رواية عشق لا يضاهي الفصل المائة و التاسع و الستون
استغرقت سيرين وقتًا لتخرج من سباتها الثقيل كأن وعيها كان عالقًا في دهاليز الحلم، يقاتل للعودة وحين فتحت عينيها أخيرًا كانت السماء خلف النافذة الرمادية أغمق مما ينبغي في هذا التوقيت من الفجر وكأن الليل تواطأ مع الحزن ليبقى أطول قليلاً.
الأضواء في الغرفة كانت ثابتة لا وهج فيها ولا دفء مجرد ضوءٍ أبيض كئيب يشبه الضوء في قاعة تشريح أكثر مما يشبه ضوء شفاء.
حاولت أن تتحرك لكن ألمًا مبهمًا اشتعل في أطرافها... لم تكن تدري هل هو وجع جسدها أم وجع روحها...
نظرت إلى ذراعيها وساقيها فوجدتها محاطة بضمادات بيضاء كأنها ملفوفة في شرنقة من الوجع حتى جبينها كان مغطى كأن الألم قرر ألا يدع لها موطئًا للسلام.
استدارت برأسها ببطء وفي ظلّ الإضاءة الخافتة رأت جسدًا منحنيًا بجوار سريرها كأن الانتظار أنهكه.
همست بشفاهٍ باهتة كالغارق في مستنقع ضحل:
ــ "كارم..."
انتفض الجسد الجالس ورفع رأسه فقد كان كارم خفيف النوم لا ينام بعمق منذ زمن فالقلق بات رفيقه الأكثر إخلاصًا.
ــ "أنتِ مستيقظة..." قال كارم بصوتٍ منخفض فيه ارتياحٌ حذر ثم سألها بعينين قَلِقتين:
ــ "هل لا تزالين تتألمين؟"
كانت نظراته كمن يرى طيفًا كان يعتقد أنه لن يعود فبالرغم من أن الطبيب قد أخبره أن إصاباتها سطحية بفضل كونها في المقعد الخلفي لحظة الحادث لكن رؤيتها ملفوفة بالضمادات كانت كفيلة بأن تترك خدشًا غائرًا في قلبه.
هزّت سيرين رأسها بخفة ثم تمتمت:
ــ "السائق... ماذا حلّ به؟"
ربّت كارم على يدها بلطف وطمأنها:
ــ "هو بخير، لقد تلقّى الإسعاف في الوقت المناسب... نجوتما أنتما الاثنان من الأسوأ."
أغمضت عينيها للحظة كأنها تريد أن
تحبس دمعة امتننان ثم تمتمت بصوت خافت:
ــ "ماذا حدث بعد أن فقدتُ وعيي؟"
تنهّد كارم وراح صوته ينحت في الجدار بين الحقيقة والكتمان:
ــ "بعد دقائق من إغمائك وصلتُ أنا ورجالي... كان أنس يحاول الهرب... أوقفناه وتمت السيطرة عليه."
تردد للحظة ثم أضاف:
ــ "كان ظافر هناك أيضًا... هو من حملك إلى المستشفى."
قالها بصوت كأنه اعتراف لا يُراد له أن يخرج لكنه خرج رغمًا عنه كأن الصدق تسرّب من بين الشفاه دون إذن... لكن كارم لم يخبرها كيف هرع ظافر إليها قبل الجميع ولا كيف انتشلها من حطام الحديد والدم ولا كيف ظل جالسًا بجوارها طوال الليل.. عيناها الغائبتان ممسكتان بكفه وروحه معلّقة بأنفاسها.
لم يُخبرها أنه لم يغادر إلا منذ نصف ساعة بعد أن غطّاها بمعطفه وغادر على مضض تاركًا خلفه حرسًا مشددًا كأن الغرفة أصبحت
مزارًا مقدّسًا تحت حراسته.
سيرين برهافتها التي لا تخطئ شعرت بشيء ما خلف الكلمات... تذكرت أن ظافر كان قد وضع حراسًا يتتبعونها وأن السائق نفسه أحد رجاله لذا فهمت الآن كيف وصل بسرعة، وكيف تنبّه لما جرى... لكنها كانت ممتنة لوصول كارم في تلك اللحظة الحرجة حين كان أنس أقرب إلى الذئب من الإنسان... فظنّت عن غريزةٍ وقلب أن كارم هو الفارس الحقيقي الذي أنقذها وأن حضوره كان المُخلّص من موتها المحتم... كانت تلك الفكرة هي المسيطرة عليها ربما، وربما فقط، لأن الرعاية والأمان يجعلانا نميل نحو الوهم الذي نحبّه أكثر.
وكأن كارم شعر بما يجول بخاطرها، فاختار أن يصمت عن الحقيقة... فالقلوب العاشقة كثيرًا ما تكذب لا لتخدع بل لتنجو.
قالت سيرين وهي تنظر إليه بعينين متسائلتين فيهما توجس امرأة تعرف ما لا يُقال:
ــ
"لطالما أبعدني ظافر عنك... هل يعلم أنك هنا الآن؟"
أومأ كارم برأسه مطمئنًا وقال بصوت متماسك:
ــ "يعلم... لا تقلقي."
لقد وصلا كارم وظافر إلى المستشفى واحدًا يلو الآخر وبينما كانت سيرين تُصارع بين الحياة واللاوعي في غرفة الطوارئ وقف الرجلان وجهًا لوجه بملامح باردة وصمتٍ حذرٍ مشبع الكبرياء يحاولان أن يحافظا على ثباتهما الانفعالي أمام طاقم العاملين حتى لا تحاوطهما كاميرات الصحافة الصفراء ويلتقطوا صوراً لرجلان يتقاتلان من أجل امرأة.
وعلى الرغم من أن ظافر قد اضطر للمغادرة قبل ساعة لكنه لم يرحل دون أن يترك خلفه ظلّه... ترك على باب الغرفة اثنين من حرّاسه، كأنهم حُرّاس على قلبه لا على سيرين... بل ووضع كاميرات مراقبة داخل وخارج الغرفة ليجعل كل شيء تحت نظره فإن فكر كارم أن يهمس أو يقترب أو يُفصح فسيكون ظافر هناك حتى وهو غائب.
ذلك هو الظافر الذي أصبح مثلاً للحب حين يتحول إلى حصار ناعم لا تراه لكنه يخنق.
لاحظ كارم الشقوق التي نُقشت على شفتي سيرين كأن الجفاف قد مرّ عليها بمحراث فنهض بهدوءٍ من كرسيّه وذهب
كمن يؤدي طقسًا مقدسًا ليُحضِر لها كوبًا من الماء البارد.
عاد كارم يحمل الكوب كأنه يحمل لها الحياة نفسها واقترب ليساعدها على الشرب فارتعشت شفتاها تحت حافة الزجاج كما لو كانت تحتسي الغفران لا الماء.
قال وصوته مغموسٌ بمزيجٍ من الطمأنينة والحزم:
ــ "لقد رتّبت أمر أنس... لن يجرؤ على إزعاجكِ مجددًا."
ثم أردف وعيناه تراقبان عينيها كأنهما تبحثان فيهما عن شكرٍ غير منطوق:
ــ "رامي لا يزال غائبًا لذا سأكلف أحدهم بحمايتكِ مؤقتًا."
اكتفت بإيماءة صغيرة كأن الكلمات لم تكن لها طاقة بعد، فالتعب سرق حتى حقها في الامتنان.
جلس كارم إلى جانبها وساعدها على تعديل جلستها برفق، كمن يخشى أن تنكسر بين يديه.
قال وهو يتنفس بعمق كالموشك على فتح بوابةً من الأسرار:
ــ "طلبت من أحد رجالي التحقيق في ماضي أنس... اسمه الكامل أنس عبد الله... رجلٌ كان يملك شركة صغيرة في الخارج... حين تواصلت معه دينا أول مرة كان خاطباً لكنه وقع في فخّها سريعًا... أعجب بها حتى الثمالة فترك خطيبته
وأنفق عليها أمواله بلا حساب... حتى أنه كتب لها الأغاني وصنع لها أجنحة لتطير... لكنه حين أُفلست تجارته وبدأت حياته بالتآكل انسحبت هي... وعادت إلى المدينة والأضواء... إلى الترف المخزي الذي تعرفه جيدًا."
استمعت سيرين بانتباهٍ صامت وعيناها لا تُظهران ذهولًا بل تأملاً هادئًا كأنها كانت تقرأ فصولًا إضافية من رواية كانت قد توقعتها فقد سمعت مسبقاً شذرات عن هذا الماضي من قبل لكنها لم تكن تعرف أن أنس كان مجرد محطة في رحلة دينا نحو المجد المؤقت.
للحظات فكرت في ظافر... فلو أفلس الآن، هل كانت دينا ستبقى تقاتل من أجل لقب السيدة نصران؟
ابتسمت سيرين لنفسها بسخرية باهتة كأن الجواب لا يحتاج لتفكير.
قالت سيرين بصوت خافت لكنه مشبعٌ باليقين:
ــ "إذًا من سعى لقتلي لم يكن أنس... بل دينا. من حديثه بالأمس بدا واضحًا أنه فعل ما فعل فقط ليُرضيها... أنا لا أريد أن يُسجن... لا، فالأمر أعمق من ذلك."
نظرت إلى البعيد إلى زاوية الغرفة كأن فيها صورة الماضي متجسدة ثم تابعت:
ــ
"دينا هي الخطر الحقيقي زإرسال أنس إلى السجن سيكون هديةً لها يُبعد عنها إزعاجه ويُسكت ذنبه... بل أريد شيئًا آخر... أريد أن أُريه حقيقتها، أن يراها مجردة من الوهم... أن يرى وجهها بلا مساحيق... أن يتذوق خيانتها كما تذوقها غيره."
كانت كلماتها تنقش على جدران قلوباً أضناها الهوى خارجةً من بين أنياب الغضب الهادئ، تفيض بعزيمة امرأة قررت ألا تكون الضحية بعد الآن.
أردفت سيرين مستكملةً بصوتٍ عميق، لا يحمل حقدًا بل يحمل عدالةً قاسية:
ــ "أريد أن أراها عاريةً من ألوانها الزائفة... أن أرى دهشتها حين تنهار الأقنعة... لا أريده أن يُسجن، بل أن يستيقظ من وهمه... أن يراها تُدير له ظهرها حين تنتهي صلاحيته... كما فعلت مع سواه."
كانت تعرف بحدسٍ نادر أن أنس إذا تُرك وشأنه، قد يعود بأنياب أكثر حدة. لكن إن رأت عينه الحقيقة، فسيصير خطره على محرضته لا عليها.
ومن أدرى منها بقسوة الحقائق فعلى مدار سنوات من الظلم قد فهمت سيرين شيئًا أهم من الانتقام:
أن الحقيقة المؤلمة إذا
كُشفت في لحظة ضعف قد تُحدث في الروح شرخًا أعمق من أي سجن.