رواية اشتد قيد الهوي الفصل الثانى عشر بقلم دهب عطية
عندما نشعر بضياع أقرب الأشياء إلى قلوبنا نبدأ في التبدّل والتغيّر وتُسْوَدُّ قلوبُنا بالضغائن...
وفي غمرة الحقد نُعلِن الحروب لاسترجاع حقوقنا لكن أحيانًا تكون حروبًا غير شريفة وليست في مكانها الصحيح فتضعنا في خانة الطاغي. وما أصعب أن يستسيغ الإنسان البهتان على لسانه كما يستسيغ الخبز !...
تقف بينهما صامتة خانعة تتجرّع ريقها بين الحين والآخر بتوتر كمن يبتلع جمرٍ ملتهب والغصّة في حلقها تخنقها تؤلمها كما يؤلمها قلبها المرتجف أمام هذا الكم من الظلم الذي تتعرض له الآن...
أبرار تبكي بلا توقف تتقن الدور دون أدنى شك. تضمها جدتها إلى صدرها بلوعة الأم تربّت على كتفها تسألها عمّا حدث والأخرى تبكي بلا توقف منهارة بين ذراعيها...
بينما هو يقف كجبلٍ شامخٍ بينهن ينقل عينيه الخضراوين بينها وبين ابنته المنهارة. لم يتحدث ولم يسأل بعد فَضَّل الصمت لكن عينيه كانتا قاسيتين نحوها كجذوتين من النيران تطلعانها بصمت جارح...
صمتٌ كان بمثابة سهمٍ اخترق صدرها قبل كبريائها...
"فهميني بس يا أبرار إيه اللي حصل؟
إنتي بقالك نص ساعة بتعيّطي ومش فاهمة منك حاجة..اهدَي كده واحكيلي إيه اللي حصل؟... "
قالتها الجدة وهي تُبعِد أبرار عن أحضانها فقد اكتفت من الوقوف هكذا دون أن تفهم ما يدور هنا. لقد أتوا على صوت استغاثتها وانهيارها ويجب أن تخبرهم ما حدث معها..
ثم نظرت الجدة إلى شروق وسألتها بحيرة....
"طب اتكلمي إنتي يا شروق في إيه؟"
بثباتٍ وقوة اكتسبتهما من سنوات الشقاء والغلَب جلست على أقرب مقعد وبمنتهى
الهدوء الأقرب إلى اللامبالاة وكأن الأمر
برمّته لا يعنيها قالت...
"بنتكم تقولكم في إيه؟ أنا زيي زيكم..."
نظر لها صالح بقوة فبادلته النظرة بقوة تضاهيه تُثبِت أنها لا تخاف منه ولا من
ردّة فعله القادمة.
كان محقًا حين شبّه عيونها بالبرية... عالمٌ لا يخضع للقوانين وحتى إن كان بينه وبين
الخطر خطوة واحدة لا يهابه...
إما أن تستسلم لمصيرها..أو تُصارع للبقاء بكل ما أوتيت من قوة وفي الحقيقة... هي الاثنان.
تختار الاستسلام حين تشاء وحين تُقرر البقاء...تتشبث بالحياة كابنة تولد من جديد؟!...
أخيرًا تحدث صالح منذ دخوله إلى الشقة
هاتفًا بأمر قاطع...
"أبــرار... اطلعي فوق !"
اتسعت عينا أبرار بغضب ينزّ بالحقد ومن بين دموعها قالت...
"أطلع فوق؟!... مش هاطلع قبل ما الست المتوحشة دي تمشي من هنا.. "
عقبت الجدة بصدمة..
"متوحشة؟!... "
أكّدت أبرار بحرقة وهي تقول بتهدّج...
"هي اللي ضربتني وبهدلتني أمال أنا ناديت عليكم ليه؟!... ده أنا خلصت نفسي من تحت إيديها بالعافية.. "
بدت الحيرة على وجه الجدة وهي تقول
بريبة....
"بس إحنا لما دخلنا كنتي واقفة عند الباب وشروق وراكي... لا كانت بتضربك ولا كان
باين عليها حاجة.. "
هاجت أبرار صارخة...
"إنتي بتكذبيني يا تيتة بقولك هي اللي بهدلتني كده"
تنهدت شروق وقالت بنفس سمحة...
"صدقيها يا خالتي يمكن تبطّل عياط وتهدى..."
ثم تململت هازئة....
"على رأي المثل ضربني وبكى سبقني واشتكى..."
صرخت أبرار بانفعال....
"إنتي ليكي عين تتكلمي كمان... "
ارتفع حاجب شروق وهي تقارعها بنفس النبرة الباردة التي تستفز أبرار....
"عجايب تكونيش كسرة عيني؟ ولا صدّقتي الفيلم الهندي اللي إنتي عاملاه على أهلك؟!"
ثم أضافت بصوت مثقل...
"عامةٍ لو ضربتك زي ما بتقولي حقك عليا يا ستي... ولا أقولك تعالي خدي حقك مني ضربة قصاد ضربة اشفي غليلك... مع إني أشك إنه يشفى من ناحيتي.. "
قالت أبرار بشراسة من بين أسنانها...
"أنا مش هيشفي غليلي غير إنك تمشي
من هنا "
التوى ثغر شروق في بسمة باهتة وهي تعقّب بسخط....
"ماهي دي خطتك خبطي على بابي ودخلتي والشيطان على كتافك... جاية تطرديه عندي بكلام مالوش لازمة ولسانك طال واستحملت وعدّيت عشان خاطر ستك وأبوكي.. "
ثم مالت للأمام في جلستها أمام عينيه الخضراوين المتابعتين لكل حركة تصدر منها وكأنه يستشف حقيقة الأمر....
"تقومي تجني وتعملي حركات العيال دي ضربتني شدتني من شعري..الــحــقوني... "
ثم لمعت عيناها بشرّ وقالت بضراوة...
"هو أنا لو فعلاً مدّيت إيدي عليكي هتعرفي تطلعي من تحت إيدي وتفتحي الباب وتنادي كمان؟! متعرفنيش لما بغيب بيبقى عندي بعيد عنك صرع ما بيروحش غير بالدم مش بكام قلم ضربتي نفسك بيهم !"
علت أنفاس أبرار وبدأ جسدها ينزّ عرقًا مرتبكًا وهي تقول باهتياج...
"شايفين الكدب ضربتني والله ضربتني أحلف على المصحف عشان تصدقوا... "
قارعتها شروق بنفس الهدوء..
"احلفي حلفانك قصاد حلفاني وإن شاء الله يتقلب على عينك.. "
"شــــــــروق... "
انتفضت في مكانها ولم تتوقع يومًا أن ينطق اسمها مجردًا على لسانه ينطقه بكل هذا العنف وكأنه يكره حتى نطقه... كم كرهته هي وهو يطالعها بنظرة قاسية جامدة كانت كالحجر الذي وقع على صدرها وهي تنظر إليه بوجع ينبض في عينيها الحزينتين...
قال صالح بشق الأنفس....
"كفاية كده... لو حد فيكم غلط هيتحاسب."
ثم أضاف بخشونة....
"ولو ليكي حق عندنا هتاخديه حتى لو على رقبتي...."
سحبت الجدة حفيدتها وقالت برهبة...
"تعالي يا أبرار... تعالي نطلع فوق وكفاية كده."
خرجا من أمام الشقة تحت عيني صالح الغاضبتين وبعد دقيقة واحدة كان يتحرك مغادرًا لكنه توقّف... أوقفته جرأتها مثله
على مناداته بدون ألقاب في تحدٍّ سافر منها
"صـــالـــح.. "
أغمض عينيه بقوة وتشنّج جسده كليًا متوقفًا في مكانه بينما قبضتاه مضمومتان يخفي بهما غضبه وانفعاله عنها...
لم يستدر لها ظلّ مكانه منتظرًا القادم منها...
فقالت من خلف ظهره بنبرة شبه باكية وكأن قوتها خارت بعد أن خرج الجميع...
"أقسم بالله ما مدّيت إيدي عليها مستحيل أعمل مع بنتك كده أنا مش قليلة أصل عشان أُهين حد منكم... مهما عمل... "
وقبل أن ينوي التحرك قالت بلهفة ونفس سمحة..
"وبلاش بالله عليك تزعقلها أو تزعلها بسببي... هي عملت كده من حبها فيك"
استدار إليها صالح بكليته ونظر في عينيها فرأى دموعها تنساب على وجنتيها فسألها متوجسًا شاعرًا بالاختناق يجتاح صدره أكثر من اللازم...
"أبرار قالتلك إيه بالظبط؟"
هزت رأسها قائلة بوهن حزين...
"مالوش لازمة تعرف اللي قالته... اللي قالته
أنا مسامحة فيه."
............................................................
كانت جالسة على الفراش، تضم ساقيها إلى صدرها. يخفق قلبها بذعر، بينما جسدها يرتجف خوفًا وضميرها يصرخ بعذاب
كيف وصلت إلى هذا القاع؟
بهتان وكذب لم تتصور يومًا أن تفعلها لكن في لحظة جنون فعلتها. في لحظة جعل الشيطان هذا الطريق مفتاحًا لحل مشاكلها فلم تتردد لحظة في أن تخطو عليه...
لكنها الآن تحترق صدرها يختنق وضميرها يئن...
كيف ستقف أمام الله بعد أن ظلمت عبدًا من عباده؟
وكذبت حالفة بالله وأوشكت أن تحلف على المصحف الشريف !
كيف أتتها الجرأة؟
أم أنها بداية الشرك والضلال؟
خطوة نحوه والباقي على نفسٍ وما تهوى...
سمعت طرقات على الباب طرقتان ثم دلف... إنه والدها..يعرف الاستئذان قبل دخول غرفة أحد... منذ صغرها يفعل معها هكذا وليست وحدها بل كل من في البيت.
لكن لم يتعلّم أحد منهم عادة واحدة جيدة من عاداته....
رباها هو وياسين كما يتمنى أما هم... فربّتهم الدنيا كما يجب أن يكونوا عليها !...
"جدتك فين؟"
سألها والدها بهدوء وهو يجلس على حافة الفراش مقابلًا لها فردّت متجنّبة النظر إليه قدر المستطاع...
"راحت تعملي ليمون..."
أومأ برأسه مُخرجًا تنهيدة طويلة خشنة تحت وطأة انفجار وشيك...
"أم ملك حلفت على المصحف إنه ما حصلش كده... ولا رفعت إيدها عليكي... وجِه دَورك إنك تحلفي إنه حصل... "
ازدردت ريقها بتوتر وصدرها يعصف بقوة بينما تخفي نصف وجهها الشاحب عن والدها بشعرها المسترسل على كتفها.
"ناوية تحلفي يا أبرار ولا غيرتي رأيك؟"
نظرت إلى المصحف بين يديه ثم بدا التردد جليًّا في عينيها وهي تقول بنبرة ناقمة...
"إنت مصدقها صح ومكدبني أنا؟ مكدب
بنتك عشانها"
رد صالح بنظرة قوية ونبرة رزينة...
"أنا مصدقك يا أبرار... بس إنتي مصدّقة نفسك ؟ "
رمشت بعينيها عدّة مرات بحرج وأسدلت جفونها متشبّثة بيديها بساقيها وبدأت
تذبذبات انفعالية تظهر على جسدها...
"هحكيلك حكاية قرأتها في كتب إحياء
علوم الدين....."
لم ترد عليه أبرار واكتفت بالصمت وعيناها الحزينتان معلّقتان به. كان فيهما ما يشبه الموافقة على سماع القصة فقد اشتاقت إلى تلك الحكايات التي كان يرويها لها في صغرها حكايات تحمل في طيّاتها مواعظ وحكمًا لا تفقهها إلا عندما يشير إليها في حوارٍ صريح بإنها تعلمنا ذاك وتنهانا عن هذا...
"القصة دي عن التورية... التورية انك تقول كلام ليه معنيين إتنين واحد قريب وظاهر والتاني بعيد وخفي...."
شدّ انتباهها فأنزلت ساقيها وجلست متربعة تنصت إليه بقلبها قبل عينيها فلقد كان دومًا معلمها قبل أن يكون والدها الحبيب...
وبدأ صالح يسرد القصة بهدوء...
"كان فيه راجل عند جارية فلم قرر يبعها للمشتري اقسم ليه انها لم ترَ سوءًا قط.
فصدقه...ولم اشتراها ووصل بيها البيت
قالت ليه الجارية "أبررتَ يمين البائع؟"
يعني صدقت حلفانه.....قالها وكيف ذلك؟
"ردت وقالتله هو حلفلك اني لم أرى
سوءًا بس نسي يقولك اني عمياء
لا أرى شيئًا !.. "
اتسعت عينا أبرار وارتفع حاجباها بدهشة فوضح والدها مقصد القصة قائلاً بحكمة..
"هنا التورية بين الحقيقة والتضليل... هي
فعلاً مش شايفة حاجة لكن مش ده اللي ظنه المشتري لما سمع حلفانه... وده عليه إثم
حتى لو ما كانش كذبًا صريحًا..."
خفق قلبها بهلع وزاغت عيناها فرأته يرفع إصبع التحذير يواجهها بنظرة حادة كالسهام وعيناه تشعان بنفاد صبر...
"فـ إياكي والتلاعب يا أبرار... إياكي تحلفي بالله كدب وتمسكي المصحف وتحلفي عليه كدب..حتى لو كنتي ناوية تحلفي على حاجة تانية غير اللي اتقالت تحت وتخدعيني... إياكي !"
كيف علم أنها ستفعلها؟!
كيف أدرك أنها كانت ستتلاعب وتحلف على شيء آخر بينما أمامه ستحلف له لتحافظ على ماء وجهها أمام الجميع ؟!..
نكست رأسها بحرج ولم تقوَ على النظر إليه مجددًا فقال صالح بنبرة معاتبة حزينة...
"ليه عملتي كده؟!.... أنا ربيتك على كده؟!"
بدأت الدموع تتجمع في مقلتيها من جديد ثم انهمرت بلا توقف على وجنتيها.
مد يده ورفع ذقنها إليه حتى تلتقي بعينيه الخضراوين المشعتين بعتابٍ كالبحر يغرقها في عار الخزي....
"ارفعي عينك يا أبرار... ردي عليا ليه كدبتي؟ ليه عملتي كده في نفسك ليه تحطيني وتحطي نفسك في موقف وحش؟"
أوغرت صدرها بالحقد المشبع في كلماتها التي تفوهت بها الآن بشراسة معترفة بكراهية...
"عشان أنا مش عايزاها معانا في البيت... مش بحبها... دي خطّافة رجالة وعايزة تاخدك مني هي وبنتها... وتبقى معاهم وتنساني "
هز صالح رأسه نفيًا ورغم شعور الغضب المتفاقم نحوها إلا أنه أشفق عليها وهو يقول بحنو...
"أنساكي؟!... في حد ينسى بنته؟ أول فرحته؟ أغلى حد في حياته؟! أنا أنسى نفسي والعالم ولا إني أنساكي أو أقصّر من ناحيتك... مهما حصل."
ثم عاد العتاب يلوح في نبرة صوته بصلابة
"ومش مبرر يا أبرار إنك تعملي كده. أم ملك... جارتنا لحد ما تلاقي مكان تاني وده اللي قولناه من الأول. إيه اللي اتغير؟"
تشدقت أبرار ناقمة....
"اللي اتغير إن تيتة قالت إنك ميال ليها وهي كمان... وإنكم هتتجوزوا قريب وتجيبوا عيال !"
فزع مما سمع وانعكس الذهول على وجهه وعينيه وهو يسألها...
"مفيش حاجة من دي أنتي قولتي كده ليها؟!"
أجابته ممتعضة..
"لا... بس قولتلها تبعد عنك وإني عارفة الحركات بتاعتها دي كويس."
هتف بشق الأنفس، محاولًا التروي....
"لا إله إلا الله حركات إيه يا بنتي؟..... الله يهديكي إنتي فاهمة غلط مفيش حاجة بيني وبين الست دي. جارتنا وجدتك بتعزها... لا أكتر ولا أقل."
قالت أبرار بوجهٍ ممتقع...
"خلاص كفاية إنها قعدت عندنا شهر..مشيها."
فُتح الباب في اللحظة التالية واندفعت جدتها بجسدها الممتلئ وذبذبات الانفعال جلية على ملامحها بينما عيناها تعكسان غضبًا هائلًا يتجه كالكرة النارية نحو حفيدتها دون
غيرها....
"يمشيها يعني إيه... انتي عمالة تشتري وتبيعي في الولية كده ليه؟! يعني طلعتي بتكدبي وبتِبلي عليها وكمان بتوقّعي ابني فيّا؟!"
انكمشت أبرار بخوف من جدتها وهي تزم شفتيها معترضة بعناد مصممة على المكابرة أمام الجميع.
أضافت الجدة بحسرة...
"إنتي طالعة غلاوية لمين يا بنتي؟! أبوكي يتحط على الجرح يطيب وأمك الله يرحمها كانت اسم على مسمى روحها وأخلاقها مفيش عليهم غبار. انتي طالعة كده لمين؟!"
ثم لوّحت بيدها بتقريعٍ حاد...
"الله يكسفك كسفتينا قدام الولية ده أنا كنت شِوَيّة وهطلع فيها لولا حكمت عقلي وقتها."
صرخت أبرار فجأة أفزعتهما معًا...
"انتوا بتعملوا كده ليه معايا... بتنصفوها عليا أنا ؟!"
قالت الجدة بازدراءٍ حاد....
"علشان هي مطلعتش تجرّ شكلك وبعد كده اتبلت عليكي زي ما عملتي إنتي بقى عايزانا نقف في صفك والغلط راكبك من ساسك لراسك؟!.... وعايزانا نقف معاكي حتى لو ظالمة؟!"
ثم استرسلت متجهمة بأمر...
"وطالما ظالمة الست واعترفتي... تنزلي تبوسي راسها وتعتذري على اللي هببتيه تحت... "
صاحت أبرار رافضة بضراوة...
"والله ما هيحصل..لو إيه بالذي مش هيحصل تغووووور هي وبنتها من هنا وكفاية قرف!"
اقتربت منها جدتها والشرر يتطاير من عينيها تنوي صفعها لعلها تعيد عقلها إلى مكانه الصحيح
"يا قليلة الحيا وطي صوتك هتنزلي والله مـ..."
أوقفها صالح وهو يقف بينهما حائلًا وبملامح رصينة ونظرة شاخصة منعها قائلًا....
"كفااااية يا أمي... مش وقته دلوقتي."
جزّت الجدة على أسنانها تكبح حنقها وهي تعاتب ابنها بخيبة أمل...
"خليك زيد في دلعها وشجعها على الغلط... لكن أنا مش هعمل كده."
ثم نظرت إلى حفيدتها وقالت بنبرة باكية حزينة...
"وإنتي إياكي تكلميني تاني ولا لسانك يخاطب لساني بعد عملتك السودة دي... ساااامعة؟!"
أطرقت أبرار رأسها تبكي ثم انتفضت وهي تسمع الباب يُصفق بقوة بعد أن خرجت جدتها وأغلقته خلفها معبّرة عن احتجاجها.
هتف صالح بنبرة مستهجنة....
"استاهل نظرتها ليا وليكي... واضح إني قصّرت في تربيتك."
قالت أبرار بتهدّج.....
"يا بابا... أنا كنت عايزة أبعدها عننا عشان..."
بتر تلك الترهات قائلًا بغضب سافر..
"عشان نفسك... مش عشاني! قولتلك إني مش هتجوز بعد أمك وفات على موتها عشر سنين وكنتي صغيرة وقتها ومعملتش كده.... ايه مكنش ده إثبات كافي ليكي... "
ثم توجه نحو الباب ووضع يده على المقبض وقال بقنوط دون أن ينظر إليها..
"راجعي نفسك في اللي عملتيه... ومش غلط الواحد يعترف بغلطة ويعتذر... الغلط إنه يتمادى ويقاوح."
هزّت رأسها رافضة الانصياع لهما مصممة على أنها على حق حتى عاد يذكّرها بصوتٍ خالٍ من التعبير يحثها على رأب الصدع الذي صنعته بيدها....
"راجعي نفسك إحنا داخلين على شهر صوم وعبادة... وعايزين نستقبله بنفس راضية وصافية لا شايليين من حد ولا حد شايل
منا... "
ثم خرج وتركها بين زوابع أفكارها تدور متخبطة وشعور الخزي يغرقها حدّ الاختناق والندم شعورٌ قاسٍ كالسم ينتشر في عروقها يتمكن منها ثم يهزمها شرّ هزيمة !...
ماذا استفدتِ الآن؟..... يا له من غباءٍ منقطع النظير...
........................................................
عند وصولها إلى السطح لفح الهواء وجهها بقوة بينما الدموع لم تجف بعد من عينيها
الحمراوان ظلت تبكي لساعات طويلة بعد صعودهم.....
انتفض قلبها بلوعة بعدما توغّل إلى أنفها
عبير العود القوي...
ازدردت ريقها وهي تراه واقفًا عند سور الشرفة يوليها ظهره.. تشعر بتشنجاته وبغضب هائل ظاهرٍ لها بوضوح. اقتربت تخطو نحوه ببطء...
قلبها يتراجع وساقاها تقتربان. كان قد أرسل لها رسالة مختصرة على هاتفها...
(مستنيكي عند برج الحمام...)
أصبح برج الحمام الضفة التي يتقابلان عندها بعيدًا عن عيون الجميع...
اعتادت أن تراه قبل الشروق أما اليوم فقد تصادفا قبل الغروب !
إنه غروب قلبها... تشعر بالعتمة تحيط بها من جديد بعد أن اعتادت على بصيص نورٍ منه. يثقلها هذا شعور....شعور الحزن القهر...
هل سيطردها الآن؟
تعلم أن خلف هذه الرسالة وجعًا سيصيبها في مقتل...
يبدو أنه صدّق ابنته والآن حان وقت الحكم عليها ؟!...
"لو ما كنتش بعت الرسالة كنت أنا هاطلع أديك مفتاح الشقة قبل ما أمشي..."
لفظت عبارتها بنبرة متجهمة كقطار بلا مكابح وألقت ما بجعبتها دون مقدمات فارغة...
استدار لها صالح بكليّته ينظر إليها بدهشة تنعكس في عينيه الخضراوين وهو يعقّب مستنكرًا...
"تمشي؟!..."
أومأت برأسها وهي تقول بصوت متحشرج والدموع تغزو عينيها مجددًا بضعف تكره أن يظهر أمامه...
"أيوه أمشي... كفاية لحد كده... اللي بنتك قالته واللي إنت ناوي تقوله أنا مش هقدر أستحمله... أنا هاخدها من قصرها وامشي أنا وبنتي... ما كانش ينفع أصلاً أطول في القعدة هنا... أنا أستاهل..."
سحب صالح نفسًا طويلًا ثم لفظه بخشونة وهو يقول بصبر...
"ممكن تهدي أنا لسه ما قلتش حاجة..."
سالَت دموعها وهي تقول بوهن...
"وأنا مش هستنى قواله منك... كلمتك إنت بالذات هتوجعني... هتوجعني أوي كمان..."
كلمات كالصاعقة الكهربائيّة ارتجف معها رجفة خفية وظهر تأثره في عينيه المُسمرتين عليها بدهشة....
ذابت الصدمة عنه تدريجيًا وهو يغضّ بصره عنها بصعوبة ثم دسّ يده في جيب بنطاله وأخرج محرمة قماش ومدّها إليها قائلًا برفق حانٍ..
"ممكن تهدي وكفاية عياط... خدي امسحي دموعك..."
نظرت إلى المحرمة ورفضت بحرج شديد...
"شكرًا... مش عايزة..."
قال بنبرة جادة...
"نضيفة على فكرة..."
أخذتها منه بسرعة معتذرة بحياء...
"والله ما أقصد... شكرًا..."
ثم بدأت تجفف دموعها وقد طبع عطر العود على المحرمة فاحتواها بسحرٍ خالص لا فكاك منه.
تحدث صالح بهدوء، متفهمًا:
"أيًّا كان اللي أبرار قالته أو عملته... حقك عليا... أبرار لسه صغيرة وبتتصرف على قد تفكيرها هي مش وحشة... هي بس خايفة..."
قالت بصدمة...
"مني؟!..."
شعر صالح بعدم الارتياح في الحديث عن حياته الخاصة لكن لا مفر من بعض التوضيح فابنته وضعته في موقف لا يُحسد عليه...
"مش منك... هي فاهمة غلط... مش قادرة تصدق إني لو كنت عايز أتجوز كنت عملتها من عشر سنين فاتوا..وجودك لخبطها وصوّر لها حاجات غلط..."
أصرّت شروق بتعنّت...
"يبقى لازم أمشي... عشان أريحها وأمنع المشاكل عنك..."
رفض صالح بنظرة نافذة حازمة...
"مش هتمشي كده... لازم تلاقي مكان تقعدي فيه وتنقلي حاجاتك... إيه ناوية إنتي وبنتك تقعدوا في الشارع؟!"
"لينا رب اسمه الكريم..."
تأفف صالح قليلًا مستغفرًا ثم عاد يُحدثها بسعة صدر....
"ونعم بالله... بس برضو ما تخليش غضبك يعميكي...احسبيها صح عشان خاطر بنتك... مالهاش في المرمطة ولا إنتي كمان..."
زمّت شفتيها بحسرة مجيبة بمرارة..
"لا... أنا واخدة على المرمطة والغُلب مش جديد عليا... سبني أعمل اللي أنا عايزاه..."
قال صالح بنبرة حانية راجية....
"اسمعي الكلام وبلاش عِند... عشان خاطري
لو ليا خاطر عندك..."
خفق قلبها وهي ترفع عينيها الكسيرة إليه وقالت بحرارة لم تقدر على إخفائها...
"خاطرك على راسي يا شيخ... بس..."
أوقفها صالح وهو يبتلع ريقه شاعرًا بذبذبات الخطر بقربها...
"مفيش بس... المسامح كريم... حقك عليا يا أم ملك... اعتبريني أنا اللي غلط..."
أومأت برأسها مذعنة عن طيب خاطر وهي تقول
"حصل خير... أبرار زي ملك... ربنا يباركلك فيها ويهديها..."
"اللهم آمين..."
ردّ عليها وهو يعود بعينيه نحو السماء وقت الغروب حين تغيب الشمس مغادرةً موطنها الى موطن جديد تغدو فيه بداية أخرى جديدة كما يفعل الحب في قلوبنا بعد عتمة الغروب يأتي متوهجًا خلسة كالشروق !....
كانت تستلقي على الفراش، عيناها معلّقتان بالسقف بينما ترقد ابنتها بجوارها غارقة في سباتٍ عميق...
بين يديها المِحرَمة تلامس قماشها القطني الناعم بأصبعها ثم تضعها على فمها مستنشقةً أكبر قدر من العطر العالق بها...
أغمضت عينيها منصهرة المشاعر والابتسامة سخية على محياها وعقلها يعيد على مسامعها الحديث الذي دار بينهما نظرة عينيه
الخضراوين الدافئتين وسطوة حضوره
وأمره الناهي أن تبقى...
هل يريدها أن تبقى حقًا؟ أم أنها الإنسانية التي تحتم عليه قول ذلك؟
نعم الإنسانية... فليس بينهما شيء آخر متعارف عليه سواها.
إنها تكبّل نفسها بالقيد مجددًا وإن حدث ذلك فإن الحكم بالموت أهون من الاستسلام.
حانت منها نظرة إلى وجه ابنتها النائمة وهزّت رأسها نفيًا. فهي لن تضحي بابنتها مهما كان الشعور الذي ينتابها بقرب الشيخ...
صدح هاتفها باتصال مفاجئ من رقمٍ غير مسجّل. خفق قلبها بخوف ورفضت الرد في المرّة الأولى ثم الثانية وفي الثالثة فتحت الخط تستمع إلى المتصل وقلبها يرتجف هلعًا ظنًّا منها أنه أحد رجال (حنش) يبعث لها تهديده الصريح بأنها ستذوق الويلات قريبًا على يديه....
(مش بتردي ليه؟... مشيتي؟!)
انساب صوته إلى أذنيها بقلق لا يخلو من اللهفة عليها...لهفة سكبت على قلبها شعورًا هلاميًا ورديًا جعل مخاوفها تستكين وتتلاشى خفقاتها الأولى في لحظة... بخفقاتٍ أكثر دفئًا لو كانت لها لغة لكان اسمه أول حروفها ومنتهاها !...
بلّلت شفتيها وقالت بخفوتٍ مرتجف..
"افتكرت حد بيعاكس...ماعرفتش إنك إنت..."
أصدر نحنحةً خشنة شابها حياءٌ ذكوري وهو يشعر بمدى تماديه معها خصوصًا في الآونة الأخيرة... أصبح يتصرف على غير عادته... معها هي فقط... أيُّ سحرٍ أُلقي من عينيها على قلبه؟! فهو غير عادل... سحرٌ غير عادل...
إنه ينجرف نحو المجهول... وهذا لا يصحّ بينهما.
(كنت بطمن عليكي..خوفت تنفذي تهديدك...)
علقت بعينين مندهشتين...
"خوفت ؟!..."
عاد يصدر النحنحة مرتبًا الرد ثم هتف بصوتٍ
أجش....
(يعني مش عايز اكون انا وبنتي السبب انك
تمشي انتي عارفه الحاجة بتعزك إزاي...)
انتابها الاحباط بعد كلماته لكنها قالت بصوتٍ
انثوي طائع.....
"أطمن الموضوع اتقفل بنسبالي... ولو كنت ناويه أمشي كنت هبلغك..مش معقول هقولك
حاجة واعمل عكسها....عيب انت مقامك عندي
كبير اوي ياشيخ... "
حديثها صنع بلبلة داخلية لديه جعلت الصمت يسود بينهما حتى وجد الكلمات المناسبة للرد عليها...
(ده العشم يا أم ملك... حقك عليا تاني
وبلاش تزعلي نفسك... وبلاش عياط...)
لانت البسمة على ثغرها. وقالت بطاعة ونفس سمحة...
"حاضر... أطمن أنا كويسة... اليوم بنسبالي خلص بمشاكله وزعله... وإحنا ولاد النهاردة."
عاد الصمت مجددًا بينهما وكان صوت أنفاسهما وخفقات قلوبهما المتسارعة
يشكلان حالة خاصة كلحن ثنائي... لحن
لا يعرف مقامًا فصبابة الحب خير مقام !
أنهى صالح المكالمة....
(تصبحي على خير...)
ردت عليه وقلبها يتمنى أن يطيل الحديث وعقلها يحثها على الإنهاء فما يحدث لا
يصح بينهما.
"وأنت من أهله يا شيخ..."
أغلقت الهاتف وهي تقبض على المحرمة بيدها بقوة وقلبها يقرع بجنون بين أضلعها بينما لسانها ينطق بضياع...
"إنتي لازم تمشي يا شروق في أسرع وقت كفاية كده..."
أومأت لنفسها مؤكدة أن هذا ما سيحدث قريبًا. ستبحث عن مكان آخر وتنتقل مبتعدة عنه وعن مشاعر قوية تربكها بالقرب منه...
............................................................
في اليوم الثاني خرجت من غرفتها بعد أن قضت يومها بالأمس منعزلة فيها متجنبة الجميع أو هم من يتجنبون الحديث معها غاضبين منها....
كانت تشعر بالاختناق وخصامهما لها يزيدها ثقلاً وهمًا وشعور الوحدة كان مُؤلمًا.. ونفور عائلتها منها بعد أن ارتكبت حماقة يجعلها
كمن يقف على صفيح ساخن لا تعرف ماذا تفعل بالضبط حتى ينتهي الأمر وتعود المياه إلى مجاريها.
أو ربما يكون الحل الوحيد للإصلاح هو أمر لا يمكنها استخدامه بتاتًا فكرامتها فوق الجميع !
وضعت يدها على بطنها بعد أن أصدرت صوت استغاثة فهي منذ أمس مُضربة عن الطعام تستخدم أساليبها الخاصة حتى تجعل قلوبهم تلين لها لكن على العكس لم يسأل أحد عنها وكأنها غير مرئية....
"كله منها سحرت الكل وقلبتهم عليا... تيته... وبابا..ولو ياسين عرف هيقاطعني زيهم..."
غمغمت أبرار بتلك العبارة بكراهية مثخنة...
ثم اتجهت بوجه ممتقع نحو المطبخ حيث الثلاجة فتحتها وهي تبحث عن شيء تأكله.
دخلت الجدة المطبخ تُنهي إعداد الطعام متجنبة النظر إليها. عضت أبرار على باطن وجنتيها بغيظ وهي تحاول فتح حديث معها سائلة...
"تيته.... هو الأكل فاضل عليه كتير؟"
لم ترد عليها الجدة بل ركزت فيما تفعله
وهي تضع التوابل في الاناء....
"أصلي جعانة أوي... مكلتش من امبارح."
مرة أخرى لم ترد عليها الجدة وكأنها تحدث نفسها. أطلقت أبرار زفرة ضجر وهي تدب
على الأرض مقتربة منها.
"إنتي ليه مش بتردي عليا... هتفضلي مخصماني أهون عليكي؟"
زمت الجدة فمها بملامح جافية قاسية ولم تعطيها ردًا وكأنها هواء بالنسبة لها. تجمعت الدموع في عيني أبرار وهي تخرج من المطبخ دون أن تضع لقمة في فمها. عندها وضعت الجدة غطاء الإناء بقوة محدثة صوتًا مزعجًا يعبر عن غضبها وحنقها من أفعال حفيدتها التي ما زالت في مكابرة بالاعتراف بخطأها...
شعرت أبرار بدوار حاد يداهمها فالقت
نفسها على الفراش بعصبية تخفي وجهها الباكي بالوسادة وصوت نحيبها كُتم بقسوة مثل وجعها وغضبها من الجميع...
لماذا لا يفهمها أحد؟...
ولماذا يقف الجميع ضدها وكأنها عدوتهما؟ إنها تخاف أن تفقد والدها وبيتها وحياة اعتادت عليها...
لماذا يراها الجميع مذنبة وهي تدافع عن
حق من حقوقها ؟!...
مرت الدقائق ثقيلة كئيبة عليها في وحدة
فرضها الجميع عقابًا لها علها تصلح من نفسها....
حتى صدح الهاتف مُعلنًا عن الانتهاء باتصال
رفعت الهاتف لترى اسمه أنار شاشة هاتفها.
مسحت دموعها وهي تضع الهاتف على أذنها
هاتفته بمنتهى اللهفة والحرقة....
"كل ده تاخير بقالك يومين برا البيت... طلبية إيه اللي تخليك تتأخر دا كله...."
اتى صوته من الجهة الاخرى متذمرًا
موبخًا....
(الناس العاقلة بتقول أول ما تفتح الخط
ألو...سلام عليكم...مش كل ده تأخير....)
هتفت أبرار بقهر من بين دموعها.....
"انا مش عاقلة...انت فيين يا ياسين...البيت من غيرك وحش...وانا من غيرك مليش حد..."
ظهر القلق جلي في صوته وهو يسألها
(مالك يا ابراري..... مين زعلك....)
زمت شفتيها بملامح عابسة معترفة له
بحرج....
"شكلي انا اللي مزعله الكل مني ولو عرفت هتزعل انت كمان...."
تشدق ياسين مندهشًا....
(لدرجادي.... عملتي مصيبة إيه مانا متعود اغيب من هنا ومصايبك تهل من هنا...ولِم يا ياسين من ورايا عملتي إيه...)
حكت له ما حدث باستفاضة بكل صدقٍ ووجع كاشفة عن فعلتها الشنيعة وكذبها ثم سردت له
ردود أفعال الجميع وكيف انقلبوا عليها وابتعدوا عنها....
كان أول تعليق صدر من ياسين بنبرة
صادمة...
(يخربيتك.....)
عقدة حاجبيها غير راضية وعقبت.....
"بلاش الدعوة دي ليه تخرب بيتي...."
صاح مستهجنًا.....(ماهو بيتي انا كمان....)
سالته ببلاهة.... "ايييه...."
اردف ياسين بنبرة حادة مؤنبة....
(متغيريش الموضوع إيه اللي هببتيه ده... في
واحده محترمة ومتربية تعمل كده تتبلي عليها
وتضربي نفسك عندها انتي هبلة....)
تبرمت مجيبة عليه بتهكم....
"الموضوع كان هيظبط لو مكانتش فتحت
بؤها بس طلعت مش سهلة...."
هتف بسخرية لاذعة.....
(انتي هبلة انتي عايزة تتبلي عليها وهي تأكد
على كلامك انه حصل؟!....)
اوغر صدرها بالغضب والغيرة وهي تقول
بحمائية...
"انا متبلتش عليها هي فعلا بترسم على
أبويا.... وعينها منه...."
عقب ياسين بقنوط...
(ابوكي كمان عينه منها ولا هتنكري دي..)
هدرت أبرار بعدوانية محتدة......
"طبيعي لانه راجل وسهل يتأثر....ما هي راميه
نفسها عليه... بدليل انها لحد دلوقتي قعده في الشقة ومغرتش في داهية...."
رد ياسين بتبرم.....
(تلاقيها كانت هتعمل كده و ابوكي منعها متعرفيش إيه اللي دار بينهم....)
هاجت مراجلها بالغضب فصاحت....
"هو انت بدافع عنها كده ليه... كلكم واخدين صفها...."
عقب بصوتٍ أجش عميق....
(محصلش انا هفضل في صفك ظالمة او مظلومة معاكي لو في اخر الدنيا معاكي...)
اضطربت خفقات قلبها وازدردت ريقها
ودنَّ الصمت لثوانٍ معدودة التقطت فيها أنفاسها بصعوبة وكأن كلماته سَرَقتها... كما سرق معها شيئًا لم يتضح لها بعد !
تابع ياسين حديثه غير واعٍ بما أحدثته كلماته فيها فحسب صمتها غضبًا وغيظًا فسألها برفق
(بس تعالي نحسبها بالعقل....اللي عملتيه
ده ينفع....)
"لا...."
اتى ردها خافتٍ.....فقال ياسين بمهاودة.....
(حلو انا عارف انك مضايقه منها ومش طيقاها بس طريقتك دي غلط انتي كده بتحليها في عين ابوكي أكتر....وبتقربيهم اكتر لبعض...)
رفعت حاجبها للاعلى بذهول
معقبة....
"معقول اكون عملت كده؟!...."
أكد عليها ياسين بملاينة.....
(مليون في المية قربتي المسافات بغبائك..)
سألته أبرار باستغاثة كمن يغرق ولا يرى نجاته إلا في إغراق غيره !...
"طب والعمل يـا يـاسـيـن لازم الست دي تمشي من هنا.."
هتف ياسين بمداهنة.....
(هتمشي بس نرتب لها انا وانتي متصرفيش بغباء سامعه....)
ضاقت عينيها بشك.....
"اوعى تكون بتاخدني على قد عقلي..."
رد عليها ياسين بمراوغة ناعمة....
(انا أقدر دا انتي عقلك ده يوزن بلد...بس بالله
عليكي بلاش تشغلي عقلك الالماظ ده تاني وقبل ما تفكري في حاجة ترجعيلي..اتفقنا....)
سألته بحرارة الشوق.....
"طب وهتيجي إمتى....."
اطلق زفرة استياء ثم اجابها...
(المفروض على بكرة بس بعد المكالمة دي...
انا هركب وجاي....)
"يعني خلصت شغلك؟!..."
رد عليها بصوتٍ رخيم....
(خلصت الصبح وكنت هقابل ناس صحابي.. بس خلاص انتي أهم....)
"بجد يا ياسين انا أهم ؟!....."
لمعت عيناها بالدموع وهي تطرح سؤالها بنبرةٍ
متعطّشة للاهتمام والحب بعد أن تجاهلها
الجميع وانسحبوا من حولها كأنها لم تكن !
أطلق ياسين تنهيدة طويلة تحمل في طياتها
الكثير مما يخفيه عنها ثم أجابها بتوق...
(آه منك... ولسه بتسألي؟ ده إنتي أهمّ من
المهم نفسه...)
لانَتْ شفتاها في ابتسامة ناعمة وقلبها يقرع بجنون راقصًا على الكلمات بينما همس ياسين باسمها مداعبًا...
(أبراري...)
أجابته بهمهمات ناعمة، فقال لها بحنو...
(كفاية عياط.. النهاردة هتلاقيني عندك وكل حاجة هتتحل وعد.....)
قالت بصوتٍ مبحوح....
"متغبش عشان خاطري...."
(حاضر ياروحي....)
همس بها ياسين بصوتٍ عميق دغدغ قلبها فقالت بصدمة....
"إيه؟!..... قولت إيه؟!...."
ضحك بمناغشة ثم قال...(لا إلهَ إلاّ الله....)
اجابته وهي تعض على باطن شفتيها
بحياء....
"محمد رسول الله..."
............................................................
توقّف عن المتابعة وهو ينظر إلى المرأة الأمامية ثم إلى التي بجواره وقال متوجسًا فجأة...
"العربية دي ماشية ورانا من ساعة ما
خرجنا... ليه؟.. "
نظرت نغم خلفها بسرعة وحدّقت للحظة في السيارة التي تسير خلفهما مباشرةٍ تتبع
طريقهما دون أن تسبق أو تتأخر...
أمرها ايوب بصوتٍ خافت محاولا ان
يبدو هادئًا...
"اربطي الحزام..."
امتدت يدها ببطء نحو الحزام دون أن تحول نظرها عن السيارة وقلبها بدا يخفق بعنف
مرتعبًا.... بينما يدها ترتجف وهي تسحب الحزام وتثبّته في مكانه.
زاد أيوب من سرعته قليلًا ثم راقب السيارة الخلفية عبر المرآة... فلم تتردد بل زادت سرعتها معه بنفس الوتيرة !......
"هنعمل إيه يا أيوب؟..."
همست بها بشفاهٍ ترتجف والخوف
"هنعمل إيه يا أيوب؟..."
همست بها بشفاهٍ ترتجف والخوف قد تملّكها فنظر إليها لثانية ثم عاد إلى الطريق يشدّد من السرعة إلى الحدّ الأقصى... قائلًا بصوتٍ ثائر بالغضب...
"هحاول أخلع منها... متقلقيش... خليهم يعدّوا على جثتي الأول !"
همست نغم بضيق دون تفكير...
"بعد الشرّ عليك..."
أدار أيوب وجهه بسرعة ناظرًا إليها مبهوتًا بملامح جافلة بينما اضطربت هي من نظراته الثاقبة نحوها فأبعدت عينيها عنه بارتياع...
ثم في اللحظة التالية اهتزّت أجسادهما على المقاعد بفعل اصطدامٍ قوي من الخلف فشتم أيوب وهو يرمق عبر المرآة هجوم السيارة المطاردة وقد بدأ قائدها يُظهر نيّته في
الإيذاء مؤكّدًا أنهم الصيدة المنتظَرة !...
صرخت نغم بهلع بعد اصطدامٍ آخر أكثر عنفًا من السابق...
جزّ أيوب على أسنانه وتضخّم صدره بالغضب وهو يغمغم من بين أسنانه بشراسة قاتمة...
"إنت اللي جبته لنفسك يا حلاوة..."
زاد أيوب من سرعة السيارة أكثر فبدأت السيارة التي خلفه تزداد سرعة هي الأخرى. وعند أوّل ملتقى طرق عبر الطريق بينما من الجهة الأخرى أتت سيارة نقل كبيرة عرقلت طريق المطاردة....
اختفت سيارة نغم عن أنظاره فشتم الرجل والغضب يتقد من عينيه شاتمًا لاعنًا الجميع وأولهم سائق التريلا الذي أفسد الأمر بظهوره
المفاجئ..
وضعت يدها على صدرها بارتياح وبدأت خطوط الحياة تظهر على وجهها وعينيها بعدما طاردها الموت مجددًا باستماتة... لكنها لم تكن وحدها كان معها... منقذها....
رفعت نغم عينيها الرماديتين إليه تنظر إليه بصمت ومشاعرها بأكملها تهفو نحوه دون تفسير...
لا تريد أيّ تفسير لانجذابها إليه..التفسير خلف الأشياء المبهمة يفقدنا الشغف بها فور المعرفة.... وهي ترفض المعرفة أحيانًا
فالجهل يبقى له ميزات !
شعر بأنه عرضة لنظراتها فنظر إليها سائلًا باهتمام حانٍ....
"إنتي كويسة يـا نـغــم؟"
وحروف اسمي على لسانك كقصيدة...اكتشفتُ روعتها مع الوقت دون ألقاب أجمل وبمنتهى اللهفة والاهتمام أروع.....
فكيف أطلب منك أن تبقى هكذا وكيف أقنع عقلي بقولها ؟!...
يهفو قلبي دون حسبان لكن عقلي يرتعد مما يحدث لي !...
تبادل معها أيوب النظرات للحظة وقد تفاعلت كل حواسه مع نظراتها وتعلّقت عيناه بشفتيها الورديتين وهي تهمس بهما ببطء كمن يُقبّل الكلمات قبل خروجها....
"أيوه... أطمن..."
عاد لعينيها الشتويتين دفءٌ غريب يتناقض مع لون عواصفهما الجليدية...
بلع ريقه وهو يشيح بعينيه عنها ثم أوقف السيارة في مكان خالٍ وترجّل منها دون
كلمة...
فعقدت حاجبيها وخرجت خلفه تسأله بارتياب...
"وقفت هنا ليه؟.. "
رد أيوب عابسًا وهو يستند على مقدّمة السيارة ويخرج علبة السجائر من جيبه..
"أعصابي تعبت...."
أومأت برأسها مؤيّدة....
"عندك حق... اللي حصل كان صعب."
غمغم بقلة صبر وهو يضع السيجارة في فمه ويضغط على القدّاحة يشعلها بانفعال ظاهر...
(وجودك إنتي الصعب بعينه....)
"بتقول إيه؟.. "
سألته وهي تقترب منه تقف بجواره بينما الرصيف المظلم تضيئه مصابيح السيارة...
تجنّب النظر إلى عينيها ورفع رأسه للسماء زافرًا الدخان ببطء ليتراقص في الهواء أمام عينيه كما يتراقص قلبه على نيران الهوى !...
"بقول إنها عدت... وانتي بخير..."
أومأت برأسها مؤيدة ثم سحبت أكبر قدر من هواء الليل البارد ناظرةً أمامها إلى أبعد نقطة أبصرتها عيناها حيث طريق مظلم موحش كطريقها الذي حدّده لها العزبي منذ انتحار ابنه...
بعد لحظات من الصمت... بلّلت نغم شفتيها وقالت بصوتٍ رقيق ممتن...
"شكرًا يا أيوب... مش عارفة من غيرك كنت عملت إيه..."
طغى عليه أسلوبه الساخر فقال ببرود..
"أنا عملت شغلي... هو أنا بقبض بالدولار كده وخلاص؟ لازم شوية اجتهاد..."
سألته بحزن....
"يعني هو ده السبب؟!"
نظر إليها والتقطت عيناه مؤشرات يرفض تصديقها فسألها بغموض...
"عايزة تسمعي أسباب تانية؟"
هزّت رأسها نفيًا.... "لا يعني..."
توقفت الكلمات في جوفها فغيّرت سريعًا مجرى الحديث بأسلوب مفضوح...
"إيه رأيك في الحفلة؟.. "
ابتسم وبنظرة مداعبة أخبرها....
"هي كانت حلوة عشان حاجتين... إنتي وربوش..."
هناك كلمات تفوق الغزل سحرًا بمراحل
أبسطها إنتِ... إنتِ قبل الجميع !...
سيطرت على ارتباكها وهي تضحك قائلة...
"ربوش؟! البنت كانت شوية وهتشد في شعرها من الدلع ده..."
قال أيوب بنظرة حالمة وعينيه على الطريق المبهم أمامهما....
"بس قمورة أوي... تفتكري لو ربنا كرّمني واتجوزت هتبقى بنتي حلوة زيها كده؟"
قالت بنظرة شقية... "على حسب مامتها..."
امتقع وجهه متشدقًا...
"ليه هو أنا وحش ؟!.. "
ضحكت نغم ضحكة لها رنّة راقية مفعمة بالفرح والاستمتاع بصحبته...
"بالعكس إنت وسيم..."
ردّ عليها أيوب بعينين هائمتين في جمالها الخالص خلابة هي بطريقة تميزها وكأنها
نغمة تقترن بالجمال و... والحب...
"وانتي جميلة أوي... شبه الحب..."
فغرت نغم فمها تزامنًا مع ارتفاع حاجبيها معًا متعجبة من هذا التشبيه...
"الحب؟!...... تشبيه غريب؟!"
لم يُبعد عينيه عنها وأصرّ على المتابعة رغم جرس الإنذار الذي يرنّ في أذنيه يمنعه من الغوص أكثر في أرضها...
"أقرب تشبيه ليكي هو الحب... حلو ودافي زيك..."
توردت وجنتاها وعلى هدير قلبها القوي أمام عينيه لبلعت ريقها مضطربة وأسبلت جفنيها قائلةً بتوبيخ صارم....
"إنت بتعاكسني ؟"
ضحك أيوب بمناوشة...."بس دي الحقيقة..."
لم ترد زمّت شفتيها رافضة النظر إليه ومع ذلك لم تبتعد عنه وظلت في مكانها بالقرب منه تستند إلى السيارة مثله...
فرق الطول والحجم بينهما كان يدغدغها ويغمرها بمشاعر فيّاضة...فهي تبدو شديدة الأنوثة والجمال بينما هو يبدو شديد الرجولة والكمال !...
"تعرفي نفسي في إيه؟... "
قطع سيل أفكارها حديثه فنظرت إليه تعطيه كامل تركيزها طالما أن مشاعرها الآن تتمحور حوله دون غيره...
"نفسك في إيه؟... "
بعينين بريئتين يلمعان بالعبث الفطري قال بصوتٍ أجش متمنيًا...
"حاجتين... صورة معاكي ورقصة معاكي هنا.. زي اللي كانوا بيرقصوها البهوات في الحفلة..."
هزت رأسها بغرور..."طلبك مرفوض..."
"خسارة..."...تقبّل رفضها دون إلحاح.....
أشعرها ذلك بالإحباط وهي تراه يخرج علبة السجائر مجددًا... امتقع وجه نغم وقالت بضيق...
"كفاية سجاير... معاك تليفونك؟... "
سألها باهتمام وهو يُخرج هاتفه على
الفور....
"عايزة تكلمي حد؟"
هزت رأسها وبشفتين تلينان في ابتسامة ناعمة جعلت نظراته وقلبه في حالة ذوبان مقبول...
"لا... هنتصور..."
رفع الهاتف عليهما فاقتربت منه نغم أكثر وضعت يدها على كتفه في حركة صدرت منها تلقائيًا لكن لمستها أصابته بتيار كهربائي مفاجئ جعله يتسمّر مكانه ناظرًا إلى عينيها بهذا القرب... شتاء دافئ... شديد الحرارة...
ارتبكت من نظراته القوية نحوها وكأنها على وشك أن تبتلعها الآن !....
قالت بأمر أنثوي حانٍ....
"بُص للكاميرا يا أيوب..."
عاد ينظر لعدسة الهاتف ثم التقط الصورة. لم يبتسم فكانت ابتسامتها الجميلة تكفي وتفيض..جعلت الصورة خلابة...
عقب أيوب بإعجاب...
"حلوة أوي..."
قالت نغم بتغنّج وتعالٍ وهي تقف أمامه على بُعد خطوتين....
"عشان أنا فيها..."
فقال وهو يقف أمامها....
"متواضعة من يومك يا نغم هانم..."
وبنظرة شقية سالته مناغشة.....
"بتعرف ترقص ولا أعلمك ؟!...."
"علميني....."
علّميني الحب فأنا ما زلت في الهوى مُبتدِئًا...
اسقيني رشفةً من الهوى فإني له ظمآن..
فعيناكِ الضفّة التي أجد نفسي عندها مرتاحًا !
تشبهين الحب في تمامه فكيف للمرء أن
يصمد أمام الحب ولا ينهال منه بقدرِ عجافِ سنواتٍ...
بدونكِ سيدتي الحبُّ ضلَّ الطريق ومعكِ يتوهّج كسماءٍ تلمع في عيون العاشقين...
فأنتِ الحبّ في أجمل لياليه...
وضعت يدها على كتفه والأخرى في يده
بينما هو وضع يده على خصرها بخفّة
ويده الحرّة تعانق يدها...
بدأت خطواتهما على الرصيف تعرف طريقها في رقصةٍ خاليةٍ من الموسيقى موسيقاهم كانت لحنًا خاصًا تعزفه عيونهما المسترسلة ببعضها وقلوبهما الخافقة بقوةٍ بين أضلعهما...
بينما الطريق كان خاليًا مظلمًا عادَ الرقعة المضيئة الوحيدة من مصابيح سيارتها...
"مش مصدق إنك وافقتي على طلبي..."
رفعت عينيها إليه ولحنٌ جميل ينساب إلى أذنيهما لا يسمعه سواهما...
قالت بخجل بوجنتيها متوهجتين...
"ولا أنا... تقريبًا النهاردة يوم استثنائي..."
دار بها قليلًا بخفة وهتف بنشوة...
"ده على كده صفصف دعيالي !.."
سألته بجرأة.... "بإيه ؟!"
رد وعيناه تنهلان من حسنها الخلّاب....
"بحاجات كتير حلوة..."
أطلقت تنهيدة حارة وهي تقول بسأم...
"إنت مش طبيعي النهاردة..."
ردّ عليها بغزل صريح....
"والله كله من عنيكي..."
رفعت حاجبها بملامح مندهشة....
"أيــوب؟!... "
ردّ عليها بابتسامة جذابة مهلكة....
"سامعك... قولي..."
تبادلت معه النظرات قليلًا ثم شقّ شفتيها ابتسامة ذهول عقبتها بقولها...
"إنت بجد طلعتلي منين ؟!.. "
رد بأسلوب يشبه الثيران الناطحة...
"شهامتي اللي مودياني في داهية..ودتني في داهية جديدة..."
صُعقت من تعليقه.... "أنا داهية؟!... "
فردّ بأسلوب فظ يصحح الخطأ... بخطأ
جديد...
"حاشى لله انتي أجمل داهية وقعت فيها..."
"على فكره انت قليل الذوق أوي...."
توقّفت نغم عن التمايل معه وهي ترمقه شزرًا قبل أن تنسحب مبتعدة عنه وتستقل السيارة في المقعد الخلفي عاقدةً ذراعيها أمام صدرها متعمّدةً الخصام...
مع أنها في الحقيقة كانت تحاول الهروب من شعورٍ يجتاحها بقربه....
بينما هز أيوب رأسه مبتسمًا باستياء...
ومرر أصابعه بين خصلات شعره يُرجِعها إلى الخلف بتوتر كأنه يحاول ترتيب فوضى أفكاره تلك التي سالت من منابعها بجنون أمامها
وتفوّه بأشياءٍ ما كان ينبغي قولها أو شرحها أبدًا مهما بلغت اللحظة جمالًا وانسيابية بينهما...
فهما في النهاية مثل السماء والأرض
بينهما مسافة ليست هينة ولا يمكن تجاوزها بعدة كلمات وخفقات !...
لم يُلاحظ أيٌّ منهما أنهما كانا عرضةً للمراقبة منذ بداية رقصتهما ونظراتهما المتلهفة وحديثهما المتبادل...
كانت كلها تحت رصد عدسة تصوير تلتقط كل تفصيلة وكل لحظة مرت...
عدسة السائق الذي كان يطاردهما منذ دقائق...
...............................................................
قَسَت تعابير وجهه ومالت شفتاه في ابتسامة قاتمة مزدرية وهو يعيد الاطلاع على الصور للمرة الثانية غير مصدّق ما يسمعه من أحد رجاله الذي كلّفه بمراقبتهما بعد خروجهما من الحفل...
"بس واضح كده يا باشا... إن في بينهم حاجة..."
كسا وجهه تعبيرٌ باردٌ ضاجر...
"معقول تكون على علاقة بالسواق؟!"
ثم أردف حاقدًا......
"يعني رفضت أسيادها عشان واحد زي ده...
عجايب..."
هتف الرجل (ذراعه الأيمن) قائلًا بفِطنة...
"بس الواد ده مش سهل... وشكله هيتعبنا..."
هز شكري رأسه قائلًا بنظرة ثاقبة...
"بالعكس أيوب ده هيبقى الطُعم اللي نعرف نصطادها بيه..."
سأله الآخر محتارًا....
"إزاي يا باشا؟... أنت بتفكر في إيه؟..."
قال العزبي وعيناه لا تحيدان عن الصور
أمامه...
"بفكر أدوقها نفس النار اللي دوّقتها لابني لما رفضته...بفكر إزاي أُعذبها وأحرق قلبها قبل ما أخلص عليها بإيدي... وأشفي غليلي..."
سأله الآخر بارتياب....
"وتفتكر هنعرف نخليه في صفنا؟..."
بملامح جافية قاسية أجابه العزبي بنبرة مثقلة...
"كله بتمنه... وأكيد أيوب عبد العظيم لي تمن...بس أنا عايزك تجمع لي معلومات أكتر عنه زي ما اتفقنا وساعتها هقولك نعمل إيه..."
أومأ له الرجل بسمع وطاعة.....
"اوامرك يا باشا...خلال كام يوم هيكون ملفه عندك."
عندما خرج الرجل بقي شكري في مكانه ينفث الدخان من سيجاره الكبير وعيناه تزدادان قتامة وشرًّا...
فجأة هبّت عاصفة هوجاء تقرع الأرض بكعب حذائها العالي تشتعل غضبًا، وهي تصرخ واقفةً أمامه...
"إيه االي عملته في الحفلة ده يا شكري.. تحرج اختك.....وجوزها...."
تبرم شكري مستهجنًا ودون النظر إليها
عقب....
"حتة العيل اللي سحباه وراكي في كل حته ده هتطلقي منه إمتى ؟!..."
وضعت يدها في خصرها قائلة بميوعة
لا تناسب عمرها....
"واطلق منه ليه انا بحبه..... دا جوزي...."
لوى شكري شفتيه في استهزاء معقبًا....
"بتحبيه عليا انا ؟!... يبقا لسه مزهقتيش منه....مش كده...."
تاففت عبلة وهي ترمقه شزرًا بينما تابع شكري
باستنكار....
"انتي مش بتحبي غير نفسك ياعبلة.... لا هيثم..ولا تامر... ولا عماد... ولا مـ....كان إسمه ايه اللي قبل عماد آه....ماجد...كلهم قعدوا فترة وبدلتيهم زي شنطك وجزمك...."
ارتسم الحزن والأسى على وجهها ببراعة
قائلة بشجن......
"متغيرش الموضوع ياشكري....انت ليه مش عايز تساعدني....انا اختك الوحيدة...."
علق شكري مستهجنًا....
"اساعدك في إنك تنهبيني تخلصي فلوسي على جوازاتك زي ما عملتي في فلوسك...لا أنسي...."
ثم اضاف بشفاه ملتويه بقرف...
"كفاية أوي اني مشغل جوزك الخايب ده معايا...عشان تلاقوا مرتب تصرفه منه..."
قالت عبلة بصفاقة وجه.....
"ومش ناوي ترقيه وتنقله في منصب أحسن...انت معينة في أقل وظيفة في شركتك...."
لوح شكري بيده هازئًا معقبًا بكرهٍ....
"وياريته فالح المشاكل والشكاوي ناحيته كتروا..وبعدين انتي عايزاني ارقيه فين مثلا.. امسكه مكاني الشركة..."
اكدت بنظرة تلمع بالطمع.....
"وليه لا على الأقل يبقا دراعك اليمين...."
ضحك شكري ضحكة خالية من ذرة مرح بينما كانت تنظر إليه بحقد وعيناها تطوفان في أرجاء الصالون الفاخر الذي تقف فيه والذي لا يُمثّل إلا جزءًا بسيطًا من قصر ضخم يفيض بالثراء مِلكًا لهذا الجلف...
وعندما أنهى شكري ضحكته الساخرة قال بهزل..
"بعد الشر على دراعي من العوجه...معقول أسلم القطة مفتاح الكرار؟!...انتي بتحلمي..."
تململت عبلة بحنق بالغ.....
"مفيش فايدة فيك.....انا زهقت...."
هدر شكري في وجهها على نحوٍ مفاجئ افزعها
منه...وصوته جمد الدماء في عروقها....
"وانا زهقت منك ومن القرف اللي بتعمليه...
كنتي متجوزه فاروق وعايشه مع إبنك زيك زي اي ست محترمة.....
ازدردت ريقها وزحف الحرج إلى وجهها الملطخ بزينة تُخفي تجاعيد العمر عنها وعن زوجها الشاب الذي يكبر ابنها بعام أو عامين فقط...
في الحقيفة هي لا تعرف على وجه الدقة كم
يبلغ ابنها من العمر !....
في تلك اللحظة دوّى في أذنيها تقريع شكري الغاضب يجلجل كالسياط ساخطًا عليها وعلى أفعالها...
"عقلك خف منك وركبتي دماغك وطلقتي
من الراجل المحترم اللي صانك وسبتي إبنك يتربى بعيد عنك وجوازة ورا جوزاة لحد ما الناس كلت وشنا وابوكي مات بحسرته
وناويه تجيبي أجلي زيه...."
انتصر شيطانها عليها فعقبت على حديثه بنظرة سوداوية حاقدة.....
"مووت انت بس وملكش دعوة...."
قال شكري بنبرة محتدة كعينيه نحوها.....
"اه عشان الهيلمان ده كله يبقا ليكي لوحدك..
بس اطمني لو مت في اي للحظة مش هطولي جنية واحد مني...انا مأمن نفسي وكاتب وصيتي وشرط اساسي متاخديش من الورث جنية واحد..."
ابتسمت بتهكم والغضب والحقد يلمعان في عينيها....
"طول عمرك ناصح ياشكري...بس النصاحه
دي عليا انا بس أما على حد تاني لا...."
سالها بتجهم..... "تقصدي إيه...."
قالت بفحيح الأفعى كلماتها بمثابة نصل مسموم في صدر اخيها....
"إبنك..اسر حبيب عمته راح في شربة مايه وانت قاعد هنا ولا كانك ليك عيل ميت وليه طار...مش ناوي تاخد حق إبنك يا ناصح؟...."
أسود وجهه اكثر وهو يقول بوعيد....
"قريب....قريب أوي هجيب حقه...."
قالت عبلة بلؤم.....
"لو مش عارف ابعت انا ناس يخلصو عليها...."
ارتفع حاجب شكري متوجسًا منها...
"وانتي من امتى بقا ليكي في القتل والدم؟!...."
اجابته بنظرة ناعمة كالافعى قبل ان تبخ سمها...
"مليش بس مفيش حاجة ببلاش كله بتمنه..."
زجرها شكري منفعلا.....
"حق ابني انا اللي هجيبه مش عايز منك او من غيرك مساعدة......"
برمت خصلة من شعرها حول اصبعها وهي
تقول بإبتسامة باردة.....
"براحتك بكرة تحتاجني....."
..............................................................
كانت تجلس في مقهى الشركة أمام قدح من القهوة فطورها الصباحي كما اعتادت...
سمعت صديقتها تصيح في وجهها بنفاد صبر
"بتهزري صح يا نغم؟!.. انتي أكيد جرَى لمخك حاجة !"
بدأت تلامس حواف القدح بأصبعها بشرود وهي تسألها....
"ليه بس كده يا جيداء.... إيه الغلط في اللي قولته؟"
قالت جيداء بشق الأنفس...
"الغلط إنك تشغليه عندك بعد كل اللي عرفتيه عنه..."
قالت نغم مدافعة عنه....
"ما أنا قولتلك مظلوم. دا كان صاحبه هو اللي بيسرق وهو نط وراه يمنعه..."
تبرمت جيداء معقبة بضجر....
"يمنعه؟!... بذمتك مصدقة نفسك وإنكل كمال إزاي يعينه بودي جارد إزاي مأمّن له؟!"
أسبلت نغم عينيها إلى قدح القهوة الساخن وهي تعترف بخفوت....
"بصراحة الفترة اللي قضيتها مع أيوب أكدت لي إن اختيار بابا كان في محلّه.. أيوب أنسب واحد يكون معايا لحد ما القضية تخلص..."
قالت جيداء باستنكار...
"ما هو طبعًا لازم يحلي نفسه قدامك ما هو بيلعب عليكي !"
سألتها نغم بنظرة مرتابة...
"قصدك إيه؟!"
مالت جيداء نحوها هامسة بدهاء...
"قصدي إن ممكن العزبي هو اللي يكون زقه عليكي وانتي بغبائك صدقتي إنها حركة شهامة وألخ ألخ... تلاقيهم أصلًا متفقين !"
أبت نغم أن تصدق...
"ماعتقدش... أيوب مش كده..."
ارتفع حاجبا جيداء تزامنًا مع دهشتها الجلية
"إيه الثقة العمياء اللي بتتكلمي بيها دي يا نغم؟!... انتي في وضع حساس ومينفعش تستهتري بكل حاجة كده !"
غامت عينا نغم بالحزن واعتنقت الصمت بإرهاق واضح... بينما قالت جيداء بحنو توضّح مقصدها...
"يا حبيبتي أنا خايفة عليكي. انتي صاحبتي الوحيدة... ومش هستحمل أخسرك بسبب طيبة قلبك دي. عشان خاطري حرّصي من الناس اللي حواليكي شوية..."
قالت نغم باحتجاج...
"هحاول... بس أيوب مش..."
قاطعتها جيداء قائلة بنظرة حازمة..
"بالذات أيوب ده.. والله ما أنا مرتاحة له نهائي.الواحد بعد كده يحرص على حاجته منه..."
رمقتها نغم بضيق....
"جيداء..."
تململت جيداء قائلة....
"الله.... هو اللي انتي قولتيه ده شوية ؟!"
حذّرتها نغم بنظرة حازمة صارمة...
"اللي اتقال بينا مش عايزة حد تالت يعرفه."
بلعت جيداء ريقها بتوتر وهي تقول بجدية معاتبة...
"عيب عليكي يا نغم... من إمتى وأنا بطلع أسرارك برا ؟!"
قالت نغم بنبرة خافتة صادقة...
"أنا مش برتاح في الكلام غير معاكي يا
جيداء انتي عارفة إني بعتبرك أكتر من أختي..."
قالت جيداء بابتسامة حنونة متمنّية...
"عارفة يا حبيبتي وأنا والله... وقلقانة عليكي أوي... يا رب القضية دي بقى تخلص ونرجع نشم نفسنا من تاني..."
لفظت نغم كلماتها بتوق....
"يا رب يا جيداء... حاسة إنه بقى حلم بعيد..."
وقبل أن ترد عليها جيداء لمحت أيوب يدخل إلى المقهى برفقة ليان التي تثرثر معه بحماسية وفي يدها دفترها...
"الباشا شرف... بس واضح إنه مش لوحده..."
تجمّدت نغم في مكانها وهي تتابع دخولهما إلى المقهى ثم جلوسهما أمام طاولة بالقرب منهما...
"ليان؟!...... بيعمل إيه مع ليان؟!"
قالت جيداء على حسب ما تراه عيناها...
"واضح إنها بتاخد رأيه في التصميم بتاعها. انتي مش قولتي إنه شاطر وعنده فكرة عن مجالنا؟"
لم تحيد عينا نغم عنهما وهي ترد عليها بوجوم....
"تقريبًا...بس دا رفض يشتغل معايا أو حتى يبيع تصاميمه للشركة..."
ضحكت جيداء ساخرة...
"واضح إن ليان غالية عليه أوي..."
ظلت نغم معلقة عينيها عليهما تراقب حديثهما غير الواضح ونظراتهما المتبادلة...
سمعت ضحكة ليان العالية مع إتساع عينيها بدهشة وكأنه أخبرها بشيء مذهل ومضحك جعلها تفتح فمها كالدولفين الضاحك !...
زمت نغم شفتيها وعادت بعينيها إلى قدح القهوة. حاولت أن تشغل نفسها باحتساء ما تبقى من قهوتها وعندما رفعته إلى فمها شعرت بمذاقها المُرّ البارد...
وضعته جانبًا بوجه مكفهر ثم فاجأها صوت ضحكاته الرجولية يصدح في المكان لدرجة أن بعض الموظفين نظروا نحوه كما فعلت هي...
عابسة محتقنة الوجه ثم عقبت بقرف...
"ماله الحلاوة ده ؟!... "
علقت جيداء بدهشة...
"حلاوة؟! جبتي الكلمة دي منين يا نغم؟"
نظرت إلى صديقتها ببلاهة وقد تخضبت وجنتاها وحركت أهدابها بارتباك واضح. لقد لاحظت لتوّها أنها نطقت كلمته الشهيرة تلك التي كانت تضع تحتها علامات استفهام كلما قالها وسط الحديث...
قالت جيداء بقلق حقيقي...
"بدأ يطبع عليكي... ربنا يستر!"
سألتها نغم بحرج....
"إنتي سمعتي أيوب بيقولها؟!... "
أومأت جيداء برأسها وأطلقت زفرة استياء بينما عادت نغم إليهما بنظرة جامدة التعبير...
شعر أنه عرضة لعينيها الشتويتين وكأنها تعمل على تجميده كليًا عن بعد مما جعله يرفع عينيه نحوها فتلاقت بها وهالة التعبير القاسي تغلف وجهها وعينيها...
ماذا فعل؟ هل ما زالت غاضبة منه منذ أمس؟
أمس...
لم ينسَ تفاصيل الأمس رقصتهما فستانها الأبيض اللامع لمستها على كتفه إحساسه وهو يتمايل معها دون إيقاع على رصيف بارد مظلم تنيره إضاءة السيارة الخافتة...
جو بارد لكن مشاعرهما كانت كالحمم البركانية تثور بجنون بينهما حتى التقطا الخطر فتباعدا منهيين الرقصة بعد مناوشة طفيفة...
ويجب أن يعترف أنه نام أمس والهاتف بين يديه مفتوح على صورتهما...
زارته صورتها في أحلامه يتمايلان مجددًا على الرصيف بين ذراعيه... لكنه غاص في جمال اللحظة أكثر وترك نفسه لهواه معها... تعبر
عن الكثير...
هزّ رأسه وهو يبعد عينيه عنها بصعوبة مركزًا مع ليان التي تثرثر حول تفاصيل تصميمها المعروض أمامه في دفترها...
بينما شعرت نغم بالإهانة بسبب تجاهله لها
بعد أن تلاقت أعينهما... لم يُلقِ حتى تحية عابرة أو ابتسامة كالتي يوزّعها بكرم على ليان...
نهضت عن مقعدها وبمنتهى الأناقة خرجت من المقهى بعد أن ودّعت صديقتها تاركة خلفها أثر عطرها الفاخر وصوت خطوات
كعبها العالي...
زفر أيوب نفسًا خشنًا حارًا وهو يتأوّه بعذاب
هذه المرأة خطر... ولا يلوم من مات صريع هواها... رغم أن طيف هذه الفكرة يحرقه
حيًّا كلما أتت على باله !...
بعد عدة ساعات دلف أيوب إلى مكتبها مقتربًا منها بخطوات هادئة سائلاً...
"طلبتي تشوفيني.... يـا نـغـم هـانـم؟"
أرجعت نغم ظهرها للخلف في مقعدها الوثير خلف مكتبها اللامع بفخامة وثراء وقالت...
"إيه عطلتك...؟!"
سألها بهدوء..... "عن إيه؟"
أمسكت قلمًا ذهبيًا لامعًا وبدأت تعبث به قائلة بشفاه ممطوطة...
"عن شغلك مع الموظفين... لـيـان مثلًا...."
رد أيوب وعيناه لا تحيدان عنها....
"أنا شغلي الأساسي معاكي إنتى.. ودي زمالة شغل مش أكتر."
أوغر صدرها بالغيظ وقالت من بين أسنانها بضيق....
"وزمالة الشغل تخليك تساعدها في رسم التصميم؟... "
رد عليها أيوب بجزع...
"أنا ما ساعدتهاش أنا قولتلها رأيي في التصميم وإيه اللي ناقصه... فين المساعدة؟"
عقّبت بسخرية لاذعة...
"وإنت سيادتك شات جي بي تي؟"
لم يفهم مقصدها... فقال بنفاد صبر....
"مش فاهم... كلميني بلغتي وبلاش عوجة اللسان دي."
وضعت القلم مكانه بعصبية وقد هاجت مراجلها وهي تنهض عن مقعدها وتدور
حوله بمنتهى الحنق قائلة....
"أنا أعوّج لساني زي ما أنا عايزة.. ما إنت طلعت حلو أهوه وبتساعد لما طلبت إنك تشتغل معايا رفضت لكن ليان استثناء
مش كده ؟!"
وقفت أمامه عاقدةً حاجبيها ترمقه شزرًا ولا تعرف ما سر غضبها الهائل نحوه ومع ذلك تتمسك بعدة أسباب واهية !....
لمح أيوب في عينيها عاصفة جليدية قاسية وخطِرة فسحب نفسًا متهدجًا الى رئتاه ثم أجابها بصوتٍ مثخن بالجراح....
"أولًا أنا مش بشتغل مع ليان لا في التصاميم ولا غيره.... هي خدت رأيي في حاجة وقولت رأيي فيها... ثانيًا هي فعلًا استثناء يكفي إن أسلوبها كويس وبتحترم الكل... "
رأت في عينيه اتهامًا صريحًا نحوها كان بمثابة لطمة لكبريائها الأبِي فقالت بصدمة...
"قصدك إيه بكلامك ده؟!..إني مش محترمة"
رد عليها أيوب بغلظة....
"أنا شايف إنك بتتعاملي مع الناس على حسب رصيدهم كام في البنك... "
زجرته نغم بانفعال واضح...
"وأنا مالي ومال رصيدهم؟ هشاركهم فيه؟!"
امتقع وجه أيوب ممتعضًا...
"قولي لنفسك أسلوبك معايا إزاي وأسلوبك مع أي حد تاني إزاي..."
سألته بذهول..."أي حد زي مين؟"
رد أيوب بصدر يشتعل كأتون حارق...
"زي جاسر العبيدي مثلًا اللي كانت الضحكة على وشك قدامه من الودن للودن وسلام وترحيب وأدب واحترام كأنك هتشاركيه في ثروته !"
وقفت مصعوقة متسعة العينين بصدمة جليّة على وجهها المرتاب منه بينما تابع هو ببغض
"بس تيجي عندي أنا... وتقلبي هولاكو مانا الواد أيوب الغلبان بياع على الرصيف... أجي إيه أنا جنب البهوات اللي تعرفيهم ؟!... "
تشدقت بدهشة...
"ده إنت شايل ومعبّي أوي مني؟!"
أشاح بعينيه عنها قائلًا باقتضاب...
"مفيش بينا حاجة تستاهل الشيل والتعبيّة. كده كده في الأول والآخر أنا اللي جبته لنفسي...."
التوى فمها في ابتسامة باهتة...
"صح مانا من ضمن الدواهي اللي بتروح فيها..."
تململ أيوب معترضًا...
"ياريت ما تعلقيش على كل كلمة بقولها."
تبرمت نغم محتقنة الوجه...
"واشمعنا إنت بتعمل كده؟... بتعلق على تصرفاتي وكلامي؟!"
ثم أمرته نغم بنظرة متسلطة...
"ممكن تبعد عن ليان... وبلاش تساعدها أو تقترح عليها أي حاجة تخص التصاميم."
رفض أيوب معقبًا....
"بس أنا مقدرش أكسر بخاطرها."
ارتفع حاجب نغم للأعلى ضاجرة كاظمة غضبها وغيظها وهي تستفسر...
"هو في حاجة بينكم ولا إيه؟!"
رد عليها ببرود...
"من ناحيتها ما أظنش."
سألته من بين أسنانها المتكئة عليهما بقوة تكاد تهشمهم....
"ومن ناحية سيادتك؟!"
عينيه تُلقي رسائل صريحة تخصها، بينما لسانه يرمي سهامًا مسننة في قلبها...
"بصراحة؟ بفكر... شاغلة تفكيري بقالها كام يوم...بنت محترمة وجميلة وبنت ناس... ليه لأ؟"
قد فاض بها الكيل وتدفقت نار الغيرة في صدرها كحمم بركانية فقالت بحدة...
"فعلاً... ليه لأ مبروك مقدمًا... ياريت بقى ما تدخلش الشركة تاني ومن دلوقتي مكانك برا جنب العربية !"
ارتفعت وتيرة غضبه هو الآخر في حرب شعواء بينهما.... عقب بعدم رضا...
"جنب العربية؟!.. هقعد أكتر من عشر ساعات جنب العربية؟!...... يرضي مين ده؟!"
لوّحت بيدها بأسلوب قاسٍ مهين...
"والله ده اللي عندي لو مش عاجبك الباب يفوّت قطيع !"
كاد الشرر أن يتطاير من عينيه وهو يصيح باهتياج...
"قطيع؟!... ما تحترمي نفسك ولمّي لسانك أنا ساكت احترامًا للراجل اللي عيني هنا لكن لو مش بينا والله كنت بلعتك كلامك كلمة
كلمة !"
ارتعدت للخلف خطوتين بصدمة وتوهجت وجنتاها بالانفعال وهي تقول بصفاقة...
"عجايب!.... وكأني أنا اللي شغالة عندك؟!"
قبض على كفيه وقد اجتاحه طوفان من الغضب المكتوم وتكسرت الكلمات على شفتيه من شدة انفعاله وعلو وتيرة أنفاسه....
"لا شغالة عندي ولا عندك... أنا قرفت أصلاً
من الشغلانة دي كلها وقليت من نفسي
جامد معاكي..وأقول معلش بنت ذوات..
عيلة ومولودة في بوقها معلقة دهب..."
"بس... لااا... لا دهب ولا فضة خلصنا كده"
عقبت نغم مبهوته باختناق....
"عيلة؟!....... أنا عيلة؟!"
هتف أيوب وهو يدس يده في جيبه بانفعال
"أنا مستقيل وابقي بلغي كمال بيه بكده."
وضع مفتاح السيارة على سطح المكتب بعنف جعلها ترتعد خيفة منه بينما عاد إليها بنظراته الساخطة قائلًا....
"مفاتيح عربيتك اهيه... سلام يا حلاوة
وابقي خلي لسانك الطويل ينفعك !... "
وقفت نغم في مكانها مصعوقة وكأن صاعقة هوت على رأسها وقد تجمّدت نظراتها عليه وهو يبتعد قاصدًا الخروج من المكتب فصرخت خلفه بانفعالٍ هائج...
"هينفعني أطمن وعلى فكرة... استقالتك مرفوضة عشان إنت مطرود....مطرود
سامع..."
استدار ينظر إليها بنظرة قاتلة جامدة كسفّاح ينوي سفك دمائها مما جعلها توليه ظهرها متحاشية النظر إليه وهي تضرب سطح المكتب بقبضتها بغضب....
فبرم أيوب شفتيه وهو يتابع خروجه من المكتب متمتمًا باستهجان...
"جبانة..."..
الفصل الثالث عشر كن هنا