رواية عشق لا يضاهي الفصل المائة و الخامس و الستون
كان يامن يحترف قراءة الوجوه كما لو كانت كتبا مفتوحة وقد تعلم بفطرته ألا يثق بالبريق الزائف الذي يغلف ملامح مشاهير صناعة الترفيه فهو على دراية بوجوههم التي لا تراها الكاميرات تلك التي تتخفى خلف الأقنعة الناعمة والكلمات المصقولة... وبصفته صديقا وفيا لكارم شعر بضرورة أن يحذره أن يشده بلطف إلى ضوء الحقيقة قبل أن يبتلعه الظل لكن كارم بعين ثابتة وصوت واثق أجاب بنبرة لا تقبل الجدال
إنها ليست دينا.
ارتبك يامن للحظة كأن الاسم قد انزلق من بين أصابعه ولم يعرف له مكانا.
سكن الصمت المكالمة للحظة ثم قال يامن في تردد يشبه ارتطام فكرة بحائط الصدمة
إن لم تكن دينا... فمن إذا
يامن لم يكن يعرف سوى ما تردد من همسات في كواليس الفضائح عن علاقة دينا بظافر والقصص التي حكيت أكثر مما رويت.
رد كارم بصوت متهدج بالكتمان وكأنه يخرج السر من كهف في صدره
سيرين.
وساد الصمت... كما لو أن الاسم نفسه ارتدى عباءة من الغموض فسيرين رغم غيابها الطويل لم تكن غريبة عن ذاكرة يامن... فسرعان ما طفت صورتها إلى سطح ذهنه وارتسمت أمامه بهيئتها التي لا تنسى.
وها هي صدمة أخرى أعمق من الأولى
إذ اتسعت عيناه وراح صوته يخرج شبه متهدم
زوجة ظافر! أتسعى إلى امرأة متزوجة! لو كانت دينا لكان في النقاش متسع إذ أن علاقتها بظافر لا تزال ضبابية... لكن سيرين لقد ارتدت فستان العرس وسارت إلى ظافر تحت سقف واحد.
أخذت الذكريات تتدفق بعقل يامن كالسيل فتذكر كل ما دار حول تلك الزيجة التي لم ترق لأحد إذ أن سيرين رغم كونها وريثة عائلة تهامي العريقة إلا أن صممها جعلها بنظر مجتمعهم ناقصة عن معايير الرقي والاصطفاء لذا لم يقبلها المجتمع وفضل أن يلفظها في صمت خجول... كما أنها كانت أيضا في عيون البعض السبب في سقوط هيبة ظافر إذ شاعت الأحاديث بأن تامر وسارة قد استوليا على هدايا الزفاف التي خصصت لها وتركا ظافر مجردا من مظاهر العرس كأنه حضر لتمثيل دور العريس لا لعيشه وبهذا تحول إلى نكتة يتداولها الناس وسيناريو ساخر في مجالسهم ويا للأسى... كان يامن واحدا ممن استمتعوا حينها برؤية سقوط ذلك الكبرياء وبعدها... تلاشت سيرين... اختفت كما تختفي شمعة في مهب الريح دون ضجيج أو وداع ولو لم يذكرها كارم لربما كانت ذكراها قد ذابت تماما من عقل يامن.
تنهد يامن ثم نظر لصديقه بقلق لا يخلو من الصدمة
يا رجل بم
تفكر بحق السماء إنها امرأة متزوجة وفوق هذا... إنها تعاني من إعاقة أعني... ضعف السمع.
توقف لحظة ثم رقت نبرته خشية من أن يغضب كارم
إنها لا تستحقك يا كارم.
لكن كارم بعينين فيهما من التصميم ما يطفئ اللهيب أجاب بهدوء مزلزل
استحقاق البشر لا يقاس بنواقصهم الجسدية ولا بحكم الناس عليهم... الاستحقاق الحقيقي ينبع من جوهر الروح.
ارتجف قلب يامن فقد أدرك حينها أن كارم لم يقع في الحب فقط بل غرق فيه حتى الأعماق متسائلا في داخله عن ذلك السحر الخفي الذي تملكه سيرين... وما الذي تملكه تلك المرأة ليهزم رجلين صقلتهما القسوة مثل كارم وظافر وإن كان يحبها كارم... فهل سيقبل ظافر أن تنتزع منه ويمتلكها غيره بالنسبة ليامن فإن المرأة حين تدخل ملكية رجل تصبح كقطعة من روحه لا تشارك ولا تستعار حتى وإن رماها صاحبها في زوايا النسيان.
ووسط زحمة المشاعر تمتم كارم كأنما يحاول الهروب من دوامة لا تنتهي
حسنا... سأغلق الهاتف الآن.
أدرك كارم بحدسه الذي لا يخطيء أن كل حرف سيتدفق من فم يامن سيكون كالسم الذي يتسلل في العروق لا يحمل سوى ما لا يطيق قلبه سماعه... وفي لحظة خاطفة من الحسم أنهى
المكالمة كما يسدل الستار على مشهد لا يحتمل مشاهدته إذ لم تكن الكلمات ما يخيفه بل ما تختبئ خلفها من احتمالات مؤلمة.
أغلق كارم الهاتف بهدوء متوتر وراح ينظر إلى الفراغ كمن يحدق في جرح يعرف تماما من أين بدأ ولا يعرف إلى أي عمق غاص... ومن حيث لا يدري تسللت ذكرى سيرين إلى حواسه كعطر قديم انبعث فجأة من ذاكرة قميص... خمس سنوات مضت منذ أن التقت عينه بعينيها للمرة الثانية بعد فراق... مرت سنوات شبابهما لكن لا تزال طفولتهما محفورة في روحه كما ينقش الوشم على الجلد... منذ تلك اللحظات الأولى في عمريهما وتلك اللحظة التي التقاها فيها مجددا... العيون الصامتة والنظرات التي تفوقت على اللغات حينها أقسم داخله دون حلفان أن يكون ظلها حين تغيب الشمس وصوتها حين يخونها السمع وسورها حين يهتز العالم من تحت قدميها إنه يعلم أنها لا تحتاج إلى فارس بسيف بل إلى قلب لا يخاف الصمت وعقل لا يرتبك من الاختلاف.
اختار كارم منذ ذلك اليوم أن يحرسها من وجع العالم لا كمن يحمي كنزا بل كمن يحفظ نبض ذاته... قرر أن يكون القريب حين يبتعد الجميع والسند حين ينهار الجدار والحارس حين ينام الجميع عن الخطر... لم يكن ذلك وعدا بل كان إيمانا.
إيمانا أن بعض القلوب وإن كانت
خافتة تستحق أن تسمع حتى لو لم تنطق.
في شركة آل نصران
حين عادت سيرين إلى المكتب كان المكان قد استعاد صخبه المعتاد لكن شيئا ما في الهواء بدا مختلفا كأن ذبذباتا خفية تعبث بأنفاس الجدران...
كان ظافر قد عاد وكأن حضوره يعيد ترتيب ذرات المكان ودينا تجلس هناك في مكتبه على الأريكة المخملية بثياب أنيقة كأنها تخفي هشاشتها تحت طبقات من القماش الباهظ... ملامحها مشدودة وفي عينيها شقوق حزن حاولت طمرها ولكنها أبت إلا أن تطفو على السطح... لم تكن نظراتها تلك نظرات خصم في معركة بل نظرات امرأة تخشى الهزيمة قبل حتى أن تبدأ الحرب.
منذ أيام قلائل ودينا تبث سمها في كافة الاتجاهات فقد أطلقت كلابها كلاب السوق تبحث في ماض سيرين وذلك بعد أن كلفت أنس باتخاذ إجراء ينهي وجودها لكن أنس ذلك الفارغ المكسو برداء الرجولة من وجهة نظر دينا المحدودة قد عاد بأعذار أوهى من
خيط دخان
حولها حراس كثر يا دينا... لا أقدر أن أصل إليها حاليا.
لكن تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن فكما النار حين تخمد ظاهريا وتظل تتوهج تحت الرماد قد انتشرت الأخبار كعدوى فيروسية شوهت سمعة سيرين دون أن تمسها إصبع... الصحف المواقع الهمسات في الزوايا... كلها اجتمعت لخلق ظل قاتم فوق اسمها.
لكن لم تكتف دينا بذلك ولم تيأس بالرغم من تلك الفاجعة التي أحاطتها كالشرك بل حاولت أن تنبش في ماضي سيرين خارج البلاد تبحث عن خيط نقطة ضعف أي شيء لكن كل صفحة كل سجل كل بصمة... بدت كأن أحدهم قد مر عليها بممحاة خفية وازدادت خيبتها حين وجدت نفسها أمام فراغ مقصود... فراغ يخفي أكثر مما يكشف.
وحين عادت سيرين إلى مكتب ظافر بملامح لا تنحني ونظرات لا تستأذن وقفت دينا كمن لسعها التيار... وأخذت تحدق فيها طويلا بنظرة لم تحمل عداء فقط بل رجاء مكبوتا وحزنا
يشبه انسحاب الضوء.
التفتت دينا نحو ظافر وهمست وكأنها تسحب نفسها من هاوية لا يريد انتشالها منها
ظافر... سأغادر.
غادرت دينا بهدوء لكن عينيها عند المغادرة غرستا رمحهما في صدر سيرين بنظرة ذات معنى ثقيل لم تدركه سيرين في البداية لكنه ظل يلاحقها حتى وهي تتحرك صوب المكتب.
قبل أن تجلس سيرين رمقها ظافر بنظرة دقيقة إذ لاحظ أنها ترتدي سترة كارم مما أجج غيرته العمياء فقرر أن يثيرها غضبا فقال بنبرة لم تخل من السلطوية
اطلبي من صديقتك سحب الدعوى القضائية ضد دينا.
توقفت سيرين كأن الأرض مادت تحت قدميها... إذ لم يكن الأمر صدمة فقط بل صفعة للمنطق... كيف تلجأ دينا إليه بعد كل هذا وها هو يفتح لها بابه من جديد
صرخت سيرين بنبرة تمزج بين الألم والخذلان
لماذا! لقد سرقت أغنية ليست لها! والآن تريد من الضحية أن تتراجع!
كانت الكلمات
تخرج منها كأنها تقاوم الغرق... لم تستطع أن تفهم كيف يمكن لظافر أن يغض الطرف بهذا الشكل أن يدين البراءة ويمنح النجاة للجريمة.
رد ظافر ببرود مدروس كمن يحفظ نصا مكررا
المسألة لا تتعلق بدينا وحدها... بل تهدد استقرار شركة كارنيفال سنترال ميديا التابعة لمجموعتي مجموعة آل نصران.
توقف لحظة ثم أضاف بنبرة لا تعرف الرجاء
ثم إن الدعاوى الدولية... تستهلك الوقت والجهد ولا ضرورة لإهدارهما عبثا.
ضحكت سيرين ضحكة خالية من الفرح ضحكة ساخرة كأنها تلقي الحقيقة في وجهه دفعة واحدة وقالت
صديقتي لا تكترث للوقت ولا للجهد كل ما تريده هو أن تحاسب دينا على ما اقترفته... أما شركة كارنيفال سنترال ميديا... أليست هي الأخرى مسؤولة عن غض الطرف سيد ظافر أليس ما تطلبه أنانية مغلفة بالقانون!
كانت كلماتها كخناجر مغروسة في صدره... لا تهدف