رواية عشق لا يضاهي الفصل المائة والرابع و السبعون 174 بقلم اسماء حميدة

 

 رواية عشق لا يضاهي الفصل المائة والرابع و السبعون

وكوثر كعادتها لم تجمل الكلمات
يا له من أحمق!
ابتسمت سيرين ابتسامة باهتة كأنها تواسي نفسها أكثر مما تواسي صديقتها وقالت بنبرة فيها قدر من العزم
وفي قلبها  كانت تسعى لاسترداد نوح الذي قد يسلبه الموت منها ستسترده
بصمت بإصرار وبزهر ينبت من الرماد.

بعد أن أسدلت الستار على مكالمتها مع كوثر وضعت سيرين هاتفها جانبا ثم نهضت بخطوات متأنية كمن يسير داخل صدى ذكرياته... لم تكن الزهور كافية هذه المرة كانت تريد ما هو أعمق شيئا يمس الروح لا العين فقط لذا توجهت إلى غرفة الموسيقى... هناك حيث عانق البيانو صمتها كأنه ينتظر أصابعها منذ سنوات فجلست أمامه تعزف لنفسها مرثية... كل نغمة كانت تسقط من أناملها كقطرة ماء على زجاج نافذة في شتاء بارد... واضحة... محملة بشيء لا يمكن للكلمات التعبير عنه.
ومع مرور الوقت تسلل القلق إليها بلا سبب محدد كما تفعل المشاعر الغامضة دوما وإذا بها تنهض من أمام البيانو وغادرت الغرفة كمن أفاق من حلم ناقص واتجهت نحو الخارج.
في الحديقة لمحت طيفا مألوفا نسيه الزمن في زاوية من زوايا الذاكرة... كان حسن كبير خدم آل نصران واقفا وسط حشد من العمال كقائد أوركسترا يسير لحنا خفيا... بذلته الرسمية... شعره الأبيض المصقول... عينيه اللتين تحملان سنوات من الانضباط والفتور كل شيء فيه كان يوحي بأنه لم يتغير إلا الزمن الذي استقر على ظهره كعباءة ثقيلة.
حين رآها توقف لحظة كمن يشك في ما يرى ثم استعاد رباطة جأشه وتقدم نحوها بانحناءة طفيفة لا تحمل ودا

بقدر ما تحمل واجبا.
قال حسن بصوته الأجش المصقول بأدب جاف
سيدة تهامي هل أزعجناك بوجودنا
لكن ما تلا عبارته كان كطعنة مغطاة بالمخمل إذ أضاف وعيناه لا تخفيان استعلاء باردا
حتى لو كنت أعلم بوجودك أظن أنك لن تنتبهي إلينا نظرا لإعاقتك السمعية.
تجمد الزمن لوهلة لكن سيرين لم ترتبك بل ارتسمت على شفاهها ابتسامة مشوبة بالمرارة وقالت بنبرة تحمل في طياتها كبرياء الجرحى
رب صمت يفهم أكثر من حديث ضاج بالنفاق يا حسن.
ثم مالت قليلا نحو الزهور كأنها تستمد منها عزيمة الأرض.
لكن حسن لم يتراجع بل أكمل حديثه وهو يعدل كمه برتابة موظف حكومي
ومع ذلك دعيني أسدي لك نصيحة الساعة الآن العاشرة صباحا في مثل هذا الوقت سيدات الطبقة الرفيعة لا يتجولن عبثا في المنزل.
حدقت به سيرين طويلا نظراتها كانت كالسيف المغمد لا يشهر لكنه يهدد... لكن قبل أن تنطق عاجلها حسن بعبارة أخرى كانت كالحجر يلقى في بركة ساكنة
إن لم يكن لديك ما يشغلك أقترح أن تعودي إلى غرفتك وتتركي العمال يؤدون عملهم بسلام... ما رأيك آنسة تهامي
ترددت الكلمات في صدرها كطبول حرب لم تقرع بعد لكنها لم تجبه بل أدارته ظهرها بخفة ومضت كأنها قررت أن يكون ردها من نوع آخر لا صخب فيه بل فعل.
.. والفعل وحده أقسى من ألف رد.
في سالف الأيام كانت سيرين تظن أن حسن كبير الخدم العتيق يسعى بإخلاص لتعليمها كيف تكون زوجة صالحة لظافر. صدقته بل آمنت أن نواياه نقية وأن صوته الخشن حين يوجهها ليس سوى انعكاس لحرصه... كانت تستمع إلى مواعظه كما تستمع التلميذة المتفانية إلى معلمها الأول تكتب دروس الطاعة في قلبها بالحبر الذي لا يمحى.
لكن ما لم تتوقعه هو أن تسمع يوما صوتا ينسل من خلف باب موار يحمل نبرته المتعالية وهو يهمس لابنته
إنها طفلة برية جاءت من الريف كمن جاء بثيابه المبللة إلى قاعة فاخرة تصدق كل ما يقال لها.
كأن خنجرا غرس في صدرها آنذاك فهو لم يكن يرشدها بل كان يروضها لم يكن يوجهها بل كان يسقط سلطته فوقها متخفيا في عباءة الحكمة.
حينها فقط أدركت سيرين أن حسن لم يكن يراها زوجة ظافر بل فتاة قروية تسللت إلى عالم لا يليق بها في عينيه وكان يستمتع بذلك متعة الذئب حين ينجح في إقناع الحمل بأنه مدين له بالحماية.
والآن وهي تقف أمامه وعيناه تراقبانها بشيء من التوبيخ المبطن شعرت بقوة جديدة تتفجر من داخلها.
قالت وهي ترمقه من أعلى كتفها بنبرة حازمة تحمل ما يكفي من العنفوان لكسر صمت السنوات
أخشى أنك مخطئ يا حسن أنا لست
واحدة من تلك السيدات اللواتي تصفهن ولا أريد أن أكون ولست معنية بأن أبلغ معاييرك الخاصة... أنا فقط كما أنا وابنة هذه العائلة كما شاءت الأقدار.
تردد صوتها كصدى خافت بين جدران الحديقة لكنه لم يجب.
ثم أضافت وهي تلتفت إليه بكامل جسدها تتقدم خطوة نحوه دون أن تخفض نظرها
كنت سأذهب إلى الشركة اليوم لكن قررت أنني لن أغادر. إن كنت ترى ذلك إشكالا فاتصل بظافر بنفسك.
كانت كلماتها كصفعة من حرير قوية دون أن تفقد أناقتها.
لأول مرة لم يجد حسن ما يقوله لذا كان الصمت سيد اللحظة إذ لم يكن يتوقع أن تواجهه تلك الفتاة البرية التي دربها على الطاعة.
لكنها لم تنتظر رده بل استدارت بشموخ امرأة نضجت أخيرا من رماد الخيبة وعادت إلى غرفة الموسيقى ومن ثم أغلقت الباب الزجاجي بهدوء وجلست أمام البيانو كمن يعود إلى ملاذه الوحيد وبدأت تعزف.
كانت النغمات تتسلل من تحت أصابعها كخيوط ضوء بين غيوم كثيفة ناعمة ولكنها حادة كالسكاكين المخفية.
أما حسن فظل واقفا للحظات يرمق الباب الزجاجي بنظرة باردة ثم زفر ببطء واستدار ليكمل عمله مع العمال... لم يكن في مزاج يسمح له بالهزيمة بل فكر بسخرية داخلية
يبدو أنني سأضطر للعودة كثيرا... ربما أعلمها من جديد كيف
تكون بنتا مطيعة لعائلة نصران.
لكن


الزمن كما علم سيرين لا يعود إلى الوراء ومن تذوق طعم الحرية لن يقبل مجددا فتات الخضوع.
ذلك اليوم لم تغادر سيرين عتبة القصر وحين بلغ الأمر مسامع ظافر لم يتمالك نفسه من الابتسام...
ابتسامة خفيفة أقرب لظلال ضوء شاحب تسلل خلسة إلى وجه اعتاد الصقيع.
ابتسامة لا يعرف لها سببا واضحا لكنه شعر بها تتسلل من روحه قبل شفتيه كأن شيئا بداخله تنفس الصعداء أخيرا.
مجرد زهور...
مجرد زهور كفيلة بأن تبقيها قريبة وتمنعها من الركض بعيدا كما اعتادت دائما.
ضحك فجأة ضحكة قصيرة جافة... 
ضحكة أربكت المدير الكبير الواقف أمامه والذي كان يقدم له التقارير
بتوتر رجل يزن كلماته على ميزان الخوف.
تجمد الدم في عروق المدير وارتجف صوته وهو يقول
سيدي... هل قلت شيئا أغضبك
لم يرد ظافر على الفور بل اكتفى بنظرة خاطفة إلى لا شيء كأنه استيقظ من حلم سريع ثم مسح بقايا الابتسامة عن وجهه واستعاد طباعه الباردة كالرخام المقطوع من جبال نائية
يمكنك الانصراف.
كلمات خرجت من فمه كأمر عسكري لا يقبل تأويلا فتنفس المدير بارتياح حذر وكأن الحياة عادت إلى صدره بعد غيابها.
ألقى ظافر نظرة على ساعته الفاخرة ثم التقط هاتفه واتصل بحسن كبير الخدم.
كيف يسير العمل في الحديقة
جاء صوت حسن من الطرف الآخر محملا بنبرة عمل مضني
لقد
بدأنا بالفعل في إزالة الزهور ذات حبوب اللقاح العالية ونستبدلها تدريجيا بأصناف أقل تأثيرا كما أمرت.
أغلق ظافر الهاتف دون تعليق ثم بحركة هادئة حزم أوراقه وغادر المكتب.
وفي تلك اللحظة كان طارق يطل من باب المكتب بنظرة قلقة... ملامحه تمزج بين الحذر والرغبة في المعرفة.
ظافر هل... كيف حال سيرين
كان هذا هو سبب مجيئه أساسا... سؤال واحد فقط يختزل قلقا لا يقال.
رمقه ظافر بنظرة مقتضبة كأنما أجابه من عمق صمته ثم قال بجفاف
بخير.
كلمة واحدة لا تفيض بشيء... ومشى بجانبه دون أن يمنحه فرصة لتوسيع الحديث.
شعر طارق بالعجز...
ذلك العجز الذي يشعر به من
يرى الباب مغلقا ويعرف أن من خلفه يختنق... كان يتمنى أن يعرف شيئا أكثر عن حال سيرين لكن اختراق أسوار ظافر أمر محفوف بالمخاطر خصوصا في ما يتعلق بها ورغم رغبته تراجع فمجرد السؤال كفيل بأن يثير شكوكا لا تغتفر لذا تابع طريقه بجانب ظافر يخفي قلقه كما يخفى الجمر تحت الرماد ورغم انشغاله بها كان ذهنه يتقلب في هم آخر زكريا.
ذلك الطفل الذي كانت تهمس له الشكوك بأنه ثمرة نزوة قديمة وبعدما أطلق رجاله خلف زكريا تبين له أنه مجرد طالب في روضة أطفال دولية... لم يغلق ملف تلك الحكاية بل بقي في قلبه ثقل لا تفسير له.
كان كل شيء من حوله يتحرك بثقل الزمن.
.. تسير ببطء لا يحتمل.
تعليقات



×
insticator.com, 6ed3a427-c6ec-49ed-82fe-d1fadce79a7b, DIRECT, b3511ffcafb23a32 sharethrough.com, Q9IzHdvp, DIRECT, d53b998a7bd4ecd2 pubmatic.com, 95054, DIRECT, 5d62403b186f2ace rubiconproject.com, 17062, RESELLER, 0bfd66d529a55807 risecodes.com, 6124caed9c7adb0001c028d8, DIRECT openx.com, 558230700, RESELLER, 6a698e2ec38604c6 pmc.com, 1242710, DIRECT, 8dd52f825890bb44 rubiconproject.com, 10278, RESELLER, 0bfd66d529a55807 video.unrulymedia.com, 136898039, RESELLER lijit.com, 257618, RESELLER, fafdf38b16bf6b2b appnexus.com, 3695, RESELLER, f5ab79cb980f11d1