رواية عشق لا يضاهي الفصل المائتان وواحد
كل طفل نشأ وهو يرى أباه وأمه معًا... أما أنا فقد ربتني أمي وحدها... أبي عليك أن تعتذر لها أولًا."
كانت الجملة كالسهم الذي استقرّ في قلب ظافر دون رحمة.
نظر إلى سيرين وارتجفت شفتاه لكن الكلمات لم تجد طريقها إلى الضوء.
فقط ظل ينظر إليها... كأن الاعتذار سُجن في عينيه ومن ثم.........
حتى ظافر نفسه اعترف وهو يبتلع ريقه بحذر كمن يبتلع خيطا من اللهبأن استفزاز نوح كان كالسحر الأسود يعبث بثباته ويدفعه دفعا نحو ما لم يتصوره يوما.
لا إراديا التفت ظافر نحو سيرين وعيناه تغزلان من صمتها جملة أراد لو تلاشت من فمه قبل أن ينطقها... لكنها خرجت
أنا آسف.
كانت الكلمة كطلقة طائشة في ليلة ساكنة ارتجت لها أعماق سيرين فاستدارت نحوه مذهولة وكأن أحدهم نطق باسمها من بين الغيب.
بقيت لبرهة عالقة بين الزمنين بين ماضيهما وما يحدث توا ثم تنهدت بصوت خافت أشبه بانكسار زجاجة في عرض البحر
لا بأس...
لم يكن هذا الاعتذار ثمرة ندم نابت من قلب ظافر بل كان ثمرة حيل نوح الماكرة... الصغير الذي توشح بالبراءة وتسلح بالخجل نجح في أن يقلب موازين الصمت.
تقدم نوح نحوه بعينين تتلألآن كحبات المطر المتساقطة في عز القيظ وقال بصوت يختبئ فيه الرجاء كعصفور صغير في عش مهجور
أبي أشعر بالملل من البقاء هنا وحدي كل يوم... هل تأخذني أنت وأمي اليوم لنلعب معا
كان تمثيل نوح عذبا متقنا كأن البراءة ذاتها تتكلم فكان من المستحيل على ظافر أن يرفضه فأجابه بهدوء رجل لم يدرك بعد أنه خسر المعركة
بالطبع.
وما إن نطقت الكلمة حتى شرع بتنظيم مرافق لنقله إلى مدينة ملاه قريبة آملا أن يغسل بها شيئا من ثقل الأيام ولكن قلب سيرين
لم يهدأ كانت تتابعه بعينيها كما تتعقب الروح ظل الجسد تخشى أن يصاب بأذى أو يعترض طريقه شيء.
عندما دخل الثلاثة المدينة بدوا كلوحة مكتملة الألوان يميزها من يراها لكن لا يفهم قصتها.
بعد بضع خطوات أنهك التعب ساقي نوح فبدأ يترنح ولما لم يمد ظافر يده لحمله أدرك نوح بيقين طفولي حزين أن أباه المتعجرف سيظل أعزبا مدى الحياة! لكن لحسن حظ ظافر كان جمال وجهه ووفرة ماله بمثابة تذكرة نجاة من اختبار الأبوة المتعبة.
أبي.. انظر إلى آباء الآخرين قالها نوح وهو يشير إلى رجل يعلو كتفيه جسد طفلته كأنها تاج على رأسه.
نظر ظافر نحو الرجل ثم إلى نوح ونفث كلماته بتقزز كمن يلفظ طعاما فاسدا
مستحيل.
لكن نوح لم يرضخ بل توقف عن السير وحدق فيه بعينين تحملان احتجاجا صامتا يقول بعذوبة
لكني أريدك أن تحملني يا أبي.
أردف ظافر بصوت مزج بين الضيق والحنان كطفل ناقم يملي شروطه
لكن لا تركلني. ثم انحنى وحمله بين ذراعيه كمن يحمل عبء الاعتراف ذاته وللمرة الأولى جلس نوح ساكنا هادئا ممتنا.
ظل يشير إلى هذا وذاك وكأن الدنيا انفتحت له على مصراعيها. أبي احصل على باندا وأعطه لأمي!
أنت رائع يا أبي!
نأكل هذا
أنت الأفضل...
في كل مرة كان ينطق فيها كلمة أبي كان شيء ما يتفتح داخل ظافر... شيء أشبه بوردة نبتت فجأة في صحراء قلبه الجاف... لم يعد
يريد أن يتركه ولم يعد يسمع صوتا في داخله إلا هذا اللحن الجديد
أبي... أبي...
نسي ظافر ولو للحظة أن نوح ليس من صلبه بل كان كمن يرى حلما قديما يتحقق في جسد صغير... نسي كارم نسي كل شيء وبقيت الكلمة تدوي داخله كجرس كنيسة في يوم الميلاد
أبي.
ظل ظافر يحمل نوحا كأنه كنز استرده بعد طول فقدان من بعد الظهيرة وحتى حلول المساء... لم يفارق صدره ولم يتركه ينزل عن كتفه إلا حين غلبه النعاس واستسلم للنوم وهو يعلو كتفيه.
ابتسم ظافر بعذوبة وكأنه وجد دفء العالم بأسره في ذلك المهد البشري.
مدت سيرين يدها وجاء صوتها رقيقا مترددا
هل لي أن أحمله الآن
كانت قد حاولت طيلة النهار أن تقترب منه كما كانت تفعل دوما لكن نوح رفضها بصمت طفل يخبئ وراء عينيه الصغيرة حكمة من سبق عمره... خيل إليها أن ذلك الانجذاب بينه وبين ظافر ليس سوى نداء غريزي من نبع رابطة الدم صوت خافت من القلب يقول له هو... هو أنت.... لكنها لم تكن تعلم أن نوحا الصغير الذكي كان يتعمد أن يجعل المسافة بينه وبين ظافر أقصر وأن يجعل عبوره نحو الحقيقية أكثر صعوبة ووضوحا.
رفض ظافر بهدوء بارد
لا حاجة لذلك.
تجمدت يدها في الهواء معلقة بين الرجاء والذهوا قبل أن تنسحب بصمت يشبه نكسة الربيع قبل اكتماله تتمتم بصوت بالكاد يسمع
شكرا... على هذه الألعاب
الطفولية.
كان يمشي أمامها بخطى رتيبة لكنها متزنة كأنها تقيس وجعه على اتساع الطريق.
فجأة توقف ومع غروب الشمس بدت قامته أطول وظله ممتدا كسؤال لا إجابة له.
استدار إليها وصوته ينزف وجعا
هل تظنين أن طفلنا... لو كتب له الحياة... كان سيكون مثله
ارتعشت عيناها كأن الريح لامستهما فطرفا ومن ثم أبعدت بصرها عنه وفي صوتها صدى انكسار
ربما...
ولأنه شعر بوخز الغصة في قلبها آثر الصمت وسحب السؤال كأنه لم يقال.
حين أعادا نوحا إلى قصر الغابة سلمه ظافر إلى المربيات كما يسلم أحدهم قلبه بيديه ثم قاد السيارة عائدا إلى قصره بالمدينة وسيرين تجلس إلى جواره داخل صمت مشحون أكثر من الحديث.
وبين لحظة وأخرى تبدل الطقس كأنه مرآة لما يحدث في داخلهما فقبل أيام فقط كانت الشمس تتسلل بحرارة ناعمة والجو دافئا أما اليوم فقد هبطت درجة الحرارة والرياح تعوي كذئب جائع وحين توقفت السيارة أمام القصر وفتحت سيرين الباب لتغادر باغتتها الرياح كأنها صفعة من السماء حتى كادت أن تقع ودون تردد اندفع ظافر إليها بثقل رجل لا زال يجهل كيف يقي من يحب من برد العالم ووقف حائلا بين الريح وجسدها.
ناداها بعد أن هدأت قسوة الرياح وتجاوزته ببضعة خطوات
سيرين...
توقفت خطواتها ونظرت إليه بارتباك تخللته الحيرة.
نظر إلى عينيها مطولا ثم نطق ببطء كمن يخرج
اعترافا من منجم روحه
أريد... أن يكون لي طفل.