
_عينك لو لمحتها بتحوم تاني في المكان حواليا مش هيحصلك طيب فاهم ولا افهمك بطريقتي
ابتسم الشاب بسخرية وقال في لهجة فظة وأسلوب سفيه:
_ابص في المكان اللي احب ابص فيه مش أنت اللي هتقولي ابص فين يابرنس، ولما أنت محموق عليها أوي كدا غطيها الأول، يعني لموا نسوانكم وبعدين ابقوا اتكلموا
لم يتحمل عز الأهانة في رجولته التي وجهها له ذلك الوغد، بعد كلماته الدنيئة مثله ودون أدنى تفكير كان يوجه له لكمة مميتة ابرحته ارضًا وبدأ صوت عز الجهوري والمرعب يرتفع في المكان وهو يشتم ذلك الشاب بالألفاظ التي يستحقها، حتى اشتد القتال بينهم وسط محاولات الناس للتفرقة وتهدئة الأمور.
أما راندا فقد خرجت من الحمام مهرولة عند سماعها لصوت الصياح والضجيج المرتفع التي يتضمن نبرة صوت عز التي تعرفها جيدًا، وبالفعل وجدته في منتصف القتال مع ذلك الشاب والناس تفرق بينهم، لجمت الصدمة لسانها وقدميها وهي تراه في هذه الحالة والثوران المرعب، رغم كل السنوات التي عاشرته فيها أثناء العمل لم تراه يفقد أعصابه ويتحول لذلك الشخص أبدًا، بالأخص وهي لا تفهم سبب دخوله في ذلك الشجار، لم تلبث لتفق من صدمتها حتى وجدت مدير المقهى يتجه في سيره السريع نحوهم ليوقف تلك المهزلة ثم انحنى على عز وحدثه بثبات وبالطبع لم تسمع ما قيل لكن يبدو أنه دعاه للقدوم معه إلى مكتبه ليتحدثوا، فهز عز رأسه موافقًا وكان قد هدأت ثورته فور رؤية المدير بالتأكيد لانه صديقه ويعرفه معرفة وطيدة، لكنه قبل أن يتحرك معه التفت برأسه للخلف بحثًا عنها فوجدها تقف بعيدًا تتابع الموقف بذهول، اتجه نحوها بخطوات سريعة جعلتها تنتفض بأرضها خوفًا من مظهره ونظراته النارية لها، فجأة وجدته يقبض على ذراعه ويجذبها معه بل يجرها بالمعنى الحرفي خلفه وهو هائج، لم تتفوه بكلمة واحدة واختفت شخصيتها القوية بل وتحولت لقطة بالمعنى الحرفي كما يصفها ويدلعها، كانت تسير معه دون ادني اعتراض رغم عدم استيعابها وتساؤلها ما الذنب التي اقترفته هي.
توقفا أمام باب مكتب المدير والتفت لها يقول بنظرة دبت الرعب في أوصالها وبلهجة آمرة هتف:
_هدخل اتكلم مع يوسف دقيقتين وطالع متتحركيش من هنا ياراندا فاهمة ولا لا
هزت رأسها بالموافقة دون أي اعتراض هي حتى لم تتجرأ حتى الآن لتسأله عن سبب افتعاله ذلك الشجار، ظلت مكانها بالخارج تنتظر خروجه لدقائق حتى خرج أخيرًا وكما فعل قبل قليل قبض على رسغها مجددًا وجذبها معه، الاختلاف الوحيد أنه تفوه بكلمة واحدة هنا وهي ” يلا ” ، وصلوا إلى السيارة ففتح لها باب المقعد واستقلت هي فيه بصمت فأغلق الباب خلفه بقوة ثم التف من الجهة الأخرى ليستقل بمقعده المخصص للقيادة وفور جلوسه بمقعده طفح بركانه وثارت عواصفه مرة أخرى فراح يصيح بعصبية وهو يشير لملابسها:
_اللبس ده متطلعيش بيه تاني ومن هنا ورايح تلبسي لبس محترم ومقفول وواسع
ولا اراديًا منه دون وعي لما يفعله من فرط غيرته وانفعاله مد يده إلى ملابسها ينوي أن يرفع كنزتها ليخفي صدرها مكملًا صياحه:
_وداري صدرك ده إيه اللي لبساه ده!!!
مالت للخلف بأسلوب دفاعي وراحت تضع كفيها على صدرها لتمعنه من لمسها وهي تنظر له بصدمة من هياجه وتصرفاته المريبة، فهتفت وصاحت له بغضب حقيقي يحمل نبرة العتاب ونظرة الخزي:
_عز إيه اللي بتعمله ده فوق لنفسك، وبعدين إيه البسي لبس محترم ده قصدك إيه بظبط، لما أنت يابشمهندس شايفني مش محترمة طالع معايا ليه حد غضبك ولا أنا طلبت منك تطلع معايا، أنت حتى من وقت ما طلعنا وأنت قالب وشك فيا، عمومًا أنا الغلطانة اني وافقت اطلع معاك اصلًا انا اللي آسفة ليك ولنفسي أني سمحت أنها تسمع كلام فارغ زي ده منك
أنهت عباراتها والتفتت خلفها تفتح الباب وتنزل من السيارة مندفعة نحو الطريق لتعود للمنزل بمفردها سواء سيرًا أو حتى بسيارة أجرة، لم تفكر في الطريقة من فرط غيظها فاندفعت للطريق دون تفكير، أما هو فنزل خلفها مسرعًا ولحق بها يجذبها من ذراعها ويهتف باستياء:
_خدي هنا رايحة فين، اركبي عشان اوصلك
دفعت يده بعيدًا عنها وصاحت به بشراسة:
_مش هركب معاك ولا عايزة منك حاجة اتفضل امشي وملكش دعوة بيا
اخذ نفسًا عميقًا وحاول تمالك أعصابه فهو يدرك جيدًا أن العناد لن يجدي بنفع مع شخصية أعند منه فقال لها بصوت هدأت حدته وانخفضت نبرته العالية:
_بلاش عناد ياراندا واركبي متلميش الناس علينا، مش هتروحي وحدك وأنا مش هسمحلك، يلا اركبي واوعدك ياستي مش هفتح بوقي معاكي لغاية ما نوصل خلاص.. يلا اركبي
نظرت له بسخط وتردد لكنها أجبرت على الموافقة لمعرفتها بأنها لن تجد أي سيارة تأخذها لمنزلها في ذلك الوقت المتأخر، فاتجهت عائدة نحو سيارته واستقلت بالمقعد الخلفي عمدًا حتى لا تكون بجواره، نظر هو لها في انعكاس المرآة وهز رأسه في غيظ ثم اطلق زفيرًا حارًا وانطلق بالسيارة عائدًا إلى منزلها.
***
بصباح اليوم التالي داخل منزل فارس تحديدًا بغرفة نومه، استيقظ من النوم وفتح عيناه بتكاثل وراح يتمطى فاردًا ذراعيه، والتفت بجواره فلم يجد ليلى استقام جالسًا وهب واقفًا لكن قبل أن يخطو خطوة واحدة سمع همس في أذنه لم يكن ذلك الهمس سوى لتلك الجنية أوار، تخبره بنبرة شيطانية:
_زوجتك تحضر لك وجبة أفطار شهية، ربما ستكون الأخيرة لكم
وبلحظة بعد توقف صوت أوار في أذنه سمع صراخ زوجته وهي تستنجد به، فهرول مفزوعًا إليها يركض في زعر ليجدها تصرخ وتبكي بألم وهي ممسكة بيدها الحمراء كالدم، أمسك بيدها لكنها صرخت بصوت أعلى وهي تأن باكية:
_الزيت السخن اتكب علي ايدي يافارس ااااااه
نظر لها بذهول وهو مازال لا يستوعب ما يحدث، لكن منظرها وهي تتألم هكذا انفطر له قلبه فأسرع نحو غرفة مكتبه ليجلب مرهم الحروق الذي كان يحتفظ به وعاد لها ثم اجلسها على المقعد وجلس على المقعد الآخر أمامها ومسك بيدها وبدأ بتوزيع المرهم على مكان الأصابع برفق شديد وهي تبكي بشدة من شدة الألم وعدم تحملها للمسة أصابعه على بشرتها المحترقة، بعدما انتهى مال عليها وقبلها من رأسها ثم ضمها لصدره في دفء وشعوره بالذنب يقتله أنه هو المتسبب في كل هذا حتى الأذى التي تتعرض له هو السبب فيه، رأى أمام عينه على مسافة بعيدة أوار تقف بهيئتها الشيطانية والفرعونية تنظر له وتبتسم بانتقام وخبث، نظراتها كانت تعده بالأبشع وكأنها تخبره بأن ذلك لم يكن سوى البداية، نظر لها بغيظ وهو يتوعد داخله أن يقضي عليها ويعيدها لسجنها الذي حررها منه، راح يمسح على ظهر زوجته ويهمس لها بحب:
_دقايق والألم هيهدي ياليلى، لو عايزة نروح المستشفى ياحبيبتي يلا بينا
هزت رأسها بالنفي وقالت في ضيق بصوتها المبحوح:
_لا هبقى كويسة، أنا بس ملحقتش اكمل الفطار عشان تفطر قبل ما تطلع على الموقع
ابعدها عنه ونظر في عينيها مبتسمًا بمداعبة وقال في غرام:
_فطار إيه بس دلوقتي يالؤلؤتي اهم حاجة أنتي كفاية اصطبحت على الوش القمر ده
ابتسمت له بخجل ثم صمتت للحظات تفكر بخبث وراحت تسأله مباشرة مازحة لكن نبرتها كانت تبدو شرسة:
_أنت في إيه بظبط يافارس ايه الحنية والدلع ده كله لتكون اتجوزت عليا من قبل ما نتطلق حتى
رفع حاجبه مندهشًا من ردها الغير متوقع ثم راح يمسح على وجهه وهو يضحك مغلوبًا ويجيب:
_يعني نبقى وحشين تقولي أنت مش بتحبني وبتخوني نبقى حلوين وحنينين وبندلع ونطبطب تقولي أنت اتجوزت عليا، عمومًا متخافيش ياست البنات أنا مقدرش اعمل كدا اصلا وبعدين أنا في إيه ولا إيه دلوقتي
قالت بغيظ بعدما انتشرت داخلها طاقة النكد الأنثوية:
_أنت في إيه ولا إيه!!!.. معنى الكلام ده إنك لو مكنتش في إيه ولا إيه كنت ممكن تعملها عادي صح
مال ثغره في ابتسامة جذابة وقال غامزًا بلؤم:
_وأنتي غيرانة ليه مش بتقوليلي دايما أنك مش عايزاني وعايزة تطلقي مني، إيه اللي يضايقك لو اتجوزت فعلا طالما مبتحبنيش
الحوار بدأ بمزاح بسيط منها لكنه أخذ منعطف جدي جعل النيران تتأجج في صدرها ويشتعل فتيل الشك في قلبها، فتقوست معالمها الناعمة وأصبحت حادة وساخطة بشدة لتهتف:
_فارس الكلام ده مفهوش هزار.. أنت بتتكلم جد؟
أدرك غيرتها الشديدة وانفعالها المحبب لقلبه فأكمل راغبًا في استفزازها والاستماع بغيرتها أكثر:
_لو بتكلم جد هتعملي إيه؟!
اتسعت حدقتي عيناها بصدمة وتحولت لجمرة من النيران المشتعلة فمدت يدها إلى رخام المطبخ الذى تقف بجواره والتقطت السكين لا اداريًا ورفعتها مباشرة أمام وجهه وراحت تطلق تحذيراتها القاتلة له:
_لو الكلام ده بجد هقتلك، أنا مقبلش بالخيانة أبدًا
نظر للسكين بدهشة فآخر ردة فعل كان يتوقعه منها أن ترفع السكين وتهدده بالقتل، ” ليلى ” تكره الكلمة نفسها ولا تتحمل سماعها فكيف نطقتها، عندما دقق النظر في السكين وجدها نفس السكين التي اعطتها ” أوار ” له بالأمس وهي تحاول سحره ليقتل نفسه، رفع نظره لوجه ” ليلى ” فرأى في عيناها نظرات مريبة شيطانية كلها شر لا تشبه طبيعتها الرقيقة والناعمة مطلقًا.
رفع يده ببطء وانزل يد زوجته بكل رفق وسألها بنظرة ترقب وصوت جاد:
_أنتي جبتي السكينة دي من فين ياليلى؟
إجابته بضيق مازال يستحوذها:
_لقيتها في المطبخ معرفش يمكن احنا كنا جايبنا من زمان وسيبناها هنا
أخذ نفسًا عميقًا وقد تبدلت تعبيراته بلحظة للقوة والجدية وهتف وهو يحاول جذب السكين من يدها بهدوء:
_طيب هاتي السكين دي ياحبيبتي
رفضت رفض قاطع وقالت بانزعاج وهي تبعد يدها عن قبضته:
_لا عايز تاخدها ليه عجبني شكلها حلو أنت عارف أنا بحب الخزف اللي ماخد الشكل الفرعوني
حدقها مندهشًا من تمسكها العجيب بها وحاول أخذها منها بحدة وغضب:
_ليلى اسمعي الكلام قولتلك ادهاني أنا محتاجها
أبت وأصرت على عدم اعطائها له وبينما كان ممسكا بيدها يحاول أخذها منها، وجدها تضغط بالسكين على يده دون وعي منها وجرحته، فانتفض هو مبتعدًا عنها بألم وهو يرمقها بصدمة وينظر لباطن يده التي بدأت تنزف الدماء، أما ” ليلى ” فحدقت بزوجها في ذهول وأدركت ما فعلته بعينان جاحظة لتلقي السكين من يدها بزعر محاولة استيعاب كيف فعلت وجرحته.
أما فارس فلم يكن هناك وقت بالنسبة له للاندهاش الآن حيث انحنى على الأرض بسرعة والتقط السكين واسرع ووضعها بحوض المياه وفتح صنبور المياه حتى يغسلها من الدماء فهو لا يدري ربما وجود دمائه على تلك السكين يمثل خطر على حياته فكان الاحتياط كان واجب عليه بتلك اللحظة، وغسل يده بالماء كذلك رغم أنها لا تتوقف عن ذرف الدماء، ليجد ” ليلى ” تقف خلفه تهتف بصوت مرتجف مثل يدها التي تمدها له بالمعقم والشاش:
_هات ايدك يافارس
نظر لها فرأى الدموع في عيناها وشفتها ترتجف من الخوف والصدمة، دون أي اعتراض مد يده لها يتركها تضمد جرحه بيدها المرتعشة ودموعها التي تنساب بغزارة على وجنتيها، سحب يدها بعدما انتهت من تضميد الجرح وقال بحنو:
_ممكن متعيطيش!
دفنت وجهها بين راحتي كفيها وانهارت في البكاء وهي تجيبه:
_أنا معرفش جرحتك ازاي مش عارفة إيه اللي حصلي، أنا مش كويسة يافارس!
اقترب منها وضمها لصدره محاولًا تهدأتها بصوتها الرجولي الرحيم والمحب:
_ايه الكلام اللي بتقوليه ده، أولا ده جرح بسيط ثانيًا أنتي مكنش قصدك طبعا وأنا كنت ماسك السكينة غلط وهي حادة فطبيعي تجرحني، بلاش بقى الكلام البايخ ده ياليلى حصل خير ياحبيبتي أنا كويس الحمدلله
ابتعدت عنه ونظرت في وجهه بابتسامة دافئة كلها غرام ثم مالت عليه وطبعت قبلة حارة على وجنته بجانب ثغره وهي تهمس معتذرة له برقة:
_أنا آسفة ياحبيبي
مال ثغر فارس وافسح الطريق لابتسامة عريضة شقت طريقها على وجهه وراح يغازلها بمرح ليمحو تلك الطاقة الشيطانية التي سيطرت عليهم منذ الصباح:
_ايوة كدا هو ده الكلام الحلو، ولا يهمك ياقلب حبيبك عوريني كل يوم فداكي دمي كله
ضحكت بخفة وراحت تلكزه في صدره بدلع هامسة:
_بلاش رخامة بقى
انحنى عليها وطبع قبلة دافئة فوق رأسها وقال مبتسمًا لكن بنبرة جادة نابعة من قلقه وخوفه من أن يتركها بمفردها:
_أنا هروح البس وأروح الموقع عشان متأخرش.. إيه رأيك تيجي معايا بدل ما تقعدي وحدك اليوم كله
هزت رأسها بالنفي وقالت رافضة بعدم حماس:
_لا تعبانة النهاردة ومرهقة شوية خليني في البيت احسن مش حابة اروح
رغم أنه يصعب عليه بشدة تركها بمفردها خصوصًا بعد ما حدث للتو ، فالوضع يزداد خطورة وسوءًا مع الوقت أكثر، لكنه استسلم لرفضها ولم يضغط عليها واكتفى بأنه وجه له تعليماته الصارمة باهتمام وخوف حقيقي:
_طيب خلي بالك على نفسك وتلفونك يفضل دائما جمبك عشان لما اتصل بيكي اطمن عليكي تردي علطول
لماذا له بالموافقة في ابتسامة لطيفة فبادلها إياها هو ومد يده خلسة إلى الحوض ليلتقط السكين وأخذها دون أن تنتبه له وعاد إلى غرفته ليستعد ويرتدي ملابسه ويذهب للعمل.
***
وصل فارس إلى موقع العمل فتوقف بسيارته أمام النقطة التي ظهرت بها تلك المقبرة الملعونة والتفت برأسه على المقعد المجاور له ينظر إلى السكين بغيظ وعينان تنضج بالوعيد والشر فالتقطها وخرج من السيارة ثم تقدم بخطواته إلى نفس النقطة، وقف فوقها بالضبط وانحنى ثم ألقى بالسكين على الأرض وقام بإخراج ولاعته الصغيرة وقام بإشعال النار في السكين، انتصب واقفًا يحدق في السكين وهي تشتعل ويبتسم بوعيد هامسًا بصوت مسموع:
_هكون أنا سجّانك المرة دي يا أوار