رواية عشق لا يضاهي الفصل المائة السابع والثمانون
وهناك شيء آخر… ما رأته لم يكن يُوصف لكنه جعل قلبها يرتجف وأنفاسها تتباطأ، ودموعها تنساب دون أن تملك لها أمرًا.
توقفت عند العتبة، لم تستطع التقدّم… ولم تشأ التراجع… فالتفتت إليه وجدتهواقفًا خلفها، لا يبتسم، لا يقول شيئًا كأن حضوره وحده اعتراف أنه اليد التي دبرت كل شيء… وكأنّ صمته هو الجواب الوحيد الممكن.
كانت الغرفة ساكنة بصمت عتيق كأنها صندوق ذاكرة أغلق منذ دهر وأعيد فتحه على حين غفلة عبق الماضي يطفو من كل زاوية ذلك العطر القديم ذلك الأثاث الذي لم تغيره الأيام وتلك الذكريات التي لم تمح مهما طال الغياب كل شيء هنا كان ينتمي إليه إلى والدها
وكانت هناك وسط تلك الأطياف صورة لم تكن كأي صورة كانت هي مرسومة بأنامل أب أحبها حتى تفاصيل ظلها
اقتربت سيرين بخطوات مترددة تكاد لا تلمس الأرض وكأنها تخشى أن توقظ شيئا نائما تحت التراب ووقفت أمام اللوحة وشهقت بصوت حبيس
عشرون عاما كانت ترتسم على قماش اللوحة هي بفستان أبيض تجلس على الشرفة ممسكة بباقة من الزهور تبتسم في صمت طفولي
كم تشبهها وكم تبعد عنها الآن مدت يدها ببطء ولامست سطح اللوحة بأطراف أناملها المرتجفة كما لو كانت تلامس شبح أبيها نفسه
تمتمت سيرين بصوت متهدج أشبه بأنين
ظننت أنني لن أراها مرة أخرى
كانت تلك الصورة أغلى من أن توضع في مزاد فبعد وفاة والدها تساقط كل شيء فقد فشلت سارة وتامر في الإمساك بالإرث وتفتت البيت والشركة تهاوت وكل شيء عرض للبيع حتى الذكرى وآخر شيء كانت تتوقعه أن ظافر هو من سيعيدها إليها
ظل واقفا خلفها يراقب ارتجاف ملامحها بصمت مشوب بالعاطفة ومن ثم اقترب منها خطوة ثم قال بصوته الخفيض
يمكنك أن تعيدي كل شيء إلى القصر
لم يكن يريد
استعادة الصورة إو باقي المقتنيات بل أراد استعادتها هي بكاملها كأن هذا البيت القديم وهذه الذكرى هما الممر السري إلى قلبها
نظرت إليه بعين يملؤها الامتنان لكنها مشوبة بالحذر
شكرا لك
فابتسم هو ابتسامة باهتة وقال بنبرة نصف ساخرة نصف مكسورة
فقط لا تثيري نوبة غضبي مرة أخرى وسأمنحك كل ما تريدين
شحب وجهها قليلا وغاصت نظرتها في ظلمة لم تفصح عنها لكنها أومأت برأسها دون رد
ثم أخرج من جيب سترته بطاقة سوداء وناولها إياها دون أن يرمش
استخدميها كما تشائين
كانت تلك البطاقة من نوع لا يمنح إلا لصفوة النخبة لكنها لم تر فيها سوى قيد جديد فنظرت إليها ببرود ثم قالت بهدوء
لست بحاجة إلى هذا لدي مالي الخاص
توقفت يد ظافر في الهواء كأن الزمن نفسه توقف معها وبعد لحظة صمت ثقيل قال وكأنه يحاول تبرير خطأ لم يرتكبه
لكننا زوجان أليس كذلك هذه بطاقة مصروفك هكذا يفعل الأزواج
كانت تلك طريقته المرتبكة في التعبير عن رغبته بالبقاء بأن يجعلها تشعر أن المكان لها وأنه هو أيضا لها لكنها لم تجب بل أخذت البطاقة بفتور لا قبولا ولا رفضا بل كأنها تأخذ شيئا ستتركه لاحقا على طاولة النسيان
هو لم يكن يعلم أنها لم تلمس فلسا واحدا من الأموال التي خصصها لها منذ زواجهما لم يكتشف ذلك إلا بعد أن رحلت لكن الآن بعد وعدها له بالبقاء شهرا لاحظت شيئا آخر في
ظافر فهو لم يعد رجل الأعمال البارد الذي لا يقترب إلا حينما يريد بات يعانقها كل صباح يمسك يدها دون سبب ويقبلها في كل مساء وكأن شيئا ما ينكسر داخله كلما ابتعدت
شهر لكنه بدا وكأنه زواج حقيقي له حرارة الأيام الأولى ونبض الغيرة وطزاجة المشاعر التي ولدت متأخرة
وبعد أن قضيا ثلاثة أيام في مقاطعة سان عادا إلى المدينة سويا وكأن شيئا ما لم ينكسر بعد
وصلت عقارب الساعة إلى الثامنة مساء حين توقف ظافر عند ضفة النهر حيث اصطفت الأرواح الباحثة عن لحظة هروب من صخب الحياة في انتظار عرض الألعاب النارية الذي طالما ارتبط في ذاكرتهم بالدهشة والبهجة العابرة
وكانا هما أيضا هناك وسط الحشود واقفين جنبا إلى جنب في تلك اللحظة العابرة بدا وكأنهما مرآة لزوجين يحترفان السعادة أمام الغرباء نظراتهما ساكنة قريبة تكاد تخدع من يراهما بأن بينهما حياة من الطمأنينة لا هزائم فيها
ارتفعت شرارات الضوء إلى السماء وتفتحت أزهار النار فوق رؤوسهم كأنها اعترافات ملونة لا تحتاج إلى كلمات
رفعت سيرين عينيها إلى الأفق المضيء لكن قلبها لم يكن هناك بل كان في داخلها يضج بكلمات لم تنطقها بعد
كانت رغبتها ملحة ملتهبة كعود ثقاب على وشك الاشتعال أن تخبره أن تبوح له بأن نوح هو ابنه أن تلقي بالحقيقة في حضنه كما يلقى الطفل الأول بين ذراعي أب لا يعلم بوجوده
لكن صوت
الهاتف شق اللحظة كخنجر بارد إذ رن هاتف ظافر فكان اسم دينا يتوهج على شاشته كجرس إنذار يوقظ كل هشاشات الحلم
لم تكن سيرين تدري ما الذي قالته له لكنها رأت عينيه تتبدلان وفمه يضيق بقلق لم تعرف مصدره وها قد بدأ يهم بالرحيل فرفعت يدها باندفاع ومنعته وهي تقول بصوت خافت لكنه غاضب كما لو كانت تحاول الإمساك بما تبقى من الكرامة
ألم تقل إن لا أحد سيقاطعنا خلال هذه الأيام
أجابها وهو يبعد عينيه عنها
سنتحدث عندما أعود
لكنها تمسكت بكم قميصه كأنها تحاول التعلق بلحظة تنفلت بكلمة ستموت قبل أن تولد
فكر جيدا إذا غادرت الآن فلن أفي بوعدي
وعدها بأن تبقى بأن تمنحه شهرا كاملا كزوجة وعد كان أشبه بخيط رفيع في العتمة وها هي تهدده بقطعه
توقف للحظة وهو يتنفس بعمق ثم قال دون أن ينظر إليها
دينا حالتها حرجة الأطباء يحاولون إنقاذها في العناية المركزة سأطلب من أحدهم أن يعيدك إلى المنزل
ثم صعد إلى السيارة وأغلق الباب خلفه كأنه يغلق فصلا كاملا من الرواية وانطلق دون أن يلتفت
وقفت سيرين في مكانها تتلقى برودة الهواء وضوء الألعاب النارية المتساقط من السماء كحطام حلم لم يكتمل لكن الغريب أنها لم تشعر بالحزن لم تبك لم تنكسر
بل ابتسمت بسخرية باهتة كأنها تسخر من نفسها
كم كنت حمقاء
كادت أن تخبره عن نوح عن سرها الصغير المغروس كشتلة بين نبضها
لكنها صمتت وللمرة الأولى كانت ممتنة لذلك الصمت