رواية خيوط النار الفصل السادس عشر 16 والاخير بقلم نورهان موسي


 رواية خيوط النار الفصل السادس عشر والاخير

مرّ شهران على الأحداث، تغيّرت فيهما عائشة كثيرًا. كانت أشبه بزهرة ذابلة تحاول أن تتنفس من جديد بعد أن عصفت بها رياح الفقد. مقتل شهد أمام عينيها لم يكن مجرد مشهد عابر؛ بل ندبة غائرة في قلبها، فشهد رغم كل شيء، كانت صديقتها، رفيقة دربها، من فرّقتهن دروب الحياة، ثم جمعتهن المآسي. تألمت عائشة، انكسرت، عانت من الوحدة بعد أن هجَرها كل من كانت تعتبرهم سندها، فبقيت وحيدة تصارع الحياة، إلى أن أتى فارسها الحقيقي، ذلك الذي وعدها بالفرح، وها هو يُغمرها بالمحبة والاحتواء. 
يونس بابتسامة يغمرها الحب: 
عائشة، حبيبتي… حب عمري، ونور حياتي، من يوم ما دخلتيها وأنا اتغيرت… فيكي حنيّة أمي، وطيبة أختي، وخفة دم صاحبتي، وأخيرًا… مراتي. أنفسي أخدك في حضني واحكيلك كل اللي في قلبي. 
أطرقت برأسها حياءً، واحمرّت وجنتاها، بينما هو رفع وجهها برفق وطبع قبلة دافئة على جبينها. 
أنا بحبك أوي. 
عائشة بصوت خافت وابتسامة خجلة: 
وأنا كمان بحبك يا سندي. 
أراحت رأسها في حضنه، بينما يونس كان يمرر يده بين خصلات شعرها الطويل الناعم، كأنما يهدّئ قلبها بكفيه. 
ليقول بفرحة واضحة: 
حبيبتي، مش آن الأوان نعمل الفرح؟ فات شهرين، وكل حاجة بقت تمام. 
نظرت إليه بخجل، ثم أعادت رأسها إلى حضنه. فابتسم يونس وقال بمزاح حنون: 
نمتي ولا إيه؟ ولا واضح إن الحضن عاجبك؟ أنا لو عليّا، مخرجكيش منه أبدًا. 
ضحكت بخفة وضربته على صدره ممازحة، ثم قال مبتسمًا: 
قوليلي بقى… تحبي الفرح يكون فين؟ 
عائشة بصوت دافئ: 
أي مكان… المهم أكون معاك. 
ضمّها إليه بسعادة حقيقية، سعادة رجل وجد أخيرًا وطنه في قلب امرأة واحدة. 

مرّت الأيام كالحلم، حتى جاء اليوم المنتظر. امتلأ البيت بالزينة والضحكات، واجتمع الأحباب ليشاركوا العروسين فرحتهم. 
في غرفة عائشة، جلست أمام المرآة، ترتدي فستان زفافها الأبيض، لكن الحزن كان يسكُن عينيها. ولأول مرة شعرت بمعنى اليُتم الحقيقي… كانت وحيدة، بلا أم، بلا أب، بلا من يحمل عنها تلك المشاعر الثقيلة. 
دقّ الباب، فمسحت دموعها بسرعة. سُمِع صوتٌ يستأذن بالدخول، ثم فُتح الباب، ليظهر خلفه خالة يونس، وبرفقتها اللواء، ذلك الرجل الذي أصبح لها كالأب منذ أن تكشفت لها كل الحقائق، وبدأت تعتبره سندها بعد رحيل والدها الحقيقي. 
كان يحمل في يده باقة ورد جوري، اقترب منها، أمسك بيديها، وجلس أمامها وقال بصوت دافئ: 
ما شاء الله عليكي… قمر… يونس محظوظ جدًا. 
ابتسمت عائشة بخجل، وهو تابع بصوته المليء بالشجن: 
تعرفي كان حلم حياتي إيه؟… كان نفسي يكون عندي بنوتة زيك، حلوة، محترمة، أربيها على إيدي، وأعلّمها، وأفرح بيها… وأمسك إيديها وأسلمها لعريسها وأنا مطمن. بس ربنا ما رزقنيش غير زيدان… وبعدها أمه ماتت… وفضلت لوحدي… لحد ما ربنا بعتك ليا… وإداني فرصة أحقق الحلم ده. أنا عارف قد إيه موجوعة… وعارف إحساسك… علشان كده، من النهاردة، اعتبريني زي أبوكي… مش بس في الفرح… في كل حاجة. 
وقف، ومدّ يده نحوها بابتسامة تملؤها المودّة والصدق وقال بصوت دافئ: 
تسمحيلي… أنا أسلمك لعريسك… يا بنتي؟ 
نظرت إليه عائشة بعينين تملؤهما دموع الامتنان، ابتسمت ابتسامة صافية، وهزّت رأسها بالإيجاب، ثم مدت يدها إليه، فوضعها بين كفيه بحنان أبويّ. 
خرجا سويًا من الغرفة، على صوت الزغاريد التي ملأت أرجاء المكان، والفرح الذي سكن القلوب، ليبدأ فصل جديد في حياة عائشة… فصل عنوانه الأمان، والاحتواء، والحب الحقيقي. 
***** 
في الغرفة الثانية، كانت مريم تتحضر لليوم المنتظر، ترتدي فستانًا ورديًا أنيقًا، يليق بمقام العروس. كان الجميع في انتظار يونس، ليلتقي بها ويسلّمها لعريسها. لحظات مرّت، وفجأة دخل يونس الغرفة. نظر إليها بإعجاب، وهي التي كبرت أمام عينيه وأصبحت عروسًا جميلة، كما كانت في أحلامه. اقترب منها، قبّل جبينها بحنان وقال بصوت مليء بالحب: 
حبيبتي الصغيرة كبرت وبقيت عروسة جميلة، بجد ربنا مايحرمنيش منك أبدًا. 
احتضنته مريم بشدة وسعادة، وكانت دموع الفرح تلمع في عينيها. همست له، مبتسمة: 
ربنا مايحرمنيش منك أبدًا يا حبيبي. 
بدأت الموسيقى تعزف بلحنها الرقيق، وصعد يونس بمريم على السلم، مُتجهين إلى حيث كان زيدان ينتظر بفارغ الصبر. كان زيدان واقفًا في مكانه، مرتديًا بدلة رمادية أنيقة، وعيناه مليئة بالحماس، يراقب مريم كأنها أهم شيء في الحياة 
يونس بابتسامة مُزاح: 
استلم خطيبيتك بقى علشان أفَضّي لمراتي، خليها في عينك. 
هزّ زيدان رأسه بابتسامة ساخرة، ثم أخذ مريم من يده، وأثناء نزولهما السلم، بدأ الإضاءة تخف قليلاً، وكأنها تمنح لحظاتهم هذه مسحة من السحر. الموسيقى بدأت تعزف مجددًا، والأجواء أصبحت أكثر رومانسية. 
عندما وصلوا إلى الأسفل، كانت عائشة على وشك النزول مع عزالدين. كانت الابتسامة تملأ وجهها، ولكن قلب يونس كان يغمره شعور مختلط من الفرح والقلق، كيف لا وهو سيلتقي بحبه الأول في هذه اللحظة. 
وكانت دقات قلبه تزداد بشكل غير طبيعي مع كل خطوة كانت تقترب بها عائشة منه. حتى وصلوا إلى النقطة التي كان الفاصل الوحيد بينهما هو خطوة واحدة فقط. خطاها، مسك يدها برفق، وقبّلها على جبينها، كأنما أراد أن يعبر عن مشاعر لا يمكن للكلمات أن تصفها. 
وبدأت فقرات الزفاف، بينما بدأت الأغنية التي طالما حلمت بها عائشة، "طلي بالأبيض"، تعزف بصوت عذب. كانت عائشة تلتفت حولها، تشعر بشيء من الخجل من نظرات يونس الذي همس في أذنها بكلمات جعلتها ترتبك وتبتسم في ذات الوقت. 
أنتي جميلة لدرجة إنني مش قادر أصدق. 
انك بين ايدي 
لكن عائشة شعرت بشيء غريب، فهذا ليس هو يونس العاقل الذي كانت تعرفه، بل هو يونس آخر، يونس الذي كشف عن جانبه الآخر، الذي ربما كان أكثر تحررًا من السابق. لكن فجأة دخل زيدان، ليقطع اللحظة بتعليق ساخر. 
إيه يا عم؟ طب خالي شوية لبعد الفرح! 
اردف يونس بغضب مصتنع 
عيب عليك، انت مركز معانا ليه؟ 
زيدان ساخرًا: 
والله، لو مقومتش دلوقتي جوزتني أختك هعملها هنا في القاعة! أنا بقولك إيه، لو مش هتخلص من الحكاية دي هعمل فضيحة علني. 
نظره يونس بغضب مصطنع، ثم رد بحزم: 
أنت واطي، وأنا خايف على أختي منك، لكن خلينا نخلص موضوع الكتاب، وكل شيء يخلص. 
اتجه يونس إلى الطاولة حيث كان المأذون، ليتمم إجراءات عقد القران، بينما كانت عائشة تحتضن مريم، وهي تشعر بفرحة غامرة. وبعد قليل، أعلن الشيخ زواجهما، ثم أخذ يونس مريم بين احضانه وسط تصفيق الحضور. 
وعندما انتهت اللحظة العاطفية، تحول الانتباه إلى يونس وعائشة. بعد أن احتضن أخته وهنأها، انطلق نحو عائشة. اقترب منها بحب، وعيناه تلمعان بالسعادة، حيث رفعها في الهواء بين أحضانه بفرح  وسط تصفيق الحاضرين. كانت ليلة ساحرة، ليلة لن تُنسى أبدًا. 
ومع دخولهم إلى غرفتهما، أغلقت يونس الباب وراءهم، ونظرت عائشة إليه بعينيها المملوءتين بالحب. اقترب منها، همس بكلمات مليئة بالعشق، وكلما اقترب منها، كانت مشاعرها تهتز في قلبها. أحسّت بالدفء يعم قلبها، لكن الخجل جعلها تبتعد قليلًا ليلاحظ يونس توترها فاقترب منها وهمس بحنان 
حبيبتي، مالك إيديك ساقعة كده؟ 
عائشة بتوتر وخجل: 
لا ابدا مفيش انا كويسة 
ثم احتضنها بكل ما أوتي من حب، ومشاعرها تتراقص بين يديه. بعد لحظات، بدأ ينسحب من بين احضانها بلطف، وقال: 
حبيبتي، خلينا نصلي. 
هزّت رأسها بالإيجاب وذهبت إلى المرحاض، بينما هو توجه إلى الاخر ليتوضأ. وعندما خرج، وجدها ترتدي إسدال الصلاة، فاقترب منها، وأمسك يدها بحب، ثم أخذها للصلاة، حيث دعا لهما دعاء الزواج، داعين لله أن يحفظ حياتهما معًا. 
ثم نظر يونس في عينيها، وقال بحب كبير: 
بحبك، … ووعد قدام ربنا إني دايما هدورعلى سعادتك، وهعوضك عن كل شيء مرّ بحياتك… مش هخلي عيونك تشوف الحزن مرة تانية. 
وبعدها، حملها بين يديه ودلف بها إلى غرفتهما، حيث قضيا أول ليلة لهما كزوجين، محاطين بحب ودفء لا حدود له. 
*********** 
أما في منزل يونس 
جلست مريم على الأريكة وهي تفرك يديها بخجل ظاهر، ووجنتاها يكسوهما احمرار رقيق، بينما عينا زيدان لا تفارقها، يتأملها بصمتٍ مُحب، كأنّه لا يُصدق أنها أصبحت زوجته بالفعل. في تلك اللحظة، دخلت الخالة بابتسامة دافئة على وجهها. 
"يالا ياحبايبي، العشا جاهز." 
نهض زيدان أولًا، ومد يده لـمريم التي تبعته بخطوات هادئة ومترددة. توجها سويًا نحو المائدة الصغيرة التي أعدّتها الخالة خصيصًا لهما، كانت مزينة ببساطة شديدة ولكن فيها دفء كبير. تركتهما الخالة بمفردهما، فانفرد الصمت بهما للحظات، لكن خفقات قلبيهما كانت أعلى من أي حديث 
نظرت مريم إلى الطاولة بخجل، ثم رفعت عينيها إليه مترددة، ليقطع زيدان السكون بابتسامة حنونة: 
"مريومة… حبيبي بصّيلي." 
رفعت نظرها نحوه بتوتر، فمد يده برقة وأمسك يدها الصغيرة بين يديه، ثم طبع قبلة خفيفة على ظهر كفها، قبلة حملت كل مشاعره المكبوتة، وكل الحنين الذي خبّأه لها طويلًا. بدأت الأجواء تزداد حميمية، فجلسا وبدآ يتناولان الطعام سويًا. كانت هذه المرة الأولى التي تجلس فيها معه بهذه الألفة، كزوجين، رغم أنها أصبحت زوجته بالفعل، إلا أن قلبها لا يزال يخفق بتوتر أمامه، ولم تعتد بعد على قربه الشديد. 
كل حركة منه كانت تُربكها؛ كأن يمد يده ليطعمها، أو أن يمسك يدها ليقرب منها قطعة خبز، كانت تحمرّ خجلًا في كل مرة، لكنه لم يتوقف عن محاولاته اللطيفة لجعلها تشعر بالأمان. 
اقترب منها وهمس بصوت دافئ اخترق أعماقها: 
"عارفة يا مريم… أنا حلمت باللحظة دي من إمتى؟" 
نظرت إليه باهتمام ودهشة، فتابع بنبرة صادقة تخرج من عمق قلبه: 
"من أول يوم شوفتك فيه… قدام حسيت بشعور كبير أوي، كأني روحي اتسحبت وانا شايف دموعك. أول مرة أحس إني متأثر بحد بالشكل ده… بس إنتي علمتي في قلبي من وقتها، ومن ساعتها نفسي أعمل حاجة واحدة بس." 
صمتت لحظة، ثم نهض واقفًا كأنه لا يستطيع كتمان مشاعره أكثر، فنهضت مريم هي الأخرى بتلقائية، واقتربت منه دون وعي. مد ذراعيه واحتواها بين أحضانه، حضنٌ دافئ كأنّه يُخبّئها من العالم، كأنّه يعلن لها أن قلبه صار بيتها. 
مريم شعرت بطمأنينة لم تختبرها من قبل، احتضنته بكل ما أوتيت من مشاعر، كأنّه سندها، ظهرها، أمانها الوحيد. 

ابتعد عنها قليلًا، ناظرًا إلى عينيها بشغف، ثم انحنى ليقبل شفتيها قبلة امتزجت فيها مشاعر الشوق والامتنان والفرحة… قبلة لا تشبه أي قبلة، لأنها جاءت من حبٍ حقيقيٍ، عمره طويل داخل قلبه. 
بعد أن فصل القبلة، وضع جبينه على جبينها، وهمس: 
"بحبك يا أجمل حاجة في حياتي… بحبك وعمري ابتدا لما بقيتي على اسمي." 
ثم مد يده ببطء نحو حجابها، رفعه برفق، فانسكبت خصلات شعرها الحريريّة على وجهها كأنها لوحة من الحُسن اكتملت للتو. تأملها بعينين مشعتين بالحب، ثم لمس خصلاتها بيده وكأنّه يتحسس نعمة لا تُقدّر بثمن. 
جلسا سويًا، ويده تمسك بيدها، وهو لا يكف عن النظر إلى ملامحها: 
"عارفة يا مريم، لما ماما ماتت كنت صغير أوي… كنت وحيد. بابا كان دايمًا مشغول بشغله، وكنت طفل انطوائي، ودايمًا كنت بحلم يكون عندي أخت أهتم بيها، أعيش معاها كل لحظة… لكن ربنا أراد غير كده. ولما شوفتك، حسّيت بمشاعر كتير… حسّيتك أختي، وبنتي، وصاحبتي، وزوجتي… أميرتي المتربعة على عرش قلبي. دايمًا كنت بحلم أشوف شكلك وإنتي نايمة، وإنتي صاحبة. حلمي إني أعوض كل حاجة كان نفسي فيها، وأحققها معاكي. من فرحتي… خايف أكون بحلم." 
اقتربت منه مريم أكثر، وابتسامتها تعلو وجهها، عيناها تلمعان بالدموع 
لتقول بصوت مرتجف من السعادة: 
"أنا معاك… وكل ماليك… أنا منك إنت، وإنت مني… ، صاحبتك، وبنتك، ومراتك، وكل حاجة ليك في الدنيا… بحبك." 
لم يستطع مقاومة مشاعره، فقبّلها مرة أخرى، قبلة مشتعلة بالمحبة، ثم فجأة سُمع صوت خطوات تقترب، فتوقف فجأة، مضطرًا للابتعاد عنها، ووجهه لا يزال محتقنًا من المشاعر. 
دخلت الخالة بابتسامة طبيعية، جلست تتحدث معهما لبعض الوقت، يحاول كل منهما التماسك أمامها رغم نظرات الحب المتبادلة. 
وحين طال الوقت، استأذن زيدان في الانصراف، لكنه وقبل أن يخرج من الباب، مال بخفة نحو مريم، طبع قبلة سريعة على شفتيها، ثم ركض خارجًا وهو يضحك كطفل صغير هرب من عقاب، بينما قلب مريم يخفق كأنّه طائر صغير تحرر من قفص. 
******* 
في صباح اليوم التالي لحفل الزفاف، اجتمع الجميع في المطار ليودّعوا يونس وعائشة، اللذَين استعدّا للسفر إلى وجهةٍ ساحرة لقضاء شهر العسل. العيون تلمع، والمشاعر مختلطة ما بين الفرحة والحنين، وعائشة تحتضن الخالة ومريم بقوة بينما يونس يودّع زيدان بابتسامة دافئة وامتنان واضح. وبعد لحظات من العناق والضحكات، غادرا وسط دعوات الجميع بالسعادة. 
وبعد وداع العروسين، قرّر زيدان أن يخطف لحظة خاصة مع مريم. فتح لها باب السيارة برقة، ممسكًا بيدها وكأنّه لا يريد أن يتركها للحظة واحدة. جلست بجانبه، وابتسمت له بخجل، فانطلق بها نحو مطعم أنيق يطلّ على نهر النيل. كان الجو هادئًا، والمكان يعبق برائحة الزهور ونسمات النيل الباردة التي تداعب الأرواح. 

جلست مريم أمامه، تحاول أن تخفي ارتباكها بابتسامة خفيفة، بينما هو لا يرفع عينيه عنها، غارقًا في تفاصيل وجهها، ضحكتها، وكل تصرف عفوي يخرج منها. كانت تمازحه بطريقتها المعتادة، تضحك وتقوم بمقالب خفيفة تُثير ضحكه وتزيد تعلقه بها كل لحظة. 
مد يده بهدوء وأمسك يدها، ثم طبع عليها قبلة دافئة مليئة بالحب والحنين، وهمس بصوت خفيض: 
"مريوم… روحي." 
مريم بخجل: 
"نعم؟" 
زيدان وهو يتنهد بنفاذ صبر: 
"بُصي بقى، أنا بصراحة مش هقدر أستنى أكتر من كده… أول لما يونس يرجع لازم نتجوز." 
تجمّدت يدها في يده لثوانٍ، ثم سحبتها سريعًا بتوتر ظاهر: 
"والدراسة … إنت عارف… دي أول سنة ليا… وأااا يعني… أنا مش جاهزة وكده." 

نظر إليها زيدان بعينين مليئتين بالحنان والقلق، وصوته يحمل مزيجًا من العتاب والطمأنينة: 
"مريم… إنتِ خايفة مني؟" 
مريم بارتباك 
"ها؟ لا لا والله… مش كده خالص… بس يعني… أنا لسه بتعود على وضعنا وكده يعني." 
مال نحوها قليلًا، ونبرة صوته هدأت وهو يضغط على كلمات مشبعة بالصدق: 
"مريم… حبيبتي، أنا مش عايزك تخافي مني، أنا لما صدقت إنك تكوني ليا وعلى اسمي… ده كان حلم حياتي، وربنا ما خزلنيش الحمد لله. نفسي نتجمع في بيت واحد، أنا وإنتِ، نبدأ حياتنا سوا." 
كانت كلماته كأنها نسمات دافئة تطمئن قلبها المرتبك، لكنها لم تستطع إخفاء خوفها العميق، فنظرت إليه بعينين دامعتين وهمست بصوت مكسور: 
"زيدان… أنا خايفة… خايفة مقدرش أسعدك، وخايفة تبعد عني بعد ما تعلقت بيك." 
تأثر زيدان بشدة، وضغط على يدها بحنان شديد، وابتسامته الصغيرة تحمل ثقة وحب لا يُقارن: 
"عمري ما أبعد عنك أبدًا… إنتِ حب عمري… ده أنا أخطُفك أصلاً." 
ضحكت بخفة، ووجهها ما زال محتقنًا بالخجل، ثم همست وهي تبتسم: 
"زيزو…" 
التفت فجأة حوله، وهو يتظاهر بالبحث عن أحد، نظرت إليه باستغراب واضح 
"مالك يا حبيبي؟" 
"لاقيتك بتندهى على حد… بدور عليه." 
لم تستطع كتمان ضحكتها، فهمست له بدلال: 
"إنت زيزو يا حبيبي." 
رفع حاجبه بدهشة مصطنعة، وقال بنبرة مشاغبة: 
"زيزو مين يا شبر؟! واقطع بقى… أنا يتقالّي زيزو؟!" 
اردفت بغضب مصتنع 
أنا شبر وأقطع؟ طب وربنا ما أتجوز إلا بعد السنة دي ما تخلص." 
رفع حاجبيه مصدومًا وهو يضرب كفًا بكف: 
"ينهار إسود… سنة؟ ده أنا أصوّرلِك قتيل!" 
ضحكت وهي تنهض، تهرب منه بخفة، بينما هو يلاحقها بعينيه وضحكته تملأ الأرجاء، قلبه يدق بعنف من حب لا يعرف له حدود، وهي تركض أمامه كفراشة صغيرة، تسكن روحه ولا يريد منها خلاصًا. 
******** 
في أحد منتجعات السياحية 
كانت الشمس تغيب رويدًا رويدًا، تُنثر أشعتها الأخيرة على صفحة البحر التي تلوّنت بدرجات البرتقالي والذهبي، وكأن السماء تهمس بحنان: "هنيئًا لكما هذا المساء." 
عائشة كانت واقفة تطل على الأفق اللامتناهي، فستانها الأبيض البسيط يتحرك بخفة مع نسمات البحر، وكأن الهواء يحتضنها برقة. شعرها المتدلّي على كتفيها تراقص مع النسيم، وعيناها كانتا غارقتين في البحر كأنها تحكي له حكاية حبها التي بدأت أخيرًا تجد طريقها للسلام. 
خرج يونس بهدوء، خطاه كانت ناعمة كأن قلبه يخشى أن يُربك اللحظة. وقف خلفها بخطوة، يراقب تفاصيلها الصغيرة التي طالما حلم أن ينتمي إليها. كانت أمامه لا ترتدي فقط ثوبًا أبيض، بل ترتدي الحياة كما يجب أن تكون. 
اقترب منها ببطء، مدّ ذراعيه ليحيط بها من الخلف، صوته خرج ناعمًا دافئًا كنسيم الغروب: 
_ "وحشتيني... حتى وإنتي جنبي كده." 
ابتسمت، ولفّت رأسها ناحيته برقة، نظرتها كانت دافئة، وصوتها مزيج بين خجل وحنان: 
واناهفضل معاك العمر كله؟!" 
ضحك يونس، ضحكة خافتة فيها امتنان وحب، شدّها أقرب إليه كأنه بيحاول يضم عمره كله بين ذراعيه، وقال وهو غارق في عينيها: 
_ "إنتي عمري اللي كنت مستنيه… ولما لقيتك، حسيت إني اتولدت من جديد." 
نظرت له بعينين تلمعان بدموع ممتزجة بالسعادة، ووضعت يدها برفق على خده، لمسته كأنها تتأكد أنه حقيقي، أن الحلم أخيرًا بقى واقع. صوتها كان أهدأ من الموج، لكنه وصل لقلبه كصرخة حب: 
_ "أنا كنت بدعي ربنا كل يوم إني أعيش اللحظة دي معاك… إني أبقى مراتك، حبيبتك، كل حاجة ليك." 
اقترب منها أكثر، أمسك وجهها بكلتا يديه، ونظر في عينيها نظرة طويلة عميقة، كأن الزمن توقف عندها، ثم همس: 
_ "وإنتي بقيتي كل حاجة… ومش ناوي أضيع لحظة واحدة من غيرك." 
مسح على خدها بطرف أصابعه، قبّلها قبلة هادئة صامتة، لا تحمل شهوة بقدر ما تحمل حنينًا متراكمًا، وامتنانًا لأنهما وصلا إلى هذه النقطة بعد كل ما مرا به. 
كانت ملامحهما ساكنة، ولكن عيونهما كانت تصرخ بكل الحب اللي ما اتقالش… وبكل الوجع اللي انتهى أخيرًا. 
دخلا إلى الداخل، حيث الأضواء الخافتة صنعت هالة دافئة حول الطاولة الصغيرة. شموع مشتعلة وورود بيضاء مبعثرة برقة على المفرش، وكأسين من عصير الفواكه ينتظران لمسة منهما. 
يونس شد لها الكرسي وهو بيبتسم: 
_ "أول عشا لينا كزوجين … ونويت أكون دايمًا جنبك، في كل يوم وكل لحظة." 

جلست عائشة وهي تبتسم بخجل، قلبها يدق بعنف، لكنه دقّ مختلف… دقّ فيه طمأنينة، ودفء، ووعد بالسعادة. نظرت له نظرة طويلة، ثم همست: 
_ "على فكرة، أنا مش بس حبيتك… أنا قررت أحبك أكتر كل يوم." 
ضحكت بخفة، والدمعة تخرج من عينيها بدون ما تحس، دمعة من فرط الفرح، دمعة كانت شاهدة على إن قلبها اتلم أخيرًا. 
_ "وأنا هحبك بكل حاجة 
في تلك اللحظة، لم يكن هناك صوت يعلو على همس البحر من بعيد، ولا نور يتفوق على الوميض في أعينهم. كانا جسدين، لكن قلبًا واحدًا ينبض في انسجام، كأن الكون كله صمت ليُبارك بداية هذا الحب الذي وُلد من الرماد، وها هو يفتح أول فصوله بهدوء، على أنغام النسيم ورقصات الشموع. 
****** 
مرّ شهر كامل على عائشة ويونس، بعد عودتهما من رحلة شهر العسل… 
كان الهدوء يسكن أركان المنزل، إلا من صوت التلفاز الخافت ونسمات الهواء التي تعبث بستائر الشرفة برفق. جلس يونس على الأريكة، مسترخيًا بملامح مرتاحة بعد أيامٍ من السكون والسكينة، وبين يديه كتاب يقرأه بتركيز. 
دخلت عائشة وهي تحمل صحنًا زجاجيًا مليئًا بقطع الفاكهة الملونة، وقد ارتسمت على وجهها ابتسامة حنونة. اقتربت منه بخطوات ناعمة، وضعت الصحن أمامه، ثم جلست بجواره، وقطعت له قطعة صغيرة من تفاحة حمراء، وضعتها في فمه برقة. 
مضغها يونس بتلذذ واضح، أغمض عينيه للحظة كأنها تحمل نكهةً مضاعفة لا علاقة لها بالتفاح… بل بطريقتها، بلمستها، بحبها. 
نظرت إليه عائشة بنظرةٍ تحمل جدية واضحة، لم تكن عابرة… التقطها فورًا. 
قالت بصوت ناعم، لكنها مترددة قليلًا: 
_ "يونس... حبيبي، عايزة آخد رأيك في حاجة." 
رفع عينيه عن الكتاب، ونظر إلى ملامح وجهها المتأملة، جلس باعتدال وقد أحس بثقل ما ستقوله: 
_ "مالك يا حبيبتي؟ قوليلي، عايزة إيه؟" 

تنهدت عائشة ببطء، كأنها تستجمع شجاعتها، وعيناها امتلأتا بشجن قديم لم ينطفئ: 
_ "بص... أنا طول عمري مهتمتش بالفلوس. بالنسبة لي كانت وسيلة مش أكتر… نعمة من ربنا على مجهودنا وتعبنا. بس بعد اللي حصل معايا… بعد ما ضاعوا أهلي وإخواتي بسببها… أنا مش عايزاها، خالص. 
حاسّة إنها بقت حمل على كتافي… مش هينزل. دايمًا هفتكر إنها تمن دمهم… دمهم اللي راح هدر… ومقدرتش حتى آخد حقهم. 
علشان كده... فكرت أستخدمها في صدقة ليهم… إيه رأيك؟" 
صمت يونس للحظة، ثم أمسك يدها برفق، ضغط عليها كأنه يرتب على وجعها: 
_ "حبيبتي… اعملي اللي يريحك. اللي يخليكي مطمنة… أنا معاكي في كل حاجة." 
رفعت عائشة عينيها إليه، ونبرة صوتها بدأت تستعيد قوتها: 
_ "بص... مفيش أحسن من دور الأيتام. اليُتم ده حاجة صعبة قوي… بتكون نفسك في الحاجة ومش عارف تجيبها. 
بس أنا مش عايزة الفلوس دي تبقى في إيد ناس تستغلها… مش عايزة يبقى فيه ماجد جديد!" 
ابتسم يونس بهدوء، وقدر غضبها وخوفها في آن واحد، ثم مال نحوها وقال بنبرة محببة: 
_ "عندي ليكي الحل… بس بشرط." 
نظرت له، ابتسامة صغيرة بدأت تتسلل لشفتيها: 
_ "إيه هو؟" 
_ "الحل ده… ميخدكيش مني." 
ضحكت وهي تهز رأسها، وقالت بنبرة دافئة: 
_ "موافقة." 
أمسك يونس يدها من جديد، عيونه كانت مليانة ثقة وطمأنينة: 
_ "بصي يا ستي… في عائلات كتير محتاجة، ربنا قال عنهم: تحسبهم أغنياء من التعفف… الناس دي عندها حياء فطري رهيب، لو هيموتوا عمرهم ما يمدوا إيديهم. 
إيه رأيك تتكفلي بيهم؟ وأنا أعرف عائلات كده. 
غير كده كمان، ممكن تعملي مشروع صغير… يدور المال وفي نفس الوقت يشغّل ناس محتاجة فعلاً… ويبقى فيه خير ليهم وليكي، وتوصّلي بيهم لبرّ أمان حقيقي." 
أومأت عائشة بحماس، وجهها بدا مشرقًا كأن عبئًا ثقيلاً بدأ يتلاشى: 
_ "أنا موافقة على كل حاجة… بس فيه حاجة كمان… عايزة أعمل لخالتي عمرة." 
نظرت إليه بامتنان عميق، ودمعة فرح لمعت في عينيها: 
_ "أنا بحبك أوي يا يونس… إنت غالي… غالي أوي أوي. 
أنا مش عارفة أعبّر لك عن كل اللي جوايا… إنت يفتخر بيك الكل." 
اقتربت منه فجأة، جلست على قدميه كطفلة تبحث عن حضنها، واحتضنته بسعادة تشبه النجاة. 
ضمّها يونس لصدره، قبّلها فوق جبينها، ثم حملها بذراعيه دون كلمة، وتوجه بها نحو غرفتهم. 
وأسدل الليل ستائره على مشهد دافئ، حيث سكتت شهرزاد عن الكلام المباح… ليبدأ فصلٌ جديد من حكايتهم، تُروى فيه المشاعر بالأفعال لا بالكلمات. 
***** 
أشرقت شمس يوم جديد، ولكنها لم تكن تحمل في نورها دفئًا لعائشة، بل استيقظت على فقدٍ لم تشعر به إلا حين ابتعد عنها يونس للحظات. 
كانت تغطّ في نوم عميق بين ذراعيه، تشعر بالأمان والسكينة، كأن الحياة استقرت أخيرًا في صدرها… ولكن، رنين الهاتف قطع هذا السلام. 
ابتعد يونس عن سريرهما بهدوء، التقط هاتفه حين لمح اسم "زيدان"، واتجه نحو الشرفة ليرد بعيدًا عن مسامعها. 
_ "يونس… عامل إيه؟" 
_ "الحمد لله… إنت عامل إيه؟" 
سادت لحظة صمت مريبة، ثم جاء صوت زيدان منخفضًا، يحمل ثقلاً لا يخفى: 
_ "بخير الحمد لله… بس عندي خبر وحش." 

تغيرت نبرة يونس، واعتدل واقفًا كأن قلبه خفق بعنف: 
_ "خير؟ فيه إيه؟" 
_ "عم عائشة… في المستشفى، حاول ينتحر… ولحقوه بالعافية." 
شهق يونس بصوت مكتوم، كأن وقع الكلمات ضرب صدره: 
_ "معقول؟ هو فاكر إن ده حل يعني؟ طب عامل إيه دلوقتي؟" 
_ "بخير، لكن… طالب يشوف عائشة." 
رمش يونس بعينيه في توتر، ونبرة صوته أصبحت أكثر حدة: 
_ "خرج عائشة من الموضوع يا زيدان… أنا مش هعرض مراتي لأي موقف، مش دلوقتي." 
لكن قبل أن يُكمل، خرجت عائشة من الغرفة، ملامحها يعلوها القلق، فقد استشعرت غيابه من بين أحضانها كأن شيئًا انتُزع منها. اقتربت بخطى مترددة، ووضعت يدها على كتفه برفق. 

التفت يونس نحوها، ليتفاجأ بعينيها تغرقان بالدموع، كأنها سمعت كل شيء… أغلق الهاتف فورًا، وضمها إلى صدره بحنانٍ يشبه الغطاء، كأنّه يحاول حمايتها من كل ما يؤلم. 
_ "ليه بيحصل معايا كل ده؟" 
قالتها بصوتٍ مبحوح مخنوق بالبكاء. 
_ "كان فيها إيه لو كان ليا أهل يحبوني وأحبهم؟ الفلوس عملت إيه؟ غير إنها كسرت وفرقت وحرّقت قلوبنا… استفادوا إيه؟" 
ربت يونس على ظهرها بحنان عميق، وهمس بصوت دافئ يشبه نسمة شتاءٍ حنونة: 
_ "انسي يا روحي… انسي، كل حاجة هتروح وهتتنسي… بس إنتي متعيطيش." 
ابتعدت عنه قليلًا، تمسح دموعها بيدٍ مرتجفة، ثم نظرت في عينيه برجاء: 
_ "عايزة أشوفه يا يونس… خليني أروح له." 
هزّ رأسه نافيًا، قلبه يعتصره الخوف عليها: 
_ "لأ يا عائشة… مش عايزك تشوفيه… عايزك تنسي، وبس." 
لكنها اقتربت أكثر، أمسكت يده، وهمست: 
_ "علشان خاطري يا حبيبي." 
تنهد يونس وهو يرفع يدها إلى شفتيه: 
_ "خاطرك على عيني… ماشي. بس بشرط: لو تعبتي، هاخدك ونمشي، تمام؟" 
_ "تمام… هروح ألبس." 
بعد دقائق، غادرا إلى المستشفى. خطواتها كانت مترددة، وقلبها يدق بعنف، بين وجع الماضي وخوف المواجهة. دخلت الغرفة… وهناك، على الفراش الأبيض، جلس رجلٌ شاحب، مقيد اليدين، شارد النظرات، ملامحه قريبة من ملامح والدها. 
اقتربت عائشة ببطء، لتتلاقى عيناها بعينيه… امتلأت نظراته بالحزن، ثم أشاح وجهه نحو النافذة وقال بصوت مكسور: 
_ "كنت مستنيكي من زمان… نفس ملامح أبوكي، وعيون أمك. 
أمك… اللي زمان كانت السبب في بعدي عن أخويا الصغير. 
حبيبتها من أول مرة شفتها… طيبتها، وأخلاقها، وتربيتها تخلي أي حد يتمناها تكون مراته. 
بس للأسف، أبويّا أصر إني أتجوز بنت شريكه، علشان يحميها قبل ما يموت. 
وقتها حسيت إن قلبي وقف… حلمي بيتكسر قدامي. 
كرهت نفسي… وكرهت الدنيا كلها. 
اتجوزت، وخلفت ماجد. 
بس مراتي مكانش يهمها غير نفسها… إنسانة أنانية، حقودة، غيرتها من أمك عمتها خلّت كرهها ليها يزيد. 
واتنقل الكره ده لماجد. 
همّهم كان الفلوس… بأي طريقة. 
وأنا اتورطت… ومكنتش عارف أعمل إيه." 
كانت عائشة تستمع بصمت، ولكن كل جملة كانت تطعنها في قلبها، دموعها تتساقط دون توقف: 
_ "ليه؟ ليه اتحرمت من عيلتي كلها؟ عملنا إيه علشان أبويا رفض يستمر معاكو؟ 
الفلوس عملتلكم إيه؟ غير اللعنة! 
أنا عمري ما اهتميت بالفلوس… كنت نفسي في دفء، في حضن… أهلي اللي ماتوا وأنا مفرحتش بيهم، إخواتي اللي ابنك قتلهم بدم بارد… 
استفدتوا إيه؟ مات هو كمان! 
أنا عمري ما هسامحه… والفلوس دي اللي اتحارب وقتِل علشانها… أنا اتبرعت بيها كلها! 
مش عايزة مالكم الحرام… أنا عايزة حياتي." 
قال  بصوت مرتعش، تتخلله الدموع: 
_ "سامحيني يا بنتي… مش بإيدي، والله." 
ردت عائشة بنبرة غاضبة باكية: 
_ "السماح ده لله… لو رجّعتلي إخواتي، هسامحك… تقدر؟" 
هز رأسه بندمٍ عميق، وعيناه تفيض بالدموع. 
ركضت خارج الغرفة، دموعها تنساب على وجنتيها، وصرخة ألم تخنقها. احتضنها يونس بقوة، وهي تبكي بصوتٍ عالٍ: 
_ "ليه؟ ليه الرحمة انعدمت من قلوب البشر؟" 
ثم… سقطت بين ذراعيه، فاقدة الوعي. 
حملها يونس بلهفة، وركض بها إلى غرفة الطبيبة، التي استقبلتهما بقلق، وبعد الفحص… جاءت البشرى. 
عائشة حامل… بتوأم. 
كان فضل الله عظيمًا… صبرت، فجازاها. وجدت الحنان في قلب رجلٍ أحبها، فكان لها وطنًا وأمانًا. وحملها كان رسالة من الله: "لستِ وحدكِ… هناك حياة تنمو داخلكِ." 
عادا إلى منزل خالة يونس، حيث استقبلتهما مريم بالفرح والترحاب. 
جلست عائشة قربها، ونظرت إلى يونس نظرة خفيفة كأنها تستأذنه، ثم التفتت نحو خالته وقالت: 
_ "خالتي…" 
_ "نعم، حبيبتي؟" 
أخرجت عائشة ظرفًا من حقيبتها، ومدّته لها بابتسامة خجولة: 
_ "أنا فكرت في هدية أجبها لك… دورت كتير، بس ملقتش أحسن من دي." 
فتحت خالته الظرف، فقرأت الكلمة المكتوبة… "عمرة"، لتغرق عيناها بدموع الفرح: 
_ "عمرة؟!" 
قالت عائشة والدموع تلمع في عينيها: 
_ "حسّيت إنها أكتر حاجة هتفرّحك… تقبلي هديتي مني، يا أمي؟" 
تجمدت خالته في مكانها، عيناها مفتوحتان بدهشة: 
_ "إنتي قلتي إيه؟" 
نهضت عائشة واقتربت منها، أمسكت يدها وقالت: 
_ "أنا اتحرمت من أمي، ومن وانا صغيرة ملحقتش أشبع منها… 
وبرغم إنك متعرفينيش، أول لما احتجتلك… احتوتيني بحنانك كإنك أمي. 
علشان كده… لو تسمحيلي، عايزة أقولك (يا أمي)." 
فتحت خالته ذراعيها، واحتضنتها بقوة والدموع تتساقط: 
_ "اسمحلك؟ ده إنتي رديتيلي روحي النهارده… عوضتيني بكلمتك عن كل حزن شوفته. 
أنا أمك، يا روحي… من هنا وجاي، أنا أمك." 
بكت عائشة بحرقة… لكن للمرة الأولى، كان بكاءها فيه دفء… فيه انتماء. 
جلس يونس ومريم يراقبان المشهد، ودموع التأثر تملأ عيونهما، بينما بدأت عائشة تحكي لخالتها عن المشروع الذي قررت إنشاءه لأجل الأيتام… لأجل أرواح فقدت أهلها، كما فقدت هي. 
لكنها الآن… تعيش البداية الحقيقية لحياة جديدة. 
****** 
مرّت خمس سنوات، وكأنها حلمٌ جميل أفاقوا فيه على حياة لم يتوقعوها، ولكنهم استحقوها. الشمس تُشرق على بيتٍ امتلأ دفئًا وضحكًا، وصوت طفلين يركضان في أنحاء المنزل، يملآن أرجاءه صخبًا وبراءة. 
كانت عائشة تجلس في الحديقة الصغيرة، ترتدي فستانًا بسيطًا، ينسدل على جسدها بنعومة، بينما تراقب طفليها مريم ومالك وهما يركضان أمامها، ضحكاتهما تطرق قلبها بفرح لا يوصف. وجهها يحمل هدوءًا عميقًا ورضا يشع من عينيها. خمس سنوات مضت، وكل ندبة في قلبها أصبحت ذكرى بعيدة، وكل وجع تحوّل لقوة. 
مريم الصغيرة تشبهها كثيرًا، لها نفس الضحكة ونفس ملامح الطفولة الهادئة، أما مالك، فكان نسخة مصغرة من يونس، بنفس الملامح الحادة والعينين الذكيتين. 
دخل يونس إلى الحديقة مرتديًا بدلته الرسمية، على كتفه نجوم تدل على رتبته الجديدة. اقترب منها وهو يبتسم بفخر، ثم انحنى ليطبع قبلة على جبينها. 
"صباح الخير يا ست الكل.. أولادي فين؟ قلبوا الدنيا كالعاده؟" 
ضحكت وهي تشير للجهة الأخرى من الحديقة: 
"ورا الشجرة بيتخانقوا على الكورة.. روح شوف مين فيهم اللي كسب." 
جلس إلى جوارها، وأمسك يدها بين يديه، ينظر لعينيها بنفس الحب الأول، وكأنها لا تزال تلك الفتاة التي أنقذها من ظلامها. 
"مش مصدق إننا وصلنا لليوم ده.. كنت دايمًا واثق إننا نقدر نعدّي، بس ماكنتش أعرف إن ربنا هيكرمنا بالشكل ده." 
ابتسمت بحنان: 
"أنا اللي ماكنتش مصدقة إن ممكن أعيش لحظة زي دي.. بس طول ما إنت جنبي، كل حاجة بقت أمان." 
وفي زاوية الحديقة، ظهرت مريم (الأخت) ترتدي بدلة رسمية أنيقة، تمسك بحقيبة جلدية وكاميرا صحفية تتدلّى من كتفها. كانت عيناها تلمعان بنجاحٍ تعبَت لأجله، ووجهها يشع فخرًا وهي تقترب منهم. 
"أنا رايحة أعمل لقاء مهم جدًا عن قضية أطفال الشوارع.. دعولي، دي ممكن تبقى نقلة كبيرة ليا." 
عائشة نهضت تحتضنها بفخر: 
"ربنا يوفقك يا روحي.. انتي قدها، وزيادة كمان." 
"أنا من النهارده بقيت أقول للناس أختى بقت صحفية مشهورة." 
ضحك الجميع، بينما جلس مالك في حضن أمه، ومدّت مريم الصغيرة يدها لتتعلّق بأبيها، كأن الحياة قد منحتهم تعويضًا عن كل ما مضى. 
رفعت عائشة رأسها إلى السماء، عيناها تلمعان بالدموع، ولكنها دموع امتنان هذه المرة، ثم همست: 
"الحمد لله يا رب.. عوضتني عن كل لحظة وجع بحياة مليانة حب ودفا." 
في تلك اللحظة، لم يكن هناك ماضٍ مؤلم ولا خوف قادم.. فقط عائلة متماسكة، وحب حقيقي، وأمل لا يموت. 

تمت بحمد الله 

تعليقات



×
insticator.com, 6ed3a427-c6ec-49ed-82fe-d1fadce79a7b, DIRECT, b3511ffcafb23a32 sharethrough.com, Q9IzHdvp, DIRECT, d53b998a7bd4ecd2 pubmatic.com, 95054, DIRECT, 5d62403b186f2ace rubiconproject.com, 17062, RESELLER, 0bfd66d529a55807 risecodes.com, 6124caed9c7adb0001c028d8, DIRECT openx.com, 558230700, RESELLER, 6a698e2ec38604c6 pmc.com, 1242710, DIRECT, 8dd52f825890bb44 rubiconproject.com, 10278, RESELLER, 0bfd66d529a55807 video.unrulymedia.com, 136898039, RESELLER lijit.com, 257618, RESELLER, fafdf38b16bf6b2b appnexus.com, 3695, RESELLER, f5ab79cb980f11d1